هو الحبر المتواضع الذي لفظ كل معالم الفخامة والرفاهية والترف لينتقل نحو الناس، ليلامس قلوب الفقراء، ويبلسم جراح اليائسين البائسين. البابا فرنسيس، الذي أراد، ولا يزال، أن يعبر بالكنيسة من ضفة إلى أخرى، وأن يحمل رسالة الحب والسلام والطمأنينة والخلاص، في ظل تحديات عملاقة تواجهها الكنيسة والعالم برمته.
نشر البابا فرنسيس كتابًا يحمل عنوان “اسم الله رحمة”، تعرّض فيه الى التحديات التي تواجهها الكنيسة الكاثوليكية في القرن الحادي والعشرين. الفكرة الاساسية التي يركز عليها الكتاب هي مسألة الرحمة، حيث يؤكد البابا لجميع اتباع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في العالم، وعددهم 1.2 مليار شخص، بأن كنيستهم لا تسعى الى ادانة الناس وتجريمهم، بل تريد احتواءهم ونشر الرحمة بينهم. ونشر الرحمة يهز صورة قديمة سائدة منذ قرون، بحيث تعرض الكنيسة باعتبارها حاكمًا اخلاقيًا صارمًا، فيما يؤكد البابا في كتابه ان هدف الكنيسة في الواقع هو نشر “رحمة الله اللا متناهية”.
الحبر المتواضع
عنوان الكتاب هو “اسم الله رحمة”، ويرد في شكل حوار مطوّل مع الصحفي الايطالي ومتابع شؤون الفاتيكان، اندريا تورنييلي، وقد ناقش البابا في كتابه هذا تحديات تواجه الكنيسة، مثل الطلاق والعلاقات الجنسية والفساد، فيما يأتي نشر الكتاب بعد اسابيع قليلة من افتتاح البابا سنة يوبيل الرحمة، وهو المفهوم الذي يعتبره البابا ركيزة ولايته كحبر أعظم.
وكان البابا قد استقطب اهتمام العالم منذ اختياره لهذا المنصب عام 2013، واسمه الاصلي هو خورخيه بيرغوغليو، فيما بهر العالم منذ انتخابه بأسلوبه البسيط في الحياة، إذ أبدل شقق البابوية الفخمة في الفاتيكان بحجرة في فندق الكنيسة، وهو يفضل التنقل في سيارة اعتيادية بدلا من سيارات الليموزين الضخمة، اضافة الى امور أخرى جعلت هذا البابا، الارجنتيني الاصل والبالغ من العمر 79 عامًا، يكسب حب الكاثوليك في العالم، بل وحب وتقدير آخرين كثيرين غيرهم، وذلك لانه يطبق ما يعظ به الاخرين.
وتماشيا مع اصراره المتكرر على انه يريد ان يتزعم “كنيسة فقيرة من اجل الفقراء”، بدأ بعد انتخابه بتنفيذ برنامج اصلاحي داخل الفاتيكان، وأعاد تنظيم هيكيلية الادارة فيها، ولاحق الفساد والمفسدين، واستبعد رجال دين كبار اعتبر انهم يهتمون بالترويج لأنفسهم أكثر من الترويج لمصلحة الكنيسة، كما ووضع ايضًا أسلوبًا جديدا عن كيفية تصرف الكنيسة الكاثوليكية في العالم مع إدانة كل من يخرج عن ضوابطها، او لا ينقل افكارها المثالية.
بكيتُ طويلًا
عندما سُئل عام 2013 في بداية بابويته عن تقاليد الكنيسة في ادانة العلاقات الجنسية المثلية، اجاب البابا بالقول: “ومن انا كي احكم”، وفي لقاءات جمعت رجال الدين على مستوى العالم في روما، خريف عام 2014 و2015، عرض الترحيب بعودة الكاثوليك الذين انتهت زيجاتهم بالطلاق الى رحاب الكنيسة مرة اخرى.
إلى ذلك، يرّكز الكتاب على فكرة الرحمة التي يعتبرها البابا “اهم رسالة للسيد المسيح”، ويعتقد ان الرحمة هي ما يجب ان تقدمه الكنيسة لهذا العالم الجريح بسبب الفقر والمشاكل الاجتماعية وحالات الاستعباد العديدة في الالفية الثالثة، فالرحمة هي الحجر الاساس في السنة المقدسة التي بدأها البابا قبل عيد الميلاد، باعتبارها مركز نشاطات الكنيسة ونشاطاته هو على مدى الاشهر الاثني عشرة المقبلة.
يروي البابا في كتابه كيف بدأ اهتمامه بالدين عندما التقى قسيسا زار اسرته وعلمه ما معنى رحمة الرب، ويقول: “لا اتذكر الرحمة بشكل خاص وانا طفل، لكنني اتذكرها وأنا شاب، اتذكر الاب كارلوس دوراتي أيبارا، الذي التقيته في الابرشية في 21 ايلول (سبتمبر) 1953، يوم الاحتفال بعيد القديس متي، كنت في السابعة عشرة من العمر، ذهبت للاعتراف وشعرت بان الرب يرحب بي”.
ويضيف البابا بالقول: “في السنة التالية توفي ايبارا بسبب اصابته بمرض اللوكيميا، واتذكر انني عدت من المقبرة وشعرت بأن الجميع قد تخلوا عني فبكيت طويلا في تلك الليلة، طويلا جدا واختبأت في حجرتي. لماذا؟ لانني شعرت بأنني فقدت شخصًا ساعدني على الاحساس برحمة الرب”.
لامسوا قلوب الناس
هذا ودعا البابا، في سنته الباباوية الثالثة، جميع الكاثوليك، لا سيما رجال الدين، الى الخروج من كنائسهم ونقل رسالة الله الى المحتاجين والمهمشين واليائسين، وقال: “من الضروري الخروج ومغادرة الكنائس والابرشيات والخروج والنظر الى الناس كيف يعيشون ومما يعانون وما الذي يأملون فيه”، واضاف: “آمل ان تكشف سنة يوبيل الرحمة عن وجه الكنيسة كأم رحيمة، عن كنيسة تتوجه الى الجرحى المحتاجين، الى آذان صاغية، والى فهم ومغفرة وحب”.
ويقول البابا أيضًا: “لديّ علاقة خاصة بالاشخاص في السجون والمحرومين من حريتهم. اشعر بالانجذاب الى هؤلاء لمعرفتي ما معنى ان يكون المرء مخطئًا، فكلما عبرت بوابة سجن لزيارة او لقداس كنت افكر دائما: لماذا هم وليس أنا؟ كان يجب ان اكون هناك. استحق ان اكون هناك. كان في الامكان ان اعيش سقوطهم. وانا لا اشعر بانني متفوق على هؤلاء الاشخاص الذين يقفون امامي”، ويضيف: “الكنيسة تُدين الخطيئة كي تبيّن ما تعنيه بالخطيئة، ولكنها تحتضن الخاطئ الذي يقر بذنبه وترحب به وتتحدث اليه عن رحمة الرب المطلقة”.
وعن الفساد، يقول البابا: “الفساد هي الخطيئة التي بدلا من ان نعترف بها تحولت الى نظام وتحولت الى عادة متبعة والى طريقة حياة، ما عدنا نشعر بالحاجة الى المغفرة والرحمة، ولكننا نبرر لانفنسا ما نفعله”، ويضيف: “الفاسد هو الذي يرتكب الخطيئة ولا يتوب، ويرتكب الخطيئة ويدعي أنه مسيحي، هذه حياة مزدوجة وهذه فضيحة”.
هذا الخبر منقول من : وكالات