الغام الحوار المسيحي – المسيحي

الغام الحوار المسيحي – المسيحي

الإثنين 24/يونيو/2024 –
د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك الجامعة الأغسطينيّة بوغاتا بكولومبيا

ثمّة أشخاصٌ يعيشون في زماننا، ولكنّهم مُصِرّون على العيش في الماضي، رافضين لصيرورة الفكر والنّمو في الإيمان. إنّ مَن يطلقون عليهم “نساطرة” (بالمعنى القديم) ليسوا نساطرة، ولا الأقباط الأرثوذكس الحاليّون هم “مونوفيزيّون” أو “يعاقبة” (بالمعنى القديم) من حيثُ جوهر الإيمان الكريستولوجيّ (المتعلّق بالسّيّد المسيح)؛ وكما أنّه ليس صحيحًا– تاريخيًّا ووثائقيًّا وثيولوجيًّا– أنّ “الخلقيدونيّين” (الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس البيزنطيّة) قد أنكروا “وحدة” و”وحدانيّة” شخص اللّوغُس المتجسّد، أو أنّهم نادوا بالاعتقادات النّسطوريّة القديمة (“اثنينيَّة” الشّخص). فجميعنا متّفقون في جوهر إيماننا حول “سرّ المسيح الواحد”. ونقدّم هنا– بروح المحبّة والحقيقة– بضعة خواطر وتساؤلات:
أوّلًا: في ما يتعلّق بتقرُّب الكنيسة الكَاثوليكيّة إلى جميع الكنائس والطّوائف والجماعات المسيحيّة (والأديان الأخرى أيضًا)، ينبغي القول بأنّه كثير ومتعدّد الجوانب. فالكنيسة الكَاثوليكيّة، بفضل إصغاءها لنفحات الرّوح القدس وقراءتها لعلامات الأزمنة، رائدة ومتمرِّسة وخبيرة في الحوار بشتّى أنواعه وطرقه. فكبرهان لهذا تكفي قراءة سريعة لوثائق المجمع الفاتيكانيّ الثّاني (1962-1965)، والمجلّدات الكثيرة باللّغات الأجنبيّة عن الحوار المسكونيّ بين الكنيسة الكَاثوليكيّة والكنائس والجماعات المسيحيّة الأخرى. إنّها لمغالطة كبيرة وسقطة القول بعكس ذلك.
ثانيًا: محاولات تفاهم الكنيسة الكاثوليكيّة مع الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، في العصر الحديث، هي كثيرة، فمن ضمنها مثلًا “البيان المشترك الذي وَقّع عَليه قداسَة البَابَا بولس السَادس وقداسَة البَابَا شنودَه الثالِث” (في عام 1973)، و”البيان المشترك” (في عام 2017)، ومبادارت أخرى، ولجنة الحوار بين الكنيستَين كما يقول “البيان المشترك” المذكور أعلاه، ومجلس الكنائس المصريّة. ولكنّ الكارثة والمشكلة الكبرى هي أنّه عند الاتفاق علي أمر ما، يقوم بعض أصحاب النيافة الأساقفة الأقباط الأرثوذكس بمعارضته وتزييف حقيقته وجوهره، ولا يصل إلى الشّعب، وإن وصل يصل بشكل مشوّه ومضلل (على سبيل المثال، البيان المشترك الخاص بمسألة “المعمودية” بين البابا فرنسيس والبابا تواضروس الثاني).
