المونسنيورد. بيوس قاشا
في البدء
ممارسات الكراهية والتكفير، وإفرازات العنف والتمييز وعدم الاستقرار، وإبعاد الأقليات عن نيل حقوقهن، أفرزت نتائجَ وخيمة على مستقبل وجودِنا المسيحي في العراق خاصة وفي الشرق الأوسط عامة، وبسببها تناقصت أعدادُنا، وخابت آمالُنا في العيش مع الآخر المختلف. وما يواجهه مسيحيو اليوم من تحديات هي الدافع الأكيد والأكبر لإفراغ البلد رغم أن الكنيسة ـــ عبر إرشادها الرسولي والأخوّة الإنسانية ورسائل عديدة ـــ لعبت دوراً ولا زالت حتى الساعة تنادي بحقيقة العيش ومقاسمة الحياة مع الآخر المختلف، وبالمواطنة الصالحة، وبأصالة الوجود المسيحي، ولكن لا زال قلب المسيحي يحسب للخوف حساباً ولمسيرة المستقبل كتاباً.
البابا فرنسيس
نعم، أقولُها: إن البابا قد أحسن قراءة مسيرة تاريخ مسيحيتنا في الشرق وقضية وجودنا فيه، واستدرك أن الآتي ربما يكون خطة ممنهَجَة، مدروسة، منظَّمة، لتفريغ الشرق الأوسط من سكانه الأصليين، حاملي اسم المسيح، من أجل رسم خريطة جديدة لواقع البشر الأناني، لغاياتٍ ومصالح. فالقرار صعب، وتنفيُذه بحاجة إلى شجاعة إيمانية تقف ندّاً أمام الذين يستغلون خيبة أبناء الشرق، فيجعلون من معتقدِهِم إرهاباً مؤلماً كما حصل في العديد من بلدانِنا الشرق أوسطية، بدءاً من عراقِنا الرافيديني مروراً بمصرَ الكنانة ووصولاً إلى سوريا. ولا زالت المسيرة المؤلمة تدور فصولُها مما يجعل من مسيرة الحياة ناقوساً يعلن خطرَ البقاء وفراقَ المثقفين وتشتيتَ المتعايشين وازدياد عدد المهجَّرين وكره الأصوليين بدلاً من ان يجمعهم لصلاةٍ واحدة وفي معبدٍ واحد وتحت اسمٍ واحد ولوطنٍ واحد.
الإرشاد الرسولي
لقد جاء الإرشاد الرسولي عام 2010 قبل أيامٍ معدودة من كارثة كنيسة سيدة النجاة في العراق، والتي فيها استؤنفت إبادة مكوِّننا الأصيل. وقد جاء الإرشاد بعد لقاءٍ جمع أباءَ الكنيسة الكاثوليكية في العالم أجمع وخاصة بمشاركة رؤساء كنائسنا الشرقية، وحمل عنواناً “شركة وشهادة”، وسُلِّمت الوثيقة من قِبَل البابا بندكتس السادس عشر في الرابع عشر من أيلول عام 2012 في بيروت ـــ لبنان إلى رؤوسائِنا الموقَّرين. ويقول الإرشاد في وثيقته “شركة وشهادة”، ومن خلال المواضيع التي نوقشت وحُلِّلت إنطلاقة الوحدة بين الكنائس المختلفة، وانطلاق الحوار في الإنسانية، وبعد تأمل عميق لإدراك واقع عالمنا المعاصر وكوراثة لتضع المبادئ الدنيوية موضع المبادئ العليا والمتسامية من أجل غدٍ مشرق لكل بني الإنسان ومن أجل التآلف بين أصحاب الديانات، كما كان الإرشاد علامة السلام والمشاركة في شهادة واحدة.
سكة واحدة
إنها سكة واحدة ، فالإرشاد دعوة لإقامة الحوار مع أعضاء باقي الديانات، حوار لا تفرضه سياسات المصالح بل يستند قبل كل شيء إلى أسس لاهوتية مرتبطة بالإيمان، فيدركوا أنهم يؤمنون بإلهٍ واحد، ومن هنا يكتشفون في المؤمن الآخر أخاً يُحتَرَم ويُحَب من أجل شهادة جميلة للصفاء والمودّة بين ابناء إبراهيم. وبما أن المسيحيين يتقاسمون الحياة اليومية مع المسلمين حيث وجودهم لأنهم في ذلك جزء لا يتجزأ من محيطِهِم. فالمشاركة في حياة الوطن من واجب وحق كل مسيحي لأنهم أصلاء البلاد ولذلك يعملون على بناء أوطانهم. من هنا ينبغي أن يتمتعوا بمواطَنَة كاملة، ويتمنون أن يكونوا أمناء تجاه كرامة الشخص البشري في حريته الدينية التي يرتأي الشخص إليها والتعبير على ذلك علانية وبحرية دون أن يعرّض حياتَه الشخصية للخطر، لأن الإكراه فيما يتعلق بالدين غير مقبول خصوصاً إذا تمّ بواسطة العنف، حينذاك سيكون التسامح رسالة يحملها المؤمن في عيشه المشترك والذي سيكون مثالياً عبر الحياة اليومية، ومن خلالِها يدركون غِنى الحوار الذي يجمع بينهم.
