المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
إن الأوضاع السياسية والمتأزّمة تؤرق وجودنا وحقيقة مسيرة حياتنا، وتجعلنا نحمل حقائبنا لنرحل اليوم قبل غدٍ، كما إن تقلبات هذه الأوضاع في شرقنا الممزَّق وما تخلّفه من آثار مدمِّرة دفعـــت العديــــد بل الآلاف من مسيحيينـــا إلى الهجـــرة وإلى الرحيــل وهذا ما جعـــل تعايشنــا مع غيرنـــا والمختلف عنا تعايشاً قاسياً وصعباً بعد أن كنّا إخوة في التنوع وعبر ديانات مختلفة، ولكن ما حصل أنه قد فسدت النيّات، وملكت الطائفية، وأصبح الجهاد باسم الدين كما باسم الإله كارثة أودى بالبشر الضعفاء إلى حيث الهلاك، فكان حرف “النون” عنواناً كما كانت الحرب الدينية، وكانت نتائجها الرحيل والهجرة، وحملت في عاصفتها عناوين مختلفة في الكراهية وحبّ الأنانية بملء روح الطائفية بعد أن كنا بلاد الأصلاء والملاذ الآمن والعيش الرغيد والمسامح الكريم.
خشبة … ومسيرة
في مثل هكذا زمانٍ أسود وتاريخٍ مزيَّف وحياةٍ بائسة ومصالح متبادلة وضمائر مشتراة، وفي زمنٍ تكثر فيه الكراسي المسروقة وتزداد المناصب المَحْمِيّة من كبار زمننا ودنيانا بسبب الفساد والنفاق، كما في زمن دعتنا الطائفية أحبابها والحدود المرسومة دستورها والمناطق المنزوعة جيرانها بسبب الصورة المزيَّفة، حيث تبقى الحقيقة معلَّقة على خشبة العار لا أحد يهتم بها ولا مَن يسأل عنها ولا عن أصولها وأصلائها بعد أنْ ملكت ثقافة الموت على قلوب الكبار الفاسدين، وجعلت من مسيرة الحياة خطفاً وإرهاباً ونزاعاً وتدميراً للحقائق وللمقدَّسات، وهدماً للقِيَم، والإعلان عن زوالها عبر زوال المسيحية بسبب الخوف والحروب كما بسبب فقر إيماننا، وانحسار شركائنا، وانغلاقنا على طائفتنا، وحبّنا لأنانية مصلحية للحفاظ على مواقفنا وأمكنتنا،وإنْ كنا ندرك أن ذلك نفاق وخطيئة جسيمة لا يغفرها إلا الغسل بالماء وبنفحة الروح الإلهي السماوي، لأننا نحن أردنا ذلك من أجل أن تبقى ألوهيتنا فينا وأن يكون الآخر البريء تحت ظلها… تلك هي الحقيقة المزيَّفة التي يريدونها، ونتساءل: هل بدأ الموت البطيء يأخذ مجاله في مؤمنين كانوا يوماً أقوياء بالمسيح الحي وأصبحوا اليوم مجتهدين في الرحيل كما في الضياع؟، وهل يمكننا أن نقول إن المسيحية بدأت في الزوال رغم بقاء المسيحيين حاملين الهوية الرسمية التعريفية دون الهوية الإيمانية العماذية؟.
مسيحية … وزوال
نحن نتساءل: هل المسيحية في الوطن كما في الشرق إلى زوال؟، ماذا يقول المسيحي عمّا يحصل في عراقنا الجريح وفي شرقنا الممزَّق من عداءٍ وانقسامٍ واستملاك واستحداث؟،هل سنواجه الإنقراض والضياع؟، هل سينتهي وجودنا التاريخي والحضاري والإيماني؟، هل سيأتي داعش علينا مرة أخرى بلباس إرهابي جديد ويحتلّ نفوسنا كما سهولنا وأرضنا ويدنّس ترابنا ومعابدنا؟، وهل بإرهابه يُكتَب لنا الخلاص ويُسجَّل لنا البقاء أم سنكون في هزيمة ثالثة وأكيدة لا تُعرف عقباها بسبب الذين أرادونا في حمايتهم فكانوا هم الأوائل في هزيمتنا؟، وهل سنفترش مرةً أخرى الحدائق والشوارع وتُبدَّل مساكننا بخيم بائسة وبكرفانات خانقة؟.