ثالثًا: هل ما يقوم به بعض الأساقفة الأقباط الأرثوذكس بشكل متواتر (ولا سيّما عندما نشعر بأنّ الرّوح القدس يدفع الكنائس كجماعات والمسيحيّين كأفراد إلى التّقارب والتّفاهم)، أعني إطلاق العنان للمغالطات والمزيدات والأحكام العنتريّة والتّكفيريّة، واختراع أشياء غير صحيحة عن الكاثوليك وكنيستهم العريقة في الإيمان والعقيدة وعلم اللّاهوت، يمتّ للمسيحيّة والمحبّة والحقيقة بصلة؟
رابعًا: في ظلّ الوضع الرّاهن، يجدر بنا جميعًا– أُرثوذكس وكاثوليك– القيام بقراءة متأنيّة وتأمليّة لوثيقة “البيان المشترك الذي وَقّع عَليه قداسَة البَابَا بولس السَادس وقداسَة البَابَا شنودَه الثالِث”، في اللّقاء الذي جمع بينهما في دولة ومدينة الفاتيكان، منذ أكثر من خمسين عامًا، في يوم الخميس الموافق 10 مايو لعام 1973 ميلاديّة. وإذا أَرَدنا أن نختصر مضامين البيانات المشتركة الكَاثوليكيّة-القِبطيّة (للعامين 1973 و2017) بشأن تَفَاهمات كنسيّة وتعليميّة وعقائديّة متنوّعة، وهو ما يحتاج بدوره إلى قراءة متأنيّة وتأمليّة، يمكننا أن نكتفي بالإشارة إلى ثلاث قضايا هامّة:
1) الإيمان الكريستولوجيّ المشترك: «نؤمن أن ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، الكلمة المتجسد، هو كامل في لاهوته وكامل في ناسوته. وجعل ناسوته واحدًا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تشويش، ولاهوته لم ينفصل عن ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين. وفي نفس الوقت، نحرم كلّا من تعاليم نسطور وأوطاخي» (“البيان المشترك” لعام 1973).
3) المفاهيم السّرائريّة والمريميّة والإكليزيولويجيّة والرّوحانيّة والطّقسيّة والإسكاتولوجيّة: «نؤمن معًا أن الحياة الإلهية تُمنَح لنا بواسطة أسرار المسيح السبعة في كنيسته، وأن تلك الحياة الإلهية تنمو فينا وتغتذي بهذه الأسرار: وهي المعمودية، الميرون (التثبيت)، الإفخارستيا (القربان المقدس)، التوبة، مسحة المرضى، الزيجة، الكهنوت. ونحن نكرم العذراء مريم، أم النور الحقيقي، ونعترف أنها دائمة البتولية، وأنها والدة الإله، وأنه تشفع فينا وأنها بصفتها والدة الإله (ثيئوتوكوس) تفوق في كرامتها كرامة جميع الطغمات الملائكية. ونحن لنا إلى حد كبير مفهوم واحد للكنيسة، وأنها مؤسّسة على الرسل، وللدور الهام الذي للمجامع المسكونية والمحلية. ولنا معًا روحانيتنا التي تعبّر عنها طقوسنا خير تعبير، كما يعبّر عنها القداس الإلهي تعبيرًا عميقًا لأن القداس هو مركز وجوهر عبادتنا الجماعية، وهو قمة اتحادنا وشركتنا مع المسيح في كنيسته. ونحن نحفظ الأصوام والأعياد التي يأمرنا بها ديننا. ونكرم ذخائر القديسين، ونستشفع بالملائكة وبالقديسين الأحياء منهم والمنتقلين. هؤلاء يؤلّفون سحابة من الشهود في الكنيسة. وهم ونحن ننتظر– في رجاء– المجيء الثاني لربنا، عند استعلان مجده ليدين الأحياء والموتى» (“البيان المشترك” لعام 1973).
3) قضيّة المعموديّة: «نحن اليوم، البابا فرنسيس والبابا تواضروس الثاني، لكي نسعد قلب ربنا يسوع، ‏وكذلك قلوب أبنائنا وبناتنا في الإيمان، فإننا نعلن، وبشكل متبادل، بأننا نسعى جاهدين، بضمير صالح، نحو عدم إعادة سر المعمودية الذي تمَّ منحه ‏في كلٍّ من كنيستينا لأي شخص يريد الانضمام للكنيسة الأخرى. إننا نقرُّ بهذا طاعةً للكتاب المقدس ولإيمان ‏المجامع المسكونية الثلاثة التي عُقدت في نيقية والقسطنطينية وأفسس.‏ نسأل الله الآب أن يقودنا، في الأوقات وبالطرق التي سيختارها الروح القدس، نحو بلوغ الوحدة ‏التامة في جسد المسيح السري» (“البيان المشترك” لعام 2017).

