المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
بسبب ما يجري في شرقنا وبالخصوص في عراقنا الجريح وفي مسيرة الرحيل، وما نراه من حولنا من ثورات وحروب وتهجير واضطهاد وتفجيرات وتكفير، دأبت الكنيسة المقدسة على إدراك هذه المواقف الصعبة، وأعطت زخماً قوياً لمسيرة الشباب في الكنيسة والمجتمع والعالم عبر عقدها سينودس خاص للاساقفة من الثالث وحتى الثامن والعشرين من اكتوبر الماضي موضوعه “الشباب، الإيمان وتمييز الدعوة”. وعملا بايصال صوت سينودس الشباب ، عقدت رعيتنا مار يوسف في بغداد مؤتمراً خاصاً في العاشر من أيار الحالي حمل عنوانً “أنتم مسيرة الإيمان”، دعت فيه العديد من الشباب إيماناً منها بأن الشباب متى يعيشون إيمانهم بإمكانهم أن يكونوا رسلاً لمسيرة الدعوة التي اختاروها، وهذا ما فرضه واقعنا علينا من أجل مستقبل كنائسنا وشبابنا كما هو مستقبل أجيالنا. فشبابنا اليوم يبحثون عن المادة ولقمة العيش وبناء مستقبل حياتهم والتفكير في السفر بسبب الأوضاع الراهنة، ومغريات الحياة ربما استحوذت عليهم وهذا من حقهم في ذلك، هذا من جانب. ولكن من جانب آخر للأرض حقوق، وللوطن حقيقة الوجود، وللكنيسة حقيقة الرسالة والدعوة.
البابا بندكتس 16
لقد وجّه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني رسالة إلى الشباب في ختام أعماله ودعاهم “أنتم مستقبل الكنيسة وأملها”. كما إن البابا القديس يوحنا بولس الثاني وجّه رسالة رسولية عام 1985 إلى جميع شباب العالم قال فيها:”عليكم تعقد الكنيسة الرجاء لأنكم للمستقبل، وعلى عاتقكم تقع مسؤولية ما سيُصبح معكم يوماً ما واقعاً وهو لا يزال الآن عالم المستقبل”.والبابا بندكتس السادس عشر يدعو الشباب كي يتغذّوا من الإنجيل، ويقول لهم:”إصغوا بانتباه كلي إلى كلام المسيح الذي بإمكانه أن يغيّركم. فأنتم لستم فقط مستقبل الكنيسة، أنتم حاضرها. فتغذّوا من الكتاب المقدس، واحفظوا كلامه في قلوبكم على مثال مريم. فالمسيح هو الطريق والحق والحياة، وهو يريد أن يكون حاضركم ومستقبلكم، فافسحوا له المجال كي يغيّر حياتكم ويوجّهها فهو ينتظر منكم أجوبة قادرة على أن تُشبع توقعاتكم الأصيلة للحياة. فإذا أردتم اكتشاف مشروع لحياتكم فاصغوا إلى كلام الله فهو يُشبع توقكم ويقضي مشاريعكم”.
أسئلة مصيرية
صحيح أن شبابنا اليوم أمام أسئلة مصيرية وربما تسير عكس التيارات العقلية الحالية. فالشباب اليوم أمام عقلية تدعو إلى حرية مطلقة، حرية “ما يعجبهم” و ” ما يشاؤون ” ، وربما خالية من القيم والقواعد، وتدعو إلى رفض كل حاجز أمام الرغبات الآنية، وهذا التحرر من المؤكَّد أنه يجعل الإنسان عبداً لذاته ولملذّاته ولعبادة شهواته وأهوائه، إضافة إلى العبودية الدنيوية كالسلطة والمال والطائفية والقومية واللذة وإغواءات العالم وإغراءاته، فيُصبح الإنسان عاجزاً عن إتّباع دعوته الأساسية إلى الأسمى في المحبة والحب. أمام حيرة وتساؤل وتردد، يساور بعضهم القلق العميق حيال المصير، ويبحثون عن مستقبل يطمئنون إليه.
