ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من عصر الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة بحضور حشد غفير من الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي تحت عنوان “ها هوذا الرجل”. وقد استهل عظته بالقول لقد استمعنا إلى حدث مُحاكمة يسوع أمام بيلاطس، وفي هناك مرحلة من هذه المحاكمة ينبغي علينا أن نتوقف عندها بشكل خاص: “فأَخَذَ بيلاطُسُ يسوع وجَلَدَه. ثُمَّ ضفَرَ الجُنودُ إِكليلاً مِن شَوكٍ ووضَعوه على رَأسِه، وأَلبَسوه رِداءً أُرجُوانِيّاً، وأَخَذوا يَدنُونَ مِنهُ فيَقولون: “السَّلامُ علَيكَ يا مَلِكَ اليَهود!” وكانوا يَلطِمونَه. وخَرَجَ بيلاطُسُ ثانِياً وقالَ لَهم: “ها إِنِّي أُخرِجُه إِلَيكم لتَعلَموا أَنِّي لا أَجِدُ فيه سَبَباً لاتِّهامِه”. فخَرَجَ يسوعُ وعلَيه إِكْليلُ الشَّوكِ والرِّداءُ الأُرجُوانيّ، فقالَ لَهم بيلاطُس: “ها هُوَذا الرَّجُل!” (يوحنا 19، 1- 5).
تابع الأب كانتالاميسا يقول في تأملّه حول الآلام كتب الفيلسوف بليز باسكال مرّة: “المسيح يتعذّب حتى نهاية العالم: لا ينبغي علينا أن ننام خلال هذه الوقت”، وفي الواقع إن يسوع يتعذّب حتى نهاية العالم في كل رجل وامرأة يعانون آلامه عينها. “فلي قد صَنَعتُموه” (متى 25، 40) هذه هي كلماته وهو لم يقلها فقط للذين يؤمنون به بل لكل رجل وامرأة يعانون من الجوع، عراة، يتعرضون لسوء المعاملة ومسجونين. لنفكر ولو لمرّة بالآفات الاجتماعيّة الجماعيّة: الجوع والفقر والظلم واستغلال الضعفاء. لنفكر أيضًا بألم الأفراد والأشخاص المعيّنين؛ بالعذابات التي تقررها – ببرودة دم وبشكل إرادي – كائنات بشرية لكائنات بشريّة أخرى ولاسيما للأطفال وتنزلها بهم ما أكثر الذين تنطبق عليهم “ها هوذا الرجل” في العالم! كم من المسجونين يعيشون حالة يسوع عينها في دار الحاكم بيلاطس: وحيدون، مكبّلون بالسلاسل، معذبون ومتروكون بين أيدي جنود ممتلئين كرهًا يتفنّنون في تعذيبهم. “لا ينبغي علينا أن ننام، لا ينبغي علينا أن نتركهم وحدهم!”
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول إن المسيحيين ليسوا وحدهم ضحايا العنف القاتل في العالم ولكن لا يمكننا أن ننكر أنهم يشكلون العدد الأكثر في العديد من البلدان، فيسوع قد قال لتلاميذه: “سيَفصِلونَكم مِنَ المَجامِع بل تأتي ساعةٌ يَظُنُّ فيها كُلُّ مَن يَقتُلُكم أَنَّهُ يُؤَدِّي للهِ عِبادة ” (يوحنا 16، 2). وهذه الكلمات تجد اليوم تمامها الحرفي والدقيق. هذا وأشار الأب كانتالاميسا إلى أنه قد وُجد، عبر التاريخ، أشخاص تحلوا بالشجاعة لإدانة لامبالاة المؤسسات العالميّة والرأي العام إزاء كل ما يحدث وقال لكن وفي هذا اليوم بالذات لا يُمكنا أن ندين أو نستنكر لأننا سنخون عندها السرّ الذي نحتفل به، فيسوع قد مات وهو يصرخ: “يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لأنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا 23، 34). وهذه الصلاة لم تكن فقط صلاة تمتَمها يسوع بين شفتيهه، بل صرخها لكي تُسمع بشكل جيّد. إنها أكثر من صلاة إنها طلب رسميّ وحازم رفعه بسلطة الابن: “يا أبت، اغفر لهم!” وبما أنه هو الذي أخبرنا أن الآب يستجيب لصلواته (يوحنا 11، 42)، ينبغي علينا بالتالي أن نؤمن بأنه قد استجاب له أيضًا في صلاته الأخيرة هذه على الصليب وبأن الله قد غفر للصالبين وبأنهم معه في الفردوس يشهدون إلى الأبد إلى أي حدٍّ يمكن لمحبة الله أن تصل!
