كنيسة السيدة العذراء للأقباط الكاثوليك
لوس أنجلـوس- كاليفورنيـا
جمعية جنود مريم – فرقة سلطانة الملائكة
تقديــم
“فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ” ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ“(يوحنا26:19-27).
«هُوَذَا أُمُّكَ». كان هذا طلب يسوع وهو على الصليب ولكي نعرف فى الحقيقة من هي تلك الأم نقدم هذا المرجعللمساهمة فى التأمل والدراسة والتبشير ولإلقاء الضوء على سر الـمرأة التى اختارها الله لتكون اما لإبنه الوحيد والتى حيّاها الملاك قائلاً:”مباركة أنتِ فى النساء”(لوقا28:1).
القديسة مريم العذراء أم يسوع، هي أكثر إمرأة مشهورة في التاريخ، لم تنل اي إمرأة أخرى مثلها مكانة عالية من التبجيل وتعبيرات الخضوع وعلامات الامتنان، او صنع لها الكثير من التماثيل والمنحوتات والرسومات والأناشيد والأعمال الأدبية. لا توجد إمرأة أخرى محبوبة بصدق من قِبل الكثير من البشر في كل القارات. صورها معروضة في انحاء العالم وفي كل واحدة منها تظهر بصورة مختلفة وحسب ظهوراتها او من شهود العيان او ما تناقلته الأجيال. حتى ولو ان القديسة مريم العذراء معروفة بصورة متسعة عبر الأجيال لكن لدينا القليل جدا من المعلومات الموثقة عن حياتها الزمنية الأرضية وحتى الكتاب المقدس لكونه المصدر الرئيسي للتعاليم الكنسية، مع ما تناقلته الكنيسة عبر التقليد الكنسي فكلها كان تركيزها الرئيسي هو إعلان البشارة ورسالة الخلاص.
إذا ما حاولنا ان نتعرض الى جميع جوانب حياة “أم يسوع” ودورها في تاريخ خلاص البشرية فلا يمكننا الا ان نعترف اننا لا نملك الكثير من المعرفة عن فتاة الناصرة مثل الكثير من الحقائق التى جاء ذكرها في الكتاب المقدس “كالرعود السبعة” الذي تم اخفاء حقيقتها:” وَبَعْدَ مَا تَكَلَّمَتِ الرُّعُودُ السَّبْعَةُ بِأَصْوَاتِهَا، كُنْتُ مُزْمِعًا أَنْ أَكْتُبَ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا لِيَ:
«اخْتِمْ عَلَى مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الرُّعُودُ السَّبْعَةُ وَلاَ تَكْتُبْهُ».“(رؤيا4:10)، مختومة” ومخفية عنا.
ان ما جاء عن القديسة مريم في الكتاب المقدس والتقليد الكنسي كاف لأن نعرف عنها انها
كانت “أم يسوع” ومثال صادق لنا نحن خليقة الله المؤمنين بربنا يسوع المسيح وان التكلم عن
مريم يطيب ويحلُ وينضج متى تكلمنا عنها وهي تتفاعل مع تدبير الله الخلاصي.
لقد سبق وان أصدرت كنيستنا سلسلة من الكتيبات في الفترة من عام 1997 وحتى الآن[1] عن من هي أم يسوع ومكانتها ِوما تعلّمه الكنيسة الكاثوليكية محاولة بسيطة للتعرف على القديسة مريم العذراء، ولكن على الرغم من هذا الكم فما كتب او نشر في العديد من المراجع والنشرات والدوريات الكاثوليكية لا يمكن ان يعطينا حقيقة كافية عن من هي المرأة التى ولدت لنا مخلص العالم.
اضافة لما تم اصداره فنقدم هذا المرجع الجديد “القاموس المريمي” والذي يمكن تقسيمه كأي قاموس طبقا للحروف العربية الأبجدية، او طبقا للأقسام التالية:
- مريم فى الكتاب المقدس
- والدة الله
- 3. «هُوَذَا أُمُّكَ»
- 4. «يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ”
ولقد اخترنا فى هذا المرجع ان نتبع التقسيم الثاني لسهولة الرجوع للموضوع دون ان يقفز القارئ ما بين الحروف الأبجديـة محاولا تجميع كل ما يختص بموضوع معين او عقيدة او إكرام.
ندعو الله ان يكون هذا المرجع سببا لنتعرف أكثر على أم يسوع وللتأمل والعمل بما أوصانا به الرب يسوع وما أوصتنا هي به، وأن يكون سبب بركة روحيـة للجميع وأن يساعد أبناء الكنيسة الكاثوليكيـة ليتعرفوا على يسوع المسيح الكلمة المتجسدة من خلال أم يسوع لننموا جميعا فى الإيـمان ببركة الرب وشفاعة أمنا مريم العذراء.
الشماس
نبيل حليم يعقوب
لوس انجلوس فى أغسطس 2023
الفهرس
- مريم فى الكتاب المقدس
- مريم فى كتب العهد القديم
- مريم فى كتب العهد الجديد
- مريم في كتب الأبوكريفا
- وطن مريم العذراء
- عائلة مريم العذراء
- ولادة مريم العذراء
- متى ولدت مريم العذراء؟
- أين ولدت مريم العذراء؟
- سلسلة نسب مريم العذراء
- احداث طفولة مريم العذراء
- أسم مريم
- معنى إسم مريم
- مريم قبل البشارة والقديس يوسف
- البشارة
- الزيارة
- انشودة التعظيم
- ميلاد يوحنا ابن زكريا
- الحلم العجيب
- الميلاد العجيب
- رعاة بيت لحم
- ختان وتسمية الطفل يسوع
- اسم يسوع
- تقديم يسوع فى الهيكل
- زيارة المجوس
- الهروب الى مصر
- العودة الى الناصرة
- طفولة يسوع
- العثور على يسوع فى الهيكل
- عائلة الناصرة
- موت القديس يوسف
- بدء حياة يسوع العلنية
- قانا الجليل
- مريم وحياة يسوع العلنية
- مريم تحت الصليب
- مريم بعد القيامة والصعود
- انتقال مريم العذراء للسماء
- أبعاد إنتقال مريم العذراء للسماء
- إمرأة سفر الرؤيا
- تكليل القديسة مريم العذراء
- كلمات مريم
- رفات وذخائر
- التسلسل الزمني لحياة القديسة مريم
- والدة الله
- العِلم المريمي
- الثالوث الأقدس ومريم
- آباء الكنيسة ومريم
- العقائد المريمية
- الأمومة الإلهيـة
- الحبل بلا دنس
- البتولية الدائمة
- عقيدة الإنتقال
- فضائل مريم
- التعليم المسيحي ومريم
- III. «هُوَذَا أُمُّكَ»
- شفاعة مريم
- أعياد مريمية
- ألقاب مريم
- مريم العذراء في الطقوس الكنسية
- مريم العذراء والصور والأيقونات
- مريم العذراء والأصوام
- تشييد الكنائس
- مريم العذراء وتخصسص يوم او شهر
- المسبحة الوردية
- الطلبات
- صلوات التساعية
- صلوات مريمية
- جنود مريم
- قلب مريم الطاهر
- تقديم الإكرام يوم السبت
- أناشيد وترانيم وتراتيل مريمية
- تقديم الإكرام للقديسة مريم واسبابه
- ردود على الاتهامات حول تعاليم الكنيسة الكاثوليكية
- كيفية تقديم الإكرام للقديسة مريم
- شروط تقديم الإكرام
IV. «يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ”
- الظهورات المريمية
- السير مع مريم في حياتنا
- قائمة المؤلفات
- مريم فى الكتاب المقدس
إذا أردنا التكلم عن مريم، فالكتاب المقدس هو المرجع الأول الذي نعود إليه، ومنه ننطلق
لنفهم سر مريم، الذي هو سر أمومتها ومرافقتها لابنها يسوع كلمة الله “في البدء كان الكلمة…
والكلمة صار بشراً” (يوحنا1:1=14)، وهو مضمون البشارة الجديدة وهو منتظر الشعوب.
- مريم فى كتب العهد القديم
ان العناية الإلهية تعمل دومـا برفق، فحين تريد أن تفرض علينـا بعض الأسرار والتى تفوق إدراكنـا وطبيعتنـا الـمحدودة تهيئ نفوسنـا لقبول مثل هذه الأسرار تهيئـة بطيئـة وبحكـمة إلهيـة تفوق الوصف. ومن بين هذه الحقائق كان تجسد الإبن الأزلـي، والأمومـة الإلهيـة والفداء العجيب. فـالعهد القديـم بكامله من ناموس وتاريخ وطقوس ونبوات ومزامير وشخصيات ورموز جاء برسم كامل للـمسيّا، فتحدث عن وظيفـة الـمخلّص ورسالتـه وظروف دعوتـه والعائلة التى سيجئ منها والمكان الذى سيولد فيه والزمن التى سيولد فيه، ومعجزاته والوهيته وإتضاعه وصلبه وموته وقيامته فى اليوم الثالث وصعوده الى السماء ومجيئه فى المجد وملكوته الابدي. ولقد تطابق الناموس والنبوات والمزامير فى المسيح يسوع ابن مريم العذراء، وهذا ما قام بشرحـه يسوع مع تلميذي عمواس ليفهموا الـمكتوب عنه:”ثم إبتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الامور المختصة بـه فى جميع الكتب”(لوقا25:24-27).
وكما تكامل رسم يسوع فى العهد القديم حتى أتت الساعة وجاء فى ملء الزمان:”ولـما جاء ملء (كمل) الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة” (غلاطية4:4)، كذلك تكاملت النبؤات وأشارت إلـى تلك الأم العجيبة. فالعهد القديـم يحوي بعض الرموز والشخصيات التى تنبئ عن أم الـمسيـّا الـمنتظر، وإن لم تتعدد النبؤات الـمريمية ولكنه مع ذلك عرفتّـنا من هى أم الـمخلّص، فالرموز والشخصيات والنبؤات كانت كلهـا تتركز فـى شخص الـمسيح يسوع.
والرموز التى جاءت فـى الكتاب الـمقدس تأتي فى شكل أفعال أو أشياء أو أسماء ولهـا عامـة ثلاث معان:
– معـنى حرفي وهو الـمفهوم الذى تعبّر عنه الألفاظ حسب مدلولها الأصلي والـمباشر كما
تعنيـة قواعد اللغـة، ويرتبط أحيانا بالحقائق التاريخية أو يعرض لبعض الحقائق الإيمانيـة أو
يعلن عن مبادئ أخلاقيـة.
– معنـى روحـي أو رمزي وهو ما يتعدى الـمعنى الحرفي، ويُوجد عندما يدّل شيئ أو شخص أو
حدث فى الكتاب الـمقدس على حقيقة أعلى بقصد وترتيب إلهـي فيصبح هذا الرمز أو الشيئ أو
الشخص رمزاً لأمر آخر يقصده الله، فمثلا الحيّة النحاسية (عدد8:21) والتى جاءت فى العهد القديم تحمل مثال لقوة الخلاص للـمسيح على الصليب (يوحنا14:3)، وأورشليم ترمز إلى الكنيسة الـمقدسة. والطريقة الوحيدة لـتمييز النص الكتابي لـمعرفـة مغزاه الروحي هو عن طريق شهادة الكتاب الـمقدس نفسه كأن يصرّح مثلاً ان آدم رمز للسيد الـمسيح(رومية14:5)، أو من شهادة التقليد فمثلاً ذبيحة اسحق كانت رمزاً لذبيحة الـمسيح كما جاء فى قداس القديس يوحنا ذهبي الفم، أو عن طريق شهادة الوحي أو الرؤى.
– معنى مجازي وهو اللفظ الـمنقول عن معناه الحقيقيي إلى معنى يُشابهه، ويمكن أن يستخدم الـمجاز فى كلمة أو جملة أو موضوع. ويستخدم عادة لغرض التعليـم، و لقد أستخدم كتبة العهد الجديد وآباء الكنيسة ذلك فى الشرح وجاء العديد منـه فى طقوس الكنيسة.
والرموز التى جاءت عن مريم العذراء فى الكتاب الـمقدس يخضع معظمها للنوع الثانـي وبصورة أعـم للنوع الثالث.
مـريـم العذراء فى الرموز والشخصيات
الرموز يمكن تعريفها بأشياء تمثل أفكار مجردة، وهكذا الرمزية هو نظام أفعال يقترن واقعه بمعنى خفي. الرمزية المسيحية تأتي من الكتاب المقدس والتقليد الكنسي. العهد القديم يستعمل اللغة الرمزية-الرويات وتعبيرات عن العهد والطقوس العبرية الدينية (الفصح-الأعياد- الذبائح..الخ)، اماكن وعلامات لحضور الله في العالم (تابوت العهد-خيمة الشهادة- الهيكل).
إلـى العذراء مريم تومئ فى الكتاب الـمقدس أشياء عديدة. وكما يقول القديس بولس ان كل شيئ
فى العهد القديم كان رمزيـاً فى اشخاصه ومحرقاتـه وطقوسه الـمختلفة، فهى كانت كلها ظلالاً
للـمستقبل وترسم مسبقا وفق الـمخطط الإلهـي بعض ملامح السيد الـمسيح وأمـه مريم.
فهابيل مثلاً قد مثّل برارة الـمخلّص، وملكيصادق كهنوتـه، وايوب صبره، واسحق موتـه، ويونان قيامتـه، وداود ملكيتـه، وسليمان حكمته، وموسى خدمتـه وتشريعه.
ومن جانب آخـر نجد ان العذراء قد فاقت هابيل الصدّيق الذى قدّم أبكار غنمه ذبيحة للـه فمريم قدّمت ابنها ذبيحة لخلاص العالم، وفاقت نوح لأن بفلكه خلّص 8 أنفس، امـا مريم فبالـمسيح خلّص العالـم كلـه. وفاقت على موسى بالوداعـة، وعلى داود بالـمحبـة، وعلى أخنوخ وإيليـا بالقداسـة، وعلى ابراهيم واسحق ويعقوب بالإيمان، وفاقت راعوث بإخلاصهـا وعلى استير بجمالهـا ووفائهـا.
وهناك العديد من الرموز والأشياء والتسابيح التى جاءت فى العهد القديـم تعكس صورة عن
العذراء مريم أم يسوع، ويـمكن القول عامـة أن كل تسبيح عن مـملكة اسرائيل أو الكنيسة كما جاء، هو تسبيح لـمريم كما يرّنم صاحب الـمزامير عن أورشليم قائلاً:”يُحدِث عنكِ بالـمفاخـر يا مدينـة الله”(مزمور3:86).
ويلّخص لنـا القديس يوحنا الدمشقي هذه الرموز فى عظة ألقاها:”لقد أصبحتِ يـا مـريـم جنة عدن الروحية أقدس وأرفع من القديـمة، ففى الأولـى كان يسكن آدم الأرضي أمـا فيكِ فيحلّ الرب الأتـي من السمـاء. لقد مـثـلتكِ سفينة نوح التى أنقذت الخليقة الثانية لأنكِ ولدتِ الـمسيح خلاص العالـم الذى غّرق الخطيئة وسكن أمواجها. أنتِ التى رمزت اليكِ ثصورتكِ العليقة ورسمتكِ الألواح التى خطتها يد الله وأخبر عنكِ تابوت العهد ومـثلتكِ مـجمـرة الذهب والـمنارة ولوحا العهد وعصا هارون التى افرخت (عب 4:9 وعدد 7و23)، وُلد منكِ من هو شعلة الألوهية الـمن السمـاوي العذب، الإسم الذى يسمو على كل اسم، النور الأزلي الذى لا يداني، خبز الحياة النازل من السماء. ألستِ أنتِ التى سبق ودل عليكِ الأتون الذى إمتزجت ناره بالندى (دا 49:3-50) “ها أنا أنظر أربعة رجال يتمشون وسط النار وما بهم ضرر ومنظر الرابع شبيه بإبن الألهة”، رمز النار الإلهية التى جاءت فحلّت فيكِ. أكاد أغفل عن سلم يعقوب، ماذا؟ ألا يتضح لكل أحد انه كان صورة عنكِ؟، فكما ان يعقوب رأى السماء متصلة بالأرض بطرفي السلم وعليه ينزل الـملائكة ويصعدون وقد اشتبك معه فى صراع رمزي القوي الذى لايغلب هكذا أصبحتِ أنتِ الوسيطة والسلم الذى نزل عليها الله نحونا وحمل ضعف طبيعتنا وإمتزج بها وجعل من الإنسان روحا يرى الله. ومـا قولي فى أيات الأنبياء ألا يجب أن تعود اليكِ إذا شئنا أن نثبت صحتها؟. من هى العذراء التى قال عنها أشعيا انها تحبل وتلد إبناً يدعى الله معنا، أي انه يظل إلها ولو صار إنساناً.؟.من هو جبل دانيال الذى قطع منه بغير يد بشرية حجر الزاوية التى هى الـمسيح؟ أليس أنتِ التى حبلت بلا زواج ومازلت دائما عذراء؟.من هى تلك التى تكلّم عنها داود والتى جُعلت عن يمين الملك بذهب أوفير؟”.
كما بينا من قبل فان العهد القديـم بكامله من ناموس وتاريخ وطقوس ونبوات ومزامير وشخصيات ورموز جاء برسم كامل للـمسيّا، ولقد تطابق الناموس والنبوات والمزامير فى المسيح يسوع ابن مريم العذراء، وهذا ما قام بشرحـه يسوع مع تلميذي عمواس ليفهموا الـمكتوب عنه:”ثم إبتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الامور الـمختصة بـه فى جميع الكتب”(لوقا25:24-27). وكما تكامل رسم يسوع فى العهد القديم حتى أتت الساعة وجاء فى ملء الزمان:”ولـما جاء ملء (كمل) الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة” (غلاطية4:4)، كذلك تكاملت النبؤات وأشارت إلـى تلك الأم العجيبة وما يلي البعض مما جاء في العهد القديم عنها:
1.جنـّة عَدْن (تكوين8:2-15):
جنة عدن أعدها الله كأرض للنعمة وفردوس للفرح والذي وضع الله فيها الإنسان الأول:”وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ.اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ.وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِي جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ.وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ، وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابعُ الْفُرَاتُ. وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا”(تكوين8:2-15).
وبمقارنة جنة عدن مع القديسة مريم أم يسوع نجد:
- صنع الرب جنّة عدن بجمال، ومريم قد أعدّهـا الرب وجمّلهـا بكل الفضائل الإلهيـة.
- غرس الرب فـى وسط الجنة شجرة الحياة، ومريم حلّ فى أحشائهـا رب الحيـاة.
- أُعد الله هذا الفردوس الأرضي لإستقبال الإنسان الأول، ومريم أُعدت إعداداً خاصـاً ليحل
فى أحشائهـا إبن البشر آدم الجديد.
- جنة عدن الجديدة (مريم) هي أقدس وأكثر جمالا من جنة عدن القديمة والذي حلّ فيها آدم الجديد وابن العلي.
- هذه الأرض المقدسة هي مثال لمريم التى ارتوت من نعمة الله الغزيرة، ففي مريم حلّ في
احشائها الله الكلمة وملأها بكل نعمة.
- حوّاء (تكوين 20:2-25)
“فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ. فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ” (تكوين20:2-25).
لقد شُبهت مريـم العذراء من العديد من أبـاء الكنيسة وعلماؤهـا بأنهـا “حواء الجديدة”، أو “حواء الثانيـة”، كما أن الـمسيح هو آدم الثاني:”فكما فى آدم يموت الجميع كذلك فى المسيح سيحيا الجميع”(1كورنثوس22:15). وحواء العهد القديم هى أم كل حي كما دعاها آدم (تكوين20:3)، والعذراء هى أم كل مؤمن بإبنهـا يسوع فلقد ولدت المسيح الإله الـمتجسد فصارت به أمـاً لكل الأعضاء المتحدة بجسده:”نحن الكثيرين جسد واحد فى المسيح”5:12). وايضاً حواء العهد لقديم أغلقت باب الفردوس بسقوطها، ومريم أعادت فتح الباب الـمغلق فى شخص إبنهـا يسوع.
ولقد قال القدّيس إيريناوس:”كما أنّ يد الله خلقت آدم من أرض عذراء، كذلك لمّا جمع كلمة الله
الإنسان في شخصه، ولد من مريم العذراء. وهكذا إلى جانب حوّاء، ولكن على خلافها، قامت مريم بدور في عمل الجمع هذا الذي هو عمل خلاص الإنسان، لمّا حبلت بالمسيح. حوّاء أغواها الشرّ وعصت الله. أمّا مريم فاستسلمت لطاعة الله وصارت المحامية عن حوّاء العذراء. إنّ حوّاء، وهي بعد عذراء، كانت سبب الموت لها وللجنس البشري بأسره. أمّا مريم العذراء فبطاعتها صارت لها وللجنس البشري بأسره سبب خلاص. من مريم إلى حوّاء هناك إعادة للمسيرة عينها، إذ ما من سبيل لحلّ ما تمّ عقده إلاّ بالرجوع باتّجاه معاكس لفكّ الحبال التي تمّ حبكها. لذلك يبدأ لوقا نسب المسيح ابتداء من الربّ ويعود إلى آدم (لوقا22:3-38)، مظهرًا أنّ الحركة الحقيقية للولادة الجديدة تسير من الأجداد إليه بل منه إلى الأجداد، وفق الولادة الجديدة في إنجيل الحياة. هكذا أبطلت طاعة مريم معصية حوّاء. ما عقدته حوّاء بعدم إيمانها حلّته مريم بإيمانها. لمحو الضلال الذي لحق بالتي كانت مخطوبة -العذراء مريم حوّاء- حمل الملاك البشارة الجديدة الحقّة إلى التي كانت مخطوبة. العذراء مريم حوّاء ضلّت بكلام الملاك واختبأت من وجه الله بعد أن عصت كلمته، أمّا مريم فبعد أن سمعت من الملاك البشري الجديدة، حملت الله في أحشائها لأنّها أطاعت كلمته. إذا كانت الأولى عصت الله، فالثانية رضيت بأن تطيعه. وهكذا صارت العذراء مريم المحامية عن العذراء حوّاء. وكما ربط الموت الجنس البشري بسبب امرأة، كذلك خُلِّص الجنس البشري بواسطة امرأة”. هكذا رأى آباء الكنيسة في القرنين الأوّل والثاني أنّ لمريم دورًا أساسيًّا في تاريخ الخلاص. وهذا الدور هو دور مزدوج: فقد حبلت بيسوع المسيح بشكل بتولي. إنها امّ المسيح ابن الله. ثمّ إنّها بإيمانها وطاعتها لكلام الله قد أبطلت معصية حوّاء الأمّ الأولى، وهكذا شاركت بملء حرّيتها في الخلاص الذي جاءنا
به ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح.
وما يلي مقارنة بسيطة ما بين حواء العهد القديم والقديسة مريم:
- حواء هى ام كل حي، والعذراء ام كل مؤمن بإبنها يسوع.
- حواء اغلقت باب الفردوس بسقوطها، ومريم أعادت فتح الباب الـمغلق فى شخص إبنهـا
يسوع.
- حواء أُخذت من رجل بدون إمرأة، ومريم العذراء وَلدَتْ وهى الإمرأة بدون رجل.
- حواء خُلقت فى حالة البرارة وكانت زينـة الفردوس، وكذلك مريم.
- حواء وضعت للعالم هابيل الصدّيق الذى قتله أخوه بلا مبرر، ومريم أعطت العالم
الصِّديق الذى قتله إخوتـه على جبل الجلجلـة.
3. شجرة الحياة (تكوين9:2): “وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرّ”ِ.شجرة وسط الجنة ثمرها يمنح الإنسان حياة خالدة فكانت تحمل ثـمرة الحياة من أكل منهـا لا يموت بل يحيا إلـى الأبد(تكوين22:3)، فإذا كان الـمسيح هو الحيـاة (يوحنا25:11) فالعذراء هى الشجرة التى تحوى هذه الثـمرة.
4. فلك نوح(تكوين14:6و7و8):
“فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الأَرْضِ.اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ. تَجْعَلُ الْفُلْكَ مَسَاكِنَ، وَتَطْلِيهِ مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ بِالْقَارِ.وَهكَذَا تَصْنَعُهُ: ثَلاَثَ مِئَةِ ذِرَاعٍ يَكُونُ طُولُ الْفُلْكِ، وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ، وَثَلاَثِينَ ذِرَاعًا ارْتِفَاعُهُ.وَتَصْنَعُ كَوًّا لِلْفُلْكِ، وَتُكَمِّلُهُ إِلَى حَدِّ ذِرَاعٍ مِنْ فَوْقُ. وَتَضَعُ بَابَ الْفُلْكِ فِي جَانِبِهِ. مَسَاكِنَ سُفْلِيَّةً وَمُتَوَسِّطَةً وَعُلْوِيَّةً تَجْعَلُهُ. فَهَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. كُلُّ مَا فِي الأَرْضِ يَمُوتُ. وَلكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَامْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، اثْنَيْنِ مِنْ كُلّ تُدْخِلُ إِلَى الْفُلْكِ لاسْتِبْقَائِهَا مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى. مِنَ الطُّيُورِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنَ الْبَهَائِمِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنْ كُلِّ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. اثْنَيْنِ مِنْ كُلّ تُدْخِلُ إِلَيْكَ لاسْتِبْقَائِهَا. وَأَنْتَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ وَاجْمَعْهُ عِنْدَكَ، فَيَكُونَ لَكَ وَلَهَا طَعَامًا». فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ اللهُ. هكَذَا فَعَلَ”)تكوين13:6=22).أُعدت هذه السفينة قبل إستعمالهـا بزمن طويل وصُنعت من خشب صلب لا يقبل الفساد وكانت تحمل فـى أحشائهـا آمال الجنس البشري وتطفو وحدهـا على مياه الطوفـان حين كان الغرق يهدد جميع من كان خارجـاً عنهـا. ومريـم قد هيأهـا اللـه منذ أمد سحيق وجمّلهـا بفضائل عديدة وحملت فى أحشائهـا مخلّص العالـم، وتخلّصت بنعمة فريدة من الخطيئة التى إجتاحت الأرض، فلا خلاص إلاّ لـمن يلتجئ إليهـا. الأرض أعيد تعميرها لمن التجأوا الى الفلك والسماء امتلأت من المؤمنين الذين التجأوا الى مريم.
5.قوس قزح (تكوين 12:9-17): “وَقَالَ اللهُ: «هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا وَاضِعُهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ كُلِّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِي مَعَكُمْ إِلَى أَجْيَالِ الدَّهْرِ: وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثَاق بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ. فَيَكُونُ مَتَى أَنْشُرْ سَحَابًا عَلَى الأَرْضِ، وَتَظْهَرِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أَنِّي أَذْكُرُ مِيثَاقِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ. فَلاَ تَكُونُ أَيْضًا الْمِيَاهُ طُوفَانًا لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِي جَسَدٍ. فَمَتَى كَانَتِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أُبْصِرُهَا لأَذْكُرَ مِيثَاقًا أَبَدِيًّا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ».وَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَنَا أَقَمْتُهُ بَيْنِي وَبَيْنَ كُلِّ ذِي جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ»“
قوس قزح يعكس جميع ألوان الشمس، ومريم أعطاهـا الله أن تعكس فى نفسهـا الكثير من لـمعان
شمس العدل يسوع الـمسيح. وكان القوس علامـة العهد بين الله والبشر والـمصالحة بين السماء
والأرض، ومريم هى العلامـة عن النجاة والخلاص والرحـمة الإلهيـة.
6.سارة[2]: “وَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «سَارَايُ امْرَأَتُكَ لاَ تَدْعُو اسْمَهَا سَارَايَ، بَلِ اسْمُهَا سَارَةُ. وَأُبَارِكُهَا وَأُعْطِيكَ أَيْضًا مِنْهَا ابْنًا. أُبَارِكُهَا فَتَكُونُ أُمَمًا، وَمُلُوكُ شُعُوبٍ مِنْهَا يَكُونُونَ». فَسَقَطَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ وَضَحِكَ، وَقَالَ فِي قَلْبِهِ: «هَلْ يُولَدُ لابْنِ مِئَةِ سَنَةٍ؟ وَهَلْ تَلِدُ سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِينَ سَنَةً؟». وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ للهِ: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!». فَقَالَ اللهُ: «بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ” (تكوين15:17-19).سارة كانت زوجة لأبراهيم والذي وعده الله بأن يكثر نسله ليملأ الأرض على الرغم انه كان بلا نسل وكانت سارة عاقراً وولدت إبنهـا اسحق إبن الـموعد بطريقـة عجيبـة والذي حمل الوعد بالخلاص (تكوين1:17-7:21). كما ان سارة التى ولدت اسحق رأس الشعب المختار، فمريم ولدت إبنهـا الـمخلّص الـموعود بطريقة تفوق الوصف وولدت بأمومتها للسيد المسيح ابناء لله واصبحت أما للكنيسة.
7. سلّم يعقوب:” وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا.وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ. الأَرْضُ الَّتِي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْبًا وَشَرْقًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ». فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: «حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ فِي هذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!».وَخَافَ وَقَالَ: «مَا أَرْهَبَ هذَا الْمَكَانَ! مَا هذَا إِلاَّ بَيْتُ اللهِ، وَهذَا بَابُ السَّمَاءِ». (تكوين12:28-17): حين كان يعقوب هاربا من وجه أخيه رأى حلـماً وإذ بسلّم منصوب من الأرض الى السماء والـملائكة تصعد وتنزل والرب واقف عليـه، ومريم العذراء هى بحق هذا السلّم الذى عن طريقـه نزل الله إلـى الأرض، وهو الذي قاد الخليقة لتعود مرة اخرى الى الله. وعن طريق شفاعـة مريـم العذراء تنتقل الـملائكة والبركات ما بين الـسماء والأرض.
8. راحيـل[3] ابنة لابان الصغرى وكانت حسنة المنظر فأحبها يعقوب للنظرة الأولى عندما رآها عند البئر بالقرب من حاران إذ كانت تسقي غنم أبيها لابان. وقد خدمه يعقوب سبع سنين لأجل راحيل فخدعه لابان وأعطاه ليئة. ثم خدمة يعقوب لأجل راحيل سبع سنين أخرى. وراحيل هي أم يوسف وبنيامين وماتت عند ولادة بنيامين.
- راحيل بفضائلهـا اكتسبت قلب يعقوب(تكوين20:29)، ومريم بفضائلها إجتذبت قلب
الله”إنكِ قد نلتِ نعمة عند الله”(لوقا30:1).
- أولاد يعقوب يبيعون أخاهم يوسف إبن راحيل(تكوين22:30-24) ولكن يوسف يصبح مخلّص شعبـه ويرتقي الـمجد(تكوين8:45)، وإبن مريم يُباع ويُحكم عليـه بالـموت ويخلّص شعبـه.
- راحيل عندما وضعت يوسف ابنهـا البِكر إهتزت فرحـاً (تكوين23:30) ومريم حين تحمل بإبنهـا يختلج قلبهـا فرحاً “تعظم نفسي الرب..”(لوقا46:1-55).
- راحيل كانت حسنة الـمنظر حتى أن جمالهـا الأرضي جذب قلب يعقوب إليهـا فخدم أباهـا
لابان 14 عامـاً حتى يمكن أن يتخذها زوجـة لـه (تكوين1:29-30)، ومريـم كانت
“ممتلئة نعمة” وجميلة وليس فيها دنس الخطيئة حتى ان سليمان يصف فى أناشيده
جمال مريم الرائع قائلاً: “كلِّك جميلة ولا عيب فيكِ”(نشيد الأناشيد 7:4)، لهذا إختارهـا الله لتكون أمـاً لإبنـه الوحيد يسوع.
9. مـريـم أخت موسى[4]: لقد أنقذت موسى من القتل الذى قرره فرعون على كل أطفال
العبرانييـن (خروج1:2-8)، وقد حملت روح النبوة حتى ان الكتاب الـمقدس يصفهـا قائلاً:”مريم النبيّة أخت هارون”، وهتفت مريم بالتسبيح “سبحّوا الرب لأنـه قد تعّظم بالـمجد”(خروج20:15-21)، وكانت على رأس النساء ترّنم وتقودهن فى عبور البحر الأحمر”وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم”(ميخا4:6). ومريـم العذراء هتفت بإنشودة التعظيم بروح النبوّة (لوقا46:1-55)، وفاقت طهارة العذارى ووصفهـا الـملاك بأنهـا “مباركـة بين النساء”، والتى تساعد أبناءهـا للتغلب على الشيطان وشاركت مع إبنهـا الإلهـي فى خلاص البشريـة.
10. العلّيـقة:” وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ. فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ. فَقَالَ مُوسَى: «أَمِيلُ الآنَ لأَنْظُرَ هذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟ فَلَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: «مُوسَى، مُوسَى!». فَقَالَ: «هأَنَذَا». فَقَالَ: «لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى ههُنَا. اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ». ثُمَّ قَالَ: «أَنَا إِلهُ أَبِيكَ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ». فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ. فَقَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ، فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، إِلَى مَكَانِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزَّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ. وَالآنَ هُوَذَا صُرَاخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَتَى إِلَيَّ، وَرَأَيْتُ أَيْضًا الضِّيقَةَ الَّتِي يُضَايِقُهُمْ بِهَا الْمِصْرِيُّونَ، فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ». (خروج2:3-10):
– “وإذا علّيقـة تتوقد بالنار والعليقـة لم تكن تحترق”، ومريم هى عليقة موسى الـمتوقدة والتى حملت الله النار الآكلـة (تثنية21:4) ولم تحترق.
- عن طريق العليقـة ظهر الله لـموسى، ولفداء بني اسرائيل، وعن طريق مريـم نزل اللـه الى
عالـمنـا ليفدي كل البشريـة.
- احتفظت العليقة برطوبة مادتها وإخضرارها وعبق ازهارها، ومريم بإمتياز خاص حافظت
على بتوليتهـا.
11. خيـمة الإجتـماع وقدس الأقداس“:فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِسًا لأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ.بِحَسَبِ جَمِيعِ مَا أَنَا أُرِيكَ مِنْ مِثَالِ الْمَسْكَنِ، وَمِثَالِ جَمِيعِ آنِيَتِهِ هكَذَا تَصْنَعُونَ. (خروج8:25-9)
- خيمة الإجتماع هى مسكن اللـه مع البشر
كانت مقامـة بين أسباط بني اسرائيل وكان يحلّ فيهـا اللـه، ومريم صارت خيمة لحلول الله وقدس أقداس.
- قدس الأقداس كان يحوي لوحيّ الشريعة ولم يكن مسموحاً لأحد أن يدخله إلاّ رئيس
الكهنة مرّة واحدة فى السنة، ومريم قدس الأقداس دخل فيها رئيس الكهنة الأعظم(عبرانيين 10:8)، مرّة واحدة فى التاريخ، ومريم حوت كلمة اللـه الظاهر فى الجسد. وقدس الأقداس هو الـمكان الأوسط والأقدس فى خيمة الإجتماع ومريم هى سلطانة القديسين فى كنيسة اللـه.
12. الـمنـارة الذهبيـة “وَتَصْنَعُ مَنَارَةً مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ. عَمَلَ الْخِرَاطَةِ تُصْنَعُ الْمَنَارَةُ، قَاعِدَتُهَا
وَسَاقُهَا. تَكُونُ كَأْسَاتُهَا وَعُجَرُهَا وَأَزْهَارُهَا مِنْهَا. وَسِتُّ شُعَبٍ خَارِجَةٌ مِنْ جَانِبَيْهَا. مِنْ جَانِبِهَا
الْوَاحِدِ ثَلاَثُ شُعَبِ مَنَارَةٍ، وَمِنْ جَانِبِهَا الثَّانِي ثَلاَثُ شُعَبِ مَنَارَةٍ. (خروج31:25-40).
منارة من ذهب نقي ذات سبعة قناديل، ومريم تحوي النور الحقيقي الذى يُضيئ للعالـم شمس البِر.ومريم العذراء الـمختارة وطاهرة كالذهب النقي وموضوعة فى القبـة لتعطي للعالـم نور العالـم (يوحنا12:8-29) وتحوي مريم مواهب الروح القدس السبعة، وعدد 7 هو عدد الكمال الإلهـي.
