الاب نجيب ابراهيم الفرنسيسكاني
١- كلمة الله في حياة الكنيسة
«إذا كانت الليتورجية هي حقّاً المكان المميّز لإعلان كلمة الله والإصغاء إليها والاحتفال بها، كان التحضير لهذا اللقاء في قلوب المؤمنين والتعمّق به وفهمه أمرٌ حقّ» (كلمة الرب ٧٢). بهذه الكلمات يبدأ الفصل الثاني من القسم الثاني وعنوانه “كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها”. «والليتورجيا هي القمّة التي يرتقي ليها عملُ الكنيسة وهي الى ذلك المنبع الذي تنبع منه كلّ قوّتها» (الليتورجيا المقدّسة ١٠).
لذلك يجب تحضير المؤمنين للإصغاء إلى كلام الله حتّى يصبح مشروع حياة للجماعة ولكلّ فرد في الكنيسة.
نتساءل هنا عن معنى التحضير لإعلان الكلمة في الليتورجية. هل المقصود هو تحضير ثقافي وعلمي؟ يجب طبعاً العمل على هذا النوع من التحضير، الذي يتكلّم عليه الإرشاد. على أنّ التحضير المطلوب في العمل الراعويّ يُعبّر عنه بهذا القول الّذي يمكن اعتباره عنوان رئيسيّ للارشاد: لقاء يسوع المسيح الّذي يدعونا لاتّباعه. لذلك يجب على العمل الراعويّ أن يساعد المؤمنين على أن يجدوا في الكتاب المقدّس أساس حياتهم الروحيّة. لذلك يرجو قداسة البابا مع آباء السينودس «أن ينشأ فصلٌ جديد من المحبّة للكتاب المقدّس لدى جميع المؤمنين، حتى تتعمّق علاقتهم بشخص يسوع من خلال القراءة المصليّة والمؤمنة للكتاب المقدّس» (توصيات ٩). وكان الكثير من القدّيسين، خاصّة آباء الكنيسة، قد تكلّموا على ضرورة معرفة الكتاب المقدّس للنموّ في حبّ المسيح. نذكر هنا عاشق كلمة الله والأرض المقدّسة، القدّيس إيرونيموس الّذي كان يتساءل قائلاً: «كيف يمكن العيش بدون علم الكتاب المقدّس الّذي بواسطته نتعلّم معرفة المسيح نفسه وهو حياة المؤمنين؟». وكان على يقين «بأنّ الكتاب المقدّس هو الوسيلة التي بواسطتها يتكلّم الله يوميّاً إلى المؤمنين». يصلح لنا – يقول قداسة البابا- ما كتبه إيرونيموس إلى الكاهن نيبوسيانو (Nepoziano): «إقرأ باستمرار الكتب المقدّسة. لا بل لا ينزل الكتاب من يديك. تعلّم هنا ما يجب أن تعلّمه».
إحياء العمل الرسولي بالكتاب المقدّس
انطلاقاً من مبدأ مركزية كلام الله في حياة الكنيسة، يحثّ الإرشاد على إحياء العمل الرسوليّ بواسطة الكتاب المقدّس. وهذا لا يعني إضافة لقاءات جديدة في الرعيّة أو في الأبرشيّة، بل التحقّق من أن النشاطات الاعتياديّة تحمل المؤمنين على اللقاء الشخصيّ مع المسيح الّذي يصل إلينا بواسطة الكلمة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى يطلب الإرشاد الرسوليّ المساهمة في تأسيس جماعات صغيرة تتعلّم وتصلّي وتتعرّف على الكتاب المقدّس بحسب إيمان الكنيسة. يذكر الإرشاد كلمة القدّيس إيرونيموس المشهورة: «جهل الكتاب المقدّس هو جهل المسيح». لذلك يجب أن يكون الكتاب المقدّس عامّة والعهد الجديد خاصّة حاضراً في كلّ لقاءاتنا الراعوية. فالتنشيط الكتابي للعمل الراعويّ يساهم في معرفة الكتاب المقدّس بحسب إيمان الكنيسة ومن جهة أخرى يمنع انتشار الشِيَع التي تنشر قراءة ملتوية للكتاب المقدّس، لخدمة مصالحهم الشخصيّة (lettura distorta e strumentale).
البعد الكتابيّ للتعليم المسيحيّ (كلمة الرب ٧٤)
يذكر قداسة البابا مركزيّة كلمة الله في التعليم المسيحيّ الّذي يجب أن يرافق شعب الله في مختلف المراحل من حياته. ويقدّم لقاء يسوع القائم من الموت مع تلميذي عمّاوس مثالاً للتعليم المسيحيّ (لوقا ٢٤ : ١٣ – ٣٥). في هذا اللقاء يفسّر يسوع الكتب المقدّسة. نجد في “دليل التعليم المسيحيّ العام” توجيهات لإحياء التعليم المسيحيّ بواسطة الكتاب المقدّس. وخلاصة القول أنّه علينا تعليم تاريخ الخلاص ومضامين إيمان الكنيسة في تعليم بيبليّ. عمليّاً على استاذ التعليم المسيحيّ أن يعتمد على الكتاب المقدّس وكتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة. لا بل باستطاعتنا القول أنّ هذين الكتابين يدخلان في عداد النّصوص الأساسيّة التي يجب أن تكون في كلّ بيت مسيحيّ.