إن صلاة هذه يسوع لا تعرف الحدود، وعظمة مغفرته تكمن بأنه يمنحها أيضًا لأسوء أعدائه. وبمثله يقدّم لتلاميذه سخاء لامتناهي. فالمغفرة على مثال يسوع لا تتطلب منا فقط أن نرفض مبادلة الشر لمن أساء إلينا، وإنما يجب أن تُترجم بالرغبة والإرادة بمبادلتهم بالخير والصلاة من أجلهم: “صَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم” (متى 5، 44). هذه المغفرة إذًا لا يمكنها أن تنتظر حتى قصاصًا إلهيًّا، لأنها تنبع من محبة تسامح القريب، بدون أن تغض النظر عن الحقيقة، وتحاول إيقاف الأشرار لكي لا يسبّبوا المزيد من الألم والشرّ للآخرين ولأنفسهم. قد يقول البعض: “إن إتباع يسوع إذًا هو نذر الذات للهزيمة والموت؟” على العكس! “تشجّعوا” قال يسوع لتلاميذه قبل أن ينطلق في مسيرة آلامه ” أنا غلبت العالم” (يوحنا 16، 33). المسيح قد غلب العالم وغلب الشرّ الذي في العالم. وغلبة الخير النهائيّة على الشرّ والتي ستظهر في نهاية الأزمان قد تمّت في الواقع على الصليب. “الَيومَ دَينونَةُ هذا العالَم” (يوحنا 12، 31). منذ ذلك اليوم خسر الشرّ، ويزداد خسارة في كلّ مرة يبدو بأنه ينتصر.
تابع الأب كانتالاميسا يقول إن يسوع قد غلب العنف إذ قاساه وتكبّده وافتتح بهذه الطريقة انتصارًا جديدًا يسمّيه القديس أغوسطينوس “انتصار الضحيّة” فلما “رأَى قائِدُ المِائَةِ الواقِفُ تُجاهَهُ أَنَّه لَفَظَ الرُّوحَ هكذا، قال: “كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!” (مرقس 15، 39).
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول إن مشكلة العنف تنهكنا اليوم لاسيما وأنه قد أتخذ أشكالاً جديدة ومخيفة. نحن المسيحيّون نهلع لدى سماعنا بأنه هناك من يقتل باسم الله، وقد يكون من يعترض على هذا الأمر قائلاً: “أو ليس الكتاب المقدّس مليئًا بأحداث عنيفة؟ ألم يُدعى الله “رب الجنود”؟ ألم يفرض في شريعة موسى العديد من أحكام الموت؟ لو وجِّه هذا السؤال ليسوع خلال حياته لكان أجاب بالطريقة نفسها التي أجاب بها عندما سؤل عن الطلاق: “مِن أَجْلِ قساوَةِ قُلوبِكم رَخَّصَ لَكم موسى في طَلاقِ نِسائكم، ولَم يَكُنِ الأَمرُ مُنذُ البَدءِ هكذا” (متى 19، 8) وبالنسبة للعنف أيضًا “لَم يَكُنِ الأَمرُ مُنذُ البَدءِ هكذا”. وفكر الله الحقيقيّ يظهر من خلال الوصيّة: “لا تقتل” وليس من خلال التشريعات التي أُعطيت “من أجل قساوة القلوب”. يتحدث القديس بولس عن زمن يتميّز بـ “حلم” الله (روما 3، 25). وهذا الوقت قد حان مع يسوع الذي أعلن على الجبل: “سَمِعتُم أَنَّه قيل: “العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ” أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر… سَمِعتُم أَنَّه قِيل: “أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك”. أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم” (متى 5، 38- 39؛ 43- 44). إن عظة الجبل الحقيقيّة والتي غيّرت العالم ليس تلك التي أعلنها يسوع على إحدى تلال الجليل وإنما تلك التي أعلنها بصمت من على الصليب. على الجلجلة أعلن يسوع الـ “لا” النهائية والقاطعة ضد العنف مقاومًا العنف بالمغفرة والوداعة والمحبّة.
وختم الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي عظته بالقول: أيها الرب يسوع نسألك من أجل إخوتنا في الإيمان المضطهدين ومن أجل جميع الذين تنطبق عليهم “ها هوذا الرجل” في العالم، مسيحيّون وغير مسيحيّين. يا مريم يا من اتحدتي بالابن تحت الصليب وتمتمتي خلفه: “يا أبت، اغفر لهم!”: ساعدينا لنتغلب على الشر بالخير، ليس فقط على المستوى العالمي وإنما في الحياة اليومية أيضًا داخل بيوتنا وألهمي رجال ونساء زمننا بأفكار سلام ورحمة ومغفرة!