ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!
بقلم: الأب بسّام آشجي
بعد أن أعلن السلام القسطنطيني مرسوم ميلانو سنة 313 م الذي سمح بحرية انتشار المسيحية وأنهى زمن الاضطهاد. خيّم على الكنيسة بعض مظاهر الرخاء والتملّق والمحاباة، وازداد ذلك كلما نعمت الكنيسة بالهدوء والاستقرار، وكادت الروحانية المسيحية، التي أعلنت ملء مصداقيتها بدم الشهداء، تفقد عمقها لولا أن الله افتقدها ليأتي بها “إلى البرية ليخاطب قلبها” (هو2/16)، ويدعوها مجدداً إلى نوع آخر من الشهادة، إنها شهادة الصحراء.
لقد نشأت الحياة الرهبانية في صحراء مصر أولاً، ثم في سورية وفلسطين، و”حتى أقصى الأرض”، احتجاجاً على أن الزمن، وإن كان زمن قيصر، هو أولاً زمن ملكوت الله. فلا بدَّ من الصحراء، حيث يضعف ملكوت قيصر. فالرهبنة ليست بدعة في حياة الكنيسة، بل العكس تماماً. فكما كانت شهادة الدم هي ملء حياة القداسة زمن الاضطهاد، تكون الرهبنة نموذج للقداسة في زمن سطوة العالم. يتكلّم القديس إيرنيموس عن عطش كنيسة زمانه إلى الصحراء، فيقول: “أيتها الصحراء حيث سطعت أزهار المسيح الفتيّة. أيتها الخلوة حيث ولدت تلك الأحجار التي تبنى منها مدينة الملك العظيم حسب سفر الرؤيا..” ويتحدث إلى أحد أصدقاءه فيقول: “ماذا تعمل أيها الأخ العزيز في هذا العالم هل ستبقى محبوساً تحت الأَسقف.. وإلى متى؟.. إلى متى ستبقى في سجن المدن المدخنة؟.. صدقني، لا أستطيع أن أصف لك النور الغير الموصوف الذي يقع تحت عيني. ما أشد سروري أن أخلع ثوب الجسد الثقيل لأطير في طهارة الإشعاع الساطع”..
إن الصحراء ترمز إلى حاجة الإنسان إلى الخلوة الداخلية. حيث المؤمن يكتشف صورته الأصلية في رؤيا الحبيب (أُنظر: نشيد الأناشيد 4) فيتحوّل العالم المليء بالقحط والأنانية والعنف إلى سلام وهدوء (أُنظر: أشعيا 35) والاستسلام لله هو أهم ما تقدمه الصحراء (رؤ3/20) وبه يستطيع المؤمن الانتصار على كل سطوة إبليس (مت4/1-11) إذ أنه في عمق الصمت يمكن الإصغاء، والإصغاء لله يُحقق الانتصار.
عن موقع القديسة تريزا