13. تابوت العهد (خروج10:25 و6:30):
صنع موسى تابوت العهد بأمـر الله:” «فَيَصْنَعُونَ تَابُوتًا مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ، طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ.وَتُغَشِّيهِ بِذَهَبٍ نَقِيٍّ. مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ تُغَشِّيهِ، وَتَصْنَعُ عَلَيْهِ إِكْلِيلًا مِنْ ذَهَبٍ حَوَالَيْهِ. وَتَسْبِكُ لَهُ أَرْبَعَ حَلَقَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَتَجْعَلُهَا عَلَى قَوَائِمِهِ الأَرْبَعِ. عَلَى جَانِبِهِ الْوَاحِدِ حَلْقَتَانِ، وَعَلَى جَانِبِهِ الثَّانِي حَلْقَتَانِ. وَتَصْنَعُ عَصَوَيْنِ مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ وَتُغَشِّيهِمَا بِذَهَبٍ.وَتُدْخِلُ الْعَصَوَيْنِ فِي الْحَلَقَاتِ عَلَى جَانِبَيِ التَّابُوتِ لِيُحْمَلَ التَّابُوتُ بِهِمَا. تَبْقَى الْعَصَوَانِ فِي حَلَقَاتِ التَّابُوتِ. لاَ تُنْزَعَانِ مِنْهَا. وَتَضَعُ فِي التَّابُوتِ الشَّهَادَةَ الَّتِي أُعْطِيكَ. «وَتَصْنَعُ غِطَاءً مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ. فَاصْنَعْ كَرُوبًا وَاحِدًا عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَا، وَكَرُوبًا آخَرَ عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ. مِنَ الْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ الْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ. وَيَكُونُ الْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ، مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى الْغِطَاءِ، وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى الآخَرِ. نَحْوَ الْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا الْكَرُوبَيْنِ.وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ فَوْقُ، وَفِي التَّابُوتِ تَضَعُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أُعْطِيكَ”(خروج10:25-21). ومريـم مختارة ومُعدّة منذ الأزل للخلاص. وكان التابوت يحوى إنـاء ذهبـي بـه قليل من الـمنْ السماوي وعصا هارون ولوحـي الوصايـا، ومـريـم حوت كل هذه الكنوز فهـى حملت الخبـز الحقيقـي النازل من السماء، والكاهـن والـمشرّع الأعظـم يسوع الـملك. وبعد خراب أورشليم الأول سنة 596ق.م. إختفـى تابوت العهد، وعندمـا أعيد بناء الهيكل سنة 520ق م، تُرك “الـمكان الـمقدس” فارغـاً وكان هذا الفراغ علامـة رجاء وإنتظار لمجئ الله من جديد فـى الأزمنة الأخيرة، حتى جاء يسوع الـمسيح الـمخلّص ليسكن فـى بطن العذراء فجعلهـا تابوت العهد الجديد الـمقدّس.
كان تابوت العهد مصنوع من خشب السنط الذى لا يسّوس ومغشى بصفائح من ذهب من الداخل والخارج، وكان اللـه يظهر فوق غطاء التابوت بين الكاروبين، وكان التابوت يحوي وعاء الـمنّ وعصا هارون ولوحا الشريعة وبجواره كتاب التوراة. فالخشب الذى لا يسوّس رمز لطهارة العذراء وقداستها، والذهب الذى من الداخل والخارج رمز للـمجد وللنقـاء. وكان التابوت يتقدم الشعب العبراني فى الـمعارك ومريم العذراء هى ملجأنـا ومن يستغيث بهـا لا يُرد خائبـا، ومريم حوت فى داخلهـا العديد من الفضائل. تابوت العهد كان يُسمع منه صوت الله للشعب ومريم اعطتنا كلمة الله ذاتها. التابوت حوى الشريعة ومريم حملت البشارة والكتاب المقدس والمشرّع.
تابوت العهد مكث في بيت عوبيد أدوم ثلاث شهور قبل أن يكون في بيت داود النبي والقديسة
مريم العذراء الحاملة الرب الإله مكثت في مدينة اليهودية ثلاث شهور. كان حمل التابوت
يبعث الفرحة في الشعب ” وكان داود يرقص بكل قوته أمام التابوت (2صم 6) وهكذا وصول
العذراء بعث في أليصابات الفرح (لوقا1:44),
تابوت العهد مصنوع من الذهب الخالص وأجود المواد، و مريم هي الأناء الأطهر الذي حوى كلمة الله. تابوت العهد احتوى المنّ خبز الحياة الأرضية، ومريم احتوت يسوع خبز الحياة الأبدية. التابوت حوى عصا هارون – الكاهن الأعلى، ومريم حوت يسوع المسيح – الكاهن الأبدي. كان حضور الله يُظلّل التابوت: ملأ بهاء الرب المسكن (خروج34:40)، ومريم جاء ان “الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظلّلك”(لوقا34:1).
قال داود عن تابوت العهد”كيف يأتي إلي تابوت الرب؟ (2 صموئيل9:6 – وقالت اليصابات” من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟ (لوقا43:1). دخل تابوت الرب مدينة داود.. الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب (2 صموئيل16:6)، واليصابات قالت:”هوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني.(لوقا 44:1). بقي تابوت الرب في بيت عوبيد أدوم الجتي ثلاثة أشهر(2 صموئيل 11:6)وجاء ” فمكثت مريم عندها نحو ثلاثة أشهر (لوقا 56:1). كان التابوت طاهراً وغير مدنّس، ومريم عذراء طاهرة. التابوت غير مسموح للبشرية الخاطئة بلمسه، ومريم حُفِظت من دنس البشرية الخاطئة
14. قسط الـمنّ (خروج16): الـمنّ إسم عبري معناه هِبـة وهو غذاء أنزلـه اللـه على الشعب فى البريّة وشكله كان كبذرة الكزبرة وطعمه كطعم قطائف بالزيت(عدد7:11-8)، وتذكاراً لذلك أمر الرب بوضع قسط الـمنّ من ذهب داخل التابوت:” وَدَعَا بَيْتُ إِسْرَائِيلَ اسْمَهُ «مَنًّا». وَهُوَ كَبِزْرِ الْكُزْبَرَةِ، أَبْيَضُ، وَطَعْمُهُ كَرِقَاق بِعَسَل. وَقَالَ مُوسَى: «هذَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرَّبُّ. مِلْءُ الْعُمِرِ مِنْهُ يَكُونُ لِلْحِفْظِ فِي أَجْيَالِكُمْ. لِكَيْ يَرَوْا الْخُبْزَ الَّذِي أَطْعَمْتُكُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ حِينَ أَخْرَجْتُكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ». وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: «خُذْ قِسْطًا وَاحِدًا وَاجْعَلْ فِيهِ مِلْءَ الْعُمِرِ مَنًّا، وَضَعْهُ أَمَامَ الرَّبِّ لِلْحِفْظِ فِي أَجْيَالِكُمْ». كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى وَضَعَهُ هَارُونُ أَمَامَ الشَّهَادَةِ لِلْحِفْظِ وَأَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى جَاءُوا إِلَى أَرْضٍ عَامِرَةٍ. أَكَلُوا الْمَنَّ حَتَّى جَاءُوا إِلَى طَرَفِ أَرْضِ كَنْعَانَ.“(خروج32:16-35). والـمسيح يسوع هو الـمنّ الخفي (رؤيا17:2) والنازل من السماء وواهب الحياة للعالـم كلـه ولقد قال الرب يسوع عن نفسه: “أنا هو خبز الحياة الذي نزل إلى السماء ليس كما أكل آباؤكم المن في البرية وماتوا, هذا هو الخبز الذي نزل من السماء لكي يأكل منه الإنسان. أن أكل احد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي الذي ابذله من أجل حياة العالم (يوحنا32:6-33)، ولذا أعتبرت مريـم القسط الذى حمل الـمن الخفي.
15. لوحـا الشريعة:” ثُمَّ أَعْطَى مُوسَى عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ لَوْحَيِ الشَّهَادَةِ: لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإِصْبعِ اللهِ. (خروج18:31): كان اللوحان يحويان كلمة الله الـمكتوبـة على حجر، ومريم العذراء هى أرفع من لوحي الشريعة لأنهـا تحوي كلمة الله والـمشّرع الأعظم يسوع الـمسيح.
16. الـمجمرة الذهبيـة: وهى الـمبخرة التى كان يستخدمها هارون والكهنـة لإيقاد البخور أمام الـمذبح ويتصاعد منها بخور طاهر، والجمر يرمز الى لاهوت السيد المسيح والمبخرة ترمز الى العذراء التى حملت يسوع. سُميت العذراء أيضًا بالمجمرة الذهبية. والمجمرة أي الشورية، وهذا تعبير لاهوتي، وذلك لأن الشورية نجد داخلها الفحم متحد بالنار وينتج عن هذا الاتحاد رائحة بخور ذكية. “الفحم” يرمز للجسد أو الطبيعة الإنسانية، و”النار” ترمز للاهوت كما قيل: إلهنا نار. “لأَنَّ إِلهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ” (رسالة بولس
الرسول إلى العبرانيين 12: 29). وهي مصفحة بالذهب من الداخل والخارج رمز لقيمتها
العظيمة.
17. صخرة حوريب: “ثُمَّ ارْتَحَلَ كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَرِّيَّةِ سِينٍ بِحَسَبِ مَرَاحِلِهِمْ عَلَى
مُوجِبِ أَمْرِ الرَّبِّ، وَنَزَلُوا فِي رَفِيدِيمَ. وَلَمْ يَكُنْ مَاءٌ لِيَشْرَبَ الشَّعْبُ.فَخَاصَمَ الشَّعْبُ مُوسَى
وَقَالُوا: «أَعْطُونَا مَاءً لِنَشْرَبَ.» فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: «لِمَاذَا تُخَاصِمُونَنِي؟ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ الرَّبَّ؟» وَعَطِشَ هُنَاكَ الشَّعْبُ إِلَى الْمَاءِ، وَتَذَمَّرَ الشَّعْبُ عَلَى مُوسَى وَقَالُوا: «لِمَاذَا أَصْعَدْتَنَا مِنْ مِصْرَ لِتُمِيتَنَا وَأَوْلاَدَنَا وَمَوَاشِيَنَا بِالْعَطَشِ؟» فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ قَائِلًا: «مَاذَا أَفْعَلُ بِهذَا الشَّعْبِ؟ بَعْدَ قَلِيل يَرْجُمُونَنِي». فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مُرَّ قُدَّامَ الشَّعْبِ، وَخُذْ مَعَكَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ. وَعَصَاكَ الَّتِي ضَرَبْتَ بِهَا النَّهْرَ خُذْهَا فِي يَدِكَ وَاذْهَبْ. هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ الصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ الشَّعْبُ». فَفَعَلَ مُوسَى هكَذَا أَمَامَ عُيُونِ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ. وَدَعَا اسْمَ الْمَوْضِعِ «مَسَّةَ وَمَرِيبَةَ» مِنْ أَجْلِ مُخَاصَمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْ أَجْلِ تَجْرِبَتِهِمْ لِلرَّبِّ قَائِلِينَ: «أَفِي وَسْطِنَا الرَّبُّ أَمْ لاَ؟” (خروج1:17-7). وهى الصخرة التى خرج منها الـماء لتروى عطش بنى اسرائيل، وهى كانت صخرة صـمّاء لا ماء فيهـا ولا حياة ولكنها أخرجت مياهـا وأروت عطش الشعب، ومريم العذراء أنجبت لنـا ماء الحيـاة يسوع الـمسيح. وكما ان الصخرة أخرجت الـماء دون أن تُكسر كذا خرج يسوع من العذراء ولـم تُمس بتوليتهـا. “ والصخرة هي المسيح كما قال القديس بولس الرسول:”وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسيح”(1كورنثوس4:10).
18. عصـا هارون[5] (عدد 17):
- عصا هارون كانت يوما ما غصنـا فى شجرة وقطعت لتصير عصا، ومريم العذراء
كانت إبنـة فى أسرة مباركة ولكنها أختيرت من العالـم وخصصت للرب فـى هيكله الـمقدس.
- عصا هارون الجافة حينما وضعت أمام الرب فى خيمة الإجتماع أخرجت ثـمراً، كذلك
مريم العذراء أخرجت لنـا ثـمرة حلوة هى الـمسيح.
- عصا هارون أخرجت ورقـا وثـمراً دون أن تُوضع فى الأرض أو تُسقى بالـماء، ومريم أنجبت يسوع دون أن تجانب رجلا.
- اللـه من أجل هارون رئيس الكهنـة أعطى هذه الـمعجزة بأن أثـمر عصا جافة، فهل لا
يقدر من أجل رئيس الكهنـة الأعظم يسوع الـمسيح أن يجعل مريم أمـه تحبل وتلد إبنـا وتبقى عذراء.
19. الـمائـدة: التى كان يُوضع عليها خبز التقدمـة الـمكرّس للرب “وَتَجْعَلُ عَلَى الْمَائِدَةِ خُبْزَ الْوُجُوهِ أَمَامِي دَائِمًا.”(خروج30:25)، ومريم العذراء هى التى وُضع فيهـا الذبيحة الـمقدسة يسوع الـمسيح.
20. بيت الذهب: “وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ جَمِيعَ آنِيَةِ بَيْتِ الرَّبِّ: الْمَذْبَحَ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْمَائِدَةَ الَّتِي عَلَيْهَا خُبْزُ الْوُجُوهِ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْمَنَائِرَ خَمْسًا عَنِ الْيَمِينِ وَخَمْسًا عَنِ الْيَسَارِ أَمَامَ الْمِحْرَابِ مِنْ ذَهَبٍ خَالِصٍ، وَالأَزْهَارَ وَالسُّرُجَ وَالْمَلاَقِطَ مِنْ ذَهَبٍ، وَالطُّسُوسَ وَالْمَقَاصَّ وَالْمَنَاضِحَ وَالصُّحُونَ وَالْمَجَامِرَ مِنْ ذَهَبٍ خَالِصٍ، وَالْوُصَلَ لِمَصَارِيعِ الْبَيْتِ الدَّاخِلِيِّ، أَيْ لِقُدْسِ الأَقْدَاسِ، وَلأَبْوَابِ الْبَيْتِ، أَيِ الْهَيْكَلِ مِنْ ذَهَبٍ”(3ملوك48:7-50): بيت الذهب هو هيكل سليمان والذى بناه 1500 عامل مدة سبع سنوات وكان من الداخل مرصعا بالذهب وكان يسمى وقتئذ ببيت الذهب. هيكل سليـمان كان يُعبد فيه الله، ومريم هى التى حملت الإله فى أحشائها وهى بذلك تشبه هيكل سليمان لأنها جمعت من هبات النعمة وإمتيازات الـمجد ما جعلها تفوق الذهب فى مكانته. هيكل سليمان كان مفخرة العالم القديم فسليمان الملك زيّنه ببذخ بالذهب والفضة والأحجار الكريمة لأن الله سيحل فيه ووضع بداخله تابوت العهد (1ملوك16-17)، ومريم قد زينها الله بكل الفضائل واصبحت هي هيكل الله بكل النِعم وحوت قدس الأقداس قدوس الله.
21. أرزة لبنـان: لقِدم شجرة الأرز وثباتها وقوة تحملهـا إستخدم الـملك سليمان خشب الأرز الذى جلبـه من لبنان لبناء بيت الرب “فبنى البيت وأكمله وسقفـه بجذوع وألواح من الأرز”(3ملوك9:6)، وقد ملأ مجد الرب البيت بعد اكتمالـه (3ملوك11:8). ومريم العذراء لأنهـا أستخدمت لبناء هيكل الرب فقد شبهتها الكنيسة بالأرز لأن مريم هـى بيت الرب الـمُختارة منذ الأزل ليحلّ فيهـا عـمانوئيل.
22. برج داود: هذا اللقب النبوي يعود أصله الى نشيد الأناشيد: “عُنقك كبرج داود الـمبنى
للسلاح الذى علّق فيـه ألف مِجن جميع تروس الجبابـرة” (نشيد الأناشيد 4:4). ولقد كان قديـماً برج الـمدينة هو خط الدفاع الأول، ومكان الـمراقبة والإنذار لأي خطر قادم. وبرج داود هو عبارة عن قلعة بناها داود الملك على جبل مرتفع مملوءة بالجنود والأسلحة وبها تكون أورشليم محصّنـة. ومريـم يمكن تشبيهها بالبرج القوى الذى يدافع عن الإيمان ويقاوم الشيطان ويرده عن أورشليم الكنيسة الجامعة. وكـما أن هذا البـرج كان مرتفعا يرى جميع الأعداء فمريم أم يقظة ترشد أبناءهـا وتحميهم ضد حرب الشيطان.
23. بتشبع[6] (3ملوك13:2-25): بتشبع زوجة داود الملك وبمعونة ناثان النبي جصلت على
العرش لإبنها سليمان (1ملوك19:2)، وكان لهـا من الـمـكانـة عند إبنهـا سليـمان الـملك حتى ان
أدُنيـا قال لهـا:”إنـه لا يرُد وجهِك”، و العذراء مريـم تتشفع عنـا عند إبنهـا يسوع الـملك السماوي كما فعلت من قبل فى عرس قانا الجليل وصنع يسوع أولـى عجائبـه الزمنيـة(يوحنا1:2-12).
24. دبـّورة القاضيـة[7]: كانت نبيـة ومن أعظم قضاة اسرائيل (قضاة4:4) ولقد شجّعت الشعب العبرانـي على التغلب على مرارة إحتلال يابيـن ملك الكنعانيين وقائد جيشه سيسرا لهـم والذى استمر أكثر من عشرين سنة، وجمعت عشرة آلاف رجل من بني نفتالي وبني زبولون تحت قيادة باراق الذى هزم سيسرا وجيشه ومات سيسرا بيد ياعيل إمرأة حابر القيني. وسبّحت دبّورة الرب قائلة:”إنـيّ للرب أرّنم أُشيد للرب إلـه إسرائيل” و”إنقرض الحكّام فى إسرائيل إنقرضوا حتى قمت أنـا دبّورة قمتُ أمـّاً فى إسرائيل”(قضاة4و5). ولقد أُطلق على دبّورة انهـا “أم إسرائيل” وعلى ياعيل “الـمباركة بين النساء”. ومريـم العذراء بواسطة إبنهـا مخلّص العالـم الذى هزم الشيطان وشتت أعداء شعبـه الـمقدس، ولهذ دُعيت بأنهـا أم الـمسيحيين والـمباركة بين النساء.
24. يهوديت[8] (يهوديت10:15-11): يهوديت كانت ارملة في اسرائيل والتى كانت ذا
جمال:” وَكَانَتْ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا وَقَدْ تَرَكَ لَهَا بَعْلُهَا ثَرْوَةً وَاسِعَةً وَحَشَمًا كَثِيرِينَ وَأَمْلاَكًا مَمْلُوءَةً بِأَصْوِرَةِ الْبَقَرِ وَقُطْعَانِ الْغَنَمِ، وَكَانَتْ لَهَا شُهْرَةٌ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَّقِي الرَّبَّ جِدًّا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ عَلَيْهَا كَلِمَةَ سُوءٍ”(يهوديت7:8-8). لقد خلّصت يهوديت الشعب العبراني بقطع رأس اليفانا القائد الأشوري وهتف لها الشعب:” «أَنْتِ مَجْدُ أُورُشَلِيمَ وَفَرَحُ إِسْرَائِيلَ وَفَخْرُ شَعْبِنَا”(يهوديت9:15)، وهتفت يهوديت بأنشودة مسبحة عظمة الله (يهوديت1:16-20). ومريم خلّصت العالـم بأسره من وزر الخطيئة بولادتهـا للـمخلّص العجيب وهتفت بأنشودة التعظيم ولهذا يطوبهـا العالـم أجمع.
25. استيـر[9] (استير 12:15): أستير كانت ملكة للملك أحشويروش “ فَأَحَبَّ الْمَلِكُ أَسْتِيرَ
أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ، وَوَجَدَتْ نِعْمَةً وَإِحْسَانًا قُدَّامَهُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الْعَذَارَى، فَوَضَعَ تَاجَ
الْمُلْكِ عَلَى رَأْسِهَا وَمَلَّكَهَا مَكَانَ وَشْتِي.“(استير17:2). قد خلصّت استير شعبهـا وسحقت هامان الوزير وكانت مختارة حتى ان الـملك قال لهـا:”إن الشريعة ليست عليكِ بل على العامـة”. مريم العذراء كانت الإبنـة التى إختارهـا الله ليعطى العالـم من خلالهـا الـمخلّص والـمجد والحيـاة، ومريم قد أُعفيت من القانون العام الذى يولد البشر بـه وهم مدنسون دنس الخطيئة الأصليـة. ومريـم العذراء تستخدم سلطانهـا كـملكة للدفاع عن شعب الله من هجمات الشرير.
26. جبل دانيـال (دانيال30:2-45): تمثال من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخزف وإذ بحجر قد قُطع بغير يد بشريـة إنقض على هذا التمثال وحطـمه. هذا الحجر هو السيد الـمسيح وقد قُطع من جبل بغير يد بشريـة ودون أن يلـمسه إنسان، فرأى الأباء بأن الجبل يشير الى العذراء مريم والحجر إلـى السيد الـمسيح.
27. أم الشهداء السبعة (2مكابيين7): عندما قُبض على سبعة إخوة مع أمهـم وعُذبوا حتى الـموت بأمر الـملك أنطيوكس، أظهرت الأم شجاعـة وحثت أبنائهـا على الثقـة بالرب فكانت “أجدر الكل بالعجب والذِكر الحميد فإنهـا عاينت بنيهـا السبعة يهلكون فى مدة يوم واحد وصبِرت على ذلك بنفس طيبّة ثقـة بالرب”، ومريم العذراء التى كانت واقفة تحت الصليب تعاين آلام وموت وحيدهـا وواثقـة بوعود الله.
وفـى قطع التسابيح الروحيـة، التى وضعتهـا الكنيسة القبطيـة لتطويب مريم العذراء والتى تسمى “تذاكيـات” أو “ثيئوطوكيات” وهى التى تعنى “مايخص والدة الإلـه”، نجد فيهـا سرد لرموز العهد القديم الخاصة بسر الفداء وبمريم العذراء.
28. ابنة صهيون: يستخدم أنبياء العهد القديم عبارة ” بنت صهيون ” مجازياً في الإشارة إلى مدينة أورشليم وسكانها. وتسستخدم عبارة ” ابنة صهيون ” مرادفة ” لابنة أورشليم ” ( 2 مل 19 : 21 ) ويستخدم إشعياء عبارة ” بنت صهيون ” ست مرات بهذا المعنى، كما يستخدمها إرميا إحدى عشرة مرة أيضاً، كما يستخدمها ميخا وصفنيا وزكريا بهذا المعنى أيضاً.
29. مدينه الله أورشليم الجديدة: هي السماء الثانية (رؤيا21)التي حوت في أحشائها الله الكلمة.
مريـم فـى النبؤات:
- فـى الفردوس
بعد اليأس والعري واللعنـة، جاء الأمل والوعد بالخلاص: “سأجعل عداوة بينكِ (الحيّة) وبين الـمرأة وبين نسلِك ونسلهـا، هو يسحق رأسِك وأنتِ ترصيدن عقِبـه”(تكوين15:3). انـهـا نبؤة قد خرجت من فم الرب تضم الأم والإبن فـى عـمل الفداء. نسل الـمرأة يسحق رأس الحيـّة أي رأس الحيّة القديـمة وهى ابليس والشيطان (رؤيا2:20). نسل إمرأة لا نسل إنسان من رجل وامرأة، والـمسيح جاء من امرأة بغير زرع بشر مولوداً غير مخلوق كما نقول فى قانون الإيمان:”اله حق من إله حق، مولود غير مخلوق..تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصار إنسانـاً”.
هذه النبؤة قيلت بفم الله، وإختار الله من كل البشريـة عائلة سام، ومن كل عائلة سام إختار الله
ليكون من بذرة إبراهيم (تكوين1:12-3)، ومن كل عائلة ابراهيم اختار يعقوب اسرائيل (تكوين 3:26و4)، ومن كل عائلة اسرائيل اختار سبط يهوذا (تكوين9:49و10 وعبرانيين 14:7)، ومن كل عائلة يهوذا يختار داود(1 اخبار الأيام 12:17-14)، ومن جميع عائلة داود تتركز نبوات الـمسيا على اثنين هما سليمان الحكيم ومنه جاء يوسف خطيب مريم العذراء وهو الأب الإسمي ليسوع الـمسيح(متى6:1و16) وناثان ومنه جاءت العذراء مريم الأم الحقيقية
ليسوع (لوقا31:3).
2. مزاميـر داود
داود النبي بـمزاميره الخالدة يحيي أم الـملك بلسانه النبوي قائلاً:”قامت الـملكة عن يـمينك بذهب
أوفيـر..اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك. انس شعبك وبيت أبيك فيصبو الـملك الى
حُسنك..بنات الشعوب تستعطف وجهك بالهدايـا…بنت الـملك جميع مجدها فى الداخل..تُزف الى الـملك فى رياش موشاة وفى إثرهـا عذارى صواحبها يحضرن إليكِ”(مزمور9:45-16).
وقد رأت الكنيسة عبر الأجيال فى هذه الأقوال كما فى غيرها من أناشيد داود سلسلة من النبؤات الرائعة عن أم الـمخلص..الـملك.
كذلك كل ما جاء عن مدينة الله او أورشليم كان رمزا لأم المسيّا حتى انه قيل:” قَدْ قِيلَ بِكِ
أَمْجَادٌ يَا مَدِينَةَ اللهِ”(مزمور3:87).
3. حِكم سليمان وأمثالـه وأناشيده يصف سليمان فى أناشيده جمال مريم الرائع:
- “كلِّك جميلة ولا عيب فيكِ” (نشيد الأناشيد 7:4).
- “كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات”(نش2:2).
- – “من هذه الـمشرقة كالصبح، الجميلة كالقـمر، الـمختارة كالشمس، الـمرهوبـة كصفوف تحت
الرايات(نش9:6).
- – “اختي العروس جنّة مغلقة عين مقفلة ينبوع مختوم”(نش12:4).
- – “واحدة هى حمامتي كاملتي الوحيدة لأمهـا هى”(نش8:6).
- نَرْجِسُ شَارُونَ، وسَوْسَنَةُ الأَوْدِيَة(نش1:2).
- برج داود (نش4:4)
- – “بنات كثيرات عملن فضلاً أما أنتِ ففقتِ عليهن جميعا”(أم29:31)
وقد كتب أحد الآبـاء ان سفر نشيد الأناشيد كله هو ترنيمة لحبيبة للروح القدس.
4. اشعيـا النبي هذا النبي الكبير ينقل للعالم مسبقا وبطريقة نبوية علامة الرأفة
- “فلذلك يؤتيكم السيّد نفسه آيـة هـا إن العذراء تحبل وتلد إبنـا وتدعو اسمه عـمانوئيل”(اشعيا14:7). وهـى إشارة الى بتوليـة مريم وأمومتها الإلهيـة.
- لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا،
إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ.(لشعيا6:9).
- هوذا الرب يركب على سحابـة سريعة ويدخل مصر فتتزلزل أوثان مصر من وجهه
ويذوب قلب مصر فى داخلهـا”(اش1:19)، ولقد فسّر القديس كيرلس الكبير على ان هذه
السحابة هى مريم العذراء حيث انها تفوق السحابة نقاء وطهارة.
- ويخرج قضيب من جذر يسّى وينمى فرع من أصولـه”(اش1:11)، فإن هذا القضيب هو
مريم البتول وهذه الزهرة هى الرب الـمتجسد الذى يقضي بعدل ويحكم لبائسي الأرض بإنصاف ويكون العدل مـِنطقة حقويـه.
- فصارت لكم رؤيا الكل كأقوال كتاب مختوم يناولونه لـمن يعرف الكتابة قائلين إقرأ هذا
فيقول لا أستطيع لأنـه مختوم”(اش11:29)، وقد فسّر الآباء هذا السِفر الـمختوم بـمريم
العذراء والتى حبلت دون أن تفقد بتوليتهـا.
5. ارميـا النبـي: “ان الرب قد خلق شيئـاً جديداً فى الأرض أنثى تحيط برجل”(ار22:31).
6. حزقيال النبـي
“فقال لـي الرب ان هذا الباب يكون مغلقـاً لا يُفتح ولا يدخل منه رجل لأن الرب إلـه اسرائيل قد
دخل منه فيكون مغلقـاً”(حزقيال2:44). واجمع الأباء ان هذا الباب المغلق هو مريم العذراء
وهو اثباتا لبتوليتها الدائمة.
7. ميخا النبي:“وأنتِ يا بيت لحم إفراتـة وأنتش صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فـمنكِ يخرج لـي الذى يكون متسلطاً على اسرائيل يوم تلده الوالده فيرجع اسرائيل الى مجده وربـّه”(ميخا2:5-3).
8. زكـريـا النبي:
- “ابتهجي يا بنت صهيون واهتفي يا بنت اورشليم هوذا ملكك يأتيك صديقاً مخلّصـاً وديعاً
راكبا على آتان وجحش ابن آتان”(زك9:9).
- “ترنـمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هآنذا آتـي وأسكن فى وسطك يقول الرب. فأسكن
فى وسطك فتعلـمين ان رب الجنود قد ارسلني اليكِ”(زك10:2-11).
9. صفنيـا النبي: “ترنّمي يا ابنة صهيون، اهتف يا اسرائيل. افرحي وابتهجي بكل قلبك يا ابنة
اورشليم قد نزع الرب الأقضية عليكِ..أزل عدوكِ.مَلَك اسرائيل الرب فى وسطكِ”(صفنيا14:3).
مريم فى كتب العهد الجديد
الغاية من كتابة العهد الجديد لم تكن التبشير بمريم أو الكلام عنها أو مدحها. هذا لا يعني أن العهد الجديد لم يذكرها أو لم يمدحها أو يمجدّها. لكن الغاية الرئيسية لكتابة العهد الجديد كانت ما قاله القديس يوحنا في ختام انجيله:”وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه”.(يوحنا30:20).
الأناجيل الأربعـة
نسب الكتاب المسيحيون في القرن الثاني الميلادي، الأربعة الأناجيل إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا. وقد تسلمت الكنيسة هذه الكتابات كسجلات يوثق بها وذات سلطان إذ تحتوي على شهادة الرسل عن حياة المسيح وتعاليمه. وبدأ الكُتَّاب المسيحيون من القرن الثاني الميلادي باقتباس هذه الأناجيل وشرحها وقاموا بعمل ترجمات منها إلى لغات متنوعة كالسريانية والقبطية واللاتينية، ولذا فما من شك في أن هذه الأناجيل سجّلات رسولية صحيحة وصادقة. وتؤدي الرسائل في العهد الجديد صورة المسيح وتعاليمه وأعماله وشخصه كإنسان وإله كما وردت في هذه الأناجيل.
ولكل من الأناجيل الأربعة خاصياته المميزة له التي تفرد بها بسبب غرض الكاتب في كتابته والأشخاص الذين كتب إليهم كما كانت ماثله في ذهنه. فقد كتب متى وجهة النظر اليهودية، وهو يقدم لنا يسوع كالمسيا الملك الذي تمت فيه نبوات العهد القديم. ومرقس يكتب للأمم وربما كان يقصد الرومانيين منهم بوجه خاص، وهو يقدم لنا فوق كل شيء قوة المسيح للخلاص كما تظهر في معجزاته. أما لوقا، وهو يكتب للمثقفين من اليونان، يكتب لهم في لغة بأسلوب أكثر روعة مما كتب غيره من كتبة الأناجيل، ويُظهر لنا تأثير الرسول بولس في إبراز نعمة المسيح التي تشمل الساقطين والمنبوذين والفقراء والمساكين بعطفه. أما قصد يوحنا الخاص فهو في أن يُظهر يسوع كالكلمة المتجسدة الذي يعلن الآب للذين يقبلونه
(يوحنا 20 : 30، 31).
ويوجد بين الأناجيل الثلاثة الأولى كثير من التشابه ولكنها تختلف عن أنجيل يوحنا من عدة
أوجه. وبما أن متى ومرقس ولوقا يقدمون حياة المسيح من وجهات نظر متشابهة على وجه العموم لذا فقد أطلق على هذه الأناجيل الثلاثة اسم “الأناجيل المتشابهة” أو Synoptic وهي مأخوذة من كلمة Synopsis اليونانية التي تعني “النظر معًا” وهؤلاء يركزون كتاباتهم حول تبشير المسيح ومناداته في الجليل بينما يركز يوحنا أنجيله حول عمل المسيح في اليهودية. ويقدم الثلاثة الأول تعليم المسيح عن الملكوت، وأمثاله وتعليمه للشعب، أما فيسجل لنا تعليم المسيح عن نفسه في أحاديث مستفيضة، وتشترك الأناجيل الأربعة في الشيء الكثير بحيث يؤيدون الواحد الآخر، ويختلفون عن بعضهم البعض بحيث يكمل الواحد منهم الآخر ويتممه.
أما المصادر التي استقى منها البشيرون الأربعة المعلومات التي ضمنوها في أناجيلهم في مصادر موثوق بها فقد كان متى ويوحنا رسولين اتباع يسوع ولذا فمعرفتهما بالحوادث التي سجلاها هي معرفة شخصية. أما مرقس فقد كان رفيقًا لبطرس، ولكنه لم يكن مجرد كاتِبًا لمذكراته. وقد ذكر بياس حوالي سنة 140 ميلادية أن مرقس ضمَّن في أنجيله ما وعظ به بطرس عن يسوع. ويحقق لنا لوقا نفسه بأنه استقى معلوماته من شهود عيان (لوقا1:1-4) لذا فإننا نجد في الأناجيل شهادة الرسل.
ويظن بعض العلماء أن إنجيل مرقس هو أول الأناجيل التي دونت، وأن متى ولوقا استخدما على وجه العموم نفس النقاط الرئيسية التي وضعها مرقس. وهنا فريق من النقاد، ويسمون “نقاد الشكل” يؤكدون أن مادة الأناجيل حفظت في أحاديث شفهية. وقد أشار غيرهم من العلماء إلى أساس أرامي يرى في خلال لغة الأناجيل اليونانية كما هي بين أيدينا، وأن هذه البقايا الأرامية في الأناجيل دليل على زمن كتابتها المبكر، ودليل أيضًا على صحتها وصدقها ولا سيما وأن المسيح كان يتكلم الأرامية في أحاديثه. وأخير أن وعد المسيح لتلاميذه ليؤيد صدق هذه الأناجيل وصحة رسوليتها. فقد قال “أما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” “(يوحنا26:14).
ولكن يصبح العهد الجديد خاصة الأناجيل مصدر تاريخي هام لمعلوماتنا عن القديسة مريم. لقد ظهر اسم مريم 19 مرة معظمهم في انجيل القديس لوقا (13 مرة)، و4 مرات في انجيل متى ومرة في انجيل مرقس ومرة في سفر الأعمال، ولم تظهر في انجيل يوحنا الا باسم “أم يسوع” خاصة في عرس قانا وعند الصليب.
القديس مرقس: يبدأ حياة يسوع بعماده ويهمل سني طفولته وحداثتـه ولا يذكر مريم إلاّ عرضـا(مرقس31:3-35).
القديس متى: وضع كتابـه لليهود وأراد أن يثبت لهم ان يسوع هو الـمسيح الـمنتظر، وقد أورد أكثـر من 100 نبؤة من العهد القديم. ولـم يسرد من حياة مريم إلاّ ما يعتبـره متمما للنبؤات القديمة عن يسوع وأمـه.
القديس لوقـا: انـه يؤكد لنـا انـه مؤرخ وبّحـاثـة وقد قدم عن مريم تفاصيل عديدة لـم تذكر فى الأناجيل الثلاث الأخرى، فهو يصف لنا البشارة وزيارة أليصابات والسفر الى بيت لحم وتقدمة يسوع فى الهيكل وإفتقاده ثلاثة أيام. ولكن كانت الغايـة التى يكتب عنها لوقا إنجيله هو الخلاص الذى استحقـه العالـم بـموت الـمسيح. وقد أجمع علماء الكتاب أن الـمصدر الذى إستقى
منه لوقـا الـمعلومات عن البشارة والزيارة والتقدمـة هـى مريـم العذراء نفسهـا.
أمـا القديس يوحنـا: فإنـه يكتب إنجيلـه ليقدم الـمسيح بألوهيتـه ومن أجل هذا ركز كتاباتـه من أجل
هذه الغايـة. ولكنه ذكر كلمات السيد الـمسيح لـمريم فـى عرس قانا الجليل وعند الصليب.
- صورة مريم كما رواهـا القديس متى
وضع القديس متى كتابـه لليهود وأراد أن يثبت لهم ان يسوع هو الـمسيح الـمنتظر، وقد أورد
أكثـر من 100 نبؤة من العهد القديم ليؤكد صحة مجئ الـمسيّا. ولقد رسم في كتابـه صورة ميلاد
الـمسيّا ورسالتـه وأسرار الفِصح الجديد، ولـم يسرد من حياة مريم إلاّ ما يعتبـره متمما للنبؤات
القديمة عن يسوع وأمـه، فهى تـمثل وعد اللـه للبشر لأنـهـا آمنت مثل إبراهيـم بوعد اللـه بالخلاص.