مسيرة الإيمان
نعم، ماذا تعني “أنتم مسيرة الإيمان… أنتم مستقبل كنيسة الغد” قالها يوما مؤتمر رعية مار يوسف في المنصور ؟، إنه سؤال مصيري، حيث تسألون: ماذا علينا أن نفعل؟، وفي داخل كل واحد منكم تتشابك الأفكار والهموم الحاضرة والمستقبلية والأهواء، ولا زال الطريق في شرقنا فيها شوك وحجارة، وتغيب أمامكم صورة مستقبلكم وحقيقة اختياركم، وتبقى أحلام مسيرتكم تراودكم، وتشعرون أحياناً أنكم مكبّلي الأيادي وأحياناً _ رغم الأزمات والأحداث الأليمة ـ تبحثون عن الأفضل لمسيرة الحياة من أجل التحدث عن المسيحية وقيمها، فتقعون في مشكلة البحث عن مَن يقودكم ويعلّمكم بأن مسيرة الحياة جميلة في لقاء شخصي مع المسيح من أجل حوار أمين كتلميذي عمّاوس (لوقا13:24-35) عبر تساؤلات وأجبة من أجل أجوبة أمينة وحقيقية، وذلك من خلال التعمّق في الإيمان، والوثوق بمعرفة الذي يرافقكم… وأكيداً أنه يسوع المسيح.
رسالة ودعوة
من المؤكَّد أن لكل شاب رسالة يحملها وليس دوراً يؤديه. فالرسالة أعمق وأقوى من الدور، والفرق بين الدور والرسالة هو: أن الدور ينحصر في التمثيل ويستمر ما دامت الأحداث تدور، بينما الرسالة تحملونها في قلوبكم وترافقكم طيلة مسيرة الحياة لتحملونها إلى الآخرين. وبما أنكم تعيشون في وطن مليء بالمتناقضات، ويعاني من هشاشة الأمن والاستقرار سياسياً واجتماعياً، لذا عليكم أن تُدركوا جيداً أن رسالتكم هي بناء وطنكم وتحقيق أماني مواطنيكم وعيش إيمانكم، وكمايقول البطريرك ميشيل صباح ( مطران اللاتين في الاردن سابقا) “لا يمكن للمسيحي أن يعيش على آلام غيره ثم يطالب بالمواطَنة الكاملة” فلا تختبئوا خلف شعارات دينية أو نداءات قومية لتعبّروا عن إيمانكم الحي وأنتم تُهملون حقيقة ترابكم ومسيرة وجودكم. فرسالتكم هي أن تكونوا جسور اتصال مليئة بالثقة والنزاهة، أساسها الحوار وقبول الآخر، وهذا يتطلّب منكم أن تحملوا تنشئة إيمانية اجتماعية وعقلية ثابتة كي لا تقعوا في تجربة العزلة أو الذوبان أو الفساد ، فأنتم أحرار في ذلك، ولكن عليكم أن تُدركوا أنكم مسؤولون عن غيركم، وفي هذا تقررون مصيركم.وأدركوا جيداً أن إيمانكم ليس نظريات وأفكار فلسفية أو مجرَّدة، ولا هو تنفيذ حرفي لوصايا وشرائع وقوانين جافة، بل هو مسيرة حياة، هو لقاء معرفة مع يسوع لتوطيد العلاقة معه. كما أن المسيحية ليست مجرد شرعة أخلاقية، بل هي لقاء محبة مع يسوع “ينظر إليكم ويحبكم” (مر21:10)، “فلما نظر إلى الشاب أحبه” (مر21:10)، وهو يحب كل واحد منكم شخصياً حتى عندما ندير له ظهرنا كما فعل الشاب لأنه كان ذا مال كثير (مر22:10)، وتجلّت محبة يسوع لنا على الصليب حيث بذل نفسه في سبيل أحبائه (يو13:15).
