الثورات العربية هل هي طريق للديموقراطية ؟.. مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

الثورات العربية هل هي طريق للديموقراطية ؟.. مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

 

مقال نيافة الأنبا يوحنا قلته – خاص بالموقع وبتصريح خاص من نيافته

المنشور بجريدة الاهرام عدد 46986 يوم الاربعاء 29 يوليو 2015

1 – أزعم أن الثورات العربية أو ما يسمى بالربيع العربي حدث تاريخي ونقطة تحول إلى مستقبل جديد ، فالثورة ليست مجرد انفجار لا يلبث حتى يهدأ وينطفي ، بل الثورة الحقيقية هي حركة التاريخ ، في مسيرة طويلة ، تتصل مع الأجيال الصاعدة أو هكذا ينبغي أن تكون ، أنها حركة تهز السياسة والاقتصاد والسلوك الاجتماعي ، كما تهز الوجدان والعقلية لا تتوقف حتى تحقق للإنسان ما يصبو إليه من حرية وعدالة ومساواة وحياة أفضل ، ويمكن القول أن الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا وسائر البلدان العربية قد تميزت بأمرين : الأمر الأول عنصر المفاجأة ، تفجرت دون أن يخطط لها أو يتوقعها خبراء الشرق والغرب ، كانت رغبة حبيسة الخوف والتردد والصمت ، وعطشاً حاداً للتحرر وتغيير الواقع .
الأمر الثاني وهو من أشد الظواهر دلاله ، أنها ثورات عالم عربي متخم بالفكر الديني ، ولكنها لم تلتحف بالأديان ولم تنطلق بشعارات دينية ، ولم ترفض الفكر الديني كما لم تناصبه العداء ، بل تفجر منها روح تقوى إنساني خالٍ تماماً من التطرف والحدة وكانت الصلوات تقام في الميدان مما أبهر العالم كافة ، وكشف عن جوهر ونقاء الشخصية العربية ، كما أن الذكاء الفطري في الثائرين من الشباب لم تطرح قضية إسرائيل أو العداء للدول الكبرى بل وضع نصب أعينهم قضية الحرية والعدالة ، وبعبقرية شعبية وميراث حضاري عميق الأثر نجحت الثورات في أن تستلهم روح الدين وروعة إنسانيته ، فظهرت كثورات ديموقراطية دون أن تخفي سماتها المدنية ودون أن تتعارض مع الصحوة الإسلامية .
لم تقف هذه الثورات في تحد للأنظمة العربية الحاكمة ، ولم تقص حزباً أو جماعة أو فكراً لقد تجاوزت في نجاح مبهر كل سلبيات التاريخ العربي ، وليس أمامنا إلا تفسيراً واحداً وهو وعي الإنسان العربي في كل الوطن العربي بحقوقهم وقيمة الفرد أو الإنسان ، وهو وعي لم يسقط من علٍ بل ثمرة حضارة ممتدة بعمق التاريخ رفع عنها تراب متراكم خلال قرون طويلة ، لقد طاف بعقل وخيال الشباب ذكرى مرحلة دامت خمسة قرون قاد فيها العقل العربي الإنسانية في طريق التنوير والحضارة ، وأسقطت الثورات عقدة تفوق أمة على أمة وتمايز شعب على شعب ، وأدرك أن التفوق والتمايز إنما يأتي بامتلاك ناصية العلوم والطاقة والقوة ، وفي خضم هذه الثورات قلق الكثيرون من أن تؤدي إلى سيطرة “ديكتاتور” أو حاكم ظالم أو ظهور استبداد جديد والرد على ذلك سهل جداً ، أن الثورات قد نقلت العالم العربي إلى مرحلة تاريخية جديدة أو قل ببساطة لقد ولد إنسان عربي جديد يصعب أن يرضى أو يستكين للاستبداد والظلم
* * * * *
2 – ولا يعني ذلك أن مسيرة الثورات العربية تمضي في طريق واحد ، أو بمنهج واحد ، فلكل بلد موقعه الجغرافي وبنية سكانه ودرجة الثقافة وسيطرة الحركات الدينية ، في مصر يمكن القول أن النظام الفرعوني قد سقط إلى الأبد بسقوط الرئيس مرسي كان حكماً يستخدم الدين وسيلة ودرعاً للهيمنة “والفرعنة” ولم يتحمل وعي الشعب أكثر من سنة واحدة لتمتد الثورة من جديد ، ونجحت مصر في تخطي اضطراب الأمور وتعقيدات الحكم بوصول رئيسٍ للا يشك أحد في وطنيته وفي حبه العميق لبلده وشعبه ، وبرغم ما يحيط بمصر من صعاب وتحديات تأتيه من الخارج ولن تستطيع مهما أشتدت الأزمات أن تحل رباط الشعب المصري بعضه ببعض في ظاهرة حضارية نادرة ، كما لن تستطيع موجات العنف والإرهاب والحروب أن تزحزح الرئيس الوطني المخلص عن هدفه الواضح وهو النهوض بالأمة ، أنها مصر ، كنانة الله ، والموقف مختلف في تونس ، أنها بلد تعبر المرحلة الانتقالية إلى الديموقراطية يدعمها فكر ديني منفتح ومتسامح وثقافة واسعة ، ستمضي في طريقها بعد مخاض نأمل ألا يطول ؟ وما يبعث على الطمأنينة في مصر وفي تونس أن الرؤية للمستقبل واضحة جلية وأن حواراً رائعاً في البلدين لتعميق مفهوم المواطنة والإنسانية والحرية والعدل دون المساس بثوابت الدين بل بفتح باب الاجتهاد بشجاعة وفك القيود عن العقل العربي .
وفي مختلف البلدان العربية كانت ثمرة الثورات في الدعوة إلى الإصلاح الشامل دون صدام مع النظم الحاكمة ولعل الرواج الاقتصادي أحد أسباب الاستقرار وأما ما نراه في العراق وسوريا واليمن ، ففي زعمنا أن مرحلة قاسية تمر بها هذه البلدان التي نجحت الأيدي العابثة في الخارج أن تشعل نار فتنة الطائفية والمذهبية التي تحرق الأوطان ، وفي ظني أن الأمر في هذه البلدان صراع على السلطة أكثر منه صراع مذاهب وملل، إن دولاً خارجية تحاول أن ترسم خريطة جديدة للوطن العربي وفق مصالحها ودون النظر إلى مستقبل الأمة وتبقى ملاحظتان نختم بها هذا المقال : الأولى لن ينقذ الوطن العربي إلا أبناؤه وحكمة رجاله ونسائه وشبابه ، وللأسف أقول أن العالم لا يساعد الضعفاء بل يساند الأقوياء وليذهب الضعفاء إلى الجحيم ، الملاحظة الثانية : أشرق فجر الحرية والديموقراطية على عالمنا العربي ، من يستطيع أن يطفي نور الفجر ، نعم إن الثورات العربية بإيقاظها للوعي الوطني قد ألقت بذور الديموقراطية وما على الشعوب إلا رعايتها وصيانتها.

+د. الانبا يوحنا قلته