- سلسلة الـمسيّا يسوع الـمسيح (متى1:17-17)
وفيـه يُذكر سلسلة النسب”كتاب ميلاد يسوع الـمسيح إبن داود…” وينتهى بهذه العبارة”مريـم
الـمولود منها يسوع”.
- طريقـة ميلاد يسوع الـمسيح (متى18:1-25)
“أمـا مولد الـمسيح فكان هكذا. لـّما خُطبت مريم أمـّه ليوسف وُجدت من قبل أن يجتمعا حُبلى
من الروح القدّس. وإذ كان يوسف رجلها صِدّيقاً ولم يرِد أن يُشهرها همّ بتخليتهـا سراً. وفيما هو متفكّر فى ذلك إذا بـملاك الرب ترآءى له فى الحلم قائلاً يايوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم فإن الـمولود فيهـا إنـما هو من الروح القدّس وستلد ابنـاً فتسّـميه يسوع لأنـه هو الذى يُخلّص شعبه من خطاياهم. وكان هذا كلّه ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل ها إنّ العذراء تحبل وتلِد ابنـاً ويُدعى عـمّانوئيل الذى تفسيره الله معنـا. فلما نهذ يوسف من النوم صنع كما أمره ملاك الرب فأخذ امرأتـه ولم يعرفها حتى ولدت إبنـها البِكر وسمّاه يسوع”.
- زيارة الـمجوس (متى1:2-12).
- الهروب الى ارض مصر (متى13:2-18).
- عودة العائلة الـمقدسة الى الناصرة (متى19:2-23).
- مريـم ومن عُرفوا بإخوة يسوع(متى46:12-50)
- يسوع يزور بلدتـه الناصرة (متى54:13-58)
“وجاء الى وطنه وكان يعلم فى مجامعهم حتى بهتوا وقالوا من أين له هذه الحكمة والقوات.
أليس هذا هو ابن النجّار. أليست أمـه تُسمّى مريم وإخوتـه يعقوب ويُوسي وسِمعان ويهوذا. أوليست أخواتـه كلهـن عندنا فـمن أين له هذا كله….”.
2. صورة مريم كما رواهـا القديس مرقس فى الإنجيل بحسب القديس مرقس نجد صورة الأم اليهوديـة التى تهتم بإبنهـا – مريم ومن عُرفوا بإخوة يسوع (مرقس31:3-35)
- ابـن مريـم (مرقس1:6-6) “أليس هذا هو النجار ابن مريم….”.
3. صورة مريم كما رواهـا القديس لوقـا
ان الإنجيل حسب القديس لوقـا وسفر أعـمال الرسل يعطينـا صورة أساسيـة لأساس دراسة شخصيـة مريم العذراء (العِلم الـمريمي)، وهو يرتكز فى كل جوانبـه على الـمسيح وضرورة الإيـمان بـه. والعذراء مريـم هـى أول من آمـن بالـمسيح فهى كانت معـه من وقت ميلاده فى أحشائهـا، وعند مولده، ووقت طفولتـه، وحتى وقت بلوغه لفترة خدمته العلنيـة. وإستمرت على إيـمانهـا هذا حتى موتـه على الصليب وبعد قيامتـه من بين الأموات وصعوده الى السماء وتحقيق وعده بإرسال الروح القدس، وهى بهذا تكون الشخص الوحيد الذى كان لـه مثل هذه
العلاقـة الوثيقـة بيسوع فى كل مراحل حياتـه وحياة كنيسـته.
- البشارة (لوقا26:1-38)
- زيارة مريم للقديسة أليصابات(لوقا39:1-45)
- أنشودة التعظيم:نشيد فرح العذراء وتسبحتها للرب(لوقا46:1-56)
- ميلاد يسوع (لوقا1:2-7)
- الرعـاة والـملائكـة (لوقا8:2-20)
- تسمية يسوع وتقديمه فى الهيكل(لوقا21:2-40)
- يسوع الصبي فى الهيكل (لوقا41:2-52)
- أقربـاء يسوع الحقيقيون (لوقا19:8-21)
“وأقبلت إليـه أمـّه وإخوتـه فلم يقدروا على الوصول إليـه لأجل الجمع. فأُخبر وقيل له إنّ أمّك
وإخوتك واقفون خارجاً يريدون أن يروك. فأجاب وقال لهم أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة
الله ويعملون بهـا”.
- التطويب الحقيقي (لوقا27:11-28)
“وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة من الجمع صوتها وقالت طوبى للبطن الذى حملك وللثديين اللّذين رضعتهما.فقال بل طوبى لـمن يسمع كلمة الله ويحفظهـا”.
- ما بعد الصعود (اعمال الرسل12:1-14)
“حينئذ رجعوا الى أورشليم من الجبل المدعو جبل الزيتون الذى هو بقرب أورشليم على مسافة
سفر سبت. ولـمّا دخلوا صعدوا إلـى العلّيـة التى كانوا مقيمين فيها بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلبس وتوما ومتى ويعقوب بن حلفى وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب. هؤلاء كلهم كانوا مواظبين على الصلاة بنفس واحدة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوتـه”.
4.صورة مريم كما رواهـا القديس يوحنـا
يعطينـا الإنجيل بحسب القديس يوحـنا إثباتات عن بعض الأحداث التاريخيـة فى حياة يسوع ومن
تبعـه وعن أسرتـه، وهو يعكس فى صورة أساسية يسوع الـمخلّص إبن الله الذى تجسد من أجل أن
يعطى الإنسان الحياة الأبديـة.
- ولادة كلمة الله (يوحنا13:1-14)
“الذين لا من دم ولا من مشيئة لحم ولا من مشيئة رجل لكن من الله ولدوا من الله. والكلمة صار جسداً وحلّ فينـا وقد أبصرنا مجده مجد وحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقاً”.
- يسوع فى عرس قانا الجليل وشفاعة مريم (يوحنا1:2-12) “….وبعد هذا انحدر الى كفر ناحوم هو وامه واخوته وتلاميذه”.
- يسوع ابن يوسف (يوحنا42:6)”وقالوا اليس هذا هو يسوع بن يوسف الذى نحن نعرف اباه وامه فكيف هذ يقول إنّي نزلت من السماء”.
- عدم إيمان اخوة يسوع بـه (يوحنا3:7-5)
- إنقسام ما بين الجمع عن أصل الـمسيّا (يوحنا41:7-43) و(يوحنا41:8).
- مريم والتلميذ الذى كان يحبه يسوع تحت أقدام الصليب (يوحنا25:19-28).
5.صورة مريـم كما عكسهـا بولس الرسول فى رسائله
يوجد حوالى ثمان مواضع يـمكن أن تتصل بـمريم لو تم قراءتها تحت ضوء أن رسائل القديس بولس كلهـا تتركز على شخص الـمسيح حتى انه جاء تعبير “فى الـمسيح” فى 154 موضع. فتبشير القديس بولس بإنجيل يسوع المسيح تعكس فى جميع صورهـا الـمخلّص الذى كل من آمن بـه ينال الـموعد بالخيرات الأبديـة.
الرسالة الى اهل غلاطية19:1و4:4-5و28:4-29 والتى تمت كتابتها فى حوالي عام 54-55 بعد الـميلاد
- “ولم أرى غيره من الرسل سوى يعقوب اخي الرب”
- فلما بلغ ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني”.
- – “فنحن ايها الإخوة أبناء الـموعد مثل اسحق….”.
الرسالة الثانية لأهل كورنثوس والتى تم كتابتها فى خريف عام57 بعد الميلاد “اذ كان قد مات
واحد عن الجميع فالجميع إذن ماتوا وانما مات المسيح عن الجميع لكي لا يحيا الأحياء
لأنفسهم فيما بعد بل للذى مات وقام لأجلهم”(2كورنثوس14:5-17).
الرسالة الى اهل رومية والتى تم كتابتها فى عام 58 ميلادية “عن ابنه الذى صار من ذرية داود بحسب الجسد الذى حُدد ان يكون ابن الله بالقوة بحسب روح القداسة بالقيامة من بين الأموات وهو يسوع المسيح ربنـا”(رومية3:1-4).
الرسالة الى اهل فيليبـي والتى تم كتابتها حوالي 61-63 ميلادية “الذى إذ هو فى صورة الله لم يكن يعتد مساواته لله اختلاساً لكنه أخلى ذاتـه آخذاً صورة عبد صائراص فى شبه البشر وموجودا كبشر فى الهيئة.فوضع نفسه وصار يطيع حتى الموت موت الصليب”(فيليبي6:2-8).
6.صورة مريـم كما رأهـا سفر الرؤيـا
- تابوت عهد الله(رؤيا15:11-19)
“ونفخ الملاك السابع فى بوقـه…وانفتح هيكل الله وظهر تابوت عهده فى هيكله وحدثت بروق
واصوات ورعود وزلزلة وبرَد عظيم”.
- الـمرأة الـملتحفـة بالشمس(رؤيا1:12)
“وظهرت فى السماء آيـة عظيمة امرأة ملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها إكليل
من الإثني عشر كوكباً”.
- الـمرأة والتنيـن (رؤيا 2:12-18)
فى التقليد الكنسي يرى بعض مفسروا الكتاب المقدس فى تلك المرأة رمزاً للكنيسة، وآخرون رمزاً لـمريم العذراء، أم الـمسيّا.
ويرى آخرون فى هذا الـمشهد الرؤي صورة العذراء المتوجة ملكة بالمسيح راسها فهو ملكها
وتاجها وهو شمس البر التى تشرق والشفاء فى اجنحتها (ملاخى12:4) كما ان القمر يشير الى الكنيسة جسد المسيح والعذراء هنا تربط بشفاعتها القوية ودالتها بين المسيح وكنيسته.
ويرى آخرون انه اذا توسطت الكرة الارضية بين الشمس والقمر يحدث خسوف القمر فاذا كان العالم هو الذى يربط او يفصل بين المسيح وكنيسته خسف نور الكنيسة وخبأ ضوءها ولكن ملوكية الملكة العذراء نرى آية عظيمة ومشهدا رائعا يضمن للكنيسة بقاء نور المسيح مشعا فيها. وفى ملوكية العذراء نجد ابوة الرسل الاثنى عشر الذين وجه عنهم داود النبي اليها الكلام قائلا “عوضا عن ابائك اسباط وكهنة العهد القديم يكون بنوك (رسل وكهنة العهد الجديد) هؤلاء هم الاثنى عشر كوكبا الذين يمثلون اكليل الملكة العذراء.
ملخص بما جاء عن مريم العذراء في نصوص العهد الجديد
حسب إنجيل القديس متى:
– مريم في نسب يسوع 1:1 – 17
– مريم في خدمة الله 1: 18 – 25
– الطفل يسوع وأمه 1:1 – 23
حسب إنجيل القديس مرقس:
– أقرباء يسوع يبحثون عنه 3: 31 – 35
– يسوع يعود إلى الناصرة 6: 1 – 6
حسب إنجيل القديس لوقا:
– دعوة مريم: 1: 26 – 38
– مريم في الناصرة 1: 26 – 27
– الله ومريم 1: 28 – 29
– أم المسيح 1: 30 – 34
-خادمة الله 1: 35 – 38
– لقاء مريم وإليصابات: 1: 39 – 45
مريم وإليصابات 1: 39 – 41
مريم المباركة من الله 1: 42 – 44
مريم المليئة بالإيمان والطوبى 1: 45
– مريم تُمجّد عظمَة الله: 1: 46 – 55
مريم تمجّد الله 1: 46 – 49
مريم والله القدوس 1: 49 – 53
مريم وإبراهيم 1:، 54 – 55
مريم في بيت لحم 2: 1 – 20
مريم مع طفلها في الهيكل 2: 21 – 40
مريم وابنها في عمر الثانية عشرة 2: 41 – 52
مريم والحياة العلنية ليسوع 8: 19 – 21؛ 11: 27- 28
حسب إنجيل القديس يوحنا:
– أم يسوع في قانا 2: 1 – 12
– أم يسوع تحت الصليب 19: 25 – 27
حسب الكتابات الأخرى في العهد الجديد:
– مريم في الكنيسة الناشئة أعمال 1: 14
– والدة إبن الله غلاطية 4: 4 – 5
– مريم، العلامة في السماء رؤ 12: 1 – 16
مريم في كتب الأبوكريفا
كلمة “ابوكريفا” كلمة يونانية معناها “مخفي” أو “مُخبأ” أو “سري”. وقد وردت في سفر دانيال في الترجمة السبعينية (وهي ترجمة يونانية للعهد القديم) في(دانيال43:11) للتعبير عن الكنوز المخفية. كما وردت في (دانيال19:2) للدلالة على معرفة الأسرار المخفية عن علم البشر وقد
وردت الكلمة في اليونانية في العهد الجديد ثلاث مرات(مرقس22:4) “لأنه ليس خفي لا يظهر”
و(لوقا 8: 17؛ كولوسي 2: 3) “المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم”.
لقد جاءت المؤلفات الأبوكريفا التي لم تعترف بها السلطة الكنسية والتي كانت أساسا مهتمة بالدفاع عن حبل القديسة مريم البتولي. المستند البدائي لكي يؤكدوا ذلك كان الكتاب الشهير المعروف بانجيل مريم المكتوب في بداية القرن الثاني الميلادي وفيما بعد اطلق عليه لقب
“Protoevangelium of James[10]. وتبع ذلك الكتاب كتب أخرى تم تاليفها فسميت
بـ”الكتابات المزيفة” او الابوكريفا والتي سميت هكذا لأنها تنسب إلى كتَّاب لا يمكن أن يكونوا قد كتبوها حقيقة من الرسل وتلاميذ المسيح. مثال لتلك الكتابات كتاب قبطي عن تاريخ يوسف النجار(كتب في القرن الخامس الميلادي ويحاول شرح طفولة المسيح خاصة في سن الثانية عشرة كما جاءت في إنجيل الطفولة ليعقوب) والذي يظهر يوسف كرجل عمره 91 عاما عند ارتباطه بمريم – ومعه احفاد كانوا اكبر من خطيبته مريم.
ان هذه الكتب الأبوكريفية فقد رفضتها الكنيسة لسببين:
(1) أنه لا يمكن أن يكون قد أوحي لكُتَّاب ممن عاشوا بعد عهد الرسل بحوالي 100 سنة، فقد كتب أقدمها حوالي سنة 150م، وكتبت جميعها فيما بين 150 و450م.
(2) لا يمكن أن يعتبر أي كتاب قانونيًا إلا إذا كان قد تم تسليمه من الرسل أنفسهم، وكانت قد قبلته كل الكنائس من الرسل وليس من غيرهم. وهذه الكتب الأبوكريفية كتبت، في معظمها، بعد انتقال الرسل من العالم بحوالي مئة سنة، ومن هنا أطلق عليها “أبوكريفا”، أي المزيفة لأنها نبعت أساسًا من قلب المذاهب الهرطوقية مثل الغنوسيين، وكان هؤلاء متمسكين بها ومعترفين أنها خرجت من دوائرهم، لذا لم تحظ قط بالقبول لدى كل الكنائس، في الشرق أو الغرب.
هناك عدة عوامل أدت إلى كتابة وظهور هذه الكتب الأبوكريفية من أهمها محاولة العامة والبسطاء من المؤمنين إشباع رغيتهم ولهفتهم لمعرفة تفاصيل الأحداث التي ذكرت في أسفار العهد الجديد بصورة موجزة؛ مثل تفاصيل أحداث ميلاد المسيح ورحلة الهرب إلى مصر وطفولته والتأكيد على لاهوته من خلال معجزات تبين مقدرته على كل شيء. بل ومحاولة البعض الدفاع عن عقائد مسيحية هاجمها اليهود مثل بتولية العذراء القديسة مريم وحبلها بالمسيح بالروح القدس، ودوام بتوليتها بعد ميلادها للمسيح، واتهام اليهود للمسيح بأنه ابن زنا. بل ومحاولة معرفة تاريخ العذراء نفسها وكيفية ولادتها وتربيتها كالممتلئة نعمة قبل بشارة الملاك لها وحبلها بالمسيح. ومثل محاولة شرح موقف بيلاطس من المسيح، وإيجاد معجزات للمسيح وقت محاكمته لتبرر كونه ابن الله، ومحاولة شرح موقف كل من نيقوديموس ويوسف الرامي بعد الصلب والقيامة، خاصة وأنهما كانا من تلاميذ المسيح الخفيين، وموقف اليهود مما فعلاه أثناء دفن المسيح، فنيقوديموس وضع على جسد المسيح عودا ومرًا ثمنهما غالي جدًا، ويوسف الرامي دفنه في قبره الجديد الذي لم يكن قد وضع فيه أحد بعد. ومحاولة إيجاد تبرير لموقف كل من اللصين اللذين صلبا مع المسيح. وكذلك أيضا موقف اليهود من قيامة المسيح بصورة أكثر تفصيلا مما جاء في الإنجيل القانوني بأوجهه الأربعة.
وكذلك ظهور الكتابات الدفاعية المسيحية التي دافعت عن العقائد المسيحية ضد اليهود والوثنيين والهراطقة من أبيونيين وغنوسيين وغيرهم. وبالتالي ظهور كتب تدافع عن نفس الأفكار ونسبتها لأشخاص لهم مكانتهم في الأحداث التي حدثت في الكنيسة الأولى، مثل إنجيل نيقوديموس أو أعمال بيلاطس.ويبلغ عدد هذه الأناجيل، نحو خمسين، ولكن لا يوجد في الكثير منها سوى أجزاء صغيرة أو شذرات متفرقة، ويوجد البعض منها مكتملًا أو ما يشبه ذلك. ولعل عددها قد تضخم نتيجة إطلاق أسماء مختلفة على المؤلف الواحد.
وقائمة تلك الكتب تتضمن الاتي:
+ الكتب المسماة بأناجيل الطفولة ( إنجيل الطفولة ليعقوب، إنجيل يعقوب الأولي– إنجيل الطفولة لتوما– إنجيل الطفولة المنحول باسم متى– حياة يوحنا المعمدان– تاريخ يوسف النجار– إنجيل الطفولة العربي(
+الكتب المسماة بالأناجيل المسيحية ذات الصبغة اليهودية ( انجيل العبرانيين- انجيل الابيونيين- انجيل الناصريين)، الكتب المسماة بالأناجيل الغنوسية والمانية(انجيل كيرنثوس- إنجيل باسيليدس- إنجيل مركيون- إنجيل أبيليس = إنجيل ماني)
+الكتب المسماة بأناجيل الأقوال والأخلاقيات (إنجيل توما– إنجيل المصريين اليوناني)، والكتب المسماة بأناجيل الآلام ( إنجيل بطرس – إنجيل نيقوديموس | أعمال بيلاطس– إنجيل برثولماوس –أسئلة برثلماوس.
والخلاصة أن هذه الكتب قد كتبت، في الأصل، لتأييد هرطقة من الهرطقات والادعاء بأن
تعليمها رسولي، أو لتفصيل الأناجيل القانونية بإضافة إضافات أسطورية لإعطاء أهمية لبعض المفاهيم التي سادت بعض الدوائر الهرطوقية ولنشر وتأكيد أفكار هذه البدع. ان تلك الرويات تم استبعادها باعتبارها خيالات حتى ولو كتبت بحسن نية وخضعت للكثير من الفحص من آباء الكنيسة في ذلك الوقت وتبين ان ليس لها أي أساس من الصحة، وفي الحقيقة القديس جيروم والقديس توماس الاكويني استنكروها وشجبوها بعبارات اقوى وآدلة دامغة.
أن هذه الكتب، الأبوكريفية، لم تناقش في أي مجمع من مجامع القرون الخمسة الأولى، سواء المكانية أو المسكونية، ولم تختلط في يوم من الأيام بأسفار العهد الجديد السبعة وعشرين، القانونية والموحى بها، لأنها لم تكتب لا في زمن تلاميذ المسيح ورسله الذين رحلوا عن هذا العالم فيما بين سنة 65م و100م وكان أخرهم هو القديس يوحنا، ولا في زمن تلاميذهم المباشرين أو خلفائهم الذين رحلوا عن العالم في أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني. فقد دونت الأسفار الـ22 الأولى من الأسفار القانونية الموحى بها، فيما بين سنة 50م و70م، ودونت بقيتها، كتابات القديس يوحنا، فيما بين سنة 75 م. و95 م. في حين أن هذه الكتب الأبوكريفية كتبت فيما بين سنة 150م و450م وما بعد ذلك بكثير!
فكرة عن الإنجيل الأوَّلي ليعقوب: [11]Protoevangelium of James
هذا الكتاب له عدة أسماء مذكورة على عدد من المخطوطات اليونانية والسريانية، فيذكر اسمه في أقدم مخطوطة له (Papyrus Bodmer V) بـ”ميلاد مريم”، وسمي بـ”تاريخ يعقوب”، و”رواية يعقوب”، أو حتى بدون ذكر لاسم يعقوب في الكثير من المخطوطات. وكان أول من أطلق عليه اسم “الإنجيل الأوَّلي” هو الراهب اليسوعي الفرنسي جوليّوم بوستيل (Guillaume postel) الذي ترجمه إلى اللاتينية سنة 1552م. وله أسم أخر في الترجمة السريانية هو: “تاريخ يعقوب عن مولد كلية القداسة ودائمة البتولية والدة الله وابنها يسوع المسيح“. ويشير إليه أوريجانوس بـ”كتاب يعقوب”. وقد ذكر في مرسوم البابا جلاسيوس الذي استبعده من دائرة الأسفار القانونية، ووصفه الأبوكريفي، باسم “إنجيل يعقوب الصغير الأبوكريفي”.
كما سمي بـ”الأوَّلي” أو “التمهيدي” لأنه يذكر أحداث تختص بكيفية الحبل بالعذراء القديسة مريم وميلادها وكذلك بأحداث تختص بميلاد الرب يسوع المسيح وطفولته لم تذكر في الأناجيل القانونية خاصة الإنجيل للقديس متى والإنجيل للقديس لوقا.
ومؤلفه يظن أنه يعقوب أخو الرب. وكلمة الإنجيل الأوَّلي -وهو عنوان رائع يفترض الكثير
ويوحى بالكثير- أطلقه على هذه الوثيقة بوستلوس، وهو رجل فرنسي كان أول من نشره في اللاتينية 1552. وله أسماء مختلفة في المخطوطات اليونانية والسريانية، مثل: ” تاريخ يعقوب عن مولد كلية القداسة ودائمة البتولية والدة الله وابنها يسوع المسيح ” أما في مرسوم البابا جلاسيوس الذي يستبعده من دائرة الأسفار القانونية، فيسمى ” إنجيل يعقوب الصغير الأبوكريفي “. وجاء في هذا الانجيل وتغطي أصحاحاته الخمسة والعشرون ما يلي:
الفصل الأول: لا يحق لك أن تقدم قربانك، لأنك لم تنجب ذرية في إسرائيل: نقرأ في سجلات أسباط إسرائيل الاثنى عشر أن يواقيم كان غنيًّا جدًا ويقدَّم لله قرابين مضاعفة، قائلا في قلبه: “لتكن خيراتي للشعب كلّه، من أجل مغفرة خطاياي لدى الله، ليُشفق الربّ عليَّ”. وحلَّ عيد الربّ الكبير وكان أبناء إسرائيل يأتون بقرابينهم، فاحتجَّ راؤبين على يواقيم، قائلاَّ: “لا يحق لك أن تقدم قربانك، لأنك لم تنجب ذرية في إسرائيل“.
فاستولى على يواقيم حزن عظيم، ومضى يراجع سلاسل انساب الأسباط الاثني عشر، قائلًا في سرَّه: “سوف أرى إنْ كنت الوحيد في أسباط إسرائيل الذي لم ينجب ذرية في إسرائيل“. وبتفحُّص سجلات الماضي، رأى أن الأبرار كلهم أنجبوا ذرية، لأنه تذكَّر إبراهيم الأب الذي رزقه الله، في أيامه الأخيرة، إسحق ابنًا فأغتم يواقيم لذلك ولم يشأ الظهور ثانية أمام امرأته؛ فمضى إلى الصحراء، ونصب فيها خيمته، وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة، قائلا في قلبه: “لن أتناول طعامًا ولا شرابًا؛ وصلاتي ستكون طعامي الوحيد”.
الفصل الثاني: حزن حنة بسبب عدم إنجابها لذرية: وكانت امرأته حنة تعاني حزنًا مضاعفًا،
وكانت فريسة ألم مضاعف، وقائلة: “أنني ارثي لترملي وعقمي”. إلا أن عيد الربّ الكبير حلّ، فقالت يهوديت خادمة حنة، لها: “إلى متى تستسلمين للحزن؟ ليس مسموحًا لك بالبكاء، لأننا في العيد الكبير.
خذي إذًا هذا الرداء وزيَّني رأسك. فأنا خادمتك، وأما أنت فسوف تشبهين ملكة”. فأجابت حنة: “ابتعدي عنى، لا أريد أن أفعل شيئًا من ذلك. إن الله أذلَّني بشدة. أخشى أن يعاقبني الله بسبب خطيئتك”. فأجابت الخادمة يهوديت: “ماذا أقول لك، ما دمت لا تريدين سماع صوتي؟ أن الله أغلق بحقًّ بطنك لئلا تُرزقي طفلًا لإسرائيل”. وحزنت حنة جدًا وخلعت ثياب حدادها؛ وزيَّنت رأسها وارتدت ملابس عرس. ونزلت، نحو الساعة التاسعة، إلى الحديقة لتتنزَّه، وإذ رأت شجرة الغار، جلست تحتها، ووجَّهت صلواتها إلى الربّ، قائلة: “يا إله آبائي، باركني واستجبْ صلاتي، كما باركت أحشاء سارة ورزقتها إسحق ابنًا”.
الفصل الثالث: حنة ترثي نفسها لعدم إنجابها: ورأت على شجرة الغار، وهى ترفع عينَيها إلى السماء، عشَّا للعصافير، فأنشدت مرثاة لنفسها قائلة: “وا أسفاه! بماذا يمكنني أن أقارن؟ لمَنْ أدين بالحياة لأكون ملعونة هكذا في حضور أبناء إسرائيل؟ أنهم يسخرون منى ويحقَّرونني وقد طردوني من هيكل الربّ. وا أسفاه! بمن أُشبه؟ أيمكنني أن أُقارن بطيور السماء؟ لكن الطيور مثمرة أمامك، يا رب. أيمكنني أن أُقارَن بحيوانات الأرض؟ لكنها مثمرة أمامك يا ربّ. لا، لا يمكنني أن أُقارن بالبحر، لأنه مسكون بأسماك، ولا بالأرض، لأنها تعطى ثمارًا في أوانها، وتبارك الربّ”.
الفصل الرابع: بشارة الملاك لحنة ويواقيم بإنجاب نسل: وإذا بملاك الربّ قد ظهر لها وقال: “يا حنة، أن الله سمع صلاتك؛ سوف تحبلين وتلدين، ونسلك يحكىً عنه في العالم كله”. فقالت حنة: “حي هو الرب، إلهي؛ سواء كان من ألده ذكرًا أم أنثى فسوف أُقدمه للربّ، وسوف يكرَّس حياته للخدمة ألإلهية”. وإذا بملاكَين أتيا، قائلين لها: “هوذا، يواقيم، زوجك، يصل مع قطعانه”. ونزل ملاك الربّ نحوه، قائلًا: “يا يواقيم، يا يواقيم، أن الله سمع صلاتك، وستحبل امرأتك حنة”. ونزل يواقيم ونادى رعاته، قائلًا: “أحضروا لي هنا عشر نعاج سليمة وبلا عيب، وسأنذرها للربّ إلهي. وأحضروا لي اثني عشر عجلًا بلا عيب، وسوف أقدّمها للكهنة وشيوخ بيت إسرائيل، وائتوني بمئة كبش، وهذه الكباش كلّها ستكون للشعب كلّه”. وإذا بيواقيم آتٍ مع قطعانه، وكانت حنة عند باب منزلها، فلمحت يواقيم آتيًا مع قطعانه؛ فركضت وارتمت على عنقه، قائلةً: “اعلم الآن أن الرب إلهي باركني، لأنني كنت أرملة ولم أعُدْ كذلك؛ وكنت عاقرًا وحبلت”. وارتاح
يواقيم في اليوم نفسه في منزله.
الفصل الخامس: حنة تحبل وتلد: وفي الغد، قدَّم يواقيم قرابينه وقال في نفسه: “إذا كان الربّ قد باركني، فلتكن لي علامة ظاهرة على عصابة جبين رئيس الكهنة”. وقدَّم يواقيم تقدماته، ونظر إلى العصابة، حين صعد إلى مذبح الرب، ولم يرَ خطيئة فيه. فقال يواقيم: “اعلم الآن أن الربّ استجابني وغفر لي كلّ خطاياي”. ونزل مبررًا من بيت الربّ وأقبل إلى منزله. وحبلت حنة، وفي الشهر التاسع ولدت وقالت لقابلتها: “ماذا ولدت؟” فأجابت الأخرى: “بنتًا”. فقالت حنة: “نفسي ابتهجت هذه الساعة”. وأرضعت حنة طفلتها وأسمتها مريم.
الفصل السادس: وليمة الفرح بميلاد مريم وتقديمها للهيكل: ونمت الطفلة من يوم إلى يوم. وعندما بلغت من العمر ستة أشهر، وضعتها أُمها أرضًا لترى إنْ كانت ستقف. فسارت سبع خطوات وجاءت ترتمي في ذراعَي أُمها. فقالت حنة: “ليحَي الربّ إلهي؛ لن تسيري على الأرض حتى أُقدَّمك في هيكل الربّ”. وصنعت محرابا في حجرة نومها، وكانت تبعد عنها كلّ ما كان مُنَجَّسًا.
وأحضرت بناتًا عبرانيات بلا عيب للاعتناء بالطفلة. وعندما أتمَّت عامها الأول، أقام يواقيم وليمة كبرى، ودعا الكهنة والكتبة ومجلس الشيوخ كلَه وكلَ شعب إسرائيل. وأحضر الطفلة للكهنة، فباركوها قائلين: “يا إله آبائنا، بارك هذه الطفلة وأعطها اسمًا يُعظَّم في كلّ الأجيال”. وقال الشعب كلّه: “آمين، ليكن كذلك”. وقدَّمها أبواها للكهنة فباركوها، قائلين: “يا إله المجد، تطلع لهذه الطفلة وامنحها بركةً لا تعرف أي انقطاع”. وحملتها أُمها وأرضعتها، وأنشدت للرب الإله، قائلةً: “سأنشد مدائح الربّ إلهي، لأنه تطلع إليّ وخلَّصني من تعييرات أعدائي. وأعطاني الربّ إلهي ثمرة عدل مضاعفة في حضرته. مَنْ يُعلن لأبناء رأوبين أن لحنة طفلًا؟ اسمعي كلّك، يا أسباط إسرائيل الاثني عشر، اعلمي أن حنة تُرضع”. ووضعت الطفلة في المكان الذي طهَّرته، وخرجت، وخدمت المدعوين، وحين انتهت الوليمة وهم في ملء السعادة يمجدون
إله إسرائيل.
الفصل السابع: مريم تدخل الهيكل: عندما بلغت مريم الثانية من عمرها، قال يواقيم لحنة، زوجته: “لنقُدْها إلى هيكل الله، ولنتمَّم النذر الذي نذرناه، لئلا يغضب الله ولا يقبل تقدماتنا”. فقالت حنة: “لننتظر العام الثالث، خوفًا من أن تعاود إلى أبيها وأمها”. فقال يواقيم: “لننتظر”. وبلغت الطفلة عامها الثالث، فقال يواقيم: “نادوا عذارى العبرانيين اللواتي بلا عيب، وليحملن مصابيح ويُشعلْنها، وعلى الطفلة ألا تلتفت إلى الوراء وألا يبتعد ذهنها عن بيت الله”. وصنعت العذارى كما أمر به، ودخلن الهيكل. واستقبل الكاهن الطفلة وقبَّلها وقال: “يا مريم، أن الرب عظّم اسمك في جميع الأجيال، وفي آخر الأيام، سيُظهر الله فيك خلاص أبناء إسرائيل“. ووضعها على درجة المذبح الثالثة، فسكب الله نعمته عليها، فارتعشت فرحًا وهي ترقص برجليها وقد أحبها كلّ بيت إسرائيل.
الفصل الثامن: مريم تتلقّى طعامها من يد الملائكة: ونزل أبواها متعجبين، شاكرَين الله ومسبَّحين لأن الطفلة لم تلتفت إليهما. وكانت مريم في هيكل الربّ مثل اليمامة وكانت تتلقّى طعامها من يد الملائكة.
وعندما بلغت الثانية عشرة من عمرها، اجتمع الكهنة في هيكل الربّ وقالوا: “هوذا مريم قد بلغت عمر الاثني عشر عاما في الهيكل؛ فماذا سنفعل في شأنها، لئلا تمس قداسة هيكل الربّ إلهنا دنس ما؟”. وقال الكهنة لرئيس الكهنة: “أذْهَبْ وقف أمام هيكل الربّ وصلَّ من أجلها، وما يُظهرُه الله لك، نمتثل له”. فدخل رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس، وقد لبس رداءه الكهنوتي المزيَّن باثنى عشر جُرسًا، وصلى من أجل مريم. وإّذا بملاك الربّ يظهر له قائلًا: “يا زكريا، يا زكريا، أُخْرُجْ واستدع مَنْ هم أرامل وسط الشعب، وليأت كلّ واحد بعصى، ومَنْ يختاره الله بعلامة يكون الزوج الُمعطى لمريم ليحفظها”. وخرج المنادون في كل بلاد اليهودية، وبوق بوق الربّ وهرع الجميع.
الفصل التاسع: حمامة تخرج من عصا يوسف: وأتى يوسف كالآخرين، وقد تخلَّى عن فأسه، وإذ اجتمعوا، مضَوا نحو رئيس الكهنة، ومعهم عصيهم. فأخذ الكاهن عصا كلّ واحد، ودخل الهيكل وصلى وخرج بعد ذلك وأعاد إلى كلّ واحد عصاه التي جاء بها، فلم تظهر أي علامة؛ لكنه عندما أعاد إلى يوسف عصاه، خرجت منها حمامة، حطّت على رأس يوسف. فقال رئيس الكهنة ليوسف: “لقد اختيارك الله لتقبُّل عذراء الربّ هذه وتحفظها قربك”. فقَّدم يوسف اعتراضات قائلا: “لي أولاد وأنا شيخ، وهي فتاة صغيرة جدًا؛ وأخشى أن أكون عرضة للسخرية بالنسبة إلى أبناء إسرائيل“. فأجاب رئيس الكهنة يوسف: “خاف الربّ إلهك وتذكَّر كيف عاقب الله عصيان داثان، وأبيرام وقورح، وكيف انفتحت الأرض وابتلعتهم، لأنهم تجرأوا على اعتراض أوامر الله. خاف إذًا، يا يوسف أن يحصل كذلك لبيتك”. فتقبَّل يوسف مريم مرتعبًا وقال لها: “أنني أتقبَّلك من هيكل الربّ وأترك لك المسكن، وأذهب لأزاول مهنتي نجارًا وأعود إليك. وليحفظك الله كلّ
الأيام”.
الفصل العاشر: اختيار مريم لتغزل ستارة لهيكل الرب: وعُقد اجتماع للكهنة وقالوا: “لنصنع حجابًا (ستارة) أو بساطًا لهيكل الربّ”. فقال رئيس الكهنة: “أحضروا ليَّ عذارى سبط داود اللواتي بلا عيب”. وبحث المستشارون ووُجدوا سبعًا من تلك العذارى. ورأى رئيس الكهنة أمامه مريم التي كانت من سبط داود وكانت بلا عيب أمام الله. فقال: “اختاروا لي بالقرعة مَنْ تغزل خيط ذهب وناريّ وكتان رفيع وحرير وبرتقالي مُحْمَرّ وقرمزي”. وحصلت مريم بالقرعة على الأُرجوان الخالص والقرمز، وإذ تسلَّمتهما، ذهبت إلى بيتها. وفي الوقت نفسه، أصبح زكريا أبكم، وحلَّ صموئيل محلَّه. إلى وقت كلام زكريا ثانيةً. وأخذت مريم تغزل، وقد تسلَّمت الأرجوان والقرمز.
الفصل الحادي عشر: بشارة الملاك للعذراء بالحبل وميلاد ابن الله: ومضت بجرتها لتملأها
بماءَّ، فإذا بها تسمع صوتًا يقول: “السلام لك، يا مريم، يا ممتلئة نعمة، الربّ معك: مباركة أنت في النساء”. ونظرت مريم حولها يمينًا ويسارًا لتعرف من أين يأتي ذلك الصوت. وعادت إلى بيتها، وقد ارتجفت، ووضعت الجرَّة، وإذ تناولت الأُرجوان، جلست على مقعدها لتعمل. وإذا بملاك الربّ واقفا أمامها قائلا: “لا تخافي يا مريم؛ لأنك وجدت نعمة عند الربّ وها أنت ستحبلين حسب كلمته”. وكانت مريم تقول في نفسها، وقد سمعته: “هل أحبل من الله وأضع كما تلد الأُخريات؟” فقال لها ملاك الربّ: “لن يكون الأمر كذلك يا مريم، لأن قوة الله تظلَّلك، لذلك المولود منك قدوس ويُدعى ابن الله. وتُسمينه يسوع؛ لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وها أن نسيبتك أليصابات حبلت بابن في شيخوختها، والتي كانت تُدعى عاقرًا هي في شهرها السادس، فما من مستحيل على الله؟” فقالت له مريم: “إنني أمَة الربّ؛ ليكن لي بحسب كلامك”.