تنشئة المسيحيين على الكتاب المقدّس (٧٥ و٧٦)
من أجل الوصول إلى هذا الهدف، يشدّد قداسة البابا على التنشئة البيبليّة للمسيحيين عامّة ولمعلميّ التعليم المسيحيّ خاصّة. لذلك يجب الاهتمام بالراعوية البيبليّة من خلال إقامة مراكز خاصّة للتنشئة البيبليّة إلى جانب المؤسّسات الأكاديميّة أو فيها. كما يجب إعطاء دور أكبر لكلمة الله في التجمّعات الكنسيّة: المؤتمرات الافخارستية، الايام العالمية للشباب، الخ.
***
٢- رسالة الكنيسة: التبشير بكلمة الله أمام العالم
التبشير بكلمة الله تبشير بيسوع المسيح. الكلمة من الآب والى الآب (كلمة الرب ٩٠)
نحن هنا أمام مفهوم مركزيّ في تعليم بندكتس السادس عشر: الكلمة التي نؤمن بها هي يسوع المسيح. في مقدّمة “الرسالة العامة الله محبة” وبقصد تقديم الدافع الاساسيّ للمحبّة، يقول البابا: «في أصل واقع الكيان المسيحيّ لا يوجد قرارٌ أخلاقيُّ أو فكرة عظيمة، بل اللقاء مع حدث، مع شخص، يُعطي الحياة أفقاً جديداً، وبالتالي توجّهاً حاسماً». هذا هو مضمون الرسالة: مساعدة الناس على اللقاء بيسوع المسيح ليجدوا فيه معنى حياتهم. عندما يجد الانسان الفرح في عيش معموديته اتحاداً بسر المسيح الفصحيّ، يشعر بضرورة حمل الآخرين إلى هذه السعادة. «فالإنجيل ليس فقط نقل عناصر نستطيع معرفتها، بل نقلٌ يُنتِجُ أحداثاً ويغيّرُ الحياة» (خُلّصنا في الرجاء، ٢).
مسيرة الرسالة هي مسيرة رسالة الابن، مُرسل الآب، كما في مقدّمة إنجيل يوحنا. عندما قال يسوع القائم من الموت للرسل: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضاً» (يوحنا ٢٠ : ٢١)، أظهر للكنيسة في كلّ العصور طريقة القيام بالرسالة. بهذه الكلمات يعبّر الإرشاد الرسوليّ عن القاعدة المسيحانيّة والثالوثيّة للرسالة: «يُظهر يوحنا بقوّة التناقض الظاهريّ للإيمان المسيحيّ: من جهة، يؤكّد أنّ الله ما رآه أحد قطّ (١ : ١٨)… ومن جهة أخرى يقول أنّ الكملة صار بشراً (١ : ١٤)… في المقدّمة يتأمّل يوحنا الكلمة منذ وجودها مع الله حتى تجسّدها وعودتها إلى حضن الآب، حاملاً معه بشريّتنا التي اتّخذها إلى الابد» (كلام الرب، ٩٠). إذاً باستطاعتنا القول أنّ دعوة الإنسان تكمن في حياة شركة الحبّ الأزليّة بين الآب والابن بالروح القدس. فهدف حياتنا هو الوصول الى الآب. ويسوع هو الطريق المؤدّي إلى الآب. يسوع هو راوي الله: «إنّ الله ما زآه أحدٌ قطّ. ألابن الوحيد الّذي في حضن الآب هو الّذي أخبر عنه» (١ : ١٨). «الابن، يقول القدّيس إيرينيوس من ليون، هو من يكشف عن الآب». فيسوع، باستطاعتنا القول، مفسّر (esegeta di Dio) الله الّذي ما رآه أحد قطّ. (كلام الرب، ٩٠)
Θεὸν οὐδεὶς ἑώρακεν πώποτε· μονογενὴς θεὸς ὁ ὢν εἰς τὸν κόλπον τοῦ πατρὸς ἐκεῖνος ἐξηγήσατο (aoristo di ἐξηγέομαι).
تبشير العالم ب”لوغوس” الرجاء (٩١)
في رسالتها لتقريب العالم إلى الله الكنيسة مدعوة للتبشير بكلمة الله. «يجذبنا يسوع إلى حياته ورسالته، وهو الّذي عمل بحسب مشيئة الآب (راجع يوحنا ٥ : ٣٦ – ٣٨؛ ٦ : ٣٨ – ٤٠؛ ٧ : ١٦ – ١٨). كما يعمل الروح القدس فينا لنقوم بإعلان كلمة الله للعالم. هذه هي خبرة الكنيسة الأولى التي رأت انتشار الكلمة بواسطة الكرازة والشهادة (ر. اعمال ٦ : ٧)». وكان من الطبيعيّ أن يلقي قداسة البابا الضوء على حياة القدّيس بولس ليشرح معنى الرسالة. بولس إنسان قبض عليه الرّبّ: «ما أنا أحيا بعد ذلك بل المسيح يحيا فيّ (غل ٢ : ٢٠). وعن ضرورة الرسالة يقول بولس: «الويل لي إن لم أبشّر!» (١ قورنتس ٩ : ١٦). وكان على يقين أنّ الوحي الّذي تمّ بيسوع المسيح هو حقّاً خلاص كلّ البشر والتحرّر من عبودية الخطيئة للدخول في حريّة أبناء الله.
«فالكنيسة رسوليّة في جوهرها. لا يمكن أن نحتفظ بكلمات الحياة التي أُعطيت لنا في لقائنا مع يسوع المسيح: هذه الكلمات هي للجميع، لكلّ إنسان». فالقدّيسون وحتى التأمليّون منهم كانوا مرسلين. نذكر هنا القدّيسة تريز للطفل يسوع. فمحبّة المسيح تدفع المؤمن على أن لا يحيا لنفسه بل للمسيح، أي لخلاص الجميع (ر. ٢ قورنتس ٥ : ١٤). ونحن ندرك أنّ كلّ إنسان في عصرنا يحتاج إلى التبشير بالإنجيل، لنصلّ كي يبعث الرّبّ جوعاً جديداً وعطشاً جديداً لكلمته على ما يقول النبيّ عاموص (٨ : ١١). ونحن إذ قبلنا البشارة بنعمة منه مجانيّة علينا أن ننقلها بدورنا.