مصالح … وفساد
لقد أتت الساعة، وهي الآن، أن نعترف بسلبياتنا قبل إيجابياتنا، وبأنانياتنا الحزبية والمكوِّناتية والوجودية قبل شموليتنا وحقيقة شعوبنا، بطائفيتنا ومصالحنا قبل كفاءاتنا، وقدرتناعلى الهدم قبل قدرتنا على البناء، بحقيقة الفاسدين السرّاق قبل الدفاع عن فسادهم، وسرقتهم لمال الضحايا والمهجَّرين، بمعرفة أنانيتنا قبل وحدة كلمتنا،فلا يجوز أن تُستباح القِيَم من أجل النفعية والمصلحية، ولا يجوز إستغلال عبثي للدين وإخضاعه للسياسة ولمصلحة كبار المعابد والزمن.ومن المؤسف أن يكونوا هم الأوائل في نكران أصولهم وإنسانيتهم ومسسيحيتهم وهم يدركون جيداً قيمة أرضنا وأصولها، وتواجد شعبنا وسيرته الحياتية المؤلمة. فاليوم نحن بحاجة للتحرك نحو النظر لِمَا تشهده أيامنا من الإقتتال الأخوي وكسب المصالح الفاسدة، وتلك دعوة لنا أن يدرك كل منا مدى مسؤوليته إزاء المواطن من أجل حقيقة الوطنالواحد من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، كي لا تُفسَد تربتنا المقدسة فتولد لنا أجيالٌ شريرة، كما آن الأوان أن نقرّب شعوبنا قبل أن نفرّقهم لأننا بأمسّ الحاجة إلى عمل مشترك وكلمة موحَّدة ونظرة صائبة، فالزمن والساعة لا يرحمان أحداً، ولا نعلم توقيتهما(متى13:25)، فيقولوا لنا “إرحلوا، فدياركم قد بيعت، وأرضكم قد سُلبت، ودنياكم ليست هنا، بل إحملوا حقائبكم، والرحيل حلالكم، ولا مَخْلَص لكم غيره”.
وجوه … ومصالح
إن الأوضاع الحالية لا يمكن أن نغيّرها بسبب تأصّلها في مسيرة حياتنا، لذلك ما نحتاج إليه هو نشر ثقافة الحقيقة عملاً بقول المسيح الحي:”قولوا الحق والحق يحرركم” (يو32:8)، ولا يجوز أن نكون تبعية لأناس كبار أو صغار يستهزءون بوجودنا وبمستقبلنا، ويجعلون من أنفسهم آلهة لدنيانا بكلامٍ معسول وأذرعٍ مفتوحة وضحكاتٍ مزيَّفة ومناداةٍ قضائية، وهذه كلها ربما ليست إلا عواطف كي يزرعوا في نفوسنا ترتيلة الأشرار والمنافقين “بالروح بالدم”،فيسجل التاريخ حينذاك أسماءنا فاسدين، لمشاريع خاصة ومصالح آنية،لأشخاص أحببناهم كي يكونوا مُلْكَنا وحسب إرادتنا، ومستعدين لخنوعهم أمامنا،وإنني متأكد أنّ هذه ستُميتنا يوماً لأننا سنشهد ـــ كما يقول قداسة البابا فرنسيس ـــ “لمشاريعنا الخاصة” وهذا ما يحصل فعلاً، والحقيقة أقول إننا لسنا أمام هموم الناس ومعاناتهم بل نحن نواجه همومنا كي نميت جارنا، نشهد لتزيّف حقيقتنا، وإذا ماحصل هذا كله فلنرفع رؤوسنا (لوقا21:28)،ولنهيئ حقائبنا، فإنّ رحيلنا قد دنا، لأن كبار الزمن لا يجالسون إلا كبار الفاسدين ولا يمجّدون إلا هم أنفسهم. فحتى متى تتغير الوجوه وإسطوانة الإحترام الكاذب والتباهي والتعالي!،فهل يجوز أن يكون بعض الفاسدين تحت رعايتنا؟، ألم يخلق الساكن في السماء كفوئين آخرين؟، هل لأننا نحبهم؟، ولكن بئس ذلك الحب إنْ كان ضد وصية السماء، ففي ذلك نحن غافلون عن كتاب المحبة والحياة الذي سطّره إنجيل المسيح الفادي بقوله:”إن كنتم تحبون مَن يحبكم فأيّ أجر لكم” (لو32:6).
خراب … ودمار
بعد وجودٍ دام أكثر من ألفي سنة، وأصالةٍ في أرض الأجداد، ها هوذا داعش يخرّب كل ما بنيناه، فحمل إلينا الخراب والدمار والألم النفسي،فكان أنْ مَلَكَتْأمراضٌ علينا،وبغتةً تموت الحياة أو نُبتلى بمرض آخر عضال سببه هذا كله،والخوف من البقاء بسببه وبسبب الجماعات المتطرفة، وهذا ما حصل لنا،ربما من خوفنا وربما بسبب تصفيقنا واحتضاننا لأنظمة جائرة ولكبار مزيَّفين بشعارات حملناها إليهم كي يكونوا دائماً تماثيل صمّاء على كراسي الحقيقة ونحن لهم عبيد خاضعون، فهم يدّعون إننا في حمايتهم وتحت أنظارهم والحقيقة عكس ذلك فما نحن إلا عبيد لرجالات فاسدة، ووكلاء غير أمناء على مسيرتنا ورعايتنا، كما هم طغاة وآلهة لأنانياتهم، ومن المؤسف أن يكون كبارنا مخدوعين بأشكالهم وجمال قاماتهم وطيب ألسنتهم وشرتونية كلامهم، وما ذلك إلا شهادة لحقيقتهم البائسة، فبئس ما يملكون… إنهم جائرون.