خامسًا: إليكم بعض النّصوص المشهورة حول التّفاهم الكريستولوجيّ بين الكنيسة الكاثوليكيّة ومَن يُقال عنهم “نساطرة” (الاسم المعروف هو “كنيسة المشرق الآشورية”) من جهة، وبين الكنيسة الكاثوليكيّة ومَن يُقال عنهم “مونوفيزيّون” (الاسم المعروف هو “الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة”) من جهة أخرى. وفي المقام الثّالث، نضع ما ينصّ عليه كتاب “التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة” (1992)، وبالتالي الإيمان الكريستولوجيّ للكنيسة الكاثوليكيّة العريقة.
1) الإيمان الكريستولوجيّ لكنيسة المشرق الآشورية
»نحن نعترف، كورثة وحماة للإيمان الذي تلقيناه من الرسل كما تمت صياغته من قِبل آبائنا المشتركين في القانون النيقاوي، برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي نزل في ملء الزمان من السماء وصار إنساناً من أجل خلاصنا. كلمة الله، الشخص الثاني في الثالوث القدوس، تجسد بقدرة الروح القدس بإتخاذه جسدًا من مريم العذراء بُعِثَت فيه روح عاقلة، أتحد معها بلا إنحلال منذ لحظة تكونه. لذا فإن ربنا يسوع المسيح هو إله حق وإنسان حق، تام في الوهته وتام في ناسوته، متساوٍ في الجوهر مع الآب ومتساوٍ في الجوهر معنا بكل الأشياء ما عدا الخطيئة. ألوهته وناسوته متحدان بشخص واحد، دون اختلاط أو تغيير، دون انقسام، او انفصال. فبه تم الحفاظ على اختلاف طبيعتيَ، الألوهة، والناسوت، بكل خصائصهما، قدراتهما وعملهما. ولكن بعيدًا عن تشكيل (واحدٍ وآخر)، فالألوهة والناسوت متحدان في شخص ابن الله الرب يسوع المسيح الفريد الذي لا يتغيّر، والذي هو محط تقديس وحداني. لذا فالمسيح ليس ”إنسانًا عاديًا“ تبناه الله ليقيم فيه ويلهمه، كما هو الحال في الصالحين والأنبياء. لكنه الله الكلمة الذي لا يتغيّر، المولود من أبيه قبل كل العالم بلا بداية بحسب ألوهته، ولد من أم بلا أب في آخر الزمان بحسب ناسوته. إن الناسوت الذي ولدته العذراء مريم كان أبدًا ناسوت ابن الله نفسه. ولهذا السبب تتوجه كنيسة المشرق الآشورية بصلاة مريم العذراء على انها ”والدة المسيح إلهنا ومخلصنا“. في ضوء نفس الإيمان هذا يتوجه التقليد الكاثوليكي إلى مريم العذراء على أنها ”والدة الله“ وكذلك ”والدة المسيح“. إننا نعترف كلانا بشرعية وصحة هذين التعبيرين لنفس الإيمان، ونحترم كلانا تفضيل كل كنيسة لتعبير على الآخر في حياتها الليتورجية وعبادتها. هذا هو الإيمان الأوحد الذي نعترف به بسر المسيح. لقد ادى جدل الماضي إلى الحرومات Anathemas، التي وقعت على الأشخاص والصيغ. إن روح الرب تسمح لنا بأن نفهم بشكل أفضل اليوم بأن الإنقسامات التي جاءت على هذا النحو كانت على حدٍ كبير بسبب سوء التفاهم. أيّاً كان إختلافنا المسيحاني، فنحن نختبر أنفسنا متحدين اليوم في الاعتراف بنفس الإيمان بإبن الله الذي صار إنسانًا بحيث نكون أبناء الله بنعمته. نأمل من الآن فصاعدًا أن نشهد معًا لهذا الإيمان بالواحد الذي هو الطريق، والحق، والحياة، منادين به بطرق مناسبة إلى مَن يعاصرنا بحيث يؤمن العالم بإنجيل الخلاص. إن سر التجسد الذي نشترك في الإعتراف به ليس حقيقة مُجرّدة مُنعزلة. انه يُشير الى ابن الله الذي أُرسِل ليُخلصنا» (جزء من “الاعلان المسيحاني المشترك بين الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة المشرق الآشورية”).