الفصل الثاني عشر: مريم تزور أَليصابات: وإذ أنهت الأرجوان والقرمز، حملتهما إلى رئيس
الكهنة. فباركها، وقال: “يا مريم، أن اسمك ممجَّد وستكونين مباركة في كلّ الأرض”. ومضت مريم، وقد شعرت بسرور عظيم، إلى أليصابات، نسيبتها، وقرعت بابها. فركضت أليصابات إلى بابها، لتفتح، وإذ لمحت مريم قالت: “من أين لي هذا أن تأتي أٌم ربى لزيارتي؟ لأن الذي بداخلي ارتكض وباركك”. وكانت الأسرار التي أعلنها رئيس الملائكة جبرائيل لمريم محجوبة عنها. وقالت، رافعةً عينيها إلى السماء: “مَنْ أنا إذًا لتدعوني كلّ الأجيال مغبوطة؟”. فمكثت ثلاثة أشهر عند أليصابات. وكانت بطنها تكبر يومًا فيومًا، ومن خوفها انزوت مريم في منزلها واختبأت عن أنظار بني إسرائيل. وكانت في السادسة عشرة من العمر عندما حدث ذلك.
الفصل الثالث عشر: شك يوسف في مريم بسبب حبلها: ولما كانت مريم في الشهر السادس من حبلها، عاد يوسف إلى البيت من عند مبانيه، فلاحظ وهو داخلّ البيت أن مريم حبلى، فانطرح أرضًا، وخفض رأسه، واستسلم لحزن عميق، قائلًا: “كيف أٌبرَّر نفسي أمام الله؟ كيف أٌصلى من أجل هذه البتول؟ لقد استلمتها عذراء من هيكل الربّ الإله، ولم أحفظها. مَنْ هو الذي ارتكب هذا الفعل الرديء في بيتي ومَنْ أغوى العذراء؟ ألَمْ تتجدَّد قصة آدم من أجلى؟ ففي وقت مجده، دخلت الحيَّة، ووجدت حواء وحيدة، وخدعتها؛ ولقد حدث لي الأمر نفسه حقًا”. ونهض يوسف من فوق الكيس الذي أنطرح عليه، وقال لمريم: “أنت التي كنت صاحبة قيمة فائقة في عيني الربّ، لماذا تصرفت على هذا النحو، ولماذا نسيت الربّ إلهك، لقد تربيت في قدس الأقداس؟ أو كنت تتلقّين الطعام من يد الملائكة، لمَاذا تخلَّيت عن واجباتك؟” وكانت مريم تبكى بمرارة شديدة، وأجابت: “أنا طاهرة، ولم أعرف رجلًا”. فقال لها يوسف: “ومن إذًا فكيف حبلت؟” فأجابت مريم: “حي هو الرب إلهي؛ أنني أٌشهدَّه على إنني لا أعلم كيف صار الأمر هكذا”.
الفصل الرابع عشر: الملاك يخبر يوسف بحقيقة حبل مريم: وقال يوسف في نفسه، وهو
مذهول: “ماذا أفعل بها؟” وقال: “إذا أخفيتُ خطيئتها، فسوف أُعتبر مذنبًا بحسب شريعة الربّ؛ وإذا اتهمتها علانية أمام بني إسرائيل، فأخشى أن يكون ما فيها من ملاك، وان أُسلَّم الدم البريء لحكم الموت؟ ماذا أفعل بها إذًا؟ أتركها سرًّا”. وكان منشغلًا بهذه الأفكار خلال الليل. وإذا بملاك الربّ يظهر له أثناء نومه، ويقول له: “لا تخف الاحتفاظ بهذه البتول؛ لأن الذي فيها هو من الروح القدس، فستلد أبنًا وتسميَّه أنت يسوع؛ لأنه يخلص شعبه من خطاياهم”. فنهض يوسف من النوم ومجَّد إله إسرائيل الذي أغدق نعمته عليه وحافظ عليها.
الفصل الخامس عشر: يوسف يتهم بأنه دنس مريم: وجاء حنان الكاتب إلى يوسف وقال له:
“لمَ لم تأت إلى اجتماعنا؟” فأجابه يوسف: “كنت متعبًا من رحلتي التي قطعتها، وأردت أن أرتاح في اليوم الأول”. وإذ التفت الكاتب، رأى مريم حبلى، فمضى مسرعًا نحو رئيس الكهنة، وقال له: “إن يوسف، الذي تثق به، اخطأ في شكل خطير”. فقال رئيس الكهنة: “ماذا فعل؟” فأجاب الكاتب: “لقد دنَّس العذراء التي استلمها من هيكل الربّ، وتزوجها سرًا، واختبأ من أبناء إسرائيل“. فأجاب رئيس الكهنة: “هل فعل يوسف ذلك؟ هل أرَتكب هذه الجريمة؟” فقال الكاتب حنانيا: “أرسلْ كهنة، وسوف يرَون أن مريم حبلى”. ومضى الكهنة، ووجدوا صدق قول الكاتب. فقادوا مريم ويوسف ليُحاكما، وقال رئيس الكهنة: “يا مريم، كيف تصرَّفت هكذا، ولمَ خسرت نفسك، أنت التي ربيت في قدس الأقداس، وتلقَّيت الطعام من يد الملائكة، وسمعت أسرار الربّ واغتبطت في حضرته؟” وكانت تبكى بمرارة كبيرة، وأجابت: “حي هو الربّ إلهي، إنني طاهرة في حضرة الربّ، ولم أعرف رجلًا”. فقال رئيس الكهنة ليوسف: “لماذاَ تصرَّفت هكذا؟” فقال يوسف: “حي هو الربّ الإله وحي هو مسيحه؛ أنني أشهدَّها على إنني طاهر من كلّ علاقة بها”. وأجاب رئيس الكهنة: “لا تُدْل بشهادة زور، بل قُل الحقيقة؛ لقد تزوَّجتها سرًّا وأخفيتها عن أبناء إسرائيل، ولم تحن رأسك تحت يد العلىّ القدير، ليكون نسلك مباركًا”.
الفصل السادس عشر: امتحان يوسف ومريم وبراءة مريم: وقال رئيس الكهنة أيضًا: “أعدْ هذه العذراء التي تسلّمتها من هيكل الربّ”. وكان يوسف يذرف دموعًا كثيرة، فقال له رئيس الكهنة: “سوف أسقيك ماء إدانة الربّ، وسوف تظهر خطيئتك أمام عينيك”. واخذ رئيس الكهنة الماء وسقى منه يوسف، ثم أرسله إلى الأماكن العالية، فعاد يوسف منها في صحة تامة. وشربت مريم منه أيضًا، ومضت إلى الجبال، وعادت من دون أن تعانى أيّ ألم. وصُعقَ الشعب كله دهشةً من عدم ظهور خطيئة فيهما. وقال رئيس الكهنة: “أن الله لم يُظهر خطيئتكما، وأنا لن أدينكما”. وصرفهما مغفورًا لهما. وأخذ يوسف مريم، وأعادها إلى بيته، بفرح
وهو يمجد إله إسرائيل.
الفصل السابع عشر: ذهاب يوسف ومريم إلى بيت لحم: وأصدر الإمبراطور أُوغسطس قيصر قرارًا بأن كلّ الذين ولدوا في بيت لحم عليهم أن يكتتبوا. فقال يوسف: “سوف أُسجَّل أبنَيّ، ولكن ماذا أفعل بشأن هذه المرأة؟ بأي صفة أُقيَّدها؟ أبصفتها زوجة؟ أنها ليست زوجتي، ولقد تقبَّلتها أمانة من هيكل الربّ. أأقول أنها ابنتي؟ لكن كلّ أبناء إسرائيل يعلمون أنها ليست ابنتي. ماذا أفعل إذًا بشأنها؟”. وأسرج يوسف أتانًا أركب مريم عليها. وكان يوسف وسمعان يتبعان على بعد ثلاثة أميال. ولما التفت يوسف، رأى مريم حزينة، فقال في نفسه: “أن ما فيها يكدَّرها”. وعندما التفت مجددًا، رأى أنها تضحك، فقال لها: “يا مريم ما السبب في أن وجهك تارةً حزين وتارةً فَرح؟”. فقالت مريم ليوسف: “هذا لأنني أرى شعبَين أمام عينَي؛ واحد يبكى وينوح والآخر يضحك ويستسلم للفرح”. وقالت له مريم، عندما وصلوا إلى منتصف الدرب: “أنزلني عن أتاني، لان ما في يضغط علىَّ للغاية، وأنزلها يوسف من فوق الأتان وقال لها: “أين أقودك، فهذا المكان قفر؟
الفصل الثامن عشر: تجمد كل الأشياء في لحظة واحدة: وإذ وجد في ذلك الموضع مغارة، أدخل مريم إليها، وترك ابنه ليحرسها، ماضيًا بنفسه إلى بيت لحم ليأتي بقابلة. وحين كان سائرًا، رأى القطب حيث السماء كانت جامدة، والهواء مظلمًا، والطيور متوسط طيرانها. وإذ نظر إلى الأرض، رأى وعاءً مليئًا لحمًا مُحضَّرًا، وعماَّلًا متمدَّدين وأيديهم في الوعاء. ولحظة الأكل لم يكونوا يأكلون، ومَنْ كانوا يمدُّون أيديهم لم يكونوا يتناولون شيئًا، ومَنْ كانوا يريدون إيصال شيء ما إلى فمهم، لم يكونوا يوصلون شيئًا، وكلهم كانوا مركزين أنظارهم لأعلى إلى فوق. وكانت النعاج مشتَّتة، ولكنها لا تسير، بل كانت لابثةً في أماكنها جامدة. والراعي الرافع يده ليضربها بعصاه، كانت يده باقية من دون انخفاض. وإذ نظر من ناحية نهر، رأى كباشًا يلامس فمها الماء، لكنها لم تكن تشرب، فكلّ الأشياء كانت في تلك اللحظة جامدة.
الفصل التاسع عشر: امتلاء المغارة بالنور عند ميلاد المسيح: وإذا بامرأة نازلة من الجبال قالت له: “أسألك إلى أين تذهب؟” فأجاب يوسف: “إنني أبحث عن قابلة من نسل العبرانيين”. فقالت له: “أَأنت من نسل إسرائيل؟” فردَّ بنعم. إذاك قالت: “مَنْ هي تلك المرأة التي تلد في هذه المغارة؟”. فأجاب: “أنها خطيبتي”. فقالت: “أليست زوجتك؟”. فقال يوسف: “أنها ليست زوجتي، بل هي مريم التي ربيت في هيكل الربّ وحبلت من الروح القدس”. قالت له القابلة: “أهذا ممكن؟”. فقال: “تعالى انظري ذلك”. ومضت القابلة معه. وتوقفت حين أصبحت أمام المغارة. وإذا بسحابة مضيئة تغطى تلك المغارة. وقالت القابلة: “أن نفسي تجمَّدت اليوم، لأن عينَيّ رأتا معجزات”. وفجأة امتلأت المغارة ضياء حادًا لدرجة أن العين لم تستطع تأمُّله، وحين خفت ذلك النور قليلًا، رُؤى الطفل. وكانت أمه مريم تُرضعه. فصاحت القابلة: “هذا يوم عظيم بالنسبة إلىَّ، لأنني رأيت منظرًا بهيًا”. وخرجت من المغارة، وكانت سالومي قبالتها. فقالت القابلة لسالومي: “لدَّى معجزات عظمى أرويها لك: “أن عذراء ولدت ولا تزال عذراء”. وقالت سالومي: “حي هو الرب، إلهي؛ إذا لم أتأكد بنفسي، فلن أُصدَّقك”.
الفصل العشرون: سالومي تشك في بتولية العذراء وعقابها بسبب ذلك: دخلت القابلة المغارة وقالت لمريم: “نامي، لأن صراعًا عظيمًا ينتظرك”. وإذ لمستها سالومي، خرجت وهى تقول: “الويل لي، أنا الخائنة والكافرة، لأنني جرَّبت الله الحي. وان يدي التي تحرقها نار آكلة تسقط وتنفصل عن ذراعي”. وسجدت أمام الله، وقالت: “يا إله آبائنا، تذكَّرني، لأنني من نسل إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ولا تَخزني أمام أبناء إسرائيل، بل أعدْني إلى أهلي. أنت تعلم، يا ربّ، إنني باسمك كنت أُنجز معالجاتي وشفاءاتي كلها، لست طامحة إلى مكافأة إلا منك”. فظهر لها ملاك الربّ وقال لها: “يا سالومي، يا سالومي، أن الربّ سمعك؛ مدَّى يدك إلى الطفل، واحمليه؛ فسيكون لك الخلاص والفرح”. ودنت سالومي من الطفل وحملته في ذراعيها، وهى تقول: “سأسجد لكَ، لأن ملكًا عظيمًا وُلد في إسرائيل“. وشفيت على الفور، وخرجت من المغارة مُبَرَّأة. وسُمع صوت بالقرب منها يقول: “لا تُعلني المعجزات التي رأيتها، إلى أن يدخل الطفل أورشليم“.
الفصل الواحد والعشرون: النجم يرشد المجوس إلى الكهف: وإذا بيوسف يستعدّ للذهاب إلى
اليهودية. وعلا صَخَبً عظيم في بيت لحم، لأن المجوس كانوا قد وصلوا، قائلين: “أين هو الذي وُلد ملكا”ً لليهود؟ لقد رأينا نجمه في الشرق، وجئنا لنعبده”. ولما سمع هيرودس ذلك أضطرب، وبعث برُسل إلى المجوس. واستدعى أُمراء الكهنة، واخذ يستجوبهم، قائلًا: “عما هو مكتوب عن المسيح؟ أين يولد؟”. فقالوا: “في بيت لحم اليهودية، فهذا ما هو مكتوب”. فصرفهم هيرودس، واستجوب المجوس قائلًا: “أعملوني أين رأيتم العلامة التي تشير إلى الملك الوليد؟”. فقال المجوس: “لقد ارتفع نجمه ساطعًا، وفاق بضيائه نجوم السماء الأخرى إلى حد أننا ما عدنا رأيناها. وعرفنا هكذا أن ملكًا عظيمًا وُلد في إسرائيل وجئنا لنسجد له”. فقال لهم هيرودس: “هيّا، وابحثوا عنه، وإذا وجدتموه، تعالوا أعلموني بذلك لأذهب وأسجد له”. ومضى المجوس، وإذا بالنجم الذي رأَوه في الشرق يرشدهم إلى أن بلغوا المغارة، وتوقَّف فوق مدخل المغارة. ورأى المجوس طفلًا مع مريم أُمه، فسجدوا له. وإذ اخرجوا تقدمات من خزائنهم، أهدَوه ذهبًا، وبخورًا ومرًّا. وإذ أعلمهم الملاك بأن عليهم ألا يعودوا إلى هيرودس، سلكوا دربًا أخرى للعودة إلى بلادهم.
الفصل الثاني والعشرون: الجبل يحتضن أليصابات وابنها والملاك يحرسهما: واستولى الحنق على هيرودس، لأن المجوس خدعوه، فأرسل جنوده ليقتلوا كلّ الأطفال الذين كانوا في بيت لحم، من عمر سنتين وأدنى. وامتلأت مريم خشيةً، عندما علمت أنهم يقتلون الأطفال؛ فأخذت الطفل، وإذ لفَّته بأقمطة، أضجعته في مذود الثيران. وهربت أليصابات إلى الجبال عندما أُعلمت بأنهم يبحثون عن يوحنا، وكانت تنظر حولها لترى أين يمكنها إخفاؤه ولم تجد أي موضع مناسب. فقالت بصوت عال وهى تنوح: “يا جبل الله، تقبَّل الأُم مع ابنها. وانفرج على الفور الجبل الذي لم تكن تستطيع تسلُّقه وتقبَّلها. وكان يضيئهما نور عجائبي، وملاك الربّ معهما ويحرسهما.
الفصل الثالث والعشرون: هيرودس يقتل زكريا الكاهن: خلال ذلك الوقت، كان هيردوس يبحث عن يوحنا، وأرسل بعض ضباطه إلى أبيه زكريا، قائلين: “أين خبَّأت ابنك؟”. فأجاب: “أنا الكاهن العامل في خدمة الله، وأقف اهتماماتي على هيكل الربّ؛ لا أعلم أين ابني”. وخرج المبعوثون ونقلوا ذلك إلى هيرودس. فقال بغضب: “ابنه هو الذي سيملك على بنى إسرائيل“. وأرسلهم مجددًا إلى زكريا قائلين: “تكلَّم بصدق، أين ابنك؟ ألا تعلم أن دمك في متناول يدي؟” وعندما نقل الرسل إلى زكريا كلام الملك، قال: “اننى أُشهَّد الله على أنني أجهل أين هو ابني. أهرقْ دمي. إذا شئت؛ إن الله يتقبَّل روحي، لأنك تكون قد أرقت دمًا بريئًا”.وقُتل زكريا في رواق
هيكل الربّ، قرب حاجز المذبح.
الفصل الرابع والعشرون: الأسباط تبكى زكريا بسبب مقتله: ومضى الكهنة إلى الهيكل في موعد السلام. ولم يكن زكريا في استقبالهم لمنحهم البركة، وفقًا للعادة. وعندما لم يظهر لهم، لم يجرأوا على الدخول. ودخل أحدهم الهيكل، وكان أكثر إقدامًا من الآخرين، وعاد يُنبئ الكهنة بأن زكريا قُتل. ودخلوا إذاك، ورأوا ما صنُع؛ وكانت كسوات الهيكل تُطلق عويلًا، وكانت مشقوقة من أعلى إلى أسفل. ولكن لم يُعثَر على جسده، أما دمه فكان في رواق الهيكل، كتلةً شبيهةً بصخر. وخرجوا مذعورين، وأعلنوا للشعب أن زكريا قُتل. وبكته أسباط الشعب ثلاثة أيام وثلاث ليال.
وبعد تلك الأيام الثلاثة، اجتمع الكهنة لينتخبوا واحدًا مكانه. وحلَّت القرعة على سمعان. وأُنبئ بواسطة الروح القدس بأنه لم يمت قبل أن يعاين المسيح.
الفصل الخامس والعشرون: يعقوب يلجأ إلى الصحراء: أنا، يعقوب، الذي كتب هذه القصة، لجأت إلى الصحراء، إبان تمرُّد أثاره في أُورشليم المدعو هيرودس، ولم أعُدْ إلا بعدما هدأت البلبلة. أنني أحمد الله الذي منحنى مهمة كتابة هذه القصة. لتكن النعمة مع الذين يخشَون سيَّدنا يسوع المسيح، الذي له المجد والقوة مع الآب الأبدي والروح القدس المحيي،
الآن، ودائمًا، وإلى أبد الآبدين. آمين.
لقد أجمع العلماء أن هذه الوثيقة من جمع جملة كتَّاب مما يعلل الاختلاف الكبير في تحديد تاريخ كتابته، فالبعض يرجع به إلى القرن الأول، والبعض يرجعان به إلى العقد الأول من القرن الثاني، ويرجع به آخرون إلى النصف الثاني من القرن الثاني. بينما يرجع به آخرون -في صورته الحالية- إلى منتصف القرن الرابع.ويقول علماء مبرزون بأن جستين الشهيد قد أشار إليه، مما قد يدل على أنه كان معروفًا في صورة أقدم، في النصف الأول من القرن الثاني، وفي صورته الأخيرة يتضح أن هدف الكاتب كان تأكيد القداسة والاحترام للعذراء، وفيه عدد من الأقوال غير التاريخية. وقد حرمة في الكنيسة الغربية البابوات ديدمسوس (382 م.) وانوسنت الأول (405 م.) والبابا جلاسيوس 496م ).
وطـن مـريـم
ولدت مريـم فـى فلسطين، وكان إذ ذاك يحكم على فلسطين هيرودس الكبيـر الأدومـي (37-4ق.م.) فـى ظل حماية الرومانييـن حيث استولى على أورشليـم فـى عام 37 قبل الـميلاد. ولقد إنتهـز هيرودس فرصة الصراعات الداخلية فى الامبراطوريـة الرومانية، ونشر سيادتـه على بعض الـمناطق الـمجاورة. وفـى عام 20-19ق.م. بدأ فـى إعادة بناء وتوسيع هيكل أورشليـم.
واليهود فـى تلك الأيام كانوا منقسمين الى حزبيـن: حزب الفريسييـن وهو يحافظ على العقائد والشرائع ويدّعون القداسة، والحزب الآخر هو الصدوقيـون وكانوا مادييـن لا يعبأون بالتعاليـم الدينيـة ويكتفون بالشعائـر الظاهـرة ولا يؤمنون بالبعث. وكانت هناك فئـة من اليهود متمسكة بديانتهـا أمثال سمعان الشيخ وحنة النبية وزكريـا الكاهن، كانت متلهفـة لـمجئ الـمسيّا الـمنتظـر، وكانت عائلـة العذراء من هذه الفئـة الأمينـة البعيدة عن روح التعصب.
هيرودس كان قائدا عسكريا شجاعا وحكيما وكان قويا وله كاريزما لا يمكن نكرانها وكان لا نظير له كدبلوماسي وصديق للعديد من الحكام والقادة في عصره. لقد تجرأ على القيام بأعمال تجارية مع يوليوس قيصر ومارك أنطونيو وكليوباترا واغسطس قيصر وعادة ما كان يحصل على ما يريده. امام شعبه اليهودي كان يقدم نفسه على انه يهودي ولرعاته الرومان على انهم ” صديق لروما”.
في الوقت المناسب اتخذ له زوجة من السلوقيون وهي الخطوة التي جعلته اكثر قبولا منهم على الرغم من انهم كانوا قلقين منه ولكنه لم يعبأ فكانت له مهمة يريد تنفيذها. هيرودس كان دائما متحركا فلقد وضع علاوة على القانون والنظم التجارية واوقف السرقة بالاكراه على الطرق وبهذا فقد أزال واحدة من القيود الكثيرة على التجارة والترحال. علاقاته السهلة مع روما ضمنت له ان مملكته تستقبل فوائد عادية من العاصمة الرومانية وتدفق الاستيراد والتصدير بكل سهولة. لقد
حكم بمهارة وبدقة وبثقة وبكفاءة- صفات لم يستطع السلوقيون ان يقوموا بها ولو مرة واحدة.
لكن كان هناك جانب آخر لهيرودس، فهو عندما كان صغيرا كان عرضة لنوبات طويلة من الاكتئاب الانتحاري، وعندما كبر وحصل على القوة تحول اكتئابه الي غضب قاتل يتم توجيهه بشكل عشوائي تقريبا الى الأصدقاء والأعداء. وكان معالجوه في منتهى العناية ان يخفوا تلك الفترات من الضعف عن الشعب، فعندما يختفي الملك عن الأنظار كانوا يقولون انه في رحلة للصيد.
عمل هيرودس ليكتسب احترام وتأثير شعبه وظلوا مع هذا يحتقروه وكان هو مدرك بشدة لتوقعاتهم وتكهناتهم بخصوص المسيّا كان هو الحديث الأكثر تداولا بينهم وفي انحاء البلاد. ربما فكّر هيرودس انه يمكنه ان ينال حصة في المطالبة بمصداقية لذلك اللقب.
لقد سكّ عملات تمثل اسمه مع نجم وهي كانت واحدة من العلامات العامة والمعروفة عن
المسيّا اما العلامة الثانية فكانت من جذع يسى. طبقا لحساب واحد فلقد وضع السؤال لمعلموا الشريعة في اورشليم هل يمكنه ان يكون هو ذلك الذي تنتظره الأجيال منذ زمن؟
علماء الكتاب لاحظوا حديثا إتمام للكثير من النبؤات. يعقوب تنبأ بثبات حكم يهوذا والآن الملوكية قد عادت الى ارض اليهودية. وتنبأ دانيال بملك سيحكم بعد 70 أسبوع لسنوات والآن هنا في هيرودس كان ملكا قد وصل بالتمام في تلك اللحظة. بعض الإشارات كانت هناك ولم يمكن بعد لعلماء الشريعة والكتبة ان يستطيعوا ان يعطوا لأنفسهم الحق في اعلان ان هيرودس هو المسيّا.
كانت العقبة الكبرى والتي لا يمكن لأحد ان يتخطاها انه كان اجنبي المولد. كانت التوراه صريحة في ذلك الأمر”فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكًا الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ. مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكًا. لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْكَ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا لَيْسَ هُوَ أَخَاكَ.“(تثنية15:17).
عندما وصلت لهيرودس ذلك الرفض كان رد فعله سريع وبسيط فلقد ذبح أعضاء المجلس وحفظ نفس رجل واحد اسمه Baba ben Buta بسبب انه له قيمة كمستشار ملكي وأيضا لكونه كان اعمى لذا ففي المستقبل سيتعلم ان يخفف نصيخته لتكون في صالح رغبات هيرودس.
مهما كان الأمر فلقد نجح هيرودس في اقناع البعض في مملكته.
نشأت فصيل عرفت ب الهيرودسيون Herodians الذين قبلوا ادعاء هيرودس للمسيانية وكانوا شيئ آخر عن كونه حزب سياسي ولكن اقل من ان يصبحوا فئة دينية. فهم جماعة، ليسوا طائفة دينية ولا حزبًا سياسيًا، كما كان يظن الناس قبلًا، بل مجرد اتباع هيرودس الكبير Herod وخلفائه في فلسطين. غير أن صداقتهم لملكهم لم تجعلهم موظفين رسميين في بلاطه وكان لهم نفوذ واسع، وحاولوا إقناع الشعب بمولاة هيرودس وحلفائه ومولاة الرومان وحلفائهم ونظر إليهم الشعب المعادي للرومان ولهيرودس نظرة كره واحتقار. ولكن هذه النظرة لم تمنع الفريسيين أعدائهم من التحالف معهم ضد المسيح، فتآمروا معًا، الفريسيون والهيرودوسيون، ضد يسوع فيما بعد. لقد بقوا حتى بعد موت الملك هيرودس عندما وسعوا اللقب المسيّاني لمن خلفه. الهيرودسيون ظهروا من حين لآخر في العهد الجديد ( مرقس6:3و 12و 13، متى 16:22). طبقا للقديس جيروم والقديس ابيفانوس فالهيرودسيون
ظلوا يعانوا ما بين اليهود على الأقل حتى أواخر القرن الرابع الميلادي منتظرين تبرئتهم.
نحن نعلم أيضا بعض الشيئ من التفاصيل عن هيرودس من الاصحاح الأول من انجيل متى، فهذا المصدر المسيحي المبكر يتوافق مع ما عرفناه وما جاء في كتابات المؤرخين. في متى وأيضا فيما كتبه يوسيفوس يظهر هيرودس كشخص مذعور ومهووس وغير آمن وغيور ويتميز
بالعنف.
ومن قاموس الكتاب المقدس نجد الآتي: في العهد الجديد ذكر أربعة بهذا الاسم وكان ذلك أثناء الحكم الروماني على فلسطين.
هيرودس الكبير (في قصة الميلاد) وهيرودس أرخيلاوس و هيرودس أنتيباس( في محاكمات
المسيح – يوحنا المعمدان) و هيرودس فيلبس الثاني و هيرودس اغريباس الأول( قتل يعقوب – سجن بطرس – أكله الدود) و هيرودس اغريباس الثاني.
هيرودس الكبير: وهو الابن الثاني لأنتيباتر، الأدومي الأصل. وكانت أمه أدومية أيضًا لذلك لم يكن يهوديًا من ناحية الجنس مع أن الادوميين كانوا قد رضخوا للمذهب اليهودي بالقوة منذ سنة 125 ق.م. وكان قيصر قد عَيَّنَ انتيباتر Antipater the Idumaean حاكمًا على اليهودية سنة 47 ق.م. وقسَّم انتيباتر فلسطين بين أبنائه الخمسة وكان نصيب هيرودس في الجليل. وبعد أربع سنوات قُتِلَ انتيبار. فجاء ماركوس انطونيوس إلى فلسطين وعيَّن الابنين الأكبرين للعاهل المقتول على فلسطين. ثم قَتَلَ أكبرهما نفسه بعد ما أسره الفوتيون الذين هاجموا فلسطين. وهكذا خلا العرش لهيرودس. وفي سنة 37 ق. م. دخل القدس فاتحًا بمعونة الرومان. وقد تزوَّج هيرودس عشر نساء وكان له أبناء كثيرون. واشتد التنافس فيما بينهم على وراثة العرش وكان القصر مسرح عشرات المؤامرات والفتن. واشتركت زوجات الملك وأقاربهن في تلك المؤامرات والفتن. هذا إلى جانب المؤامرات التي حاكها هيرودس ضد أعدائه من يهود البلاط، وضد خصومه من حكام الرومان. فقد كان الملك المذكور قاسي القلب عديم الشفقة يسعى وراء مصلحته ولا يتراجع مهما كانت الخسائر. ولم يكن يهتم للحقيقة ولا ينتبه إلى صراخ المظلومين واشتهر بكثرة الحيل. وقتل عدة زوجات وأبناء وأقارب خوفًا من مؤامراتهم. غير أنه بنى أماكن كثيرة في فلسطين، مدنًا وشوارع وأبنية، لتخليد اسمه وانفق على ذلك أموالًا طائلة وأشهرها مدينة قيصرية التي بناها على شاطئ البحر المتوسط وسماها كذلك تكريمًا لاوغسطس قيصر ثم رمّم مدينة السامرة بعد أن تهدمت وسماها سباسطيا، أي مدينة اوغسطس وحصن القدس وزينها بالملاعب والقصور. وبدأ في ترميم الهيكل في القدس، وفي تزينيه.
ولد يسوع في أواخر أيامه، بعد أن كانت نقمة الشعب عليه، وخوفه من منافسة أعدائه، قد بلغت
أشدها. ولذلك أسرع الأمر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم، حتى لا ينجو ابن داود، ولا يملك على اليهود ويتربع على عرشه (متى 2). ولكن الوقت لم يمهله كثيرًا. إذ مرض مرضًا خطيرًا، وسافر إلى شرقي الأردن للاستشفاء بحمامتها، ثم عاد إلى أريحا أسوأ مما كان عليه قبلًا. وهناك مات، وهو في السبعين من عمره، بعد ملك أربعًا وثلاثين سنة، وكأنه لم يشأ أن يودع الحياة على عكس ما كان في حياته. فأمر بقتل وجهاء القدس ساعة موته، حتى يعم الحزن المدينة ولا يجد أحد السكان فراغًا ليبتهج بموت ملكه المكروه.
هيرودس أرْخيلاَوُس ابن الملك هيرودس الكبير: هو الكبير بين ولدين ولدتهما ملثاس زوجة هيرودس الكبير السامرية. وقد تعلَّم في رومية هو وأخوه أنتيباس وأخواهما الآخران من أبيهما وهما هيرودس وفيلبس. وبعد موت هيرودس الكبير سنة 4ق.م. أخذ أرخيلاوس الجزء الكبر من مملكته بما في ذلك اليهودية والسامرة. وقد أخمد أرخيلاوس ثورة لليهود اشتعلت في أورشليم في وقت عيد الفصح عقب ارتقائه العرش. وقد قتل حينئذ ثلاثة آلاف رجل. وبالرغم من المعارضة التي لاقاها من قادة اليهود ومن أخيه الصغير أنتيباس فإنه تمكن من أن ينال موافقة رومية على توليه العرش كحاكم لا كملك. وقد خلعه أغسطس قيصر من ملكه بسبب سوء حكمه، في سنة 6 ميلادية، ونفاه إلى فينّ في بلاد الغال. وبعد ذلك تولى الحكم في اليهودية والسامرة ولاة رومانيون من أمثال بيلاطس البنطي وغيره.
هيرودس أنتيباس | هيرودس الأول ابن هيرودس الكبير: هو الابن الثاني لهيرودس الكبير من زوجته الرابعة السامرية ملثاكي Malthace لذلك فإن نصفه أدومي ونصفه سامري. يدعوه يوسيفوس المؤرخ باسمي هيرودوس وأنتيباس. أما العهد الجديد فيدعوه فقط باسم هيرودوس. تثقف في روما، ثم عاد وعين حاكمًا على الجليل بينما نال أخوه وراثة العرش فتنافس وإياه طويلًا. وفي هذه الأثناء حارب بعض أعدائه، وبنى عدة أماكن، أشهرها مدينة طبريا. ولما جلس على العرش اتسعت مطالبه، حتى حملته امرأته على الذهاب إلى روما ليطلب أن يمنح لقب ملك. وهناك غضب عليه الإمبراطور كاليجولا Caligula ونفاه إلى ليون، ثم إلى إسبانيا وأنباء هيرودس أنتيباس ليست قليلة في الكتاب المقدس. فهو الذي تزوج بامرأة أخيه، هيروديا، ونال توبيخ يوحنا المعمدان حتى قطع رأسه وقدمه هدية لسالومة ابنة هيروديا وكان هيرودس واحدًا من القضاة الذين مثل يسوع أمامهم، وأخذ يجادل يسوع ويسأله. وذكر في الكتاب أن هيرودس هذا ظن أن يوحنا قد قام من الأموات وكان زمن ملكه من 4 ق.م. إلى 39 م.
فيلبُّس رئيس الربع | هيرودس فيلبس الثاني: فيلبس رئيس الربع على إيطورية وأحد ابنيّ هيرودس الكبير من زوجته كليوبترا الأورشليمية. وفي السنة الخامسة عشرة من ملك طيباريوس قيصر كان فيلبس رئيس ربع على مقاطعتي إيطورية وتراخونيتس، وكان ذلك عندما بدأ يوحنا المعمدان عمله.. وسع مدينة بانياس عند نبع الأردن ودعاها قيصرية. ثم دُعِيَت فيما بعد قيصرية فيلبس تمييزًا لها من قيصرية الواقعة في البحر. وحسّن مدينة بيت صيدا ورفع شأنها وجعلها في مستوى مدينة بالفعل، ودعاها جولياس تكريمًا لجوليا ابنة أوغسطس وزوجة طيباريوس. وكان فيلبس ذا أخلاق رفيعة، وساس شعبه بالعدل واللين (4 ق.م. – 13 م).
هيرودس أغريباس الأول | أغريباس الكبير: هو ابن ارسطوبولوس، وحفيد هيرودس الكبير وامرأته مريمنة. وقد عاش طويلًا في روما. ثم رجع وعين حاكمًا على بعض فلسطين سنة 39 م.، وأضيفت إلى منطقة نفوذه أراضي واسعة لرضى الإمبراطور كاليجولا Caligula. ومن أخباره في الكتاب أنه ذبح يعقوب أخا يوحنا بالسيف وسجن بطرس. ويروي الكتاب نهايته، فقد أكله الدود بعد أن ادعى الألوهية. وكان موته في سنة 44 م. وكان عمره عند ذاك 54 سنة.
هيرودس أغريباس الثاني | أغريباس الصغير: هو ابن هيرودس أغريباس الأول. وكان صغيرًا عند موت أبيه فرفض الإمبراطور تعينه في مركز أبيه. ووضع اليهودية تحت الوصاية. وبقي أغريباس يقيم في روما ويقوم بمعاملات اليهود هناك ويتوسط بينهم وبين الإمبراطور ويحل مشاكلهم، إلى أن نال أخيرًا لقب ملك، وضمت إليه بعض مناطق لبنان الداخلية واستمر ملكه في الاتساع إلى أن حكم نيرون فأضاف إليه مناطق كثيرة في فلسطين والأردن وأمامه خطب بولس وعرض قضيته. واستمر يملك حتى سقوط القدس فانتقل إلى روما، وهناك عاش مع أخته برنيكي التي كان يعاشرها كزوجة إلى أن مات سنة 100م.
عائـلـة مـريـم
جـاء فـى تقاليد الكنيسة (مثل كتاب “السنكسار” وهو عن سير القديسين والـمستخدم فـى الكنيسة القبطية والـمأخوذ جزء كبيـر منـه من بعض الكتابات مثل كتابي “إنجيل ميلاد مريـم” و “إنجيل يعقوب”والذى يرجع الى حوالي عام 150 ميلادية) قد جاء ببعض الأخبار عن عائلـة مريـم. ولقد جاء ايضاً ذكراً عن والداي مريـم فى كتابات بعض الأبـاء الأوليـن أمثال القديس افرام السرياني (+373)و القديس يوحنا الدمشقي (+746) والقديس غريغوريوس النارغي (+950) وغيرهـم. من تلك الـمراجع نجد ان والد العذراء هو القديس يواقيم ووالدتها هى القديسة حـِنـّة.