نعم… دعوتكم
فدعوتكم المسيحية هي اقتراح حب من قبل الرب، ولا يمكن تحقيقها إلا بواسطة الحب، وهذا الحب ما هو إلا هبة الذات. فالشاب الغني لم يقبل دعوة يسوع بل مضى حزيناً (لوقا18:18-27) إذ لم يجد الشجاعة الكافية للتجرد عن الخيرات المادية ليجد الخير الأسمى الذي يقدمه يسوع. فيسوع الشاب يدعوكم إلى خيارات أكثر جذرية، فأنتم مدعوون لقبول الدعوة بإيمان والإلتزام مع وضع أسس متينة لعيش حب أكبر وأمين ومنفتح على هبة الحياة، وقد قَبِلها قبلكم شاوول (بولس) الذي قال:”لقد أحبني وبذل نفسه لأجلي” (غلا20:2). فلا تخافوا أن تغوصوا في المحبة التي عمقها الأخوّة الإنسانية، لأنه إن حييتم منفردين في محبة الله لن تحظون أبداً بثمار الحياة، لأنه لا يمكن حب الله الذي لا ترونه ولا تحبون أخاكم الذي ترونه” (1يو20:4). وتشير الوثيقة الختامية لسينودس الاساقفة للشباب ، “الى أن الله يكلّم الكنيسة والعالم من خلال الشباب الذين إذ يحملون قلقاً سليماً يمكنهم أن يكونوا سبّاقين، ولذلك ينبغي قبولهم واحترامهم ومرافقتهم. إن يسوع لا يحرمنا الحرية بل يحررها لأن الحرية الحقيقية ممكنة فقط في إطار الحقيقة والمحبة، ويرتبط مبدأ الدعوة بمبدأ الرسالة ارتباطاً وثيقاً أيضاً. وكل حياة بالنسبة لله دعوة، وكل دعوة معمودية هي دعوة للجميع، إلى القداسة” .
كرامة الإنسان
نعم، أنتم مسيحيون، وهذه أرضكم ، وأنتم في ذلك تشكّلون نسبة من سكان هذا البلد، لذا فأنتم مواطنون وأصلاء ولستم أقليّة. فلا تخافوا من هذه التسمية، ولا تنكمشوا على ذواتكم أو تهربوا أمام صعوبات تلاقيكم في هذا السراط، أو تتعرضون لخيبة أمل قاسية، فعددكم قليل وهذا لا يعني أبداً أقل مواطَنة، فأنتم لستم عدداً بل مواطنون، وحقوقكم يجب أن تكون على هذا المقياس ولكم الحق، وعليكم ما لغيركم، فأنتم كرامة الإنسان وبالتالي أنتم كرامة الله نفسها. ويقول المطران لحّام ( مطران الاردن سابقا) لا تخافوا أن تكونوا الخميرة والملح من الداخل وليس في الجوانب، والمسيحي الذي هو ملح العالم يجب أن يكون في داخل العالم لا بجانبه ولا على الهامش. فكونوا أمناء على رسالتكم، لأن صاحب الرسالة أمين تجاهكم، ” لأنه هو الذي انتدبكم إليها وهو أمين ” (1كور9:1).لذا عليكم أن تُدركوا أن هذه أرضكم، وتعلّقكم بها يعني مسيرة حياتكم. فما عليكم إلا أن تكونوا _ كما يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني:”كونوا شعلة نار القيامة التي أضاءها المسيح. تسلّحوا بالروح القدس، وفجّروا طاقاتكم الروحية والفكرية في سبيل خير الإنسان. فلا تخافوا، فأنتم مستقبل الكنيسة”.