مفترق طرق
أحبائي،نعم نحن أمام مفترق طرق بل أمام ضياع مقياس زمننا وإشارات مسيرة حياتنا، فمرّة يقولون لنا أنتم أصلاء ويُبعدوننا عن حقيقة أرضنا، ويوقّعوا لنا جوازات رحيلنا، أو يقبلوننا نازحين ومهجَّرين، أو ينعتوننا بأقليات بائسة، وفي ذلك لا سلاح لنا إلا الطاعة والخضوع والقبول بما حصل وما حلّ وبما يحدث لنا شئنا أم أبينا. فالتاريخ شاهد لمسيرة آبائنا وأجدادنا، كيف كانوا أمراء الزمن عليهم في دنياهم وفي سهولنا وودياننا وأراضينا، وكم كانت الحياة بهيّة بشروقها على حضارتنا وثقافتنا، أما اليوم فنحن نُباع ونُشترى ليس بثلاثين من الفضة كما حصل للمسيح الرب بل بأبخس الأثمان ليس إلا!.
في الختام
في الختام أقول: أين إنتمائنا إلى المسيح الحي؟، فمسيحيتنا ليست حديثة العهد، ونحن لسنا غرباء أو ضيوف وإنْ كنا قد أصبحنا لها شئنا أم أبينا، ومع هذا لا يجوز أن نفقد قِيَم إيماننا وأخلاقيتنا وجوهرها، فإنْ كان داعش قد دمّر منازلنا ونهب وسرق وأحرق ديارنا ومعابدنا فهذا لا يعني أبداً أن نجعل إيماننا إيماناً خائفاً، فالمسيح كان أول الذين أُضطُهدوا،كما كان أول الشهداء من أجل حقيقة حبّ السماء بقوة قيامته. فما علينا إلا أن نجعل من المحنة مخرجاً كما يقول مار بولس:”لتستفيقوا أن تحتملوا” (1كو13:10). فلابدّ من حمل الصليب وعبور نفق الموت من أجل رجاء الحياة، ولنعلم أن الحقيقة مهما تعذّبت واضطُهدت لا تموت وإنْ باعها كبار الزمن. فلا نخف من ذيول الرذيلة المزيَّفة التي تخدّر شعوبها بكلمات تجميلية وألسنة عاطفية ودعائية، أمام ذلك كله علينا التمسك بالصلاة والحوار مع الله ومع الإنسان، وهذه هي الشهادة الأمينة وهي أنْ نكون طلاباً في مدرسة “تحت أقدام الصليب”، حينذاك حتى لو رحلنا فرحيلنا يكون برفقة الصليب وحامله وهو سيقودنا إلى جبل الخلاص، هناك نسمع صوته يقول:”لا تخافوا،أنا معكم حتى إنقضاء الأزمان”(متى20:28). فلنتمسك بأرضنا، ولنعيد بناء منازلنا، ففيها لنا تاريخ واسم وهوية وحضارة، ولا يجوز أن ننحني عبيداً لمخطط تهجيرنا وإضعاف وجودنا وإنْ كان الوضع صعباً ـــ يقول الكاردينال ماروبياتشينا،كاردينال الكنيسة المتالمة:”علينا أن نتعلم من شهادتنا”.فحمل الحقائب والرحيل لا يعني إلا إضعاف تاريخنا وثقافتنا، وإخلاء شرقنا ومسيحيتنا. فلننتبه إلى أنفسنا ولنكن أحراراً وليس عبيداً، فما علينا إلا أن نداوي مجتمعنا، ونجتثّ من بيننا الفاسد الكريه الذي يتظاهر بوداعة الحَمَل البرئ وهو من الداخل حاقد كريه، فاسد شرير، ولنضع محلّه الكفوء النزيه، فلا يجوز أن يبقى الفاسد السارق مهما كان صنفه ، حاكماً على كرسي الزمن فما ذلك إلا خطيئة لا يغفرها ربّ العلاء الذي يدعونا إلى تخطّي حواجز الزمن والتاريخ من أجل مستقبل أجيالنا وأفضله لأبنائنا وحقيقة لأصالتنا.
نعم، أمام ما يحصل، أسأل ، هل سنحمل حقائبنا ونرحل يوماً؟،هل نقبل أنْ نُفنى ونموت ، فنكون سبباً في فقدان مسيحيتنا.فياربّ، إجعلنا أنْ نحمل إيماننا فنثّبت أقدامنا في أرضنا،فثقتنا ما هي إلا بكَ وليس في غيرك ،لأنك أنت الحقيقة، وعلى كلامك سنلقي شباكنا ( يو6:21 ) مؤمنين بشهادتك، لذا ،وبعونك، لن نحزم حقائبنا ونرحل مهما كانت المصائب لا اليوم ولا غداً، فالأرض أرضنا ونحن فيها أصلاء ليس إلا… نعم،آمين.