رسالة الكنيسة تنبع من كلمة الله (كلام الرب ٩٢)
تصدر الطبيعة الرسوليّة للكنيسة عن الإيمان. أيّد سينودس الأساقفة العمل على إيقاظ الوعي الرسوليّ للكنيسة. كان المسيحيّون الأولون يشعرون بوجوب التبشير بالإنجيل ليعيشوا إيمانهم. فالرسالة هي بعدٌ مكوّن للكنيسة. «كانت الجماعات المسيحيّة الأولى تشعر بأنّ إيمانها لا يخصّ تقليداً ثقافيّاً معيّناً، وهذا يختلف بحسب الشعوب، بل يتبع الحقيقة بالمطلق ويخصّ كلّ إنسان على السواء».
يرجع الإرشاد هنا إلى مثل القدّيس بولس الّذي عرف كيف يبيّن البعد الشموليّ للرسالة المسيحيّة. «نفكّر بالحدث الّذي يرويه سفر اعمال الرسل عن رسالة بولس في أثينا، وتحديداً بخطبته في الاريوباغوس (ر. ١٧ : ١٦ – ٣٤). يدخل رسول الأمم في حوار مع ناس من ثقافات مختلفة، وهو يدرك بأنّ الله المعلوم والمجهول والّذي يعرفه كلّ إنسان معرفة غير واضحة، هذا الإله قد كشف عن ذاته في التاريخ: فما تعبدونه وأنتم تجهلونه، فذاك ما أنا أبشّركم به» (اعمال ١٧ : ٢٣). في أثينا فتح بولس الرسول الطريق أمام الحوار بين الوحي والعقل. رغم الفشل الّذي حمل بولس الرسول على تركيز كرازته على صليب المسيح، كما نتبيّنه من الاخبار الواردة في الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس (٢ : ١ – ٥)، لم يتوقّف أبداً عن التبشير بالإنجيل ليحمل النّاس من مختلف الثقافات على الإيمان:
«ومع أَنِّي حُرٌّ مِن جِهَةِ النَّاسِ جَميعًا، فقَد جَعَلتُ مِن نَفْسي عَبْدًا لِجَميعِ النَّاسِ كَي أَرَبحَ أَكثَرَهُم، فصِرتُ لِليَهودِ كاليَهودِيّ لأَربَحَ اليَهود، ولِلَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعةِ كالَّذي في حُكْمِ الشَّريعة – مع أَنِّي لَستُ في حُكْمِ الشَّريعة – لأَربَحَ الَّذينَ في حُكْمِ الشَّريعة، وصِرتُ لِلَّذينَ لَيسَ لَهم شَريعة كالَّذي لَيسَ لَه شَريعة – مع أَنِّي لَستُ بِلا شَريعةٍ مِنَ الله – لأَربَحَ الَّذينَ لَيسَ لَهم شَريعة إِذ إِنِّي في حُكْمِ شَريعةِ المسيح، وصِرتُ لِلضُّعَفاءَ ضَعيفًا لأَربَحَ الضُّعَفاء، وصِرتُ لِلنَّاسِ كُلِّهِم كُلَّ شَيء لأَُخَلِّصَ بَعضَهُم مَهْما يَكُنِ الأَمْر. وأَفعَلُ هذا كُلَّه في سَبيلِ البِشارة ، لأَُشارِكَ فيها.» (١ قورنتس ٩ : ١٩ – ٢٣).
لقد قام القدّيس بولس برسالته تحت شعار الحوار بين الإيمان بالوحي والعقل. هذا ما يظهر أيضاً في اسلوبه عندما يجيب على مشاكل الايمان والاخلاق للجماعات التي أرسل إليها رسائله. فالأمانة لله وللإنسان التي ميّزت لاهوت آباء الكنيسة مبنيّة على تاريخ الخلاص نفسه، على الكتاب المقدّس الّذي كان في نشأته حواراً بين الإيمان والعقل. والهدف هو قبل كلّ شيء معرفة حقيقة الله الّذي تؤمن به الكنيسة، الإله الواحد الحيّ والحقّ وهو إله كلّ البشر وسيّد الكون. لذلك تصلّي الكنيسة كلّ يوم إلى الآب ليأتي ملكوته، وهي بدورها مدعوة للتبشير في كلّ العالم بحضوره الخلاصيّ بيسوع المسيح.