منعطف خطير
نعم ، مسيرة عيش شبابنا تتفاعل اليوم، فيها أفكار ونظريات على مختلف الأصعدة، دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكأنكم في سباق إلى حريات شخصية ونظريات جديدة في مسيرة الحياة. ولاشكّ أن من حق أي شاب أو إنسان أن يوظّف طاقاته وقدراته وإمكانياته من أجل بناء مستقبل أفضل. نعم، هذا المنعطف منعطف خطير واساسيّ لمسيرتكم ومسيرة الوطن، إنه تاريخ وطننا وكنيستنا وهو يجبرنا أن نعيش في صراعات عديدة، فلا الماضي يرضينا ولا الحاضر يفرحنا ولا المستقبل يشجعنا… ما العمل؟، هل نراوح في أماكننا؟، هل نسكت أمام ما يجري حولنا؟، أنبقى متفرجين وكأن الأمر لا يعنينا؟. أظنّ أن هذه المواقف ليست مواقف إنجيلية بل بالعكس، فالأمر يعنينا جميعاً. فحاجتنا اليوم إلى شباب مسيحي ناضج، متّحد، يُدرك غايته، يحيا دعوته، يقاسم رسالته، فالبابا فرنسيس يقول:”تحمّلوا مسؤولياتكم في جميع الحقول التي تنفتح أمامكم في عالمنا لتغيّروه، وتجعلوه أكثر إنسانية وأخوّة، وفي الوقت نفسه مشدوداً أكثر إلى الله”.
الخاتمة
أنتم معروفون بشغفكم للحق والحرية والخير والجمال، ورسالتكم أن تميّزوا بين الحقيقة والكذب، وبين ما هو إنساني مصلحي وما هو دنيوي. لذا عليكم أن تتمسكوا بهذه الخصال، واصمدوا أمام التيارات الزائفة وفي وجه محاربيها، كونوا شهوداً للحقيقة في أن تحملوا الإيمان والإنسانية كتلاميذ حقيقيين للمسيح يسوع، فيوحنا يقول:”أكتب إليكم أيها الشبّان لأنكم قهرتم الشرير، ولأنكم أقوياء، وإن كلام الله مقيم فيكم” (1يو13:2-14). وأختم وأقول نعم ، إنكم تفكرون بطريقة مختلفة عن والديكم ورؤسائكم، وقد لا يرضى الكبار دوماً عن آرائكم وعن تصرفاتكم، ويسوع يقول:”دعوهم” واعملوا ما يأمركم به “(يو 5:2) . لكم شخصيتكم ولكم مواهبكم المختلفة ولكم دعوتكم ومهمتكم الخاصة التي لا بديل لها ولا ينوب عنها غيركم. عيشوا حياتكم ودعوتكم، واذهبوا “واعملوا في كرمي” يقول الرب يسوع (متى4:20-7) فقد “أقامكم الرب شهوداً” (أع8:1).فأنتم مسيرة الايمان بل أنتم اكثر من ذلك شهود للمسيح القائم فلا تترهلوّن نتيجة تراكمات الحرب وعدم وجود خارطة طريق واضحة من أجل اعتمادها وتطبيقها بشفافية وكأنكم تتخبطون في حلقة مفرَغَة بسبب الحروب. فالكنيسة أعطتكم الإرشاد جواباً ولم تعطكم حلاً اجتماعياً وسياسياً، لأن الحل مرتبط بكم ، فاحملوا هذه الرسالة أن تكونوا شهودا للحقيقة فهو المسيح الحي الذي اقامكم شهودا ” (مرقس 15:16)عبر ايمان معاش لحياة انسانية مسيحية حقيقية، والبابا فرنسيس يقول ” أن ثقافة اللقاء هي نداء ودعوة للتحلي بشجاعة أن نبقي حيًا حلمًا مشتركًا. حلم كبير قادر على إشراك الجميع… حلم اسمه يسوع… حلم يجري في عروقنا ويحرّك قلوبنا كل مرة نسمع “أحبُّوا بعضُكم بعضًا. إذا أحبَّ بعضُكم بعضًا عرفَ الناسُ جميعًا أنَّكم تلاميذي”.(يوحنا 13، 34 -35) ( اللقاء العالمي للشباب 2019 ) وأن تكونوا شهودا كونوا في محبة الحياة .نعم وامين.