أما الوثيقة “الأخوّة الإنسانية” فقد وُقِّعت أبوابُها من قِبَل البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب في الرابع من شباط عام 2019، وقد جاءت الوثيقة ـــ بتقديري الضعيف ـــ بعد تحرير أراضي سهل نينوى، وبدأت تتغير مفاهيم السياسة بسبب المصالح والطائفية وتهميش الأصلاء والمكوِّنات، وفرض الأغلبية وشريعتها على الأقليات ودياناتهم، فكانت الحصيلة مآسي الحياة، حينها أدركَ جيداً قداسة البابا فرنسيس فقد قام الفاتيكان وبكل حكمة وذكاء وعقلانية إنسانية بإطلاق محادثات أخوية صادقة مع سماحة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف ومع الدوائر الأزهرية المتعددة، فكانت أنْ وُلِدتْ الوثيقة الإنسانية حاملة عنواناً إنسانياً “الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والتعايش المشترك”.فالأخوّة الإنسانية تدعونا إلى أن التعددية واختلاف الدين واللون والجنس والعِرق ما هي إلا حكمة لمشيئة الله، فلا يجوز إكراه الناس على دين معين أو ثقافة محدَّدة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر. فاليوم حان الوقت لتقدم الأديان نفسَها بطريقة فعّالة وشُجاعة كي لا تقتصر الحرية الدينية على حرية العبادة بل ترى في الآخر أخاً في العقل، كما في الفعل، كما في الإنسانية. لأن أهم أسباب أزمة العالم يعود إلى تغييب ضمير الإنسان وإقصاء الأخلاق الدينية والنزعات التي تؤلِّه الإنسان. فغياب الصوت المسحي ووجودُه سبّبّ في افتقار المجتمعات وخسارة للتعددية التي تميزت بها بلدان الشرق الأوسط.
في الختام
نعم، لنفتح أبوابَ قلوبِنا وكناشسِنا، فالأقفال ومفاتيحها في أيادينا جميعاً. ولنفتح الأبوابَ ليس فقط على مصراعيها بل بروح الشِركة والشهادة والتواضع. فالإرشاد كما الاخوة الانسانية أعادَا التصويب لبوصلة الحياة، وحسما الجَدَلَ القائمَ ومفاده بل سؤاله: أين سنكون اليوم وغداً؟… والكنيسة، هل هي كنيسة المؤمنين أم كنيسة المصلّين؟، إنها مبنية على صخرة البشارة عمرها ألفين عاماً، لذا لا يحق حتى للقيّمين على الشأن المسيحي في الشرق أن يتنازلوا عن هذا المجد الذي أُعطي لهم لأنه إرث الكنيسة جمعاء. فمجد الرسالة المسيحية أُعطي لأبناء هذا الشرق، ولنرى الأيام، إنها أفضل مستشار.
أرجو ختاماً أن لا يكون الإرشاد إعلاماً
فقط ، ولغة المثقفين لشريحة كبار الزمن ورؤساء الدوائر وكبار المسيرة والمعابد ،
وكذلك وثيقة “الأخوّة الإنسانية” ، ومن المؤسف اقولها فلقد طويناهما
ووضعنا نصوصهما على الرفوف لترتاح حيث الراحة الأبدية، نعم ، من المؤسف ما هذه إلا
الحقيقة وأقولها بالمٍ . فاليوم شعبنا بسيط وبريء وجريح الحياة، ولا يحتاج إلا أن
يتفاعل بقدر ما وهبه الله من النِعَم لكي لا يكون شعباً مسيَّراً بل مُحبّاً،
شاهداً وشهيداً لحقيقة البشارة والحياة والإيمان من أجل العيش بسلام وأمان… وهذا
هو الرجاء في الإيمان بقوة الروح القدس (أفسس17:6)، والذي سيجعلنا على سكة واحدة
من اجل مسيرة الحياة عبر ما رسمه الارشاد الرسولي والأخوة الانسانية. في ان نكون
أُمناء تجاههما واوفياء تجاه تعليمهما والعمل به في كنيسة أم ومعلمة، وفي المسيح الحي ،وما هذا إلا ايماني بكنيستي ، نعم وامين .
الختام (2)
ختاماً ما نحتاج ليس كلمات احترامية نقولها ونعلنها في مؤتمرات وبيانات تنتهي مع خاتمة أعمالها، بل حقيقةً ودستوراً واضحاً يمنحنا حقوقَنا ويُختَم على ورقة يعلن فيها المبادئ التي نادى بها البيان، وإلا كله لا يحرّك ساكناً في مسيرة الشعوب بل كلام “گرانيل” كما يقول المَثَل المصري ليس إلا!.