أنا أعرِفُهُ لأنِّي مِنهُ
تأمل في قراءات الأربعاء 14 مايو 2014 الموافق 19 بشنس 1730
الأب/ بولس جرس
نص الإنجيل
“ولَمّا كانَ العيدُ قد انتَصَفَ، صَعِدَ يَسوعُ إلَى الهيكلِ، وكانَ يُعَلِّمُ. فتَعَجَّبَ اليَهودُ قائلينَ: “كيفَ هذا يَعرِفُ الكُتُبَ، وهو لم يتعَلَّمْ؟. أجابَهُمْ يَسوعُ وقالَ:”تعليمي ليس لي بل للذي أرسَلَني. إنْ شاءَ أحَدٌ أنْ يَعمَلَ مَشيئَتَهُ يَعرِفُ التَّعليمَ، هل هو مِنَ اللهِ، أم أتكلَّمُ أنا مِنْ نَفسي. مَنْ يتكلَّمُ مِنْ نَفسِهِ يَطلُبُ مَجدَ نَفسِهِ، وأمّا مَنْ يَطلُبُ مَجدَ الذي أرسَلهُ فهو صادِقٌ وليس فيهِ ظُلمٌ. أليس موسَى قد أعطاكُمُ النّاموسَ؟ وليس أحَدٌ مِنكُمْ يَعمَلُ النّاموسَ! لماذا تطلُبونَ أنْ تقتُلوني؟”.أجابَ الجَمعُ وقالوا:”بكَ شَيطانٌ. مَنْ يَطلُبُ أنْ يَقتُلكَ؟”. أجابَ يَسوعُ وقالَ لهُمْ: “عَمَلاً واحِدًا عَمِلتُ فتتعَجَّبونَ جميعًا. لهذا أعطاكُمْ موسَى الخِتانَ، ليس أنَّهُ مِنْ موسَى، بل مِنَ الآباءِ. ففي السَّبتِ تختِنونَ الإنسانَ. فإنْ كانَ الإنسانُ يَقبَلُ الخِتانَ في السَّبتِ، لِئلا يُنقَضَ ناموسُ موسَى، أفَتَسخَطونَ علَيَّ لأنِّي شَفَيتُ إنسانًا كُلَّهُ في السَّبتِ؟ لا تحكُموا حَسَبَ الظّاهِرِ بل احكُموا حُكمًا عادِلاً”.فقالَ قَوْمٌ مِنْ أهلِ أورُشَليمَ:”أليس هذا هو الذي يَطلُبونَ أنْ يَقتُلوهُ؟ وها هو يتكلَّمُ جِهارًا ولا يقولونَ لهُ شَيئًا! ألَعَلَّ الرّؤَساءَ عَرَفوا يَقينًا أنَّ هذا هو المَسيحُ حَقًّا؟ ولكن هذا نَعلَمُ مِنْ أين هو، وأمّا المَسيحُ فمَتَى جاءَ لا يَعرِفُ أحَدٌ مِنْ أين هو”.فنادَى يَسوعُ وهو يُعَلِّمُ في الهيكلِ قائلاً: “تعرِفونَني وتعرِفونَ مِنْ أين أنا، ومِنْ نَفسي لم آتِ، بل الذي أرسَلَني هو حَقٌّ، الذي أنتُمْ لستُمْ تعرِفونَهُ. أنا أعرِفُهُ لأنِّي مِنهُ، وهو أرسَلَني“. 0 (يوحنا 7: 14-29).
نص التأمل
أنا أعرِفُهُ لأنِّي مِنهُ
لفت نظري في هذا النص النابض ثلاث نقاط أردت ان أتوقف أمام كل واحدة منها للتامل:
1- تعليمي ليس لي بل للذي أرسَلَني. إنْ شاءَ أحَدٌ أنْ يَعمَلَ مَشيئَتَهُ يَعرِفُ التَّعليمَ
2- ألَعَلَّ الرّؤَساءَ عَرَفوا يَقينًا أنَّ هذا هو المَسيحُ حَقًّا؟
3- أنا أعرِفُهُ لأنِّي مِنهُ، وهو أرسَلَني“.
وكل منها تستحق التوقف حقا…
فالأولى وتحوي نقطتان صالحتان للتوقف والتأمل:
1) يسوع يتجرد عن كل شيء حتى عن علمه وهو المعلم ناسبا ذلك إلى أبيه
2) إن من يشاء أن يتمم مشيئة الله يعرف الطريق والوصايا والتعليم….