والداي مريم
أنّ والدي العذراء مريم هما يواقيم وحنة، وأن أبا حنة هو الكاهن متّان من سبط لاوي ومن آل هارون، وأنَّ والدة حنة هي مريم من سبط يهوذا. يواقيم (سمي أيضا بوناخير وصادوق) وهذا كان من نسل داود من سبط يهوذا الذي يصعد في النسب إلى سليمان بن داود الذي وعده الله أن نسله يملك علي بني إسرائيل إلى الأبد.
وأن يوافيم وحنة كانا يقيمان في قرية بالقرب من الناصرة من أعمال الجليل وكانا ميسورين ويوزعان أرباحهما على الهيكل والفقراء، وما تبقى لهما يسدان به حاجتهما. وكانا عاقرين وبارّين أمام اللـه وسائرين بحسب نواميسه الإلهية، وكان العقر، لدى اليهود يعتبر لعنة من اللـه، وعاراً أمام الناس، ذلك أنَّ كلَّ فتاة يهودية كانت تطمح وتصلي أن يولد منها المسيح ماسيا المنتظر، فكان يواكيم وحنة يواظبان على الصلاة والطلب إلى اللـه ليزيل العار عن دارهما، وهكذا بلغا سن الشيخوخة دون أن تستجاب طلبتهما. ويُحكى أن يواكيم أتى مرّة إلى هيكل الرب ليقدم تقدمة فرفض الكاهن التقدمة لأنَّ مقدمها (عاقر) فعاد يواقيم إلى داره مغتمّاً، كسير القلب، ذليلاً، وأكثر من البكاء أمام اللـه، تشاركه بذلك زوجه حنة، فاستجاب اللـه طلبتهما ورزقهما ابنة سمياها مريم.
القديس يواقيم ويعني الإسم بـ “يهوه يُعد” كان إبن يوثام(Jotham)، ابن لعازار(Lazarus)، إبن أليهود(Eldad) والذى يرجع إلـى سلالة سليمان إبن داود الـملك. أمـا القديسة حنـة ويعنى إسم حَنـّة Anne or Hanna هو “نِعـمة” وهـى إبنـة متـّان(Matthan)، إبن لاوي (Levi)، إبـن ملكـى(Melki) والذى يرجع إلـى سلالـة هارون الكاهـن وكان إسم أمهـا ماريام (Mariam) والتى كانت من سبط يهوذا. وينقل لنـا التقليد أن مـتّان كان لـه ثلاث بنات، الأولـى إسمهـا مريم والتى أصبحت أم سالومـى القابلـة، ثـم الثانيـة كان إسمهـا صوفيـّا أم القديسة أليصابات زوجـة زكريـا الكاهـن وأم القديس يوحنـا الـمعمـدان، أمـا الثالثـة فكانت القديسة حَنـّة. وبهذا تكون القديسة مريـم العذراء هـى إبنـة خالـة لكل من سالومى ويوحنا الـمعمدان. وتحتفل الكنيسة القبطيـة بعيد القديسة حـَنـّة فـى اليوم الحادى عشر من شهر هاتور من كل عام. ووالداي العذراء حسب رواية
“كتاب يعقوب” كانا ميسوري الحال وكانا عاقرين وقد تقدما كثيرا فى ايامهما.
ولقد جاء فـى بعض الكتابات القديمة ان والداي العذراء مريم كانـا يقيـمان فى صفّورة وهى قريـة صغيـرة تبعد 3 اميال من بيت لحم ولا تزال حتى اليوم يوجد هناك عين تسمى “عين مريم” وإلـى جانبهـا أنقاض كنيسة تسمى كنيسة القديسة حـِنـّة ويرجح انهـا كانت تقوم حيث كان منزلهـا. وهناك من يقول أن والداي العذراء كانـا يقـيمان فى الناصرة أو بيت لحم أو فـى أورشليم. وأصحاب القول بأن والداي مريم كانا يقـيمان فـى الناصرة بالجليل يرجعون ذلك لبعض الأراء القديمة وبما جاء فى انجيل القديس لوقا عند بشارة العذراء “مدينة فى الجليل تُسمّى ناصرة إلى عذراء”(لوقا26:1-27). أمـا من يقولون أنهـما كانـا فى بيت لحم فيؤيدون قولهـم بذهاب يوسف ومريم عند الإكتتاب لبيت لحم اليهوديـة لأن يوسف خطيب مريـم “كان من بيت داود وعشيرتـه”(لوقا4:2). وهناك من يقولون أن يواقيم وحنّة كانـا يقيمان بأورشليم بالقرب من بركة حسدا عند باب الغنم (يوحنا2:5).
ومهـما كانت تلك الأراء فالـمرجّح ان حنـِّة ويواقيـم كانـا يعيشان بالقرب من أورشليم وهـما كانـا من عشيرة داود من سِبط يهوذا. وتحتفل الكنيسة القبطية بعيد القديس يواقيم فى اليوم السابع عشر من شهر برمودة.
ولادة مـريـم
تذكر لنـا تقاليد الكنيسة أن والدا مريم يواقيم وحنّـة كانـا متقدمـان فـى السن ولـم يرزقـا بولد، وعدم الإنجـاب كان يعتبـر عاراً عند اليهود. وكان القديسان يواقيم وحِنـّة يعيشان فـى خوف الله وممارسة الفضيلة وكانت لهـما صِلة نسب مع القديسة أليصابات أم يوحنـا الـمعمدان وزوجـة زكريـا الكاهـن “وهـا إنّ أليصابات نسيبـتكِ”(لوقا26:2). وأمـا عـمل يواقيم فقد قيل انـه رعايـة الغنـم أو كان يـملك بعض البيوت فـى أورشليم وصفّورة والناصرة، أو يملك قطعة من الأرض تساعدهم على العيش فـى بساطـة. وكـما سبق أن ذكرنـا أن والداي مريم كانـا متقدمـان فـى العُـمر ولـم يكن لهـما نسل. وبحسب روايـة “كتاب يعقوب” ان رئيس الكهنة قد رفض ذبيحة اراد يواقيم ان يقدمها في احد الأعياد في الهيكل في أورشليم لأنه لم يرزق بطفل ولكن تذكر يواقيم قصة ابراهيم أبو الآباء وكيف في شيخوخته وهبه الله اسحق وذهب يواقيم للصحراء وبنى خيمته وصام وصلي لمدة اربعين يوما وجاء أن ملاكاً قد جاء مبشراً يواقيم وهو في الصحراء وايضا ظهر لحنة وبشرها بأن صلاتها قد استجيبت وانها ستلد من سيسمع كل العالم بذلك المولود، ولقد قيل أيضاً أنـه كان الـملاك جبرائييـل وهو الذى بشرهـما بـميلاد إبنـة يدعونهـا مريـم ومنهـا يكون خلاص آدم ونسلـه. وعندما سمعت حنـة بتلك البشارة نذرت أن تكرّس الـمولود لله. ولـم يكن هذا غريبـا وعجيبـاً فلقد صنع الرب من قبـل هذا ويذخر الكتاب الـمقدس بأمثلـة عديدة:
- كانت سارة إمرأة إبراهيم عاقراً ولـم تلد “وأما ساراي امرأة ابرام فلم تلد لـه”(تكوين1:16)،
ولكن الرب أعطاهـا اسحق “وافتقد الرب سَارَة كـما قال وفعل الرب لسارَة كما وعد. فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنـاً فى شيخوختـه فى الوقت الذى ذكره الله. فسمّى إبراهيم ابنـه الـمولود له الذى ولدتـه له سارَة إسحق”(تكوين1:21-3).
- كانت رِفقة زوجـة اسحق عاقراً وصلّى إسحق للرب وحبِلت رفقـة بيعقوب”ثم دعـا إسحق
إلـى الرب لأجل إمرأتـه إذ كانت عاقراً فاستجابه الرب وحملت رِفقة امرأتـه”(تكوين21:25).
- وكانت راحيل زوجـة يعقوب عاقراً وصرخت ليعقوب وصلّى من أجلهـا فولدت
يوسف”وذكر الله راحيل وسمع دعاءها وفتح رحمها فحملت وولدت إبنـاً وقالت قد كشف الله عنّي العار وسمّتـه يوسف”(تكوين22:30-23).
- وكان منوح وزوجتـه عاقران وولدا شمشون الجبـّار (قضاة2:13-3 و 24:13).
- وكانت حَنّة زوجـة ألقانـة عاقراً وسكبت نفسهـا أمام الرب ورزقت بصـموئيل نبي الله (1ملوك20:1).
- وكانت الـمرأة الشونـمية عاقراً ولقد صنعت جميلاً لأليشع النبي وتم لها ما أرادت وولدت
إبناً وقيل انـه يونان النبي(4ملوك14:4).
- وأليصابات كانت عاقراً وولدت يوحنـا الـمعمدان “وها إنّ أليصابات نسيبتك قد حبلت هى
أيضاً بإبن فى شيخوختهـا وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقراً”(لوقا26:2 و 57:2-60).
وكما جاء في “انجيل يغقوب” انه بعد سبعة أشهر من تلك البشارة لوالداي مريم ولدت فتاة وسميت “مريم” Miriam” هذا الاسم العبري ظهر مرة واحدة فقط في العهد القديم فهو اسم مريم اخت هارون.
متى وُلدت مريـم العذراء؟
نحن لا نعلم التاريخ بدقة فتحديد اليوم أو التاريخ بالدقـة غير متفق فيـه بين العلـماء، ولكن كل الأشياء تشير انها ولدت ما بين عام 732 و736 من تأسيس مدينة روما والذي يعنى ما بين عام 25 و21 ما قبل الميلاد، ولقد حدد بعض العلـماء السنة 22 قبل الـميلاد. وبعض علماء الكتاب المقدس يعتقدون انها ربما ولدت في يوم عيد Rosh Hashanah في بدء السنة اليهودية. ولكن قد عينت الكنيسة الكاثوليكية يوم 8 أو 9 سبتـمبر للإحتفال بـهذه الذِكرى، التى حددها البابا ليون الثالث عشر عام 1885 نظرا لعدم وجود مصادر تاريخية موثوق بها لمعرفة تاريخ ميلادها. أمـا فـى الكنيسة القبطيـة فلقد تم تحديد أول بشنس (9 مايو) للإحتفال بذكرى ميلاد السيدة مريم العذراء.
أيـن وُلدت مـريـم؟
لا يوجد تأكيد مطلق عن فيما يتعلق بمكان ولادة السيدة العذراء، هناك أربعة تقاليد مختلفة يجب مراعاتها ينقلهـا التقليد عن مكان ميلاد مريم العذراء:
- فـمن يعتقد أنهـا وُلدت فـى أورشليم وأن هناك كنيسة قد بُنيت فى القرن الخامس
الـميلادي بمعرفة الإمبراطورةُEudoxia فى الـمكان الذى قيل أن بيت حِنّة أم العذراء كان قائـماً فيـه بالقرب من بركـة بيت حسدا.
- وهناك من يعتقد انهـا وُلدت فى بيت لحم حيث ذهبت للإكتتاب بناء على بعض
الكتابات والتى تشمل أعمال القديس جيروم، والباباوات مثال بولس الثاني (1471)
، يوليوس الثاني (1507)، ليو العاشر (1519)، بولس الثالث (1535)، بيوس الرابع (1565)، سيكستوس الخامس (1586)، وإنوسنت الثاني عشر فيما يتعلق ببيت لوريتو المقدس فيقولون إن السيدة العذراء ولدت وتعلمت، واستقبلها الملاك في ذلك البيت المقدس. لكن هؤلاء الباباوات لا يرغبون في البت في مسألة تاريخية. إنهم يعبرون فقط عن رأي عصرهم..
- وهناك من يعتقد أنـه في صفّورة حيث يوجد كنيستـين لذكرى ميلاد العذراء، والبلدة على
بعد حوالي ثلاثة أميال شمال بيت لحم، وهي من أقدم المدن في اسرائيل وتم تجديدها عام 37 قبل الميلاد واعتبرت عاصمة لمنطقة الجليل وكانت مقر إقامة هيرودس أنتيباس حتى وقت متأخر من حياة يسوع . يمكن الاستدلال على العصور القديمة لهذا الرأي من حقيقة أنه في عهد قسطنطين أقيمت كنيسة في سيفوريس لإحياء ذكرى إقامة يواكيم وحنة في ذلك المكان و يتحدث القديس أبيفانيوس عن هذا المكان المقدس ولكن هذا يظهر فقط أن السيدة العذراء المباركة ربما عاشت في سيفوريس لفترة من الوقت مع والديها، دون إجبارنا على الاعتقاد بأنها ولدت هناك.
- في الناصرة حيث كانت تعيش مع خطيبها يوسف. هذا الرأي من أنهـا قد وُلدت فـى
الناصرة فيستند على ما جاء بالعهد الجديد حيث بشّرهـاالـملاك جبرائييل بعد ذلك “إلـى مدينة فـى
الجليل تسمّى ناصرة إلـى عذراء مخطوبـة لرجل اسمه يوسف من بيت داود واسم العذراء
مريم”(لوقا26:1-27).
ولكن والرأي الراجح أنهـا قد ولدت فـى أورشليـم، وهذا حسب ما جاء في “انجيل يغقوب” داخل اسوار اورشليم القديمة بالقرب من “باب الغنم” والمعروف ب “Lions’Gate والقريبة من بركة حسدا. وهذا ما أكدّه كلا من القديس صفرونيوس بطريرك القدس (560-638م)، والقديس يوحنا الدمشقي(750م) وغيرهم وعلى أدلة الاكتشافات الأخيرة في Probatica.
لم يتم الاحتفال بعيد ميلاد السيدة العذراء في روما حتى نهاية القرن السابع؛ لكن عظتين
موجودتين بين كتابات القديس أندرو الكريتي (المتوفى 680) تفترضان وجود هذا العيد. ولـم
يُعرف بـميلاد مريم إبنـة هذه العائلة الغيـر مشهورة إلاّ عدد قليل من الأقربـاء.
سلسلة نسب مريم
تنتمي العذراء القديسة مريم إلى سبط يهوذا وهي من نسل داود، وتتصل بصلة القرابة مع
اليصابات أم يوحنا المعمدان التي تدعى في الإنجيل المقدس نسيبة العذراء (لو 1: 36) ويقال
أنها كانت خالتها. كما أنَّ سالومي زوجة زبدي وأم يعقوب ويوحنا هي الأخرى تمّت بصلة القرابة إلى العذراء مريم (مت 27: 56 و 19: 25) وقد وردت في الإنجيل المقدس سلسلة نسب السيد المسيح من ناحية يوسف خطيب العذراء (مت 1: 16 و لو 3: 23 و أع 2: 20 و رو 1: 3) والعذراء ويوسف هما من سبط واحد وهذا ما سجله الوحي عنها: فإننا نعلم أنها جاءت هي ويوسف من سبط يهوذا من نسل داود (قارن لوقا 1: 32، 69؛ رومية 1: 3؛ 2 تيمو 2: 8؛ عبرانيين 7: 14). فالعذارء مريم إذاً هي سليلة الكهنة والملوك والأنبياء، وهي ابنة داود، ولذلك قال لها الملاك لما بشّرها بالحبل الإلهي: «ستحبلين وتلدين ابناً… يكون عظيماً وابن العلي يدعى… ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد…» (لو 1: 31 ـ 32). يعود نسب القديسة العذراء مريم إلى زربابل من عائلة وبيت داود، ونجد أن البشير لوقا يؤكد هذه الحقيقية، أن العذراء مريم ووليدها يَعُودَان لسبط يهوذا، وبالتحديد بيت داود. حين كلمها الملاك قائلاً “فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية” (لوقا 1: 30 – 33). وهذا ما هو واضح في قول زكريا الكاهن “مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه، وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاهُ” (لوقا 1: 68-69). وجاء عن نسب السيدة مريم العذراء فى السنكسار (سير القديسين) يوم 16 أمشير الآتى: تزوج متثات من سبط لاوي من بيت هارون من صوفية وأنجب ثلاث بنات حسب الترتيب الآتى:
– مريم (أم سالومي) إهتمت بالعذراء مريم أثناء ميلاد المسيح – صوفية (أم أليصابات) والدة يوحنا المعمدان
– حنة (أم مريم العذراء) أم يسوع المسيح. إذن تكون: سالومي وأليصابات ومريم العذراء بنات
خالات. وهذا هو النسب الأوقع لأن الملاك قال لمريم هوذا أليصابات نسيبتك، فهى بنت
خالتها.
احداث طفولة مريم
لا تروي الأناجيل أو أية كتابات مسيحية رسمية عن طفولة مريم العذراء أو حياتها قبل البشارة، لكن هناك عدد من الكتب الأبوكريفية التي لم تعتمد في الكنيسة ككتب رسمية لعدم صحة نسبتها إلى التلاميذ الاثني عشر أو شخصيات مقربة منهم، أو لكتابتها في تاريخ متأخر عن سائر المؤلفات التي تدعى بالقانونية أو حتى بسبب أسلوب كتابتها الشعبي، تتناول حياة مريم المبكرة بشكل مفصل، هناك إنجيل خاص يعرف باسم إنجيل مريم، وآخر يدعى إنجيل يعقوب وطفولة المخلص إلى جانب إنجيل رحلة العائلة المقدسة، وإنجيل حياة مريم وموت يوسف، وهي الأناجيل الأكثر ذكرًا للعذراء وحياتها المبكرة.
ورغم عدم الاعتراف بها كأناجيل قانونية غير أن هذه الأناجيل كانت ذات انتشار بين الجمهور المسيحي في القرن الثاني والقرن الثالث وأثرت بشكل أو بآخر على العقائد المسيحية، فرغم عدم ذكر الأناجيل الرسمية عن طفولة العذراء شيء يحوي تقويم الأعياد والمناسبات الدينية يوم 21 نوفمبر سنويًا عيدًا خاصًا بتقدمة العذراء للهيكل، ويذكر هذا الحدث في إنجيل بشارة يعقوب ويحدد عمر العذراء آنذاك بثلاث سنوات. وقد اعتُمدَ الحدث رسميًا نظرًا لاعتماده من
قبل آباء الكنيسة في كتاباتهم ومؤلفاتهم واتفاقهم عليه.
هناك مصدر لآخر لأحداث طفولة مريم وردت في رؤى الطزباوية كاثرين إمريش Catherine Emmerich التى ولدت في 8 سبتمبر 1774 وتوفيت عام 1824 – تحكي عن سلسلة من الأحداث في حياة مريم المبكرة مشابهة لتلك الموجودة في Protoevangelium of James. ، وبينما لا تجد الكنيسة شيئا يتعارض مع الإيمان بها، فإنها لا تؤيدها رسميا.
إن إنجيل لوقا يذكر: عذراءً من الناصرة(لوقا26:1) الواقعة في الجليل دون أن يشير إلى القدس أو هيكل سليمان، ما دفع البعض لاعتبار الحادث رمزًا أو تقليد واكتفوا بأن تغدق صفات الحمد والثناء على مريم خلال تلك الفترة من عمرها: كانت مريم فتاة من فتيات الناصرة، تقوم بالأعمال المنوطة بهنّ، وتتردد إلى المجمع وتسمع التعليم الديني، وتصلي، إن الله قد اختار مريم وزينها بأجمل المحاسن، مؤهلًا إياها لتلد ابنه في الجسد وتحضنه وترعاه وتخدمه كما يليق بالقدوس. فالراجح إذن حسب النظرية الرسمية في المسيحية أن العذراء وإن قدمها ذويها إلى الهيكل حسب رواية الكتب الأبوكريفية والتقليد الكنسي، إلا أنها قد عادت إلى منزل ذويها في الناصرة حيث قضت هناك عدة سنوات قبل خطبتها ليوسف النجار، خصوصًا أن النساء لم يكن المسموح لهنّ بالخدمة أو الإقامة في الهيكل لدى تجاوزهنّ سن الإثني عشر عامًا وهو عمر البلوغ وفق الشريعة اليهودية في حين يذكر إنجيل بشارة يعقوب المنحول أن
يوسف من كفل العذراء إثر قرعة قام بها زكريا بعد تجاوز مريم الثانية عشر من عمرها.
طبقاً للناموس اليهودي فإن “كل بِكر كل فاتح رَحم من بني إسرائيل” فهو مُقدس للرب (خروج2:13) ويجب تقديـمه لهيكل الرب. وحسب روايـة انجيل يعقوب الغير قانونـي (Protoevangelium of James) فلقد جاء أن يواقيم وحِنّـة والدا القديسة مريـم قد قررا الوفاء بنذرهـما بتقديم طفلتهـما للرب فقدمـا إبنتهـما مريـم للهيكل عندمـا كان عمرهـا ثلاث سنوات ( وفى بعض الأقوال عندما كان عمرهـا سنتان وسبعة شهور وسبعة أيام). وتقدمـة مريم للهيكل لم يكن أمراً مفروضاً فى الشريعة، فالشريعة ما كانت تلزم إلاّ بتقدمـة الصبي بكر عائلتـه ولكن والدا مريم قدماها للرب وكرساها لخدمة الهيكل منذ ميلادهـا. والرأى العام عند مؤرخي حياة العذراء مريم هو انها مكثت سني صباها حتى سن الرابعة عشرعاما حيث سكنت مع رفيقاتها الـمكرّسات مثلها احدى الأبنية الـمتصلة بهيكل سليمان، وهى مثل دار للفتيات يربين فيه وفيها يعشن فى نظام مشترك مشابه لنظام الرهبنات الحالي.
الهيـكل:
عندما ولدت مريم كان هناك توسعات واصلاحات هامة تتم في هيكل اورشليم بناء على أوامر
هيرودس الملك والهيكل تم بناؤه على جبل الموريا حيث كان سيقدم ابراهيم ابنه اسحق ذبيحة لله وذلك كان في عام 966-956 ما قبل الميلاد ولقد بنى الملك سليمان بيتا للرب ووضع فيه تابوت العهد في قدس الأقداس ولكن هذا الهيكل تم تدميره من الملك نبوخذنصر عام 587 قبل الميلاد واعيد بناؤه عدة مرات في عام 520 قبل الميلاد وتم عمل عدة توسعات حتى عام 10قبل الميلاد.
ان هيكل اللـه فى القديم كان يقوم بخدمته لفيف من الرجال من حيث العمل الكهنوتي (رئيس
كهنة-كهنة-لاويين)، وكل منهم له عمله وله مكان محدد فى الهيكل. والـمرأة دخلت الى الهيكل وذلك لتؤدى عملين هامين:
أ-خدمـة بحسب إمكانياتهـا كإمرأة ب- عبادة وتكريس
ولقد ذُكر فى الكتاب الـمقدس عن وجود بعض النساء الـمكرّسات للخدمة فى الهيكل:
- هناك متجندات تجنّدن عند باب خيمة الإجتماع (خروج8:38)
- بنات يغنين فى بيت الرب بالصنوج والرباب (1ايام5:25-6)
- عزرا الكاهن زاد عددهن الى 200 (عزرا60:2)، وفى ايام نحميا أصبحن 245(نحميا7).
- جوقـة التراتيل (2مكابيين 18:3)
- بعض النسوة الـمكرسات للصلاة والتأمل مثل حنة بنت فنوئيل المذكورة فى انجيل لوقا.
والهيكل الذى دخلته مريم العذراء هو هيكل سليمان وقد أنفقت فى بنائه أموال كثيرة وأقيم على جبل الـمورّيـا وفى مكان تقول التقاليد ان ابراهيم قد أقام فيه ذبيحة. وكان فى شكل نصف دائرة وكان يظهر من بعيد كأنـه جبل من ذهب ورخام، وكان عبارة عن سلسلة من أعمدة وأروقـة متداخلة وفى داخلها محراب قدس الأقداس حيث وضع تابوت العهد. وبنى أول هيكل حوالى 1000 سنة قبل الـميلاد وبقى 500 سنة فقط ثم أحرقـه وهدمـه نبوخذنصر القائد الأشوري. وأيام كورش ملك الفرس أعاد اليهود من السبي وسمح ببناء الـمعبد، فبناه زرُبابل بن شالتئيل وذلك قبل ميلاد السيد الـمسيح ب516 سنة، ولكن لم يكن فى جمال الهيكل الأول. والهيكل كان ينقسم الى باب الأمم وفيه يستطيع كل الناس أن يدخلوه (الصيارفة-الباعة-الوثنيين…)، ثم باب اليهود وتحت هذا الباب كان صندوق الصدقات، وفى هذه الـمنطقة كان يوجد الفريسيون والكتبة والعلماء. ثم يأتـى دار الكهنة حيث مائدة الخبز والشمعدان ذو السبعة أغصان وفى الوسط مذبح البخور ثم قدس الأقداس والذى جعله الـملك سليمان فى القديم مقر تابوت العهد، ولكن فى البناء الثانـى لم يكن موجود هذا التابوت حيث قد اختفى تماما منذ عهد نبوخذنصر ولم يستطع أحد أن يعلم ماذا حلّ بـه، وهذا التابوت كان موضوع فيه لوحي الوصايا التى اعطاها الله لـموسى وعصا هارون التى أورقت تأييداً لكهنوت هارون، وكأس ذهبية تحوي شيئ من الـمنْ ثم نسخة من التوراة. وقد تم تجديد الهيكل أيام هيرودس الأول، ولـما دخلت مريم العذراء كانت أعمال التجديد مستمرة وحتى أيام الـمسيح.
فى الهيكل كان يوجد مكان مخصص للفتيات الـمكرّسات (يوسيفوس الـمؤرخ اليهودى كتب ان هيرودس بنى بنايـة واسعة فيها 80 جناحا لبنات اسرائيل الـمخصصات للخدمـة). وكانت الفتيات تتعلم فى الهيكل الصلاة والـمزامير والأناشيد مع التأمل وتدرس التوراة وتاريخ بنى اسرائيل والشرائع والعادات والنبؤات التى تعلن عن مجيئ الـمسيّا. ثم يأتـى بعد ذلك الأعمال اليدويـة العادية من تطريز لثياب الكهنة وإعداد العطور والغزل والنسج (خروج2. وكانت مريم العذراء تفعل كل ذلك فى صمت ومناجاة مع اللـه فى تواضع وتصنع الخير وتحب الفضيلة وفى طاعـة كاملة، وبالطبع كانت ترى كل يوم الذبائح التى تقدم فى الفجر وعند غروب الشمس. وكان كل اليهود يحضرون هذه التقدمة، وكانت تحضر فى أيام الأعياد مثل أعياد الفصح والـمظال، وفى الـمساء كانت تجتمع الفتيات للصلاة. ويذكر بعض الكتّاب عن معجزات كانت تقوم بهـا مريم العذراء، وأنـه كانت تأتيهـا مأكولات مخصوصة من السماء، أو انهـا كانت تحادث الـملائكة، وكل هذه الروايات لا يمكن قبولهـا أو رفضهـا لأنـه لم يذكرلنا شيئاً مؤكداً. لكن ما يجب أن نعلـمه أن مريم كانت متعبدة للـه التى نذرت لـه كل نفسها وقلبها وجسدها، وإستمر عـمل النعـمة فيهـا طيلة حياتهـا حتى ان ملاكاً من السماء حياهـا فيما بعد قائلاً:”يا ممتلئـة نعـمة”.
ولقد ذكر من القديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+730) والقديس يوحنا الدمشقي
(+763)، والقديس جريجوري النيسي فـى كتابتهـم قصة دخول مريـم العذراء للهيكل. وتحتفل
الكنيسة بعيد تقديـم مريـم العذراء للهيكل والذى بدأ منذ القرن الخامس الـميلادي فـى الشرق ثـم إمتد إلـى سائر العالـم الكاثوليكي فـى عهد البابـا سكتيوس الخامس فى عام 1585م. ولقد قيل أن الامبراطور جوستنيان قد بنى كنيسة لتمجيد ذكرى هذا الحدث وتم تدشين تلك الكنيسة فى اورشليم فى 21 نوفمبر من عام 543 ولكن تم تدميرها بعد ذلك. ويقع عادة عيد دخول مريم العذراء الى الهيكل فى يوم 21 نوفمبر فى طقس الكنيسة الكاثوليكية الغربية أما فى طقس الكنيسة القبطية فيحتفل بـه فى يوم 3 كيهك (ويوافق 12ديسمبر).
تذكار تقديم القديسة العذراء مريم إلى الهيكل بأورشليم سن 3سنوات (3 كــيهك)
في مثل هذا اليوم تذكار دخول السيدة البتول والدة الإله القديسة مريم إلى الهيكل، وهي ابنة ثلاث سنين، لأنها كانت نذرا لله، وذلك انه لما كانت أمها حنة بغير نسل، وكانت لذلك مبعدة من النساء في الهيكل، فكانت حزينة جدا هي والشيخ الكريم يواقيم زوجها، فنذرت لله نذرا، وصلت إليه بحرارة وانسحاق قلب قائلة “إذا أعطيتني ثمرة فإني أقدمها نذرا لهيكلك المقدس”، فاستجاب الرب لها ورزقها هذا القديسة الطاهرة فأسمتها مريم، ولما رزقت بها ربتها ثلاث سنوات ثم مضت بها إلى الهيكل مع العذارى، حيث أقامت اثنتي عشرة سنة، كانت تقتات خلالها من يد الملائكة إلى إن جاء الوقت الذي يأتي فيه الرب إلى العالم، ويتجسد من هذهالتي اصطفاها، حينئذ تشاور الكهنة إن يودعوها عند من يحفظها، لأنها نذر للرب، إذ لا يجوز لهم إن يبقوها في الهيكل بعد هذه السن فقرروا إن تخطب رسميا لواحد يحل له إن يرعاها ويهتم بشئونها، فجمعوا من سبط يهوذا اثني عشر رجلا أتقياء ليودعوها عند أحدهم، واخذوا عصيهم وادخلوها إلى الهيكل، فاتت حمامة ووقفت علي عصا يوسف النجار، فعلموا إن هذا الأمر من الرب، لان يوسف كان صديقا بارا، فتسلمها وظلت عنده إلى إن آتى إليها الملاك جبرائيل وبشرها بتجسد الابن منها لخلاص آدم وذريته. وأهـمية هذا الإحتفال هو التأمـل فـى كيف أن القديسة مريـم قد قضت طفولتهـا فـى الهيكل مكرّسة ذاتهـا بكليتهـا للـه وإستعداداً لقبول كلـمة الله الـمتجسدة. فالعذراء مريم لم تأتى للهيكل لتقدم قربانـاً أو بخوراً أو لباناً أو مراً ولكن لتكرس نفسهـا فلقد أدركت تماماً دعوة الله لهـا “قومي يـا خليلتي يا جميلتي وهلّمي”(نشيد الأناشيد13:2)، فلهذا نسيت كل شيئ و عاشت فى حضرة الله كقول المرّنم:”انسي شعبكِ وبيت أبيكِ فيصبو الـملك إلـى حُسنكِ”(مزمور11:44).
أسم مريم
تعودت الأسر فـى العالـم كلـه على تسـمية أبنائهـا حسب العادات الـمتوارثـة فيتم إختيار إسم الأب
أو الأم أو الأعـمام أو الأسلاف. غيـر أن إسم “مريـم” لـم تحـمله أسرة العذراء من قبل ومن
الـمعتقد أن الله قد أوحـى بهذا الإسم إلـى والداي العذراء، كـما أوحى إلـى زكريـا الكاهن بإسم
يوحنـا “فقال له الـملاك لا تخف يا زكريا فإن طِلبتك قد أستيجبت وامرأتك أليصابات ستلد ابنـاً
فتسمـيه يوحنا”(لوقا13:1).
إن إسم مريم عبري. وفي اليونانية “ماريا” وفي اللاتينية أيضًا. وفي بعض اللغات “ماريان”.وتوجد عدة تفاسير لمعنى هذا الاسم, نذكر من الناحية اللغوية بعضًا منها:
أ- مريم من كلمة “ميريام” في اللغة المصرية القديمة, وهي مشتقة من كلمتين:
“ميري” وتعني محبوبة، و”يام” كان إستخدامها لدى المصريين للإشارة إلى الاسم الإلهي العبري “يهوه”. وبناء عليه تعني كلمة “ميريام” المحبوبة لدى الله.
ب- يرى البعض أن كلمة “مريم” هي مؤنث الكلمة الآرامية “مار” وتعني “سيد” وعليه فتكون
كلمة مريم بمعنى سيدة.
يظهر اسم مريم في الكتاب المقدس في 57 آية.بالإضافة إلى مريم، أمّ يسوع، هناك ثمانية نساء أخريات في الكتاب المقدس يحملن هذا الاسم. يذكر العهد القديم امرأتين تحملان اسم مريم، أما في العهد الجديد فهناك سبع مريمات، وقد سمي بهذا الاسم في الكتاب المقدس الشخصيات التالية:
1-مريم، أو ميريام:أخت موسى وهارون. أظهرت حكمة عندما تقدمت لابنة فرعون واشارت
عليها ان تحضر لموسى مرضعة التي هي أمّه.وهي التي سبحت بعد عبور البحر الأحمر
(خروج20:15-21) والتى عوقبت لمقاومتها لموسى (العدد 12) وايضا في (1 أخبار الأيام).وماتت في قادش ودفنت هناك” (العدد 1:20).
2- إمرأة من نسل يهوذا لم يتحدّث الكتاب المقدّس عنها سوى بسفر الأخبار في آية واحدة: وَبَنُو عَزْرَةَ: يَثَرُ وَمَرَدُ وَعَافِرُ وَيَالُونُ. وَحَبِلَتْ بِمَرْيَمَ وَشَمَّايَ وَيِشْبَحَ أَبِي أَشْتَمُوعَ. (1 أخبار الأيام 17:4).
3- مريم إمرأة حلفى (مت 3:10), أو كلوبا (يو 25:19), وهي من جملة اللواتي بلغن الرسل قيامة يسوع (لو 10:24), وإذ كانت ذاهبة إليهم بهذا الخبر لاقاها المسيح فسجدت له (مت 1:28و9). كلوبا أو حلفى هو أخو القدّيس يوسف وعند اليهود ينادى الأقرباء بالأخوة، كأولاد العم أو الأنسباء. لذا مريم زوجة كلوبا دُعيَت أخت مريم العذراء وهي نسيبتها وليست أختها من
أبويها. وأولادها يهوذا تداوس ويعقوب.
4- مريم أخت لعازر ومرثا وتلميذة المسيح التي جلست عند قدميه, وشهد لها أنها إختارت النصيب الصالح (لو 41:10و42).
5– مريم أم يوحنا مرقس (أع 12:12). وخالة برنابا (كو 10:4) وكانت إمرأة تقية ساكنة في
أورشليم, وكان التلاميذ مجتمعين في بيتها في الليلة التي نجا فيها بطرس من السجن. قدمت مريم أمّ مرقس العليّة ليأكل فيها المسيح الفصح مع تلاميذه حيث أسّس سر الافخارستيا.
واستقبلت القدّيس بطرس بعد هربه من السجن في أورشليم.
6- مريم المجدلية: ولا طائل تحت الرأي الشائع أنها كانت إمرأة زانية, لأنها كانت ذات ثروة
وصيت حسن. وإنما كانت قد إبتليت بسبعة شياطين أخرجهم منها المسيح فتبعاه (لو 2:8و3) وثبتت إلى المنتهي, فكانت معه وقت الصلب (يو25:19), وكانت من جملة اللواتي أتين إلى القبر ليحنطنه (مر 1:16), وكانت من الأوليات عند القبر مع مريم أم يعقوب (مر 9:16) وشرفها المسيح بحديثه معها بعد قيامته (يو 11:2-18).
7- مريم ام يعقوب ويوحنا واحدة من شهود صلب يسوع والقبر الفارغ(مرقس40:15-47)
شاهدة على الصلب وعلى القبر الفارغ كما يذكر القدّيس مرقس في الإصحاح 15
وَكَانَتْ أَيْضًا نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي،
وَسَالُومَةُ، اللَّوَاتِي أَيْضًا تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ
إِلَى أُورُشَلِيمَ.
8- وأخيرًا “مريم” إمرأة مسيحية في رومية ذكرها القدّيس بولس في رسالته إلى رومية
سَلِّمُوا عَلَى مَرْيَمَ الَّتِي تَعِبَتْ لأَجْلِنَا كَثِيرًا (رومية 16 :6).