الكلمة وملكوت الله (كلمة الرب ٩٣)
تقوم رسالة الكنيسة من خلال خدمة كلمة الله وذلك من أجل تحقيق ملكوت الله. يقول قداسة البابا: «يجب إعادة اكتشاف ضرورة استعجال التبشير بكلمة الله وجماله من أجل مجيء ملكوت الله الّذي بشّر به المسيح. بهدا المعنى نجدّد الإدراك الأليف لدى آباء الكنيسة بأنّ هدف التبشّير بكلمة الله هو ملكوت الله وهذا الملكوت هو شخص يسوع بالذات (Autobasileia)، بحسب أوريجنوس. يقدّم الرّبّ الخلاص لكلّ إنسان في كلّ عصر. يجب أن ينير نورُ المسيح كلّ مجالات حياة البشريّة: العائلة، المدرسة، الثقافة، العمل، الوقت الحرّ وباقي قطاعات الحياة الاجتماعيّة. لا نعني هنا التبشير بكلمة تمنح بعض العزاء، بل كلمة مدويّة تدعو للتوبة وتفسح المجال أمام اللقاء معه، فتزهر بواسطتها بشريّة جديدة». تأتي الرسالة إلى أهل قولسي ببعض الأضواء لتساعدنا على فهم أهميّة التبشير بكلمة الله:
«يسرني الآن ما أعاني لأجلكم فأتمّ في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة، لأنّي صرت خادما لها بحسب التدبير الإلهيّ الذي وُكل إلي من أجلكم، وهو أن أتمّ التبشير بكلمة الله، بذلك السّر الذي ظلّ مكتوما طوال الدهور والأجيال وكُشف اليوم لقديسيه، فقد أراد الله أن يعلمّهم أيَّ غنى هو غنى مجد ذلك السر عند الوثنيين، أي أن المسيح فيكم وهو رجاء المجد. به نبشر فنعظ كل إنسان ونعلم كل إنسان بكل حكمة لنجعل كل إنسان كاملا في المسيح. ولأجل ذلك أتعب وأجاهد بفضل قدرته التي تعمل في عملا قويا.» (قولسي ١ : ٢٤ – ٢٩).
لا يتكلّم القدّيس بولس هنا على ملكوت الله وهو موضوع حاضر بنوع خاصّ في الأناجيل الإزائيّة، بل على سرّ الله أي المسيح، رجاء المجد. نحن هنا أمام تطوّر في التعبير اللاهوتي، على أنّ المعنى متشابه. يدرك بولس أنّه دُعي لرسالة يعبّر عنها بهذه الكلمات: «أن أتمّ التبشير بكلمة الله، بذلك السّر الّذي ظلّ مكتوماً طوال الدهور والأجيال وكُشف اليوم لقدّيسيه». وتتميم كلمة الله تعني تحقيق الرسالة لدى كلّ الشعوب. في الآية ٢٨ ينتقل بولس إلى الضمير المتكلّم الجمع للتعبير عن مسؤولية رسولية جماعية. كلّ الكنيسة الرسوليّة مدعوة للقيام بالرسالة. ومن جهة أخرى تدرك هذه الكنيسة الرسوليّة أنّه عليها أن تعظ كلّ إنسان وتعلّم كلّ إنسان بكل حكمة لتجعل كلّ إنسان كاملاً في المسيح (١ : ٢٨). يصوّر بولس باسلوب بليغ شموليّة الرسالة في الكنيسة: فالكنيسة بأجمعها مدعوة للتبشير بكلمة الله حتى تجعل كلّ إنسان كاملاً في المسيح.
كلّ المعمدّين مسؤولون عن التبشير (٩٤)
بما أنّ الكنيسة بأجمعها مرسلة، أكّد السينودس أنّ رسالة التبشير بكلمة الله هي من مسؤلية جميع تلاميذ يسوع المسيح وذلك بسبب معموديتهم. لا يمكن لأي مؤمن أن يعتبر نفسه غريباً عن هذه المسؤولية التي تصدر عن كونه عضواً في جسد المسيح. يجب إحياء هذا الوعي في كلّ عائلة ورعية وجماعة وجمعية أو حركة كنسية.
ويتابع قداسة البابا تقديم الالتزام الرسوليّ لكل عضو في شعب الله. أولاً «الاساقفة والكهنة هم مدعوون لحياة ممسوكة ومأخوذة بالكلمة للتبشير بالإنجيل والاحتفال بالاسرار وتنتشئة المؤمنين في المعرفة الصحيحة للكتاب المقدس». نذكر هنا الكنيسة الاولى في أورشليم عندما احتاجت الى من يقوم بخدمة المعوزين: «فدعا الاثنا عشر جماعة التلاميذ وقالوا لهم: لا يحسن بنا أن نترك كلمة الله لنخدم على الموائد. فابحثوا، أيها الإخوة، عن سبعة رجال منكم لهم سمعة طيبة، ممتلئين من الروح والحكمة، فنقيمهم على هذا العمل، ونواظب نحن على الصلاة وخدمة كلمة الله.» (اعمال ٦ : ٢ – ٤). والقدّيس بولس يعرف أنّه خادم الإنجيل (قولسي ١ : ٢٣) وخادم الله (٢ قورنتس ٦ : ٤) وخادم العهد الجديد (٢ قورنتس ٣ : ٦) وخادم المسيح (٢ قورنتس ١١ : ٢٣). كما يدعو الرسل والمبشّرين عامّة “خدّام” (١ قورنتس ٣ : ٥). في الرسالة الى أهل قولسي يقول بولس أنّه خادم الكنيسة (١ : ٢٤) والإنجيل (١ : ٢٣). فالاسقف والكاهن والشمّاس مدعوون لعيش رسالتهم امتداداً لرسالة الرسل الّذين كانوا يدركون جيّداً أنّ رسالتهم هي قبل كلّ شيء أن يخدموا كلمة الله ويحملوا إنجيل يسوع المسيح إلى كلّ البشر.