2) الإيمان الكريستولوجيّ للكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة:
«نؤمن أن ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، الكلمة المتجسد، هو كامل في لاهوته وكامل في ناسوته. وجعل ناسوته واحدًا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تشويش، ولاهوته لم ينفصل عن ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين. وفي نفس الوقت، نحرم كلّا من تعاليم نسطور وأوطاخي» (جزء من “البيان المشترك الذي وَقّع عَليه قداسَة البَابَا بولس السَادس وقداسَة البَابَا شنودَه الثالِث”).
3) الإيمان الكريستولوجيّ للكنيسة الكاثوليكيّة العريقة:
«إن الحادث الوحيد والفريد جدًّا لتجسّد ابن الله لا يعني أن يسوعَ المسيحَ إلهٌ في قسمٍ منه وإنسانٌ في قسمٍ آخر، ولا أنه نتيجةُ المزيج المُبهم للعنصرَين الإلهيّ والإنسانيّ. لقد صار إنسانًا وبقيَ إلهًا حقًّا. يسوعُ المسيحُ هو إلهٌ حقٌّ وإنسانٌ حقٌّ. هذه الحقيقة الإيمانيّة اضطُرَّت الكنيسة إلى أن تُدافع عنها وتوضحها خلال القرون الأولى في وجه هرطقات كانت تزوّرها […] “على أثر الآباء القدّيسين نُعلِّم بالإِجماع الاعترافَ بابن واحدٍ هو هو، سيّدُنا يسوعُ المسيح. هو هو الكاملُ في اللاهوت، والكاملُ في الناسوت، هو هو إلهٌ حقٌّ وإنسان حقّ، المركَّب من نفسٍ عاقلة ومن جسد، الذي جوهره جوهرُ الآب من حيثُ اللاهوت، وجوهره جوهرنا من حيثُ النّاسوت، الذي ((يشبهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة))؛ الذي ولده الآب قبل جميع الدهور من حيثُ الألوهة، وفى هذه الأيّام الأخيرة وُلِد من مريمَ البتول، والدة الإله، من حيثُ الناسوت، لأجلنا ولأجل خلاصنا. واحدٌ هو، وهو نفسُه المسيحُ والربُّ والابنُ الوحيد، الذي يجب أن نعترف به في طبيعتَين، غيرِ مختلطتَين، وغير متغيّرتَين ولا منقسمتَين، ولا مُنفصلتَين. إن اختلاف الطبيعتين لم يُلغِهِ اتحادُهما، بل بالحريّ احتفظت كلُّ واحدة بميزاتها، واجتمعت كلُّها في شخصٍ واحد وأقنومٍ واحد” […] الكنيسة تعترف هكذا أن المسيح إلهٌ حقًّا وإنسانٌ حقًّا بغير انفصال. إنه حقًّا ابنُ الله الذي صار إنسانًا، أخًا لنا، وذلك من غير أن يتوقّف عن أن يكون إلهًا، ربَّنا» (“التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة”، بنود 464، 467، 469).
وأخيرًا: إنّ المحبّة المسيحيّة بجميع أبعادها لهي “تَحَدِّي” حقيقيّ وكبير، وهي تَتَطَلَّب جَهْدًا وجِهَادًا واجتهادًا على المستوى الشّخصيّ والجماعيّ والكنسيّ. ويمكن القول– باتّضاع وواقعيّة شديدة– بأنّنا لا نزال في بداية “تَحَدِّي المحبّة” هذا، ولاسيّما ونحن في زمن يمكن أن نطلق عليه “عصر الكراهيّة”، والذي يحتاج منّا كمسيحيّين أن نكون شهود وشهداء المحبّة في عصر غاب عن أبنائه وبناته أنّنا أخوة أمام الله أبينا. لقد صدق البابا تواضروس الثّاني في كلماته العميقة هذه: «لقد اخترنا المحبّة حتّى لو كنا نسير عكس تيّار العالم الطّامع والذّاتيّ، لقد قبلنا تحدّى المحبّة التي يطلبها منّا المسيح، وسنكون مسيحيّين حقيقيّين وسيصبح العالم أكثر إنسانيّة، ليعرف العالم كلّه أنّ الله محبّة وهذه هي أسمى صفاته».