معنى اسم مريم
اسم مريم هو اسم أعجميّ غير عربيّ، يرجّح أنّ بداية ظهوره كانت عند اليونانيّين ثمّ انتقل إلى
العبريّة وبعدها وصل إلى الفرس ليصل إلى العرب بعدها. في اللّغة العربيّة فيقسم إلى قسمين
الأوّل يكون مرّ ومعناه مضى فنقول مرّ الشيء بمعنى أنّه مضى، والثاني يم يعني جانب
الشيء. وتمّ اشتقاق الكثير من الأسماء من اسمها مثل مريانا وماريّا وماري وميري ومروم وغيرها، وجميعها تدلّ على العفّة والطهارة. اسم مريم في أصلها في اللغة العبرية، ومعناه الخادمة التي تخدم الرب، أو التي تعبد ربها. ومعنى إسم “مريـم” يزيد فـى معانيـه عن الخـمسين: (الحبيبة-القادرة-الـمالكة-السيدة-نجمة البحر-الـجمال- الـمُرّ- النور-البخور الـملكي)، وفـى اللغة العـِبريـة فيعنى البحـر.لاسم مريم في الكتاب المقدس عدة معاني مختلفة فمنها ما يعني الفتاة المحبوبة، وورد بمعني الملكة أو السلطانة، كما يعني نجمة البحر.
عيـد إسـم مريـم الـمقدس (12سـبتـمبـر)– تعودت الأسر فـى العالـم كلـه على تسـمية أبنائهـا
حسب العادات الـمتوارثـة فيتم إختيار إسم الأب أو الأم أو الأعـمام أو الأسلاف. غيـر أن إسم “مريـم” لـم تحـمله أسرة العذراء من قبل ومن الـمعتقد أن الله قد أوحـى بهذا الإسم إلـى والديّ العذراء، كـما أوحى إلـى زكريـا الكاهن بإسم يوحنـا “فقال له الـملاك لا تخف يا زكريا فإن طِلبتك قد أستيجبت وامرأتك أليصابات ستلد ابنـاً فتسمـيه يوحنا”(لو13:1). العيد الطقسي لعيد اسم القديسة مريم العذراء المقدس” تأسس في أسبانيا ووافق عليه البابا في عام 1513، وتم تعميمه في أنحاء العالم بمعرفة البابا اينوسنت الحادي عشر عام1683، بعد هزيمة الأتراك على أبواب فيينا بالنمسا، ومدينة بولونيا الإيطالية، حيث حاولت الإمبراطورية العثمانية غزوهما، وعقب الهزيمة المنكرة تم إطلاق هذا العيد. والاحتفال بهذا العيد من اجل تكريم ام يسوع واسمها المقدس والأسم الذي يتشفع به المؤمنين لوالدة الله وايضا الأسم الذي يستجيب لإحتياجات البشر.
ماذا كانت حياة مريم ام يسوع قبل ظهور الملاك جبرائيل لها؟
لا نعرف كثيرا عن تلك الفترة بصورة مؤكدة، فحياة مريم الأولى تشتت في سريّة على الرغم من ان هناك العديد من التقاليد التي تناقلت عبر الأجيال وظهرت مثل ميلادها لأبوين ميسوران يعانون مشكلة العقم وكبرت كطفلة بمعرفة كهنة الهيكل ثم ترتيب خطبتها لرجل اسمه يوسف. ان الكتاب المقدس لم يذكر لنا كثيرا عن وجود مريم قبل البشارة فأنجيل القديس لوقا ذكر لنا فقط الآتي: وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ
الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ.” (لوقا26:1-27).
ان هذا النص لم يذكر لنا كثيرا عن حياة مريم الأولى ولكنه اعطانا ثلاث حقائق مهمة علينا إكتشافها:
- انها كانت تعيش في مدينة في الجليل اسمها ناصرة
- انها عذراء مخطوبة
- اسم خطيب مريم هو يوسف من بيت داود.
تلك التفاصيل قد تبدو غير مهمة عن خلفية تمكنا ان نتوقع الحصول على الكثير من
المعلومات، لكن بالنظر الى تلك الحقائق عن مريم كإمرأة يهودية تعيش في القرن الأول الميلادي تكون تلك الحقائق الصغيرة مهمة لتكشف بعض الحقائق الهامة عن حياة مريم، خاصة لكي نتفهم المهمة التي اسندها الله لمريم وأيضا لنعرف على الأقل ومضات من حياة مريم قبل البشارة.
الناصرة – المكان المجهول
الحقيقة الأولى التي نتعلمها انها كانت تسكن مدينة في الجليل اسمها الناصرة (لوقا26:1). هذه المعلومة الجغرافية البسيطة مهمة، فمن وجهة النظر البشرية فناصرة الجليل مكان غير محبوب لكي يخرج منه المسيّا المنتظر. اليهود في الجليل كانوا دائما في موضع غير محبوب في نظر اقرناؤهم في اورشليم واليهودية فنجد “فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟(يوحنا46:1) و “أَجَابُوا وَقَالوُا لَهُ: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ»(يوحنا52:7)، وذلك لأنه من المحتمل كان يقطنها أجانب “أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ.الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ»(متى15:4-16)، وأيضا لكونها بعيدة عن أورشليم وهيكلها المقدس. الناصرة كان فيها أيام مريم حوالي 200 او 500 نسمة ولم تكن في أي طريق تجاري او قريبة من مركز تجارة وكما سبق ان ذكرنا انها لم تحمل أي تاريخ في التقليد اليهوديوحتى العهد القديم لم يُذكر فيه أي شيئ عنها ولم تأتي أي نبؤة عنها. ان الحقيقة ان يسوع قد جاء من الناصرة ستصبح علامة ضده فيما بعد عندما يبدأ رسالته العلنية فهي ذات سمعة سيئة. لذلك في القرن الأول الميلادي وفي العالم اليهودي كانت ناصرة جليل الأمم ليست من ضمن ال 10 اشهر أماكن يمكن للمسيّا ان يأتي منها. ان كون الله يختار امرأة من تلك المدينة البسيطة والفقيرة والمجهولة لتصبح ام للمسيّا هو مثار للدهشة والتعجب وهو علامة خاصة ومخالفة لأي توقع وخاصة ان نسيبتها اليصابات قد حدث لزوجها زكريا حديثا حدثا هاما في أورشليم. لقد سجل انجيل لوقا ان الملاك جبرائيل قد زار زكريا الكاهن وهو يقوم بخدمته في المكان المقدس -هيكل اورشليم- وهو الذي يحمل مكانة دينية معروفة ويخدم كأحد الكهنة اللاويين. كان زكريا الكاهن في اثناء خدمته رافعا البخور فظهر له الملاك جبرائيل لينقل له الرسالة عن زوجته العاقر بأن اليصابات ستحبل وتلد ابنا في شيخوختها. ومن الناحية الأخرى وفي بشارة مريم فهي امرأة صغيرة غير معروفة لا تحمل اية وظيفة مرموقة ولا تحمل أي صفة وظيفية ومن الظاهر انها كانت تقوم بأعمالها المنزلية العادية في قرية غير معروفة عندما ظهر الملاك وكلّمها. أكثر من ذلك كانت البشارة لزكريا لها صدى لدى الشعب على الفور الذي عرف ان ملاكا قد ظهر له: “وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ”(لوقا 10:1) و” وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعّجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ.فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا”(لوقا21:1-22). ان الملاك تحدث مع مريم وفي النهاية لم يوجد أي احد حولها وبهذا ذهبت رؤيتها بلا شهود او أي شخص حتى لاحظ ذلك حتى في كل إسرائيل على الرغم ان تلك الحادثة هي اهم بشارة ملائكية كان ينتظرها الاسرائيليون في كل تاريخهم. لقد أشار القديس البابا يوحنا بولس الثاني الي تلك المقارنة بين البشارتان مشيرا للطريقة الغير طبيعية لتدخل الله في حياة مريم:” في حالة العذراء كان فعل الله يظهر بالتأكيد مفاجئا، فمريم ليس لديها أي طلب بشري لمجيئ المسيّا فهي ليست رئيس كهنة او ممثلاً عن الدين اليهودي او حتى رجلاً ولكن امرأة صغيرة بدون أي تأثير في مجتمع زمانها، هذا بالإضافة انها من سكان
قرية الناصرة التي لم تُذكر في العهد القديم”.
ولقد أضاف القديس البابا يوحنا بولس الثاني موضحا تواضع مريم فقال:” ان القديس لوقا ركز من ان كل شيئ في مريم قد تحرك من نعمة عظمى وان كل ما قد وهب لها لم يكن بسبب أي طلبة او استحقاق ولكن نتيجة اختيار إلهي عظيم وحر. ان مريم تقف في التقليد الكتابي لإختيار الله لأناس متوقع منهم على الأقل ان يقوموا بدور حيوي في خطة الله لخلاص البشرية. كما اختار الله موسى متلعثم في الكلام وغير ذوو ثقة في نفسه وفي قدرته لقيادة شعب من العبودية في مصر، وأيضا كما اختار الله من بين أبناء يسّى صبي صغير اسمه داود والذي كان راعي غنم بسيط وسعيد في حياته وجعله ملكا ثانيا على إسرائيل، أيضا اختار الله في القرن الأول الميلادي من ضمن الشعب اليهودي ليست امرأة من الطبقة الأرستقراطية وليست ابنة لرئيس كهنة في اورشليم او ابنة لزوجة كاتب او لاوي او فريسي مشهور ولكن اختار عذراء غير معروفة اسمها مريم من قرية متواضعة اسمها الناصرة ويسألها لتصبح ام
لملك إسرائيل المسيّا المنتظر.”
عذراء مخطوبة
الحقيقة الثانية والتي نتعلمها عن مريم انها كانت “عذراء” و”مخطوبة” وتلك الحقيقة تعطينا ثلاث أشياء هامة عن القديسة مريم:
+ أولا بما انها امرأة يهودية فلقد ارتبطت وهي في عمر حوالي 13 سنة. من المحتمل ان مريم كانت صغيرة جدا عندما استقبلت تلك الرسالة العظيمة من الملاك جبرائيل عن دعوتها لتخدم كأم المسيّا.
+ ثانيا وكإمرأة مخطوبة فهي قانونيا متزوجة للقديس يوسف ولكن مازالت تعيش مع عائلتها. ان الخطبة اليهودية ليست كمثل الخطوبة في عصرنا الحديث ففي اليهودية كان الزواج اليهودي يتم فى ثلاث خطوات:
- الخطوة الاولى: وهى الخطبة وكانت تتم بمجرد موافقة الاسرتين على الارتباط.
- الخطوة الثانية: وهى الخطبة الرسمية والتى تتم عند اذاعة الامر علنا فيصبح العروسان
مرتبطين برباط لا ينفصم الا بالموت او الطلاق، ولا يسمح فيه باي علاقات جنسية الا بعد
اتمام الزواج “ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الشَّاهِدُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَةِ شَبَابِكَ الَّتِي أَنْتَ غَدَرْتَ بِهَا، وَهِيَ قَرِينَتُكَ وَامْرَأَةُ عَهْدِكَ”(ملاخي14:2). في هذه المرحلة يمكن للزوجة ان تعيش في منزل اسرتها لبعض الوقت تصل أقصاها عام
- الخطوة الثالثة: وهى الزواج، وهذه الخطوة هي “أخذ” الزوجة الي منزل الرجل وهنا عندما يمارس الرجل سلطاته ويكون مسؤلا عن امرأته.
وعليه تكون مريم المخطوبة للقديس يوسف كانت مازالت فى الخطوة الثانية ولم تتم الخطوة
الثالثة عندما ظهر الملاك جبرائيل لها. ان مريم كانت زوجة للقديس يوسف في تلك الأوقات
ولكنها لم تكن بعد تسكن معه.
+ ثالثا وطبقا للزواج اليهودي والتقليد المتبع في الجليل فالعلاقة الجنسية عادة لا تتم حتى يأخذ
الرجل زوجته الي بيته. وهكذا فتكون مريم امرأة صغيرة مخطوبة ولهذا فيمكن ان تدعى بحق
“عذراء” (لوقا27:1).
بيت داود
اكثر الحقائق الملفتة عن مريم كما جاء في آيات انجيل القديس لوقا انها كانت “مخطوبة لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ”(لوقا27:1). تلك الحقيقة هامة لمريم فهى تقول لنا ان مريم لم تكن جزء من عائلة عادية فهي الآن تخص “عائلة ملكية”( ان القديس لوقا لم يوضح بصورة واضحة سلسلة نسب مريم، فحيث ان زكريا الكاهن وزوجته اليصابات من أقرباء مريم فهم من سبط لاوي وقد يستنج ان مريم من ذلك السبط. ان زواج مريم لشخص من بيت داود يمكن ان يشير ان في سلسلة نسبها يعود أيضا الي بيت داود – انظر ما ذكر في رسالة القديس بولس لأهل رومية: “ عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ”(رومية3:1). في الحقيقة ان التعبير “بيت داود” قد استخدم في العهد القديم إشارة الى سلسلة نسب يرجع للملك داود، أشهر عائلة في تاريخ إسرائيل. ورثة الملك داود حكموا مملكة يهوذا لعدة قرون. لقد وعد الله داود ان عائلته سيكون لها مملكة لا تنتهي. ويبدو ان مملكة داود تعرضت لصدمة قوية درامية في عام 586 قبل الميلاد عندما غزا البابليون اورشليم وحطموا الهيكل وحملوا شعبها أسرى للعبودية. في تلك الأوقات عديد من أبناء داود قد قتلوا ولم يوجد احد من احفاده جلس على العرش لمدة 600 سنة حيث تعاقب الغزاة على احتلال الأرض وحكموا اليهود. في تلك الأيام بدا ان مملكة داود قد اندثرت وانتظر الشعب لإبن من نسل داود لإعادة المملكة كما تنبأ عنها الأنبياء.
هذا الوضع في أيام مريم ويوسف عندما كان الرومان اخر المحتلون يسيطرون على الأرض. في القرن الأول الميلادي العالم اليهودي وهو محتل من الأمبراطورية الرومانية لذا يكون أي جزء من بيت داود لا يعطي أي ميزة او شرف وسلطة كما كانت في أيام ملوك اليهودية والذين كانوا يحكمون اورشليم. ان “زوج مريم” قد يكون “من بيت داود” ولكن لم يكن يملك كأمير في احد قصور أورشليم ولكن بدلا من ذلك كان يعمل كنجار متواضع يحيا في هدوء يدير حانوته في قرية مغمورة وهي الناصرة.
القديس يوسف
مرة أخرى نجد انجيل لوقا يذكر لنا سلسلة نسب يسوع وفيها أيضا ذكر ليوسف: ” ولـمـا إبتدأ
يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يُظن إبن يوسف بن عالي بن متات” (لوقا
23:3).
لقد كبر القديس يوسف في غموض حتى نسبه غير واضح، فالعهد الجديد اعطانا سلسلتان
من النسب ليسوع ويبدو من اول وهلة انهما متعارضتان عن تحديد من هو والد يوسف. القديس متى ينص على ان والد القديس يوسف يسمى “يعقوب”:” وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ.“(متى16:1)، بينما القديس لوقا يضع في قائمته اسم “هالي”: وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي”(لوقا23:3). لا هذا او ذاك من سلسلة الأنساب تعطي قائمة كاملة للأجيال بدون أي ثغرات وهكذا فانه من المحتمل ان احدهما او (كليهما) قد تخطوا ببساطة الأجيال التي تسبق يوسف مباشرة.
لكن لدينا مصدر آخر من احد المؤرخين اسمه Sextus Julius Africanus[12] الذى عاش
في الأراضي المقدسة في القرن الثاني الميلادي ويقال انه كان على اتصال باسرة يسوع والقرى
التي كان يقطنها اسلاف الملك داود. افريكانو كانت كتابته مسجلة مع اوسابيوس Eusebius والذى كتب ان أم يوسف كانت ارملة لم تنجب من زوجها “هالي” الذي مات وطبقا للشريعة اليهودية فأخو “هالي” والذي اسمه “يعقوب” كان عليه ان يتزوحها ويقيم نسل لأخيه “هالي”: “ «إِذَا سَكَنَ إِخْوَةٌ مَعًا وَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ، فَلاَ تَصِرِ امْرَأَةُ الْمَيْتِ إِلَى خَارِجٍ لِرَجُل أَجْنَبِيٍّ. أَخُو زَوْجِهَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَتَّخِذُهَا لِنَفْسِهِ زَوْجَةً، وَيَقُومُ لَهَا بِوَاجِبِ أَخِي الزَّوْجِ. وَالْبِكْرُ الَّذِي تَلِدُهُ يَقُومُ بِاسْمِ أَخِيهِ الْمَيْتِ، لِئَلاَّ يُمْحَى اسْمُهُ مِنْ إِسْرَائِيلَ. «وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الرَّجُلُ أَنْ يَأْخُذَ امْرَأَةَ أَخِيهِ، تَصْعَدُ امْرَأَةُ أَخِيهِ إِلَى الْبَابِ إِلَى الشُّيُوخِ وَتَقُولُ: قَدْ أَبَى أَخُو زَوْجِي أَنْ يُقِيمَ لأَخِيهِ اسْمًا فِي إِسْرَائِيلَ. لَمْ يَشَأْ أَنْ يَقُومَ لِي بِوَاجِبِ أَخِي الزَّوْجِ. فَيَدْعُوهُ شُيُوخُ مَدِينَتِهِ وَيَتَكَلَّمُونَ مَعَهُ. فَإِنْ أَصَرَّ وَقَالَ: لاَ أَرْضَى أَنْ أَتَّخِذَهَا. تَتَقَدَّمُ امْرَأَةُ أَخِيهِ إِلَيْهِ أَمَامَ أَعْيُنِ الشُّيُوخِ، وَتَخْلَعُ نَعْلَهُ مِنْ رِجْلِهِ، وَتَبْصُقُ فِي وَجْهِهِ، وَتُصَرحُ وَتَقُولُ: هكَذَا يُفْعَلُ بِالرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَبْنِي بَيْتَ أَخِيهِ. فَيُدْعَى اسْمُهُ فِي إِسْرَائِيلَ «بَيْتَ مَخْلُوعِ النَّعْلِ».“(تثنية5:25-10)، وهذا ما جاء ذكره مرة أخرى في حوار الفريسيين مع يسوع:” «يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَدًا، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلًا لأَخِيهِ.“(مرقس19:12). في مثل تلك الترتيبات المعروفة ب الزواج المرتفع كلا الرجلان الأخان يكونا معروفان بأنهما والدا الطفل.
فبالطبيعة يوسف هو إبن يعقوب وبالقانون الـموسوي هو ابن عالـي. وكان قصد متى أو لوقا فى ذكرهما لسلسلة الأنساب هذه هو إثبات ان يسوع هو إبن داود ومن سبط يهوذا تـمـيماً للنبؤات الـموعود بها منذ القِدم. وايضا فى لوقا نجده يُصعد يسوع من ابيه “الظنّي” يوسف الى داود الى ابراهيم الى آدم الى الله لكي يبين الرباط القائم بين يسوع والبشريـة جمعاء. فيوسف النجار إبن ليعقوب حسب الطبيعة (مت16:1) وإبن لهالي حسب الشريعة (لو23:3). وهذا يوضح الإختلاف بين النسب الوارد فى انجيل متى، والنسب الوارد فى انجيل لوقا. ويوسف كما جاء فى سلسلة النَسَب حسب القديس متى نجده قد أتى بعد 39 مرة من عبارة “فلان وَلَدَ فلان” فنقرأ:”يعقوب وَلَدَ يوسف رجل مريم التى منها وُلد يسوع الذى يُدعى المسيح”، فيكون يوسف هو من الناحية الطبيعية آخر حلقة فى السلسلة الداودية المباشرة وهو الذى يوم ابرم زواجه بمريم أدخل يسوع الى ذريّة داود، فالإنتماء النسلي يمر بالرجل وبهذا تكون النبوءات قد تمّت ويوسف قد ساهم فى التدبير الفدائي. لقد اراد الله ان يكون لإبنه نسب بشري وهذا النسب هو نسب
يوسف بالذات.
فالقديس يوسف البتول هو اذن من سبط يهوذا الشهير ومن بيت داود الملك والنبي وفي سلسلة جدوده نجد 10 من قضاة إسرائيل و13 من الأباء البطاركة و 22 من العظماء.
قد يتعجب البعض كيف يكون يسوع معتبرا من خط سلسلة نسب داود بينما يوسف ما هو إلا
اب إعتباري له. ان الحبل العذري للمسيح لا يمكن ان يقلل مطلقا ابوة يوسف ليسوع حيث ان قانونية ابوته قد تمت بإرتباطه بمريم ام يسوع.
الشيئ الآخر الذى جلب أيضا بعض المجادلات كان تاريخ ميلاد القديس يوسف وهذه المشكلة ارتفعت ليس من الانجيل ولكن بدلا من ذلك من الكتابات اللاحقة التعبدية والأعمال المسيحية الخيالية التى صدرت فيما بعد والتي كثير منها لم تعترف به السلطة الكنسية. ان العهد الجديد بيّن ان يوسف البالغ كان رجل القوة والحيوية، فلقد قام برحلة تقترب من الف من الاميال من اليهودية الي مصر مفترضا على الأقدام او بواسطة دابة هاربا من جحافل جنود هيرودس. ثلاث عقود بعد ذلك -مات يوسف ومازال كان معروفا من انه “النجار” تلك المهنة التي كانت تحتاج الي قوة جسمانية ولياقة:” أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟”(متى55:13) و ” أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، “(مرقس3:6). اذا العهد الجديد اظهر بوضوح شهود في اتفاق من ان يوسف كان نجارا وتزوج وهو رجل شاب ليتحمل مسؤولية مريم وابنها.
هكذا سنمضي قدما من الافتراض انه قد ولد ونما اثناء حكم هيرودس. الانجيل قد استخدم
الكلمة اليونانية “tekton لوصف يوسف وهذا التعبير اكثر شيوعا ينطبق على العمال اليدويين الذين يعملون بالخشب والحجر او المعدن. التقليد التاريخي القديم يخبرنا ان يوسف وابنه يسوع كانا نجارين.
كما تعلم يسوع مهنة النجارة من يوسف لذا فمن المحتمل ان يوسف قد تعلمها من ابوه، وهذه عادة الطريقة للتدريب المهني والحرفي. المنزل او الاسرة من الحرفيين يكون عادة مؤسسة تجارية. يحفظ لنا كتاب التلمود والذي هو عبارة عن مجموعة شرائع الناموس اليهودي تقليد قديم يقر فيه:” ان الرجل الذي يحترف مهنة او صنعة عليه تعليم ابنه تلك الحرفة واي شخص لا يعلم ابنه المهنة فهو بهذا يعلمه السرقة”
ان يوسف قد كبر وهو يشاهد أعضاء من اسرته وهم يعملون بايديهم وفي تلك القرية الصغيرة من المحتمل ان رجال الحرفة الواحدة لهم منطقة عمل عامة معا مغلقة بواسطة جدران او مغطاة بمظلة. انه يبدو على الأرجح ان هؤلاء الحرفيين قد بنوا منطقة للعمل تحميهم من تقلبات الطقس.
من الطبيعي لم يكن هناك أدوات كهربائية وبناء عليه فكان على النجار ان يستخدم ذراع قوية وعيون حريصة ومهارة مع مختلف التطبيقات مثال المحاور والازاميل و المناشير وأدوات للحفر وشواكيش وانابيب وغيرها.
مهنة النجارة والقديس يوسف
النجارة من أقدم الحرف البشرية، لأنها صناعة تحويل الخشب إلى مواد لازمة وصالحة للإفادة منها، ولان الخشب معروف منذ أقدم العهود. ويظن أنها أقدم حِرفة على الإطلاق. وأول ذكر لها في التكوين في قصة بناء فلك نوح. كذلك استخدم اليهود نجارين ماهرين عند صنع أدوات خيمة الشهادة واستخدم كل من داود وسليمان نجارين من صور في بناء القصر والهيكل، وذلك لان صور كانت مركز صناعة بناء السفن، التي هي صناعة خشبية. وقد عرف أهالي لبنان الفينيقي بالمهارة في النجارة لتوافر أخشاب الأرز والسرو عندهم، ولحاجتهم للسفن التي كانت محور نشاطهم التجاري. وكان يوسف، خطيب القديسة مريم، نجار كما اوضحنا. ومن أدوات النجارة القديمة الفأس والمنشار والمسامير والمطارق.
من اجل الناس في قرية القديس يوسف فهو ومن المحتمل اقرباؤه كانوا يقوموا بتصنيع الأثاث وبعض الأدوات الأساسية للفلاحة وغيرها من التي تستخدم في المنازل. الحوانيت الصغيرة للنجارة يمكنها ان تقوم بعمل السواقي للري واسوار ومخازن للعلف. عادة مثل تلك القطع الصغيرة تأخذ فقط جزء صغير من وقت النجّار. في المتاجر الكبيرة ربما يتم تكليف الشباب من الاسرة في القيام بالاعمال التي تحتاج لمجهود كبير. مع نمو اعمال هيرودس وانشاءاته لمدن عديدة اصبح الطلب كثير للعمالة اليدوية وخاصة اعمال النجارة والبناء وكانت مجموعات العمل تذهب بعيدا عن قراهم للعمل والعودة.
الطلب الشديد على الحرفيين كان متزايد اثناء طفولة يوسف وشبابه والنجارين من اليهودية
كانت لديهم الفرص للسفر بعيدا للعمل في البناء ولكن أيضا كانت هناك اعمال كافية بالقرب من أماكن سكناهم. هيرودس الملك كان يقدر مهارات الرجال الذين كانوا يقومون بالعمل في الانشاءات والمباني فهم كانوا أساسيين لأعمال دعايته-ارثه ومكانته الدولية. وكان هيرودس معروفا بسخائه نحو الحرفيين وهناك ادلة ان الحرفي يمكنه ان يصبح غنيا في ذلك الزمن. واحد من معاصرين يوسف كان رجلا اسمه “سمعان باني الهيكل” والذي تم اكتشاف قبره الفخم مؤخرا.
في كل واحد من مشروعات اعمال بناء هيرودس كان النجارين مشغولون بأعمالهم قبل ان يلحق بهم الحرفيين الآخرين مثل البنائين وعمال الحفر. كان النجارين هم الذين يبنون العربات والسقالات والرافعات والسلالم والتي تسمح لباقي العمالة في العمل كل في تخصصه ثم يستمر النجارين في العمل في تثبيت القواطع والممرات وغيرها.
الحرفيين في عهد هيرودس الملك كان في استطاعتهم عادة التحدث بلغتان واحيانا بطلاقة
فلغتهم الاصلية وهي الأرامية وكذلك اللغة اليونانية والتي أصبحت هي اللغة السائدة في التجارة والمعاملات الحكومية في منطقة البحر المتوسط. في فترات سفر هؤلاء الحرفيين من مكان لآخر كانوا يتعرضون لثقافات مختلفة وحضارات تختلف كثيرا عما عاشوه او نشأوا عليها.
دعونا الان ان نتخيل ان يوسف ووالده كانا ذا مهارة في مهنتهم ويبدو ان يوسف كان معروفا حتى بعد موته ب “النجّار” ولذا فيفهم من هذا انهم كان لديهم فرص كثيرة للعمل وقيامهم بالتعامل مع العديد من العملاء سواء في قريتهم الناصرة او في المناطق التي قاموا بالعمل فيها.
ان السمعة الجيدة تكون ضرورية في العمل الحرفي فالمهارة والتفوق والأمانة تجلب الانتباه
وذلك الانتباه يجلب عملاء وضمان دخل للعائلة. على اية حال فالتفوق يجلب أيضا حسد ممن هم اقل مهارة. ان نظام حكم هيرودس كان يعتمد على البنائين والحرفيين ولكن أيضا على الجواسيس والمرشدين. مع ان هيرودس يقدر هؤلاء الحرفيين لكن الامر لا يخلو من الوشايات ضدهم فكان عمل هؤلاء يتأثر كثيرا في جو تلك الوشايات والمؤامرات وكان البعض يخفي مهارته هربا من ذلك الجو الخطر.
انه كان من الخطورة ان تعرف انك من سلالة الملك داود ولذا فكلا من يوسف وابوه كان معرضون للخطر. وشاية قد تصل لأسماع هيرودس حتى وهما ذا مهارة يدوية قد تودي بهم للهلاك. كان داود مع كل هذا راعيا للغنم عندما صموئيل النبي فرزه ودهنه ولكن في عصر
هيرودس كان العمل يمثل تحديا بالغ الخطورة لسلالة داود.
المجامع اليهودية والقديس يوسف
ان عالم القديس يوسف كان ليس مشابها عالمنا في معظم الاحوال ولكن الاكثر التفاتا ربما في وحدة الحياة. الدين لم يكن مجزأ والنشاط الديني لم ينزل الي مكان خاص او يوم معين من الاسبوع ولكن بدلا من هذا كان على نطاق واسع يلمس كل جانب من جوانب الحياة في المنزل وفي العمل.
من المؤكد انه كان هناك مجمع في الناصرة والخدمة كانت تقدم هناك في يوم السبت
والليتورجيا تتضمن الصلوات وقراءات من الناموس والأنبياء وبعدها تفسير للكتب المقدسة من
معلّم.
طقوس مهمة تاخذ مكانها في المجمع ففي اليوم الثامن لميلاد الطفل الذكر يتم ختانه هناك وعندما يقدر الصبي على القراءة يُسمح له ان يقرأ لأول مرة من كتاب التوراة وبينما هو يقرأ ملعقة من العسل توضع على فمه حتى ان ذكرى تلك القراءة للناموس دائما تبقى حلوة. في عمر الاثنا عشر او الثالثة عشر الولد يفترض قيامه بكل واجباته الدينية التى جاءت في شريعة موسى من صوم وصلاة وحج ونشاط داخل المجمع.
يخدم المجمع ايضا كمكان للتجمع وفندق للمسافرين اليهود. الذي يحكم هذا المجمع ويديره
كانوا الشيوخ والكهنة وعادة قائد واحد يقوم بأعباء ادارة المجمع في اعماله اليومية. في عالمنا الحديث اليوم يختلف المجمع كثيرا اعتمادا على الانتماء الطائفي- ارثوذكس او محافظين او غيرهم. في العالم القديم كانت المجامع ايضا تختلف من قرية الى قرية اعتمادا على الحركة الدينية المنتشرة في تلك القرية سواء من الفريسيين او الصدوقيين او الغيورين.
كانت العبادة قبل السبي تؤدي في هيكل أورشليم فقط وبعد السبي أصبحت العبادة في أورشليم مستحيلة وغير ممكنة في ذلك الوقت فنشأت فكرة المجامع في بابل ولقد أقيمت لا لتكون مكانًا للذبائح وإنما للتعليم الكتابي والصلاة فالذبائح كانت تقدم فقط في اورشليم فلا يوجد مكان آخر على الأرض يمكن ان تقدم عليه ذبيحة مقبولة الى اله اسرائيل. وكان المجمع في قرية عدد أصحاب بيوتها 120 فصاعدًا مؤلفًا من ثلاثة وعشرين شخصًا، وفي القرى الصغيرة من سبعة قضاة ولاويين أو ثلاثة أعضاء فقط. كان الرجال الذكور ملزمين بالحج ثلاث مرات في السنة الي اورشليم في الأعياد الكبرى عندما كان هناك الهيكل. لكن الصلوات الشخصية كانت تقدم في البيت أيضا بجانب المجمع وكانت قواعد التوراة هي التي تتحكم في نظام الاسرة والعمل واوقات التسلية وحتى في العلاقات الجنسية ما بين المتزوجين.
ان حكم هيرودس الكبير -الغريب بدرجة كافية-تزامن مع فترة الاحتفالات الدينية في البلاد.
كان هناك معلمين يهود عظماء هما Hilled and Shammai احياء ونشطاء في اورشليم،
ومع علمهما وتقواهما كانا مثالا لليهود في كل الأجيال وحتى ما بعدهما. مع إعادة بناء هيكل اورشليم جاء تجديد عظيم في الحياة الليتورجية – و تكثيف لخبرة الحج والذهاب لهيكل
اورشليم كما تتطلب الشريعة.
الفريسيون اظهروا ثباتا في أيام حكم Hasmoneans وكانوا بلا خوف في معارضة للإساءات الدينية من الملوك واستمروا بشكل متقطع ان يكونوا مزعجين لهيرودس الملك. اما الغيورين وجدوا افضلية عند هيرودس فالمعلم الذى كان يعلمه وهو صغير كان من ضمن حركة الرهبان من تلك الطائفة وكان هيرودس يقربه اليه كمستشار له اثناء حكمه. ظل الغيورين متطرفين ورفضوا مشروعية كل رؤساء الكهنة منذ بداية hasmoneans ورفضوا ان يعترفوا باي تغييرات طقسية قاموا بها هؤلاء الكهنة ومع هذا احتفظوا بنتائجهم واعيادهم ومواعيدها وطقوسها حسب طريقتهم. وجعلوا الحج الى اورشليم ولكنهم لم يشتركوا في الذبائح التى كانت تقدم في هيكل اورشليم. عدد من طائفة الغيورين كانوا يعيشون في تجمعات في الصحراء بجوار البحر الميت، وكانت تلك التجمعات تتبع نظام نسكي متشدد وكان يشمل كلا من البتوليين والمتزوجين.
عدد كبير من الباحثين يعتقدون ان اسرة يسوع كانت على اتصال بهؤلاء الغيورين. القديس يوحنا المعمدان قد قضى بعض الوقت في الصحراء وشارك تطلع فئة الغيورين في البتولية وانتظار المسيّا. يوسف ومريم اقتربا ايضا في ارتباطهما بطريقة تبدو متفقة مع فكرة البتولية عند الغيورين. ان اجابة مريم للملاك في البشارة تبدو مقبولة فقط اذا ما كانت قد قررت ان تحفظ بتوليتها طيلة حياتها ولذا فهي قالت:” كيف يكون هذا وانا لا اعرف رجلا”. بمراجعة ادلة بعض علماء الأثار جاء بان اسرة يوسف لها ارتباط قوي ووثيق مع حركة الغيورين وايضا وصل لنفس النتيجة John Bergsma في كتابة عن يسوع ومخطوطات البحر الميت.
انه من المؤكد ان يوسف قد كبر مع الوعي الشديد بقرب قدوم المسيّا مع احتمالية ان المسيّا
سوف يأتي من عائلة يوسف خاصة، وايضا قد نما مع خيارات مهنية عليه ان يفاضل بينهم
ويختار لنفسه.
في سن المراهقة المبكرة كان من المتوقع ليوسف ان يعيش ايمان الكبار ومن المحتمل ايضا
انه كان له حصة في دخل العمل الذى كان يدعم الاسرة. حتى مع العمل للشباب الذى كان لستة ايام بمشقة كل اسبوع مع راحة يوم واحد وهو يوم السبت والذى كان مراقب بصرامة شديدة، فهذا اليوم كان محفوظ بكامله للصلاة واوقات فراغ تأملية ولا شيئ يسمح لأي عمل او
شبه عمل.
كان الزواج مرتب بواسطة الوالدين مع نصيحة من اقارب بالغين مع الحصول على موافقة
المختارين للزواج لكي يرتبطوا. لقد أكد Samuel Sandmel في كتابه بدايات اليهودية والمسيحية ان هناك فرق مابين فكرة الزواج في القديم والحديث فبين اليهود في القرن الاول الميلادي ينظر للزواج على انه ارتباط رسمي مرتب ما بين العريس والعروس وعائلاتهم. الحاخامات اليهود في القديم كانوا ينصحون للرجال بالزواج عن عمر 18 سنة والبنات ان يتزوجن بعد فترة قصيرة من بلوغهن.
عادة يتم اختيار الشريك من الاقارب او من القرية وهذا يؤكد التشابه الاساسي للنظم والتقاليد والعادات والقيم والمفهوم الديني في قرية صغيرة مثل الناصرة كل الناس الشباب يعرفون بعضهم البعض جيدا و عندما يبلغون اكبر سنا يتزوجون وعدد السكان في ذلك الوقت كان قليل لا يقارن بأيامنا الآن. احيانا يقوم الأهل بترتيبات الزواج عندما يكون اطفالهم صغارا وبعد عدة سنوات يبدأوا في اجراءات الزواج والذى يبدأ بحفل الخطوبة. العائلات المتداخلة في ذلك الارتباط سوف يكتبون شروط رسمية وتحديد الهدايا والممتلكات التى تتضمن في عقد الارتباط. بعد الخطوبة هذا الارتباط يمكن حله بالطلاق. الزواج يكون نهائي وعادة يكتمل فقط بعد
احتفال يسمى kiddushin او المقدسات.
انه من المحتمل ان يوسف ومريم قد عرفا منذ شبابهما انهما مخصصان لبعضهما البعض، وايضا من المحتمل انهما كانا متأثران ببتولية جماعة الغيورين وانهما قد قررا البقاء في تلك البتولية حتى اذا ما ارتبطا بالزواج.
وهكذا فلا يوجد على السطح يظهر أي شيئ غير عادي عن حياة مريم فهي امرأة صغيرة
ومخطوبة لرجل من بيت داود وتحيا مع عائلتها في قرية صغيرة غير معروفة هي الناصرة في منطقة الجليل. بهذا اعطانا انجيل لوقا معلومة إضافية عن مريم يمكن ان يكشف كيف ان هناك شيئا ما يحدث تحت السطح والذي يظهر على السطح على انه شيئ بسيط لحياة عادية، ان الله يعمل شيئا غير عادي ليعد مريم الي رسالة مهمة للغاية في تاريخ البشرية.