ويتابع الإرشاد في الكلام على رسالة الرهبان والراهبات: «تشعّ الحياة المكرّسة عبر تاريخ الكنيسة بالقدرة على تحمّل المسؤولية في التبشّير بكلمة الله، في الرسالة إلى الأمم (Missio ad gentes) في الظروف الأكثر صعوبة، وذلك بروح منفتح على قبول أوضاع جديدة في التبشّير، ومبادرين بشجاعة في سلوك طرق جديدة وتحدّيات جديدة للتبشيّر الفعّال بكلمة الله». لا يمكن هنا إلا أن نذكر التحوّل الكبير الّذي تمّ في تاريخ الحياة المكرّسة مع رهبانيّة الإخوة الأصاغر والإخوة الواعظين. لقد وجد القدّيس فرنسيس في إنجيل الرسالة دعوته وهويّته في الحياة المكرّسة. يذكر الإرشاد القدّيس فرنسيس مع كثيرين آخرين فسّروا الإنجيل بحياتهم. يذكر كاتب السيرة كيف سمع فرنسيس إنجيل الرسالة أثناء الاحتفال بالقدّاس وقال بعدها أنّ هذه بكلّ بساطة هي حياته (١ شيلانو ٩ : ٢٢). لقد فهم فرنسيس في ساعة الروح تلك أنّه مدعوّ للعيش مثل يسوع والرسل متنقّلاً من مكان إلى آخر للتبشير بالإنجيل.
وأخيراً يتكلّم قداسة البابا على رسالة العلمانيين: «على العلمانيين أن يعيشوا رسالتهم النبويّة الصادرة عن المعموديّة، ويشهدوا للإنجيل بحياتهم أينما حلّوا. على هذا الصعيد عبّر آباء السينودس عن تقديرهم العميق وشكرهم وتشجيعهم لخدمة التبشّير التي يقوم بها كثير من العلمانيين، خاصّة من النّساء اللواتي يقدّمن بسخاء التزامهنّ في الجماعات المنتشرة في العالم، على مثال مريم المجدليّة، أول شاهدة لفرح القيامة. كما يُقرُّ السينودس بفضل الحركات الكنسيّة والجماعات الجديدة بأنّهم يشكّلون اليوم في الكنيسة قوّة كبيرة للتبشّير، دافعين نحو تطوير أشكال جديدة من التبشّير بالإنجيل».
يصدر العمل النبويّ للعلمانيين من المعموديّة كما قلنا فيُشرك المعمّد برسالة المسيح الكهنوتيّة والنبويّة والملكيّة. والمهمّة النبويّة ترتبط بالرسالة الكهنوتيّة لشعب الله:
«أما أنتم فإنكم ذرية مختارة وجماعة الملك الكهنوتية وأمة مقدسة وشعب اقتناه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب.» (١ بطرس ٢ : ٩).
لا يتعلّق الأمر هنا بهبة النبؤة، وهي عطيّة شخصيّة يمنحها الروح القدس لبعض الأشخاص، بل المقصود دعوة نبويّة عامّة ودائمة وهبها الله في هذه الأزمنة المسيحانيّة الأخيرة لكلّ المؤمنين. اشترك الرسل برسالة المسيح النبويّة عندما حلّ الروح القدس عليهم يوم العنصرة وهو يحلّ على المؤمن في سرّي المعمودية والتثبيت. يقول القديس بولس في الرسالة الثانية إلى أهل قورنتس:
«وإن الذي يثبّتنا وإياكم للمسيح والذي مسحنا هو الله، وهو الذي ختمنا بختمه وجعل في قلوبنا عربون الروح.» (١ : ٢١ – ٢٢).
يرجع هذا النصّ إلى حدث المعموديّة ويدلّ على المسحة الإلهيّة الّتي تبعث الإيمان بكلمة الله في الموعوظ. فالمسحة تعزّي الإنسان بالروح القدس والختم يثبّته في الانتماء للمسيح والعربون يمنحه شيئاً من إرث الحياة الأبديّة. رسالة العلمانيّ تكمن أولاً بعيش سرّ المعموديّة انتماءً للمسيح بالروح القدس.
في رسالة يوحنا الأولى، يلقي الرسول الضوء على مسؤوليّة المسيحيّ في أن يحيا في الحقيقة للعمل برسالته النبويّة:
«يا بنيَّ، إنّها الساعةُ الأخيرة. سمعتم بأنّ مسيحا دجّالا آتٍ، وكثيرٌ من المسحاء الدجالين حاضرون الآن. من ذلك نعرف أنّ هذه الساعةَ هي الأخيرة. من عندنا خرجوا ولم يكونوا منّا، فلو كانوا منّا لأقاموا معنا. ولكن حدث ذلك لكي يتّضح أنّهم جميعاً ليسوا منّا. أما أنتم فقد قبلتم المسحة من القدّوس وتعرفون جميعا. لم أكتب إليكم أنّكم لا تعرفون الحقّ بل أنّكم تعرفونه وأنّه ما من كذبة تأتي من الحقّ. مَنِ الكذّابُ إن لم يكن ذاك الذي ينُكر أنّ يسوع هو المسيح؟ هذا هو المسيح الدجّال، ذلك الذي ينكر الآب والابن. كلّ من أنكر الابن لم يكن الآب معه. من شهِدَ للابن كان الآب معه. أما أنتم فليثبت فيكم ما سمعتموه منذ البدء . فإن ثبت فيكم ما سمعتموه منذ البدء ثبتّم أنتم أيضا في الابن وفي الآب: ذلك هو الوعد الذي وعدنا إياه هو بنفسه إنّها الحياة الأبدية. هذا ما أردت أن أكتب به إليكم في شأن أولئك الذين يبتغون إضلالكم. أما أنتم فإنّ المسحة التي قبلتموها منه مقيمة فيكم فليس بكم حاجة إلى من يعلّمكم ولما كانت مسحته تتناول في تعليمها كلّ شيء وهي حقّ لا باطل، كما علّمتكم فاثبتوا أنتم فيه. أجل، اثبتوا فيه الآن، يا بني. فإذا ظهر كنّا مطمئنين ولن نخزى في بعدنا عنه عند مجيئه. فإذا كنتم تعلمون أنه بار فاعرفوا أن كل من يعمل البرّ كان له مولودا.» (٢ : ١٨ ـ ٢٩).