والثانية هي تلك الأمنية التي لم تتحقق في حياة المسيح
والتي يعني تحقيقها إقتراب ملكوت الله ” الرؤساء عرفوا يقينا انه المسيح”
اما الثالثة والتي يمتلكني الروح اليوم كي اتعمق فيها فهي
“أنا أعرِفُهُ لأنِّي مِنهُ، وهو أرسَلَني“
لعل ذلك لأنها تدخل بيّ بعمق إلى إطار جو تأملات القيامة الذي نعيشه منذ أكثر من أسبوعين
وهكذا أترك لك الخيار لتنطلق أما أنا فساذهب في الاتجاه الأخير
أنا أعرفه: هكذا دوما يؤكد الرب يسوع في مختلف المناسبات
يريد ان يكشف لنا عن عمق ” المعرفة” بينه وبين الآب
وهذه المعرفة التي يتحدث عنها يسوع تستلفت النظر كثيرا
فالمعرفة في علوم النفس نوعان:
معرفة غريزية: يولد الكائن مجهزا بها لمواجهة متطلبات الحياة،
كالرضاعة عند الطفل والبكاء للنداء ولفت النظر والتنفس والإخراج… إلخ
كلها أشياء يولد الطفل بها ولا يتعلمها فلا وقت للتعلم إذ قد يفني قبل ان يتعلمها
لذا رأى الخالق ان يحفرها في عقله وقلبه وكيانه وكأنها ممارسات سبق تعلمها
وكلما إنحدرنا في سلم التطور صارت الغريزة أقوى وأشمل وأكثر تحكما
معرفة مكتسبة بالتعلم والخبرة: وتشمل جميع ما يمكن للكائن ان يكتسبه
من معلومات وخبرات ومهارات وقدرات مكتسبة كالمشي والسباحة وركوب الدراجة…إلخ
كذلك اللغة والقدرات الفنية التي يدعمه بالطبع في اكتسابها
ملكات وقدرات واستعدادات فطرية في صميم تصميم الكائن
وحين يقول يسوع: أنا أعرِفُهُ لأنِّي مِنهُ، وهو أرسَلَني“.
يتكلم عن نوع ثالث من المعرفة هو علينا وعلى البشرية حقا بجديد
أنا أعرفه: ليس كما تعرفونه ولا كما عرفه آبائكم ولا كما يعرفه أي كائن آخر
ومعرفتي الفريدة المتفردة هذه تتجلى في حديثي عنه : لم يتكلم أحد قط بمثل هذا الكلام”
في كشفي عن ذاته: الله لم يعرفه أحد قط، الإبن هو الوحيد في حضن الآب واخبر”
في عمل بل عيش إرادته كإرادتي : ما جئت لأعمل إرادتي بل إرادة من ارسلني
في تحقيق مشيئته وإن ناقضت مشيئتي: لتكن مشيئتك لا مشيئتي”
في الوحدة الكاملة والتطابق المطلق بين الإرادتين: “أنا والاب واحد ومن رأاني راى الآب”
و ” انا في أبي وأبي فيّ….
واليوم في هذا النص يكشف يسوع ليس فقط عن نوعية هذا المعرفة
او عن هذا النوع الجديد من المعرفة؛ بل عن مصدرها
“أنا أعرِفُهُ لأنِّي مِنهُ: كيف؟
هذا هو التفرد والفرادة والوحدة في شخص يسوع
فقد عرف البشر الله لأنه أوحى إليهم عن ذاته
وعرفه الأنبياء لأنه ترائى لهم
وعرفه موسى لأنه كان يكلمه وجها لوجه
وعرفه الشعب اليهودي لأن الأنبياء اخبروا عنه وسجلوا الكتب…
أما المسيح فيعرفه بطريقة لا مثيل لها
لأنه منه:
الكائن منذ البدء
المولود من الاب قبل كل الدهور
النور المنبثق من النور
الكائن في حضن الآب منذ البدء
الذي في الآب والاب فيه
الذي ينطق ويتكلم ويعمل ويعلم ما يعمله الآب الساكن فيه…
كلمة الاب الأزلية هو منه وإن صار منّا
وهو الإله الذي أرسله الآب
فتجسد ومات وقام لأجلنا ولأجل خلاصنا نحن البشر
فهل بعد هذا يمكن الشك او التردد في الإيمان به
وهو من مصدر معرفته الفريد كشف لنا الآب؟