البشارة
ذُكرت حادثـة البشارة فى إنجيل القديس لوقـا بوضوح
(لوقا26:1-38) ويذكر الـمؤرخون ان القديس لوقا قد أخذ هذه الحوادث عن طفولة الـمسيح وميلاده من فم السيدة العذراء نفسها “امـا مريم فكانت تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بهـا فى قلبهـا”(لوقا19:2)، لهذا فقد ذكر فى بدء انجيله انـه حصل على “الأمور الـمتيقنة عندنا كما سلّمها إلينـا الذين كانوا معاينين وخدّامـاً للكلمـة”(لوقا2:1) ولهذا كتب انجيله.
“وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكِ يا ممتلئة نعمة اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ: «مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!» فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ.وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ». فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ.“(لوقا26:1-38).
وفى البشارة وأحداثهـا نجد العديد من الدروس التى يلزم الوقوف أمامـها للتأمـل.
+ “فـى الشهر السادس“(لوقا 26:1) – أي بعد ستة أشهر من بشارة الـملاك جبرائيل لزكريـا
الكاهن بميلاد يوحنا الـمعمدان.
+ “أُرسل جبرائيل الـملاك“(لوقا26:1)- جبرائيل أو غبريال إسم عبري معناه رجل الله، أو قوة الله، أو أظهر اللـه ذاتـه جباراً. وهو ملاك ذى رتبـة رفيعـة وأُرسل فى القديم لدانيال النبي (دانيال21:9-27) وأعطاه نبؤة السبعين اسبوعا لـمجيئ الـمسيّا. وأُرسل الى أورشليم ليحمل البشارة لزكريا الكاهن فى شأن ولادة يوحنا (لوقا11:1-22). وها هو الآن يحمل البشرى الى الناصرة ليبشر مريم بأنهـا ستكون أمـاً للـمسيّا. فهو ملاك البشارات الـمفرحـة.
+ “إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم“(لوقا27:1) – هنـا تحديد لإسم العذراء وعلاقـتهـا بيوسف، وانـه من بيت داود تحقيقـا لنبؤات العهد القديم أن الـمسيّا هو من بيت داود ومولوداً من عذراء.
+ “السلام لكِ أيتهـا الـممتلئة نعـمة، الرب معكِ، مباركة أنتِ فى النساء” (لوقا28:1)
ان الكلمات التي بدأ بها الملاك جبرائيل حديثه مع مريم لهي مثيرة للإعجاب: “افرحي أيتها الـممتلئة نعمة، الرب معك” (لوقا28:1). لا يوجد اي شخص في تاريخ الكتاب المقدس قد وُجهت له مثل تلك التحية من قبل.ولكن ماذا لوكنت إمرأة صغيرة يهودية تعيش في القرن الأول الميلادي وتواجه بتلك الكلمات المقدسة لأول مرة؟. ان الملاك جبرائيل قال ثلاث اشياء عجيبة
لمريم في بدء رسالته لها: لقد دعاها ان “تفرح” وموجها لها لقب ” ممتلئة نعمة” وتأكيد ” ان
الرب معها“.
السلام لكِ- لم تكن هذه بالتحية العادية كقول “يوم سعيد” ولا حملت معنى “سلام” او
“شالوم”بالعبريـة، لكن الكلمة اليونانية للسلام هنا “شيريـه” chaire وتعنى كمال معنى الفرح. ان كلمة شيري او شيريه ربما تكون تحية لمن يتكلمون باليونانية هي تحية عادية ولكن لم يستخدم لوقا الأنجيلي مثل تلك التحية في أي مقطع اخر من انجيله او في سفر اعمال الرسل والذي كتبه هو أيضا ولكن بالنسبة لفتاة يهودية كانت تحمل معنى آخرلقد إستخدم بعض أنبياء العهد القديم ذات التحية موجهة الى “إبنـة صهيون” يسألونهـا أن تفرح جداً بل تصرخ علانية: “ترنمي
يا إبنـة صهيون، اهتفي…افرحي (شيري) وابتهجي من كل قلبك يا إبنة اورشليم”
(صفنيا14:3و17)
“إبتهجي (شيريـه) جدا من كل القلب والنفس يا إبنة صهيون هوذا ملكك يأتيك…ويسكن فى وسطكِ” (زكريا9:9). فى القديم جاءت التحية “إفرحي يا إبنة صهيون” وعبريـا تعنى “راني نيوخانـاه”، وفى البشارة جاءت التحية للعذراء “إفرحي يا ممتلئة نعـمة” وعبريـا تعنى “راني شانيناه”، انـه تشابه عجيب. انهـا دعوة للفرح بالـمسيّا الآتـى، مريم صارت تجسداً لإبنـة صهيون التى تنتظر الـمخلص فلتفرح وتبتهج.
مريـم هـى إبنـة صهيون فتمثل شعب الله الـمختار كلـه، فهى إذن مختارة بحسب تدبيـر اللـه السري العجيب لتكون أم الـمسيح كقول الـمرّنم”لإنك أنت نسجتني فى بطن أمي ولم تختف عنك عظامي حينما صنعت فى الخفاء”(مزمور13:139-14).
في سفر يوئيل النبي جاءت الكلمة مصحوبة بالفرح والإبتهاج:” لاَ تَخَافِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ. ابْتَهِجِي وَافْرَحِي لأَنَّ الرَّبَّ يُعَظِّمُ عَمَلَهُ. لاَ تَخَافِي يَا بَهَائِمَ الصَّحْرَاءِ، فَإِنَّ مَرَاعِيَ الْبَرِّيَّةِ تَنْبُتُ، لأَنَّ الأَشْجَارَ تَحْمِلُ ثَمَرَهَا، التِّينَةُ وَالْكَرْمَةُ تُعْطِيَانِ قُوَّتَهُمَا. وَيَا بَنِي صِهْيَوْنَ، ابْتَهِجُوا وَافْرَحُوا بِالرَّبِّ إِلهِكُمْ، لأَنَّهُ يُعْطِيكُمُ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ عَلَى حَقِّهِ، وَيُنْزِلُ عَلَيْكُمْ مَطَرًا مُبَكِّرًا وَمُتَأَخِّرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ(يوئيل21:2-23). هكذا نجد في نبؤة صفنيا ونبؤة زكريا النبي انه يوما ما الرب سيأتي لشعبه ويخلصهم من اعدائهم وسيأتي كملك ويعيد مملكته في اورشليم وفي ذلك اليوم شعب الله المؤمن متمثلا في شخصية “ابنة صهيون” مدعوة للفرح والإبتهاج وهذا ما اعلنه الملاك لها :” وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ
الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».
(لوقا31:1-33).
لعدة قرون انتظر اليهود إتمام تلك النبؤات وصرخوا في اجيالهم. أجـيــال..وأجـيال..وأجـيال مـرتْ..وسـبق الأجـداد أن قــالـوهـا، ولكنـهـم قـالـوهـا بصدق..قـالوهـا بشوق.. قـالوهـا بعطش..قـالوهـا بإيـمـان. “لـتـنـشق السموات وتـُنـزل الصِديــق“، فـلـتـصتلح السموات مع الأرض.. فلـتـفـتح السـماء أبوابهـا..فـلـتعـمل شيئـا عظـيما. فلـتـرتـج الأرض، وتـهـتـز الجبال وتـتـفـتت الصخور..لـتـُنـزل
الـصــِدّيـــق”ليتك تشُق السـموات وتنـزل“(أشعيا1:64).
والآن قد أتى ذلك اليوم في النهاية وظهر الملاك جبرائيل لمريم ليعلن لها البشرى ان الرب الملك يأتي لشعبه ليخلصهم (لوقا31:1-33) وليؤكد لها: “ وَقَالَ لَها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ”(لوقا35:1). ولقد بدأ الملاك جبرائيل رسالته لمريم حاملا لها دعوة للفرح والإبتهاج والذي قيلت من قبل في نبؤتي صفنيا وزكريا لإبنة صهيون. الكلمات الأولى لمريم -شيري chaire تعني ان تفرح الآن إشارة ان عهد المسيّا قد بزغ فالرب الملك سيأتي لخلاص إسرائيل ومريم كانت اول من استقبل لتلك الأخبار المفرحة فيجب ان تفرح وتتهلل كإبنة صهيون كي تفرح بعمل الله الخلاصي الذي سيحققه مجيئ المسيّا.
والنقطة الثانية في تحية الملاك جبرائيل هي طريقة توجيه التحية لها فلم يدعوها بإسمها الشخصي فلم يقل “السلام لك يا مريم، الممتلئة نعمة” بل هو قال لها ببساطة “السلام-افرحي- يا ممتلئة نعمة”. هنا قبلت مريم من الـملاك لقبـاً جديداً، فلم يناديها يا “مريم” بل أعطاها لقبا جديدا وهو “الـممتلئة نعـمة”. لقد اجمع العديد من مفسري الكتاب المقدس انه قد اعطي لمريم هنا اسم جديد من السماء وفي الأنجيل فذلك شيئ كبير وهام للغاية وهو ليس هذا اسم مستعار فعندما يحصل شخص ما على اسم جديد في الكتاب المقدس فهذا يعني ان الله يكشف عن شيئ ما في ذلك الشخص وعن المهمة المدعو لها. فإسم ابرام مثلا قد تغير الي إبراهيم والذي يعنى “اب للجميع” لأنه مدعو ان يصبح اعظم الأباء البطاركة في إسرائيل (تكوين 17)، ومثال يسوع الذي غيّر اسم سمعان رسوله الي بطرس والذي يعنى “الصخرة” لأنه يصبح الصخرة التي سيبنى عليها يسوع كنيسته (متى16).
دُعيت مريم ب “الممتلئة نعمة” وهو لقبها الجديد والذي يشير الي شيئ عن الرسالة او المهمة
والتي أُوكلت لها. لقد أشار القديس يوحنا بولس الثاني قائلا: “ان ممتلئة نعمة هو اسم مريم الذي تحمله في عيون الله”. وأضاف قائلا: في اللغة السامية استعمال الاسم يعبر حقيقة عن الأشخاص والأشياء والتي يرجع اليها وكنتيجة لهذا اللقب “ممتلئة نعمة” يشير الي بعد عميق لشخصية فتاة صغيرة من الناصرة نالت نعمة واختيار إلهي لا يمكن تعريفه او وصفه.
هذا الأسم الجديد الذي أُعطي لمريم خصها بمهمة خاصة في خطة الله للخلاص. ان حلول اللـه
فى هيكل بشري يسبقه تقديس لهذا الهيكل كى يؤهل لهذا الحلول، وهنا كان الإمتلاء والتقديس
لـمريم منذ البدء.
“الـممتلئـة نعـمة”، وباليونانيـة (خاريتون kecharitomene) وهى تعنى الإمتلاء من النعمة حتى الفيض وهذا الإمتلاء من النعمة هو عمل الرب فهو يملأ بنعمته كل محبيـه، وهذا الإمتلاء هو
بدء التلامس بشخص الـمسيح. هذا اللقب أثبت الوضع الحالي “ايتها الـممتلئة نعمة” وليس التى
ستمتلئ نعمة. فالكلمة تعنى عملا قد بدأ في الماضي ومستمر في الحدوث في الحاضر.
“ممتلئة نعمة” تعنى ان مريم مثال لعلاقة جديدة بين اللـه والإنسان، فلقد حاول الإنسان منذ القديم أن يتقرب الى اللـه، فقّدم لـه ذبائح وتقدمات إسترضاء وإستعطاف وإتقاء، غير ان اللـه لم يرتض بهذه الذبائح لأنهـا بقيت حاجزا بين اللـه والإنسان، وأعطى اللـه للإنسان عن طريق الوحي الطريق الوحيد لإرضاء اللـه وهو قلب الإنسان فيقدمـه ذبيحة للرب. فى القديم بعض الوسطاء قد جسدوا حضور اللـه للشعب بتابوت فيه عصا ولوحا العهد والذى كان رمزاً للعهد مع اللـه وكلامـه، وبعد بناء الهيكل وهو الـمثال الحي لوجود اللـه بين شعبه، وها الآن إختار اللـه من بين الذين أخلوا قلوبهم لإستقبالـه فحلّ فى أحشاء مريم الطاهرة ليدخل العالـم ويعيش بين الناس. هذه العلاقـة الجديدة بين اللـه والإنسان وهذا الـمثال وضح تماما فى مريم بنوع فريد وقد أرادهـا اللـه فى قلب
كل إنسان وهو الإمتلاء من النعـمة والـمتاحـة لكل فرد منـا.
ثالثا، دعونا ننظر الى تأكيد الملاك لمريم قائلا: “الرب معكِ“(لوقا28:1). من خلال الأنجيل
تلك الكلمات للتحية قد استخدمت ووجهت لرجال ونساء الذين قد دعاهم الله لمهمة خاصة لها
تأثير على كل شعب إسرائيل. كانت مهامهم تتطلب سخاء كثير وتضحيات وثقة عظيمة ولهذا
أُعطي لهم مثل ذلك التأكيد جتى لا يواجهوا مثل تلك الضيقة وحدهم فالله سوف يكون معهم
يرشدهم ويحميهم ويقويهم. واحد من أعظم القادة في تاريخ إسرائيل تمت تحيته بمثل تلك “الرب معك”. فمثلا عندما ظهر الله ليعقوب مؤكدا له العهد ومباركا له قائلا: “ وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ»(تكوين15:28). ومثل ذلك عندما دعا الله موسى من العليقة المشتعلة ليقود الشعب من ارض مصر فقال:” «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَهذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ: حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ، تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هذَا الْجَبَلِ»(خروج12:3). وأيضا قبل ان يقود يشوع بن نون الشعب في معركة في ارض الميعاد قال الله:” لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ مَعَكَ. لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ”(يشوع5:1). وعندما دعا ملاك الرب جدعون ليدافع عن الشعب من غزو الأعداء حياه قائلا:” «الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ»(قضاة12:6). وعندما وضع الله داود على رأس مملكته الدائمة فقد ذكّره الله بأمانته له قائلا:” وَكُنْتُ مَعَكَ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ، وَقَرَضْتُ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَعَمِلْتُ لَكَ اسْمًا عَظِيمًا كَاسْمِ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ”(2صموئيل9:7). وعندما دعا الله ارميا ليكون نبياً للأمم قال له:” لاَ تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ لأُنْقِذَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ»(ارميا8:1).
من موسى الي ارميا السِمة واضحة “الرب معك” إشارة ان شخص ما قد دُعي الي مهمة
عظيمة ستكون صعبة وضرورية ومستقبل إسرائيل سيكون على الأكثر معتمدا على كيف ان ذلك الشخص سيقوم بدوره. ان الشخص التي وجهت له هذه الكلمات والمرسلة من الله لدعوة مهمة وثقة الله في ذلك الشخص التي أوكلت له هذه المهمة بالغة الأهمية و تاريخ إسرائيل والعالم معتمدا على تلك اللحظة وعلى استجابة ذلك الشخص الذي اختاره الله. ولكن هذا الشخص تم التأكيد له انه ليس وحده فالله سيكون معه في مهمته مساعدا له في أي عمل لا
يستطيع وحده القيام به فيد الرب تسند وتعضد وتقوي.
ماذا تعني تلك الكلمات بالنسبة لمريم تحية من ملاك الله قائلا لها :”الرب معكِ” مشيرا ان شيئا
كبيرا سيتم طلبه منها، ففي الحقيقة انها مدعوة ان تقف في تقليد إسرائيل وتاريخه كأحد الأبطال
مثل موسى ويشوع وداود وارميا – أناس عانوا وضحّوا وأعطوا أنفسهم كلية للرب. ها هي الآن
مدعوة الي مهمة شاقة والتي ستتضمن الكثير من التحديات والصعوبات ومستقبل شعب الله
سيكون معتمدا كيف ستجيب.
انه ليس من المستغرب ان الأنجيل قال لنا ان مريم قد اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، ولاحظ هنا ان انجيل لوقا يقول لنا ان مريم لم تكن مضطربة من ظهور الملاك بل من “كلامه”:” فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ: «مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!»(لوقا29:1). هذا مختلف تماما من قلق زكريا الكاهن في المنظر او الحادثة السابقة لهذ الظهور كما جاء في انجيل لوقا فكانت رد فعل زكريا هو الخوف من ظهور الملاك له في الهيكل:” فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ(لوقا12:1). مريم على العكس اضطربت من كلمات الملاك وفكّرت مدى تأثير ذلك الكلام على حياتها فلقد ايقنت ان شيئا ما هاما سيطلب منها مثل موسى وجدعون وآخرين الذين دعاهم الله فبنفس الطريقة جاءت الدعوة ولذا من المحتمل ان تساءلت ما عسى ان تكون تلك المهمة وهل في قدرتها إتمامها.
ردا على ما قد يشغل بال مريم اجابها الملاك جبرائيل قائلا:” «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ(لوقا30:1). لقد كشف الأنجيل المقدس عن مثل ذلك الخوف ومن انه شعور بشري طبيعي ورد فعل متوقع من دعوة الله لنا.
كمثل مريم التي تحكمت في مشاعرها وفكّرت ما عسى ان تكون تلك التحية وما الذي يريده الرب ان يظهره لها، وكما قال لنا القديس لوقا:” وفكّرت ما عسى ان تكون هذه التحيـة“(لوقا29:1).
وقبل ان تعطي مريم موافقتها النهائية أكدّ لها الملاك جبرائيل قائلا لها:” «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ”(لوقا30:1). شيئان يمكن التوقف عندهما في هذا النص، أولا عندما ظهر الملاك جبرائيل في البداية لمريم وجه لها لقب رسمي “ممتلئة نعمة”(لوقا28:1)، والآن في محاولة لإعادة التأكيد لها فتكلم الملاك جبرائيل بطريقة شخصية يدعوها بإسمها الذي أعطي لها من قبل والديها، فلم يقل ببساطة “لا تخافي” كما سبق ان قيلت للعديد من الأباء والأنبياء بل متكلما معها بصورة شخصية قائلا: ” لا تخافي يا مريم”. ثانيا لقد شجعها الملاك جبرائيل ان لا تخاف عما سيكون وما سيسأله منها لأن الله نفسه قد وهبها ميزة فريدة من النعمة (28:1) وسوف يستمر في تقويتها في مهمتها شارحا لها ذلك بأن قال لها:“لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَاللهِ”(لوقا30:1).
ولكن ماذا يعني ذلك لمريم بأن تجد انها “وجدت نعمة عند الله”؟. في الكتب المقدسة “وجدت نعمة” مع شخص ما يمكن ان تصف شخص ذو مكانة مرموقة ومملوء رأفة ومفضّل عند شخص اقل واضعا نفسه في دور مهم للقيادة، فمثلا عندما خدم يوسف الصديق كعبد في بيت فوطيفار في مصر يقول لنا سفر التكوين عنه “فَوَجَدَ يُوسُفُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ، وَخَدَمَهُ، فَوَكَّلَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَدَفَعَ إِلَى يَدِهِ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ”(تكوين4:39-6).
ان التعبير “وجدت نعمة عند الله” يذكرنا بالعديد من الشخصيات في العهد القديم الذين بصفة خاصة قد أختيروا من الله لرسالة هامة او دور مهم يجلب البركة للآخرين مثل ما حدث ليوسف والذي وُضع في مكانة بواسطو فوطيفار وقام بدور قيادي:” وَكَانَ مِنْ حِينِ وَكَّلَهُ عَلَى بَيْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ، أَنَّ الرَّبَّ بَارَكَ بَيْتَ الْمِصْرِيِّ بِسَبَبِ يُوسُفَ. وَكَانَتْ بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْحَقْلِ، فَتَرَكَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ يَعْرِفُ شَيْئًا إِلاَّ الْخُبْزَ الَّذِي يَأْكُلُ.” ومثال نوح اول شخص في الأنجيل يمكن وصفه بنفس الطريقة ففي وسط عالم مضطرب عُرق بأنه “وجد نعمة عند الله ونتيجة لذلك فلقد تمت حمايته من الفيضان وأختير ليكون على رأس العائلة البشرية المجددة:” وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ.”(تكوين8:6). كذلك ابراهيم كان وسيلة في يد الله قد استخدم ليجلب البركة للعالم أجمع وصوّر من انه وجد نعمة عند الرب:” وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ، وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ». فَقَالُوا: «هكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ»(تكوين1:18-5).ِ
وأيضا موسى قد “وجد نعمة” عند الله وأصبح وسيط العهد الذي يساعد لمصالحة الشعب
الخاطي مع الرب على جبل سيناء: وَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «انْظُرْ. أَنْتَ قَائِلٌ لِي: أَصْعِدْ هذَا
الشَّعْبَ، وَأَنْتَ لَمْ تُعَرِّفْنِي مَنْ تُرْسِلُ مَعِي. وَأَنْتَ قَدْ قُلْتَ: عَرَفْتُكَ بِاسْمِكَ، وَوَجَدْتَ أَيْضًا نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ. فَالآنَ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَعَلِّمْنِي طَرِيقَكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ لِكَيْ أَجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ. وَانْظُرْ أَنَّ هذِهِ الأُمَّةَ شَعْبُكَ». فَقَالَ: «وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ». فَقَالَ لَهُ: «إِنْ لَمْ يَسِرْ وَجْهُكَ فَلاَ تُصْعِدْنَا مِنْ ههُنَا، فَإِنَّهُ بِمَاذَا يُعْلَمُ أَنِّي وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ أَنَا وَشَعْبُكَ؟ أَلَيْسَ بِمَسِيرِكَ مَعَنَا؟ فَنَمْتَازَ أَنَا وَشَعْبُكَ عَنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ». فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «هذَا الأَمْرُ أَيْضًا الَّذِي تَكَلَّمْتَ عَنْهُ أَفْعَلُهُ، لأَنَّكَ وَجَدْتَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ، وَعَرَفْتُكَ بِاسْمِكَ»(خروج12:33-17).
في كل من تلك الحالات فإن الشخص الذى وُجد انه مفضّل عند الله واختير خصيصا من قِبل الرب لمهمة خاصة في خطة الله الخلاصية، لهذا فعندما قال الملاك لمريم انها قد “وجدت نعمة عند الله” قهو بهذا يطمئنها من انها قد أختيرت من قِبل الرب. كما كانت مريم مضطربة متفكرة في نفسها ما عسى ان يكون كل هذا وما الذي سيسألها الملاك ان تقوم به ومن انها قد اختيرت لتحمل وتنفذ عمل خلاصي عظيم لشعب الله مثال نوح وإبراهيم وموسى وجدعون وغيرهم، فها هي أيضا “قد وجدت نعمة عند الله”. ان الملاك لم يكشف لها بعد عن دورها ومهمتها الخاصة وفي هذه النقطة فكل ما تعرفه مريم حتى الآن انها يجب ان تفرح لأن الله سيأتي لينقذ شعبه من اعدائه وانها ستقوم بدور خاص في خطة الله الخلاصية، فالرب سيكون معها وانها وُجدت مفضلة من قِبل الله، ولكن ما هي مهمتها؟ هذا ما سيُكشف عنه في الآيات الثلاث التالية من
رسالة السماء.
علينا ان نضع في إعتبارنا كيف ان الملاك جبرائيل بدأ خطوة خطوة في كشف تلك الدعوة
الغير عادية والتي يطلبها الله من مريم. في البداية قال الملاك لمريم:” وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا”(لوقا31:1)، وهذا وحده مثيراً للغاية. إذا ما علمت أي امرأة انها سيكون لها طفلا فهي مناسبة لا يمكن نسيانها ولكن القديسة مريم قريبة من ان تجد انها لن تصبح كأي أم عادية فلقد استمر الملاك ليكشف انها ستكون أعظم أم وأهم أم في تاريخ العالم لأنها ستحبل بإبن سيعيد تاريخ إسرائيل وتاريخ الجنس البشري كله الي مكانته، فإبنها سيملك على عرش داود الملك هذا الذي تنبأ عنه الأنبياء وبأنه سيعيد الشعوب الي مملكة إسرائيل ويجمع الأمم ويعيدها الي عهدهم مع الله. دعونا نقترب وننظر فيما قاله بالفعل الملاك لمريم عن ابنها:” هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ»(لوقا32:1-33).
ان مثل تلك الكلمات ستكون مألوفة جدا لكثيرين من اليهود في القرن الأول الميلادي لأنها صدى لنص في العهد القديم هام جداً عن مملكة داود كما جاء في سفر صموئيل الثاني الإصحاح السابع عندما وعد الله داود بمملكة ابدية “وَكُنْتُ مَعَكَ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ، وَقَرَضْتُ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَعَمِلْتُ لَكَ اسْمًا عَظِيمًا كَاسْمِ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ.” (2صموئيا9:7) و”مَتَى كَمُلَتْ أَيَّامُكَ وَاضْطَجَعْتَ مَعَ آبَائِكَ، أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ. هُوَ يَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي، وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الأَبَدِ. أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ.”(2صموئيل12:7-14).
تأمل في التشابه العجيب ما بين نص سفر صموئيل النبي( 2صموئيل 7) وما قاله الملاك
جبرائيل عن إبن مريم كما جاء في انجيل لوقا (32:1).كما قيل لداود ان اسمه سيكون
“عظيما” (2صموئيل9:7) هكذا قال الملاك لمريم ان طفلها سيكون “عظيما”(لوقا31:1). وكما ان التسلسل النسبي لداود وُصف بعلاقة فريدة بين أب وإبن مع الله (2صموئيل14:7) هكذا يسوع سيدعى ابن العليّ (لوقا32:1)، وكوعد الله من انه سيؤسس ويثبت عرش مملكة داود للأبد (2صموئيل13:6)، هكذا سيعطي الرب عرش داود ابيه ليسوع (لوقا32:1)، وكما قال الله لداود ان مملكته ستثبت الى الأبد (2صموئيل 16:7) وهكذا قال جبرائيل في بشارته لمريم ان
ابنها سيملك على بيت يعقوب للأبد ولن يكون لملكه نهاية (لوقا33:1).
هكذا فإن وصف الملاك جبرائيل لطفل مريم يصرخ بوعد الله الذي صنعه مع مملكة داود وإعادة
التذكرة بموضوعات داودية عن العظمة والبنوة والعرش والبيت ومملكة آبدية فهنا يشير جبرائيل
ان مريم ستحمل ابن ملكي لداود والذي سوف يتمم وعود الله لداود عن مملكة لا تزول. يقول
اليهود ان ذلك الطفل قد طال إنتظاره وهو الممسوح ولذا فيطلقون عليه “المسيّا المنتظر”.
كلما بدأ ينكشف عن تلك الرسالة المسيانية ستصبح مريم أكثر شوقا لأن تعرف أكثر وأكثر ولذا
فلقد تساءلت كيف وهي عذراء يمكنها ان يكون لها طفل وهي لا تعرف رجلا”«كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟»(لوقا34:1)، وللإجابة أعطاها الملاك جبرائيل الصورة الكاملة كيف سيتم ذلك الأمر الغير عادي فقال لها:«اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ”(لوقا35:1).
تلك الكلمات كشفت الأصل الإلهي لذلك الطفل، وعلمت مريم انها لن تحبل من خلال علاقة جنسية طبيعية ولكن بالروح القدس. انه لم يكن على الإطلاق حبل مثل ذلك من قبل ويفوق كل تصور وقال لها الملاك جبرائيل ان طفلها سيُدعى “إبن الله” -ليس تماما بالإشارة الي وظيفته كمسيّا أومجازيا لسلالة الملك داود كإبن لله كما جاء “أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا”(2 صموئيل 14:7). ان طفل مريم هنا سيدعى إبن الله فيما يتعلق بالحبل به من الروح القدس.
ان كل هذا ليس من السهل استيعابه من محادثة قصيرة مع الملاك والإشارة الوحيدة التي عرفناها عن تلك اللحظات المحورية وخبرة مريم قبل التجسد هو تلك الكلمات واجابتها:” «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ»(لوقا38:1).
إن إجابة القديسة مريم لرسالة الملاك جبرائيل فريدة في كل التاريخ الأنجيلي، ففي مشاهد
البشارة بالميلاد ومشاهد للدعوة كما جاءت في العهد القديم كان الله او رسوله السماوي يتكلم في نهاية البشرى او الدعوة قبل ان يغادر المكان. إبراهيم وسارة وزكريا ووالداي شمشون مثلا لم يعطوا مقولة عظيمة بموافقتهم بعد استقبالهم للبشارة عن أبنائهم، وكذلك أيضا موسى او جدعون عندما دعاهم الله للمهمة التي اختارها لهما. وقفت القديسة مريم لتعطي اخر كلمة في الحوار الذي دار مع الملاك وكلمات الموافقة والرضا يكشف كثيرا عن رغبة مريم ان تخدم الله.
هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ»(لوقا38:1). هنا أولا وصفت مريم نفسها على انها
شخص ما قد سلّم نفسه بالكامل وسلّم أيضا حريته فسلّمت بكل تواضع حريتها. ان الكلمة اليونانية هنا والتي استخدمتها مريم ترجمت “آمة” (handmaid) او doule والتي في الحقيقة تعني خادم او عبد – شخص ما هو بالكامل ملك شخص آخر يمكنه ان يفعل به ما يشاء. هذا التعبير استخدم في العهد الجديد ليصف من هم قبلوا سلطة الله في حياتهم ليخدموا مشيئته “ وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضًا وَإِمَائِي”(اعمال18:2) و” وَامْنَحْ عَبِيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ”(اعمال29:4) و ” «هؤُلاَءِ النَّاسُ هُمْ عَبِيدُ اللهِ الْعَلِيِّ”(اعمال17:16). كذلك القديس بولس تكلم عن نفسه بأنه عبد للمسيح: “بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ“(رومية 1:1) و(فيليبي1:1) و(غلاطية 10:1) وأيضا عبد لله:” بُولُسُ، عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ”(تيطس1:1).
هذا هو التعبير الذي استخدمته القديسة مريم لتصف نفسها من انها عبدة doule – خادمة للرب واهبة نفسها بكليتها لتميم رغبات الله. لقد سمعت من الملاك كل ما يخططه الله لها واستجابت بوضع حياتها كلها في يد الله. انها لم تفكر ان تلك المهمة لنفسها هي ولكن وجدت نفسها مختارة وموكل اليها شيئا عظيما لمجد الله الأعظم. كخادمة للرب اختارت ان لا تستخدم حياتها لأغراضها الشخصية ولكن حسب مشيئة الله. لقد وجدت مريم نفسها الآن أسيرة الي خطة الله الذي يريد خلاص البشرية ولقد سئلت ان تعطي نفسها ومستقبلها كله ” للروح القدس.. وقوة العليّ”. كان يمكنها ان تبقى هي المتحكمة وصاحبة الأمر ولكن بدلا من ذلك وضعت نفسها ملكا للرب وطرقه كتعبير حقيقي وعملي عن إيمانها «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». ان قبولهالتلك الدعوة جعلها حسب رواية انجيل لوقا اول شخص يخاطر بكل شيئ من أجل يسوع المسيح وتكون اول المؤمنين به. ان هذا هو المفتاح داخل فكر وقلب مريم “الإيمان العملي” والذي سيُمدح فيما بعد من الروح القدس على لسان القديسة اليصابات”فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ»(لوقا45:1).
ان مريم قد استسلمت وسلّمت ذلك التحكم ووضعت حياتها في يد الله بكاملها. انها ترغب ان
تفعل مهما يريد الله منها ان تفعله وأن تذهب في أي مكان حيث يقودها هو. لقد رأت ان الحرية البشرية ليست شيئا يمكن ان تأخذ منه كيفما تريد او شيئا يمكن استخدامه فقط لأغراضها ورغباتها هي الشخصية ولكن كعطيّة تردها الي الله وتستخدم لخطته هو. بهذا اختارت بحرية ان تسلّم التحكم في حياتها وتحيا كعبدة – Doule- للرب واثقة كل الثقة في خطته من أجلها. في تعبير آخر لقد اختارت بحرية ان تحد حريتها وتحيا كاملة لخدمة مشيئة الله. انها تحيا
حياتها كعطية من الله والى الله بكليتها.
كلمات القديسة مريم التي قيلت للملاك تقدم نافذة لخدمة قلبها وأظهرت الطريقة التي بها تتبع
دعوة الله لها:” “ليكن لي بحسب قولك”(لوقا38:1). هذه الكلمات تلقي الضوء كيف ام مريم تطلب بفرح ان تخدم الرب فهي لم تنظر ان خدمة الله كحمل ثقيل وواجب روحي قد أجبرت على فعله ولكنها بشكل عنيد تطلب ان تجعل حياتها عطيّة الي الله. ان القديس البابا يوحنا بولس الثاني والمعلقين ومفسروا الكتاب المقدس أشاروا بأن “ليكن لي” genito باليونانية تشير ليس كفعل قبول في الماضي لمشيئة الله ولكن هو فعل مضارع فعّال ينطوي على حب عارم، فالمعنى الخاص للكلمة يتضمن “رغبة فرحة في عمله” لخدمة الله وليست فقط رضوخ او قبول لشيئ صعب. وكما قال احد علماء الكتاب ان تعبير مريم في مضمونه ومعناه مختلف عن “لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ” التي جاءت في صلاة الأبانا (متى 10:6) او صلاةيسوع المسيح في بستان الزيتون “وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ»(مرقس36:14).
“ليكن لي حسب قولك” آخر كلمات القديسة مريم للملاك تم ترجمتها من اليونانية الى اللاتينية
بمعرفة القديس جيروم:fiat mihi secundun Tuum””والكلمة الاولى fiat اصبحت مرادفة
لموافقة الانسان على عمل مشيئة الله وخاضعا لخطته. ان القديسة مريم لم تكن فقط خاضعة لخطة الله ولكن كانت تتوق لإتمامها وتجعلها ملكا لها واجابت كمحب من رأت ما في قلب حبيبها فلبت في حماس لتمميم رغباته وهكذا خدمت الرب ليس فقط كعمل إضافي تطوعي ولكنها بفعل محبة قلبية.
الزيارة
“فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ. فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ». فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ»(لوقا39:1-55).
بعد ان مضى الملاك جبرائيل بعد سماعه قبول مريم العذراء، جلست مريم تتأمـل وحدها فى هذا السر العظيم. ذهبت مريم “مسرعة” الي منطقة يهوذا الجبلية لتجلب الفرح لنسيبتها اليصابات الحبلى بيوحنا المعمدان وان تشارك معها كل ما يحققه الله في اسرائيل وفي حياتها. ان من استقبلت رسالة الملاك عن مجيئ المسيّا اصبحت الآن اول مبشرة بشرية للأخبار السارة. ولذهاب مريم لنسيبتها عدة اسباب: اولا عادة شرقيـة، وثانيـا واجب تلزمـه أمومتهـا للـمخلّص العجيب، وثالثـا دفعهـا الروح القدس لأن تذهب حتى يتقدس إبن زكريـا بسلامهـا وهو فى بطن
أمـه كما تنبأ الـملاك “ومن بطن أمـه يمتلئ من الروح القدس” (لوقا15:1).
مدينة يهوذا – بحسب رأى الكثيرين من العلماء هـى حبرون (20 كيلومتر جنوب اورشليم)، وبعضهم يذهب الى ان هذه الـمدينة هى عين كارم (غرب أورشليم بحوالى 8 كيلومترات). وهذا يعنى شيئاً واحداً أن هذه الـمدينة يصعب الوصول اليهـا وطرقهـا جبليـة وتبعد عن الناصرة مسافة سفر تصل الى حوالـى اربعة أيام.
كيفية الذهاب – اعتقد البعض ان مريم قطعت هذا الطريق مع يوسف، ولكن هذا الإعتقاد
خاطئ لأنـه لم يكن بكل تأكيد فى بيت زكريـا ليعلم بالحديث الذى دار بين اليصابات ومريم، وبالتالي يعرف السر الإلهـي، ولكن الأكيد هو انـه قد عرف بهذه الزيارة لأنـه كان خطيبهـا وانـها ستتغيب عنه فترة.
اليصابات – وهي الصبغة اليونانية للاسم العبري ” اليشابع ” الذي معناه ” الله قد أقسم”، واليصابات هي زوجة زكريا الكاهن وقد كانت عاقرا ومتقدمة في الأيام مع زوجها، ولكن الرب أعطاها ابنا هو يوحنا المعمدان، وكانت من سبط لاوي إلا أنها كانت نسيبة للعذراء مريم، وعندما بشر الملاك جبرائيل العذراء مريم، كانت اليصابات حبلى في شهرها السادس.