تبدأ رسالة المسيحيّ النبويّة بالإيمان بكلمة الله وبالإنتماء للجماعة الرسوليّة، أي للكنيسة. وهذا الانتماء يُلزم المسيحيّ العلمانيّ لإعلان كلمة الحقّ داخل الجماعة وفي خارجها في كلّ ظرف من ظروف الحياة اليوميّة. فالجميع مدعوّ للإشادة بآيات الّذي دعانا من الظّلمات إلى نوره العجيب (ر. ١ بطرس ٢ : ١٢). وشهادة الحياة اليوميّة هي أفضل طريقة لتحقيق الرسالة النبويّة للعلمانيين. فالعهد الجديد لا يخلو من دعوات لحياة تسير بحسب متطلبات الإنجيل. ورسالة بطرس الأولى تتكلّم على «حُسن السيرة في المسيح». يحثّ الرسول المسيحيين على الاقتداء بالمسيح في الاضطهاد، ولكن التوصيات تعني حياة المؤمن كلّ يوم وفي كلّ الأوضاع:
«فمَن يُسيءُ إِلَيكم إِذا كُنتم ناشِطينَ لِلخَير؟ لا بل إِذا تأَلَّمتُم مِن أَجْلِ البِرّ فطوبى لَكم! لا تَخافوا وَعيدَهم ولا تَضطَرِبوا، بل قدِّسوا الرَّبَّ المَسيحَ في قُلوِبكم. وكونوا دائِمًا مُستَعِدِّينَ لأَن تَرُدُّوا على مَن يَطلُبُ مِنكم دَليلَ ما أَنتم علَيه مِنَ الرَّجاء، ولكِن لِيَكُنْ ذلك بِوَداعَةٍ ووَقار، وليَكُنْ ضَميرُكم صالِحًا، فإِذا قالَ بَعضُهم إِنَّكم فاعِلو شرّ، يَخْزى الَّذينَ عابوا حُسْنَ سِيرَتِكم في المسيح. فخَيرٌ لَكم أَن تَتأَلَّموا وأَنتُم تَعمَلونَ الخَيْر، إِن شاءَ اللهُ ذلك، مِن أَن تَتأَلَّموا وأَنتُم تَعمَلونَ الشَّرّ.» (١ بطرس ٣ : ١٣ – ١٧).
ضرورة الرسالة للأمم Missio ad gentes (كلام الرب ٩٥)
يؤكّد قداسة البابا في الفقرة ٩٥ ضرورة تبشير جميع البشر بالإنجيل. «لا يمكن بأي حال أن تكتفي الكنيسة براعوية الاهتمام فقط بالّذين يعرفون الإنجيل سابقاً. وكلّ انطلاقة رسوليّة هي علامة على نضوج الجماعة الكنسيّة. فالكنيسة مدعوّة للذهاب إلى الجميع بقوّة الروح القدس (ر. ١ قورنتس ٢ : ٥) وللدفاع بروح نبويّة عن حقّ وحريّة الأشخاص لسماع كلمة الله. لذلك عليها أن تبحث عن كلّ الوسائل الفعّالة لإعلان كلمة الله حتّى ولو عانت الاضطهاد بسبب البشارة. تشعر الكنيسة بأنّ لكلّ إنسان الحقّ في الإصغاء لكلمة الله التّي تخلّص (ر. روم ١ : ١٤). نذكر أنّ قداسة البابا قد تكلّم على هذا الموضوع في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسّلام: الحريّة الدينيّة، درب السّلام. أودّ هنا أن أذكر شهادة الوزير الباكستاني شهباز باتي، وزير الأقليّات الّذي أعطي حياته في سبيل الإنجيل. ووصيّته الروحيّة ترسم بشكل بليغ رسالة العلمانيّ في عالم اليوم:
أريد أن أعيش من أجل المسيح ومن أجله أريد أن أموت
«لقد عرضوا عليّ مناصب هامّة في الحكومة وطلبوا منّي التخلّي عن نضالي، لكنّي رفضت دومًا، ولو كلّفني ذلك حياتي. كان جوابي دائمًا هو نفسه: «لا، فأنا أريد أن أخدم يسوع كَرجل عادي».
هذا التفاني يجعلني سعيدًا. أنا لا أريد شعبيّة، لا أريد مراكز سلطة. أريد فقط مكانًا عند قدمَي يسوع. أريد أن تتكّلم عنّي حياتي وطبعي وأعمالي وتقول إنّني أتبع يسوع المسيح. هذه الرغبة قويّة فيّ لدرجة أعتبر نفسي مميّزًا إذا ما ارتضى يسوع – في جهدي هذا ونضالي من أجل مساعدة المحتاجين والفقراء والمسيحيّين المضطهدين في باكستان – أن يقبل تضحيتي بِحياتي. أريد أن أعيش من أجل المسيح ومن أجله أريد أن أموت. لا أشعر بالخوف البتّة في هذا البلد.
لقد حاول المتطرّفون، في كثير من الأحيان، قتلي وسجني؛ لقد هدّدوني واضطهدوني وروّعوا أسرتي. وقبل بضع سنوات، طلب المتطرّفون من والديّ، أمّي وأبي، أن يثنياني عن مواصلة مهمّتي في مساعدة المسيحيّين والمحتاجين، وإلا فسوف يخسرانني. لكنّ والدي شجّعني دائمًا. أنا أقول إنّني سوف أستمرّ، ما حييت، وحتّى أنفاسي الأخيرة، بِخدمة يسوع وهذه الإنسانيّة الفقيرة المتألّمة والمسيحيّين والمحتاجين والفقراء.
أريد أن أقول لكم إنّي أجد الكثير من الإلهام في الكتاب المقدّس وفي حياة يسوع المسيح. كلّما قرأت العهد الجديد والعهد القديم، آيات الكتاب المقدّس وكلمة الربّ، ازدادت قوتّي وتصميمي ثباتًا. عندما أفكّر في حقيقة أنّ يسوع المسيح قد ضحّى بكلّ شيء، وأنّ الله أرسل ابنه نفسه من أجل فدائنا وخلاصنا، أتساءل كيف يمكنني أنا أن أسلك طريق الجلجلة. قال ربّنا: «تعال معي، احمل صليبك واتبعني». الفقرات التي أحبّها بالأخصّ في الكتاب المقدّس تقول: «كنت جائعًا فأطعمتموني، وعطشانَ فَسقيتموني؛ كنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فزرتموني، وسجينًا فأتيتم إليّ». لذلك عندما أرى أناسًا فقراء ومحتاجين، أعتقد أنّ تحت مظهرهم يأتي يسوع نفسه لِملاقاتي. لذلك أحاول دائمًا أن أساعد، جنبًا إلى جنب مع زملائي، وأن أقدّم المساعدة للمحتاجين والجائعين والعطشى».
تأتي هذه الشهادة الرائعة في بلدٍ يشكّل فيه المسيحيّون أقليّة. ولا تنقص هكذا شهادات في البلدان التي تُعتبر مسيحيّة في تاريخها وتقاليدها. على أنّ أغلب سكّان هذه البلدان لا يبالي بالأمور الدينيّة. وانتشر القول منذ مدة غير بعيدة على أنّ هذه البلدان أصبحت أرض رسالة في عصرنا. لذلك أقام قداسة البابا مؤخّراً المجلس الحبريّ للرسالة الجديدة. وفي الرسالة الرسوليّة الخاصّة لتأسيس هذا المجلس يقول قداسته: «على الكنيسة أن تبشّر دائماً وفي كلّ مكان (Ubicumque et semper) بإنجيل يسوع المسيح». لذلك يرجع قداسة البابا إلى هذا الموضوع في هذا الإرشاد الرسوليّ حول كلمة الرب في حياة الكنيسة.
التبشير الجديد بالإنجيل (كلمة الرّبّ ٩٦)
«حثّ البابا يوحنا بولس الثاني، وعلى خطى البابا بولس السادس في الإرشاد الرسوليّ “إعلان الإنجيل”، وبطرق مختلفة، المؤمنين على ضرورج القيام بفصل جديد من الرسالة من أجل كلّ شعب الله. في مطلع الألف الثالث ليس هناك شعوبٌ لم تعرف الإنجيل وحسب، بل كثيرٌ من المسيحيين الّذين يحتاجون الى أن يُبشَّروا باسلوب مقنع بكلمة الله حتى يختبروا قوّة الإنجيل في الواقع. فالكثير من الإخوة هم معمّدون ولكن لا يعرفون الإنجيل بشكل كاف. أممٌ كانت غنيّة بالإيمان وبالدعوات أضاعت اليوم هويّتها تحت تأثير ثقافة دنيويّة (secolarizzata). إنّ ضرورة التبشير الجديد التي أدركها بقوة سلفي المكرّم (الطوباويّ يوحنا بولس الثاني)، يجب أن تؤكَّد اليوم بدون خوف واثقين بفعّاليّة الكلمة الإلهيّة. لا تتعب الكنيسة وهي على يقين بأمانة ربّها من التبشّير بالبشرى السّارة، بالإنجيل، وتدعو كلّ المسيحيين إلى إعادة اكتشاف جمال اتّباع المسيح».
عملت الكنيسة بشكل أو بآخر على متابعة تبشّير المؤمنين بالإنجيل. كتب بولس رسائله لمساعدة الجماعات المسيحيّة الناشئة على المثابرة بالإيمان وعيش دعوتهم المسيحيّة. ففي الرسالة إلى أهل قولسي يقول:
«بِه نُبَشِّرُ فنَعِظُ كُلَّ إِنسان ونُعلِّمُ كُلَّ إِنسانٍ بكُلِّ حِكمَة لِنَجعَلَ كُلَّ إِنسانٍ كامِلاً في المسيح. ولأَجْلِ ذلِك أَتعبُ وأَجاهِدُ بِفَضْلِ قُدرَتِه الَّتي تَعمَلُ فِيَّ عَمَلاً قَوِيًّا.» (١ : ٢٨ – ٢٩).
نبشّر، نعظ أو ننصح، نعلّم. ثلاثة أفعال تعبّر عن مراحل مختلفة من خدمة الكلمة. فالتبشّير يأتي في البداية. ولكن لا ينتهي عمل الكنيسة التعليميّ بالتبشيّر. وهذا غالباً ما يتمّ في عمر المناولة الأولى والتثبيت. بعد هذه المرحلة تستمرّ حياة الإنسان بعيداً عن أي نموّ في الحياة الروحيّة. وما ينقصنا اليوم هو تعليم البالغين. لا بل يجب أن نصل إلى آفاق أبعد من هذه، إذ إنّ المطلوب هو الوصول إلى تبشّير يجذب الإنسان المعاصر الّذي يعيش في عالم دُنيويّ. على أنّ مصداقية الإنجيل لا تعتمد على خطاب مقنع وحسب، بل على شهادة الحياة.
كلمة الله والشهادة المسيحيّة (كلمة الرّبّ ٩٧ و٩٨)
نؤمن بأنّ الروح القدس هو الفاعل الأول في التبشّير، ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الجوهريّة بين نشر كلام الله والشهادة المسيحيّة. تصل كلمة الله إلى النّاس من خلال اللقاء بشهود يعيشونها الآن. على أنّ العلاقة الدائريّة بين الشهادة والكلمة تدلّ على أنّ كلا المبدأين يجب أن يكونا حاضرين، إذ لا غنى عن التبشّير الصريح بالإنجيل بواسطة الكلمة. يقول البابا بولس السادس في رسالته العامّة “التبشير بالإنجيل”، ٢٢: «لا من تبشّير حقيقيّ إذا لم نعلن اسم وتعليم وحياة ومواعيد وملكوت وسرّ يسوع الناصريّ، ابن الله».
في الخاتمة
أودّ أن أذكر بعض المقترحات العمليّة. في أولى توصيّات السينودس من أجل كنائس الشرق الأوسط (تشرين الأول ٢٠١٠) نقرأ ما يلي:
توصية رقم ٢
إنّ كلمة الله هي روح الخدم الراعويّة وأساساها؛ نتمنّى أن تمتلك كلّ أسرة الكتاب المقدّس.
يشجّع آباء السينودس على المثابرة اليومية على قراءة كلمة الله والتأمّل فيها، ولا سيّما القراءة الربّية، وعلى خلق موقع بيبليّ على الإنترنت، يضع بتصرّف المؤمنين شروحات وتفاسير كاثوليكيّة، وعلى إعداد كتيّب يقدّم للكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد، وعلى وضع منهجية سهلة لقراءة الكتاب المقدّس. ويشجّعون أيضاً الأبرشيات والرعايا على تنظيم دورات بيبليّة لشرح كلمة الله والتأمّل فيها حتّى تتسنّى الإجابة على أسئلة المؤمنين لخلق جوّ من الإلفة مع الكتاب المقدّس، والتعمّق في روحانيّة الكتاب المقدّس، والالتزام في العمل الرسوليّ.
توصية رقم ٣
الراعويّة البيبليّة
إنّ آباء السينودس يوصون بالعمل على وضع الكتاب المقدّس بعهديه في قلب حياتنا المسيحيّة، وذلك من خلال التشجيع على إعلانه، وقراءته، والتأمّل فيه، وتفسيره بالارتكاز على المسيح، والاحتفال الليتورجي به، على مثال المسيحيّة الأولى.
نقترح أن يُصار إلى إعلان سنة بيبليّة، يعدّ لها إعداداً وافياً، ومن ثمّ يكرّس أسبوع سنوي للكتاب المقدّس.
على هذا الصعيد بدأت كنائسنا الكاثوليكيّة في الأرض المقدّس السنة البيبليّة وشعارها خمس دقائق مع الكتاب المقدّس يوميّاً. كما نذكر رسالة غبطة البطريرك السابق ميشيل صبّاح: قراءة الكتاب المقدّس في وطن الكتاب المقدّس، اليوم.
أبعد من كلّ هذه المقترحات علينا أن نكون مقتنعين شخصيّاً بأنّ دراسة الكتاب المقدّس والتأمّل به والعمل الراعوي يجب أن يسيروا بنا إلى حقيقة فاصلة: البحث واللقاء بكلمة الله الواحدة وراء الكلمات العديدة للكتاب المقدّس، وهذه الكلمة الوحيدة هي يسوع المسيح. القدّيسة تريز الطفل يسوع تعلّم: «فبما انّ يسوع قد صعد الى السماء، فلا استطيع ان أتبعه إلا بالأثار التي خلّفها. ولكن ما اشدّ سطوع هذه الآثار وما أجمل عطرَها! فحسبي أن أُلقيَ نظرة على الانجيل المقدّس، فأتنشّق حالا عطورَ حياة يسوع، وأتبيّن في أيّ اتّجاه أجري…» (مخطوط ج ٤٦).
أودّ في الختام أن أترككم مع رواية تعبّر بعمق عن حقيقة اللقاء مع المسيح في قراءة الكتاب المقدّس. يقول توما من شيلانو، كاتب السيرة الثانية للقدّيس فرنسيس (١ شيلانو ١٠٥):
«وكان فرنسيس مريضاً ومليئاً بالأوجاع من كلّ ناحية، فلما رآه أحد الرفاق على هذه الحال قال له: لقد كنت دائماً تجد لك ملجأً في الكتاب المقدس وكنت تجد فيه علاجاً لآلامك فأرجوك أن تطلب أن يُقرأ لك بعضٌ من سِيَرِ الأنبياء فلربما ابتهجت نفسك بالرب. فأجابه القديس: إنّ قراءة الكتاب المقدّس أمر جيد بل ضروريّ دائما، كما أنّه حسن أيضا أن نبحث فيه عن الرب إلهنا، أما فيما يخصّني فإني قد نهلت من الكتاب المقدس ما يمنحني الكثير من التأمّل والتبصّر ولا حاجة لي بعد يا بنيّ، إنني أعرف المسيح فقيراً وإلهاً مصلوباً».
بالنسبة لفرنسيس لم تكن قراءة الكتاب المقدّس مجرّد ثقافة دينية، كما يحصل لكثيرين ممن يقرأون الكتاب المقدّس أو حتى يبحثون عن اكتساب العلوم الكتابيّة، بل إصغاء لصوت المسيح ولقاء محبّة معه.