معنى العلامة – في نهاية منظر البشارة اعطى الملاك جبرائيل لمريم علامة حتى ولو ان مريم لم تطلب اية علامة، لقد أعلمها ان نسيبتها العجوز والعاقر هي حبلى بطريقة اعجازية. لم تكن تعلم مريم عن ذلك الحدث لأن اليصابات كانت تخفي نفسها لمدة تصل لخمسة أشهر”وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ” و “وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ مِنَ اللهِ” (لوقا24:1و26). ان تلك العلامة تعني التأكيد لمريم بأن الله الذي حقق لتلك المدعوة عاقرا من ان تكون أما وان ما يمكن ان يكون مستحيلا في عين البشر هو مستطاع عند الله فهو يستطيع ان يصنع عملاً عظيما في حياة مريم جاعلا لها ان تحبل حتى ولو لم تكن تعرف رجلا. لقد شرح لها الملاك
جبرائيل قائلا:” لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ»(لوقا37:1).
بعد ان سمعت مريم تلك الأخبار “فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْجِبَالِ إِلَى
مَدِينَةِ يَهُوذَا(لوقا39:1). ان تلك الرحلة ليست نزهة نهاية الأسبوع فوعورة اكثر من 80 ميل من الناصرة الي جبال يهوذا والتي يمكن ان تأخذ حوالي 3-4 أيام بالأقدام وعادة مثل تلك الرحلة تكون مصحوبة بمسافرين آخرين.
ترى ماذا كان غرض زيارة مريم؟ في الحقيقة عندما عرض القديس لوقا في انجيله ذلك الحدث
فلقد استخدم ثلاث كلمات صغيرة في بداية جملته والتي تشير ان مريم لم تتحرك نحو إجازة بسيطة لرؤية قريبتها. ان مريم رحلت الي جبال يهوذا وهي ليست فقط رحلة على الأقدام ولكنها تعني في الحقيقة رحلة روحية.
أولا -فالقديس لوقا اعلمنا ان مريم “قامت” وذهبت لزيارة اليصابات والكلمة اليونانية لكلمة “قامت” arose هي anesteimi والتي تعني اكثر من “نهضت او قامت”، فهي استعملت مجازيا هنا لتصف بداية الي فعل او عمل جديد. في مكان آخر في انجيل لوقا الكلمة تصف أفعال تتضمن جهد روحي عظيم. ففي مثال الإبن الضال “قام” وعاد الي ابيه الذي رحب به بفرح وابتهاج عظيم (لوقا18:15و20)، وبالمثل لاوي جابي الضرائب عند دعوة يسوع له ترك كل شيئ و “قام-rose-anastasa” وتبع يسوع (لوقا27:5-28). وهكذا مريم أيضا بعد ان سمعت من الملاك دعوة الله لها ومن حياتها “قامت” وبدأت رحلتها لزيارة اليصابات. كما في مثل الإبن الضال ودعوة لاوي العشّار تحركت مريم نحو رحلة جديدة مع الرب حيث استلمت مهمتها الجديدة كأم للمسيّا.
ثانيا- قامت مريم وذهبت الي ارض جبال يهوذا وهنا استخدم لوقا كلمة رئيسية غنية في معناها اللاهوتي في سرده للحدث، فالكلمة اليونانية ل “ذهبت”-poreuomai” في ذاتها تعني “تذهب او تمشي” ولقد استخدمها لوقا في أماكن أخرى لتصف رحلة لغرض إلهي والأكثر ملاحظة هي
رحلة المسيح من الجليل الي اليهودية حيث رسالته المسيانية قد اكتملت (لوقا51:9و 22:13).
مريم وهي حبلى بالطفل يسوع في احشائها كأنها تبشر برحلة ابنها فيما بعد من الجليل الي
اليهودية وها هي تبدأها من ناصرة الجليل الي جبال يهوذا (لوقا39:1) حيث ستعلن الأعمال
العظيمة للرب.
بعد هذا اعلمنا القديس لوقا ان مريم قامت بتلك الرحلة “مسرعة” meta spoudes وهذه الجملة
قد فهمت بطرق مختلفة، فالبعض فسّرها بأن أشار بانها طاعة مباشرة لرسالة الملاك عن امومة اليصابات الإعجازية، والبعض الآخر رآها بأنها تشير ان رغبة مريم هي ان تسرع لمساعدة نسيبتها المسّنة في مراحل حملها الأخيرة، أو بأن مريم تطلعت بشوق ان تشارك اليصابات برسالة الملاك لها. كل تلك التفسيرات قد تكون كخلفية ولكن الملاحظة التي ذات أهمية هي خاصة تلك الجملة المستخدمة “مسرعة” والتي يمكن ترجمتها ب “مع التفكير” او “مع الرغبة” والتي قد تجلب لنا فهما اعمق للمسألة او الفعل. من هذا المنظور الخاص ذهاب مريم بسرعة يشير الي فرحها تساءلها عما يحققه الله في إسرائيل وفي حياتها هي شخصيا بإرسال المسيّا- الملك. وهذة الخطة الإلهية والتي فيها ان مريم واليصابات الآن مرتطبتان بصورة قوية من خلال خبراتهم بحبلهما وامومتهما الإعجازية وباولادهما ورسالتهما. وهكذا بشكل عنيد وإصرار عجيب قامت مريم وانطلقت لترى العلامة التي أعطاها لها الملاك جبرائيل عن حبل اليصابات العجيب.
هذا في الحقيقة مشابه لإستجابة الرعاة للعلامة التي أعطاها لهم الملاك عن المسيح “تَجِدُونَ
طِفْلًا مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ»(لوقا12:2)، وبعدما سمعوا عن العلامة “فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ” ليروا تلك الأخبار المفرحة عن الخلاص والتي أعلنت لهم من الملاك. ان الرعاة لم يذهبوا ليتحققوا من ان قول الملاك كان صحيحا ولا انهم قد اخذوا امراً من الملاك بضرورة الذهاب لذلك الغرض، ولكن من مبادرة شخصية منهم كانت رغبة الرعاة الشديدة ليروا الذي كشفه الملاك واعلنه لهم:” قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ»(لوقا15:2). هكذا مريم آمنت مثلهم برسالة الملاك وذهبت مسرعة لتشهد كأول شخص للأعمال العظيمة التي يقوم بها الله في حياة اليصابات وحياة البشرية كلها. وكما شرح احد اللاهوتيين ان سرعة مريم في الذهاب نبع من الفرح بدعوتها ومن الرجاء الذي بدأ في احشائها ففرح مريم ورجاؤها واستعدادها ذهب في البحث عن العلامات التي يرسلها الله الي شعبه.
+ “ودخلت بيت زكريـا وسلّمت على اليصابات“(لوقا40:1) – قد نتسآل يا تُرى ما هذا السلام؟، وما هو مضمونـه؟. لـم ينقل لنا الكتاب الـمقدس هذا الـمضمون، ولكن يمكن إفتراضـه: (السلام عليكِ ايتهـا الـمباركـة الحاملة فى بطنهـا ولداً مباركاً)، وكأننا بهذا نذكر قول الرب يسوع لتلاميذه: “اي بيت دخلتموه سلّموا عليـه فإن كان البيت مستحقاً فليأت سلامكم عليـه” (متى12:10)، وايضاً نتذكر قول الرسول بولس:”ما أجمل أقدام الـمبشرين بالسلام. الـمبشرين بالخيرات”(رومية15:10). ان كتاب العهد الجديد هو كتاب السلام فقد تكررت كلمة سلام 88
مرّة وهى تستخدم كثيراً فى التحيـة وتترجم بمعنى الفرح.
+ “فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين فى بطنها وإمتلأت اليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنتِ فى النساء ومباركة هى ثمرة بطنكِ فمن أين لي هذا ان تأتي أمُّ ربّي إلـيّ فهوذا حين صار صوت سلامك فى أذنيّ ارتكض الجنين بإبتهاج فى بطني فطوبى للتى آمنت ان يتم ما قيل لها من قِبلِ الرب”(لوقـا41:1-45) – هنا كانت القديسة اليصابات تحت تأثير الروح القدس الذى كان يتكلم بفمها. يوحنا ابتهج بقدوم مريم الحاملة للرب يسوع فإرتكض فى بطن امـه، تماما مثلما رقص داود بكل قوة امام تابوت الله حين دخوله اورشليم. مريم تنشر البشرى، تنشر السلام والفرح وتحمل المسيح للآخريـن. عندما تلاقت اليصابات ويوحنا بالمسيح فرحا وتهللا ونطقت اليصابات بالتسابيح “مباركة أنتِ فى النساء ومباركة هى ثمرة بطنكِ” هذه التحية
مشابهة لتلك التحية التى استقبل بها المسيح فى اورشليم “مبارك الآتى بإسم الرب”(متى29:21)
و”مبارك الآتي بإسم الرب ملك اسرائيل”(يوحنا13:12) وهنا تحية لأم الـملك.
واكملت اليصابات هتافهـا وهى مملوءة من الروح القدس قائلة: “فمن أين لي هذا ان تأتي أمُّ ربّي إلـيّ” وهنا كلمة “رب” أي “كيريوس” هى التى استعملتها اليصابات فلا مجال للـمجادلـة بأنها لم تكن تقصد وانهـا كانت تقصد كلمة (ربّونـي) يعنى الـمعلّم أو السيد. وهذا يعنى ان مريـم هـى أم الإلـه فسوف تلد عمانوئيل اي اللـه معنـا.
وهناك تطابق عجيب بين ما نطقت به اليصابات وبين ما نطق به الـملاك أثناء بشارته للعذراء مريم بالحبل الـمقدس.
أن مريم قد وصلت الي بيت اليصابات وحيتها وهذا هو ما كنا نتوقعه بالضبط فبحسب المقاييس اليهودية في القرن الأول الميلادي كانت اليصابات في مكانة مرموقة واضحة. اليصابات كانت الأكبر لأخت لها هذا بالإضافة الى ان لها عائلة شريفة تنحدر من اول رئيس كهنة في إسرائيل وهو هارون الكاهن وكزوجة لكاهن اسمه زكريا “كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ” (لوقا5:1). كان من المألوف ان الصغير هو التي يحيي الكبير ومن هم من طبقة اقل يحييون من هم في وظائف اكثر مكانة وشرفا (انظر “فَخَرَجَ مُوسَى لاسْتِقْبَالِ حَمِيهِ وَسَجَدَ وَقَبَّلَهُ. وَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ عَنْ سَلاَمَتِهِ، ثُمَّ دَخَلاَ إِلَى الْخَيْمَةِ”(خروج7:18 و “«احْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ”(لوقا46:20). وهكذا بتحية اليصابات فعلت مريم ما كان عليها ان تقوم به وما كنا نتوقعه من امرأة يهودية.
انه من العلامة البارزة هو طريقة اليصابات في تحية مريم فمن تحرك الجنين في احشائها على
الفوروهتافها بطريقة غير عادية لمريم يكشف لنا ان مريم واحدة من اهم الأشخاص في الكتاب
المقدس الذي اشركهم الله في مخططه الخلاصي للبشر.
وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي
هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟(لوقا42:1-43).
كل هذا خرج من فم اليصابات قبل ان تكون لدى مريم اية فرصة لتقل كلمة عن زيارة الملاك لها في الناصرة وحبلها الإعجازي، ولهذا كيف عرفت اليصابات ان مريم تحمل بطفل في احشائها؟ وكيف عرفت ان مريم ليست بأم لطفل عادي ولكن اما للرب؟ فكيف يا ترى عرفت اليصابات؟
ان انجيل لوقا يعطينا مفتاح يلقي الضوء عن كيفية معرفة اليصابات بتلك المعلومة العجيبة.
لقد أشار لوقا انه عندما سمعت اليصابات سلام مريم “فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ
ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ”(لوقا41:1). ان تلك الجملة التي ذكرها لوقا كما جاءت “امتلأت من الروح القدس” وردت في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس واستخدمت لتصف كيف ان شخص يُعطى له ان يكشف عن نبؤة ما وهكذا فإن الروح القدس هو الذي كشف لأليصابات وجعلها تسبح مريم وحبلها الفريد وتحييها “وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ»(لوقا42:1-45).
لو تأملنا أكثر في نغمة التحية، فهي من أعظم وأجمل التحيّات ومن السهل إدراك فرحة قلب
اليصابات عند لقاءها بأم الرب وهي تحمل الرب القدير في رحم الوالدة البتول مريم. “من اين لي هذا”، تلك الجملة تكشف كيف ان اليصابات قد داخلها الفرح حقيقة واعتبرت هذا اللقاء بركة لا حدود لها، ومن العجيب ان اليصابات كانت اكبر سنا بكثير من القديسة مريم وكان من المتوقع حضور مريم لمساعدتها فكأن تلك الزيارة كانت أمر مفروض وليس بغريب ولكن اليصابات لم تتقبل الأمر بذلك الشكل المفروض بل اعتبرته عملا يستوجب الشكر العميق. أيضا من الواضح ان اليصابات لم تكن وحدها التي بُوركت من زيارة القديسة مريم أم الله مع طفلها الإلهي وهي حبلى بل طفل اليصابات، يوحنا المعمدان، والذي كان في احشائها امتلأ هو
أيضا بالفرح و”ركض” كتعبير عن الفرح والسعادة بذلك اللقاء.
ودعونا الآن نتأمل في معاني كل كلمة من الكلمات الثلاث التي أعلنتها اليصابات. أولا قالت
لمريم:” «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ”(لوقا42:1)، ان تلك الكلمات تجلب للذاكرة كيف ان اثنتان من ابطال العهد القديم ياعيل ويهوديت قد تم وصفهما، وهما المرأتان الوحيدتان في كل الكتاب المقدس والتي تم تسبحتهن بذلك الوصف. بعد ان هزمت ياعيل القائد الأممي سيسرا والذي كان يعاير شعب الله “مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى الْوَتَدِ، وَيَمِينَهَا إِلَى مِضْرَابِ الْعَمَلَةِ، وَضَرَبَتْ سِيسَرَا وَسَحَقَتْ رَأْسَهُ، شَدَّخَتْ وَخَرَّقَتْ صُدْغَهُ. بَيْنَ رِجْلَيْهَا انْطَرَحَ، سَقَطَ، اضْطَجَعَ. بَيْنَ رِجْلَيْهَا انْطَرَحَ، سَقَطَ. حَيْثُ انْطَرَحَ فَهُنَاكَ سَقَطَ مَقْتُولًا”(قضاة26:5-27)، جاء ان دبّورة قاضية إسرائيل قالت بفرح:” تُبَارَكُ عَلَى النِّسَاءِ يَاعِيلُ امْرَأَةُ حَابِرَ الْقَيْنِيِّ. عَلَى النِّسَاءِ فِي الْخِيَامِ تُبَارَكُ”(قضاة24:1). وبالمثل، عندما هزمت يهوديت القائد الأممي أليفانا والذي حاول ان يأخذ المدينة اليهودية “وَقَالَ لَهَا عُزِّيَّا رَئِيسُ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ مِنَ الرَّبِّ الإِلهِ الْعَلِيِّ فَوْقَ جَمِيعِ نِسَاءِ الأَرْضِ”(يهوديت 23:13). لذلك فكلا المرأتان ياعيل ويهوديت اعتبرا مباركتان بين النساء لأن
الله استخدمهما لينقذ الشعب من اعدائهم.
ومريم تقف في وسط هذا التقليد ويطلق عليها “مباركة بين النساء” ومثال ياعيل ويهوديت كانت
مريم أيضا آداة في خطة الله لإنقاذ شعبه، ولكن هناك اختلاف واحد حيوي فلم تكن مريم
متداخلة في معركة فعلية فهلى مشتركة ومساهمة في خطة الله للخلاص من خلال الحبل بيسوع
في احشائها. ان ذلك ما كانت تعنيه بكل دقة اليصابات عندما استمرت لتشرح لمريم وتقول لها انها “مباركة بين النساء” لأن “ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ”(لوقا42:1). مريم مباركة لأن الطفل الي تحمله هو الذي سيحقق خطة الله للخلاص لإسرائيل وللعالم، وكما جاء في انجيل لوقا بوضوح نوع الخلاص الذي سيجلبه ذلك الطفل سيتضمن اكثر من تحرير سياسي مما جلبه ياعيل ويهوديت. ان الطفل الذى في احشاء مريم يأتي لينقذ شعبه من عدو اكثر ظلمة الا وهي الخطيئة.
ان مريم شاركت مع ياعيل ويهوديت بصورة ما بما جاء في سفر التكوين عن سحق رأس اعدائهم “ وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ»(تكوين15:3). وتلك النبؤة عن المسيّا المنتظر والذي اعلنها الله عن امرأة سيكون لها إبن وهو الذي سيسحق رأس الحيّة الا وهو الشرير. ان ياعيل ويهوديت هزموا أعداء إسرائيل العسكريين بقطع رؤوس قادتهم ولكن مريم وابنها فهو الذي يمكنه وحده ان يسحق رأس اكبر عدو لأسرائيل وهو الشرير، وبهذا فمريم هي تلك “المرأة” تحقيقا لتلك النبؤة التي جاءت في سفر التكوين (15:3) والتي ظهرت فيما بعد في عرس قانا الجليل وتحت الصليب وفي رؤيا يوحنا اللاهوتي (رؤيا1:12-9 و يوحنا4:2 و يوحنا 25:19-27).
نقطة أخرى بخصوص تلك التحية “مباركة أنتِ فى النساء ومباركة هى ثمرة بطنكِ”، هذه التحية
مشابهة لتلك التحية التى استقبل بها المسيح فى اورشليم “مبارك الآتى بإسم الرب”(متى29:21)
و”مبارك الآتي بإسم الرب ملك اسرائيل”(يوحنا13:12) وهنا تحية لأم الـملك.
“الـمبارك” كان يستعمل عند اليهود للتعبير عن الله الذى لا يجرؤ احد ان يلفظ اسمه، فزكريا يبدأ تسبحته “مبارك هو الرب إلـه اسرائيل”(لوقا18:1)، وفى محاكمة يسوع سنجد رئيس الكهنة يسأل “هل أنت الـمسيح إبن الـمبارك”(مرقس7:14)، ونحجها ايضاً فى تحية ملكيصادق لإبراهيم “مبارك ابرام…ومبارك الله العلي”(تكوين19:14).
ان الكلمة الثانية هي التي أعلنتها اليصابات ووجهتها الي مريم واصفة إياها “ام ربي” وبفعلهاهذا تسبح اليصابات وتحييى مريم كأم الملك. في العهد القديم “ربي” هو تعبير استعمل كشرف للملك كما جاء مثلا “ وَقَالَ أَرُونَةُ: «لِمَاذَا جَاءَ سَيِّدِي الْمَلِكُ
إِلَى عَبْدِهِ؟» (2صموئيل21:24)
و ” قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»(مزمور1:110). وهنا كلمة “رب” أي “كيريوس” هى التى استعملتها اليصابات فلا مجال للـمجادلـة بأنها لم تكن تقصد وانهـا كانت تقصد كلمة (ربّونـي) يعنى الـمعلّم أو السيد. وهذا يعنى ان مريـم هـى أم الإلـه فسوف تلد عمانوئيل اي اللـه معنـا وهنا نجد تطابق عجيب بين ما نطقت به اليصابات بالروح القدس وبين ما نطق به الـملاك أثناء بشارته للعذراء مريم بالحبل الـمقدس للقديسة مريم فإن كلمات اليصابات هو تأكيد لكلمات الملاك لها في الناصرة فهي أم لنسل داود الملك وأيضا كلمات اليصابات أيضا تؤكد إكرام خاص لمريم نفسها وبحسب تعبيرات الكتاب المقدس فمريم هي أم الملك ويفهم بهذا انها الملكة في مملكة ابنها. في إسرائيل القديمة الملكة في مملكة داود لم تكن هي زوجة الملك ولكن وصفت بها أم الملك كما جاء في ارميا18:13و 20 و سفر الملوك الأول 13:15 و سفر الملوك الثاني 15:24. معظم الملوك كان لديهم العديد من الزوجات ولكن كل ملك له أم واحدة فقط ولقب الملكة اعطى لها، لذلك فعندما دعت اليصابات مريم “أم ربي” فهي بذلك تكرم مريم كأم للملك والملكة الأم. تلك الخلفية يمكن ان تلقي ظلا لبعض الضوء عن دور شفاعة مريم اليوم لأن الأم الملكة في إسرائيل القديمة تخدم كحامية ومحامية عن الشعب فأعضاء المملكة يحضرون طلباتهم الي الأم الملكة وهي بدورها تقدم تلك الطلبات الي الملك (انظر ما جاء عن الملكة بتشبع ام سليمان الملك :” ثُمَّ جَاءَ أَدُونِيَّا ابْنُ حَجِّيثَ إِلَى بَثْشَبَعَ أُمِّ سُلَيْمَانَ. فَقَالَتْ: «أَلِلسَّلاَمِ جِئْتَ؟» فَقَالَ: «لِلسَّلاَمِ». ثُمَّ قَالَ: «لِي مَعَكِ كَلِمَةٌ». فَقَالَتْ: «تَكَلَّمْ». فَقَالَ: «أَنْتِ تَعْلَمِينَ أَنَّ الْمُلْكَ كَانَ لِي، وَقَدْ جَعَلَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وُجُوهَهُمْ نَحْوِي لأَمْلِكَ، فَدَارَ الْمُلْكُ وَصَارَ لأَخِي لأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ صَارَ لَهُ. وَالآنَ أَسْأَلُكِ سُؤَالًا وَاحِدًا فَلاَ تَرُدِّينِي فِيهِ». فَقَالَتْ لَهُ: «تَكَلَّمْ». فَقَالَ: «قُولِي لِسُلَيْمَانَ الْمَلِكِ، لأَنَّهُ لاَ يَرُدُّكِ، أَنْ يُعْطِيَنِي أَبِيشَجَ الشُّونَمِيَّةَ امْرَأَةً». فَقَالَتْ بَثْشَبَعُ: «حَسَنًا. أَنَا أَتَكَلَّمُ عَنْكَ إِلَى الْمَلِكِ». فَدَخَلَتْ بَثْشَبَعُ إِلَى الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ لِتُكَلِّمَهُ عَنْ أَدُونِيَّا. فَقَامَ الْمَلِكُ لِلِقَائِهَا وَسَجَدَ لَهَا وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَوَضَعَ كُرْسِيًّا لأُمِّ الْمَلِكِ فَجَلَسَتْ عَنْ يَمِينِهِ. وَقَالَتْ: «إِنَّمَا أَسْأَلُكَ سُؤَالًا وَاحِدًا صَغِيرًا. لاَ تَرُدَّنِي». فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ: «اسْأَلِي يَا أُمِّي، لأَنِّي لاَ أَرُدُّكِ»(1ملوك13:2-20).
وكما سبق وان بينا فـى نص بشارة الـملاك جبرائيل للعذراء أن إبنهـا “سيعطيه الرب الإلـه عرش
داود أبيـه ويـملك على آل يعقوب إلـى الأبـد”(لو32:1)، وفـى كلمات أليصابات عندما صاحت
بصوت عظيم “من أين لـي هذا أن تأتـى أم ربـي إلـيّ” (لو43:1) نجد إنـه بسبب مُلك إبنهـا حصلت مريـم على هذا الشرف أن تكون “أم الرب الـملك” أي “الـملكة”. فهـى إذاً ملكة. ومزمورداود يُعظّم الـملك والـملكة القائـمة عن يـمينه “قامت الـملكة عن يـمينك بذهب أوفيـر” (مز10:44).
“فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ» أخيرا، هنأت اليصابات مريم لإيمانها العظيم فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ»(لوقا45:1). لاحظ الفرق في ثالث إعلان، ففي الإعلانين الأولين كرمت اليصابات مريم في حبلها الفريد ومعترفة بأن مريم مباركة بسبب ثمرة احشائها وبسبب انها “ام ربي”، ولكن في ثالث بيان ميزّت مريم في شيئ اعظم الا وهو إيمانها “طوبي للتى آمنت”. شرح القديس أغسطينوس هذا بأن مريم كونها أم للمخلص لكن اعطي لها ميزة عظيمة أخرى الا وهو ايمانها والذي هو شيئا جديرا بالذكر حتى انه يمكن ان يكون اكثر من علاقتها الطبيعية مع ابنها. ان مسيرة مريم الإيمانية مع الرب كرسولة هو ما جعلها مباركة ومطوبة. يوما مـا صرخت إمراءة فى إحدى عِظات يسوع فى الناصرة “طوبى للبطن الذى حملك والثديين الذين رضعتهمـا.أما هو فقال بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه” (لوقـا 27:11-28). فهـل إستحقت مريم التطويب لأنها ام يسوع وكفى؟، أم لإنها سمعت كلام الله وحفظته متفكرة فيه فى قلبها وعملت بـه (لوقا51:2). ويضيف القديس أغسطينوس “يجب ان لا نفكر ان المباركة او التطويب حدث فقط لأنها أم ولكن بدلا من ذلك علينا ان نتأمل في مسيرة حياتها كلها”. وإيـمـان مــريـم والذى لـم تطلب علامة عن صِدق قول الملاك جبرائيل عندما أخبرها بالميلاد العجيب بل أتت لهـا العلامـة من أن العاقر ستلد. وعاشت مريم مع يسوع الطفل وكأي طفل عادي أرضعته وكان محتاجاً لها لتغذيته، فلو كان يسوع يعلن لها عن طبيعته الإلهية بإستمرار لـمـا كان لـمـريم فى إحتياج لحياة الإيـمـان ومـا كانت تتعجب من إجابة إبنها وهو فى الثانية عشر ” لماذا كنتمـا تطلبانني الم تعلما انه ينبغي أن أكون فيمـا لأبي” (لوقا 49:2) أو عند عرس قانا الجليل ” مـالي ولكِ ياإمراءة لم تأت ساعتي بعد” (يوحنا 2:4).
أنشودة التعظيم
فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ». فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا.“(لوقا46:1-56).
انه من الصعب تخيل كيف استقبلت القديسة مريم لأي من تلك الكلمات العظيمة والتي تسبح كونها “مباركة بين النساء” بسبب الطفل الذي تحمله، ومباركة ثمرة احشائها وأيضا مباركة لأنها “أم ربيّ” وفوق كل ذلك فهي مباركة ومطوبة بسبب إيمانها. ترى كيف ستجاوب مريم على كل تلك الإعلانات و التطويبات والتهنئات؟ لقد اعادت بتواضع كل الإنتباه نحو الله معترفة بأنه هو المصدر الحقيقي لكل تلك البركات في حياتها. فقالت مريم:” فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي(لوقا46:1-47).
هنا يعود الينا جزء من مجال منظر الزيارة والذي فيه كان رد مريم لأليصابات كشبه نشيد، والذي يعكس في الحقيقةجزء خاص وهام من حياة مريم الداخلية. ان الآيات التي ذكرها القديس لوقا في انجيله (لوقا46:1-55) والتي تعرف عامة ب “أنشودة التعظيم” والمترجمة من اللاتينية Magnificat anima mea Dominum (تعظم نفسي الرب)، واستخدمت الكلمة الأولى “تعظم” ولذا عرفت بانشودة التعظيم The Magnificat، وهذا فالكلمة “تعظم” في اليونانية megalunein تعني “تصنع شيئا عظيم او تسبح” وعندما تقول مريم ان نفسها تعظم الرب فهي بهذا تعبّر من كل اعماقها كيف انها ترغب في تسبحة الله وان تفعل ما في وسعها
ليتتمجد ويتعظم.
يكشف هذا النشيد مدى الفرح الذي كان في قلب والدة الله، فهي في تواضع تعترف ان كل الأشياء العظيمة التي نالتها هي من الله وعبّرت عن هذا بفرح عميق لا يوصف. انه من العجيب ان نلاحظ ان “نفسها” و”روحها” تم ذكرهما في نشيد التسبيح هذا، فنفسها تعلن وروحها يكشف عن ابتهاجها بذلك النشيد. في جزء يكشف عن ان كلا من فعل خاص بها وفعل من الله، فنفس والدة الله تشير الي كل قدراتها البشرية في عقلها وارادتها ومشاعرها ورغباتها وهذا ما يجعلها بشر مثلنا وبتلك القدرات البشرية أعلنت عن عظمة الله. لقد قبلت في عقلها عظمة القدير وبإرادتها لعترفت واختارت ان تعلن عن عظمة الله القدير وفعلت هذا بكل مشاعرها وأحاسيسها ورغباتها فيمكن القول بأن بكل بشريتها قد استخدمتها للتعبير عن عظمة الله. وتعلن أيضا ان في روحها انها قد امتلئت بفرح ومجد عظيم وكما أعلنت عن عظمة الله قد غمرها الروح القدس وأثمر فيها ذلك ثمر الروح”الفرح”، فالفرح يأتي من الله ويعمل في حياتنا فهو ثمر الروح القدس وامنا مريم المباركة لديها الملء كله من ثمر الروح:” وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ”(غلاطية22:5-23)ٌ.
“فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ.
فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَه”(لوقا46:1-50)ُ.
التواضع يتضمن رؤية الحقيقة عن النفس ومريم أظهرت هذه الفضيلة بطرق كثيرة وملحوظة في
أنشودتها. أولا فهي اعترفت بحقيقة مهمتها الفريدة والموكولة اليها والبركات الغير عادية التي
نالتها ولم تنكر او بخست ما الذي صنعه الرب في حياتها، ففي الحقيقة الله صنع أشياء عظيمة لها ولذا فتعزي كل شيئ الي الله وتقول “كل الأجيال ستطوبني” بسبب ما صنعه الرب وبسبب تواضعها.
ولكن مريم في نفس الوقت تعرف في اعمافها ان كل تلك البركات في حياتها ليست بعمل منها
فهي لم تصبح “ممتلئة نعمة” وأم المسيّا و”مباركة في النساء” من خلال جهد خاص منها او بسبب بعض مواهب فطرية روحية فمريم تعترف بضعفها وانشودتها تبين ان كل ذلك جاء بنعمة من الله. لاحظ كيف ان كل شيئ تقوله عن نفسها في تلك الآيات مرتبطة بالله فهي لا تطلب ان تظهر نفسها ولكن لتعظم الرب (لوقا 46:1). لقد رأت نفسها ليس إلا آمة صنيعة الرب وخادمة للرب (doules) (لوقا48:1)، ولكن الله جاء كمخلص لها ونظر الي تواضعها (48:1)، فهو الله الذي صنع العظائم لها (49:1).
نقطة أخرى ملفتة للنظر في انشودة التعظيم هو موضوع المضادات في النصف الأول والثاني
من ذلك النشيد:” صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ»(لوقا51:1-55).
في الجزء الأول من أنشودة التعظيم نرى مريم قد ركزّت على بركات الله التي منحها لها شخصيا وكيف ان الرب نظر الي تواضعها وصنع أشياء عظيمة لها (لوقا46:1-50). في الجزء الثاني سبّحت مريم الله فيما هو يعمله لأسرائيل شعبه يظهر رحمته لشعبه ومنقذا لهم من ضيقاتهم (لوقا51:1-55). تلك الحركة من الضعف الي الظهور – كلاهما كفرد (الجزء الأول) وفي الشعب ككل (الجزء الثاني)- هو مفتاح هام لكي نفهم انشودة التعظيم. لم ترى مريم ان البركات التي حصلت هي عليها هي شيئ لنفسها فقط ورأت ان عمل الله في حياتها هو مساهمة ومشاركة فيما يريده الله ان يعمله من اجل شعبه. فكما نظر الله الي تواضع مريم
(48:1) وصنع أشياء عظيمة لها هكذا سينظر الي كل المتواضعين (52:1) ويخلصهم.
في عملية الخلاص سيكون هناك هزة درامية في أرض إسرائيل الجائعون سوف يشبعون والمتواضعين سيرتفعون بينما المتكبرين سيتشتتون والأعزاء سينزلون والأغنياء سيذهبون فارغين. هكذا فأنشودة مريم تتنبأ عن رسالة إبنها العامة والتي ستعكس تلك المضادات الدرامية، فيسوع سيرفع المتواضعين بتغذية الجوعى وشفاء المرضى ومغفرة الخطايا للخاطئين ومد التبعية له لمن هم مضطهدين في المجتمع وكثير من القادة السياسيين والدينيين سيقاوموا المسيح وسيطردوا خارجا من مملكته. تنبأت مريم ان الله قد نظر برحمة الي ضيقات شعبه إسرائيل وسوف سيجمع كل المتعبين ويدخلهم الي ملكوت ابنه بينما المتكبرين والعظماء والأغنياء الذين يعاضون ويقاومون شعب الله سينزلون ويرذلون.
ان العلاقة ما بين الجزءان من نشيد مريم واضح، فطريق الله في العمل في حياة مريم يتوقع عمل الخلاص الذي سيفعله لكل إسرائيل تماما كما نظر الله لتواضع مريم واختارها وميّزها هكذا سوف ينظر الرب برحمة الي جميع المتواضعين في إسرائيل ويرفعهم ليصبحوا ورثة للملكوت. في انشودة التعظيم أعلنت مريم ليس فقط الأشياء الصالحة الذي سيقوم بها الله في حياتها ولكن الأخبار السارة لكل شعب الله.
لقد أنشدت مريم العذراء نشيدها هذا كنبيّة ولذا فتعتبر أخر نبيـة فى العهد القديم وأول أنبياء
العهد الجديد. وهي تسبحة تبين ان مريم كان ذهنها مملوء من الأسفار المقدسة فهى تشابه تسبحة حنة ام صموئيل النبي (1 صموئيل 1:2-10) “فَرِحَ قَلْبِي بِالرَّبِّ. ارْتَفَعَ قَرْنِي بِالرَّبِّ. اتَّسَعَ فَمِي عَلَى أَعْدَائِي، لأَنِّي قَدِ ابْتَهَجْتُ بِخَلاَصِكَ. لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ لَيْسَ غَيْرَكَ، وَلَيْسَ صَخْرَةٌ مِثْلَ إِلهِنَا. لاَ تُكَثِّرُوا الْكَلاَمَ الْعَالِيَ الْمُسْتَعْلِيَ، وَلْتَبْرَحْ وَقَاحَةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. لأَنَّ الرَّبَّ إِلهٌ عَلِيمٌ، وَبِهِ تُوزَنُ الأَعْمَالُ. قِسِيُّ الْجَبَابِرَةِ انْحَطَمَتْ، وَالضُّعَفَاءُ تَمَنْطَقُوا بِالْبَأْسِ. الشَّبَاعَى آجَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْخُبْزِ، وَالْجِيَاعُ كَفُّوا. حَتَّى أَنَّ الْعَاقِرَ وَلَدَتْ سَبْعَةً، وَكَثِيرَةَ الْبَنِينَ ذَبُلَتْ. الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي. يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ. الرَّبُّ يُفْقِرُ وَيُغْنِي. يَضَعُ وَيَرْفَعُ. يُقِيمُ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ. يَرْفَعُ الْفَقِيرَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِلْجُلُوسِ مَعَ الشُّرَفَاءِ وَيُمَلِّكُهُمْ كُرْسِيَّ الْمَجْدِ. لأَنَّ لِلرَّبِّ أَعْمِدَةَ الأَرْضِ، وَقَدْ وَضَعَ عَلَيْهَا الْمَسْكُونَةَ. أَرْجُلَ أَتْقِيَائِهِ يَحْرُسُ، وَالأَشْرَارُ فِي الظَّلاَمِ يَصْمُتُونَ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِالْقُوَّةِ يَغْلِبُ إِنْسَانٌ. مُخَاصِمُو الرَّبِّ يَنْكَسِرُونَ. مِنَ السَّمَاءِ يُرْعِدُ عَلَيْهِمْ. الرَّبُّ يَدِينُ أَقَاصِيَ الأَرْضِ، وَيُعْطِي عِزًّا لِمَلِكِهِ، وَيَرْفَعُ قَرْنَ مَسِيحِهِ». لكن تسبحة حنة انتظار للمسيا واما تسبحة العذراء مريم فهى فرح بتحقيق هذا الأمل. أيضا تسبحة القديسة مريم تشبه ترنيمة التعظيم
لاشعيا النبي “فرحا افرح بالرب تبتهج نفسي بالرب..”(اشعيا10:16-11).
ها هى ابنة الناصرة القرية الفقيرة والحقيرة يحبها الله “نظر الى تواضع أمتـِه”. لقد ترك الله كل
الخراف وبحث عن خروف واحد وعن درهم واحد وعن مريض واحد فى بركة.ولم تتكلم مريم عن الله باسمه ولكن بصفاته فها هى تدعوه القدير و القدوس و اله الرحمة.
ان خلاصة نشيد القديسة مريم كما جاء:
- أنشدت مريم العذراء نشيدها هذا كنبيّة فتعتبر أخر نبيـة فى العهد القديم وأول أنبياء العهد الجديد.
- انها تسبحة تبين ان مريم كان ذهنها مملوء من الأسفار المقدسة فهى تشابه تسبحة حنة
ام صموئيل النبي (1ملوك11:1) ولكن تسبحة حنة انتظار للمسيا واما تسبحة العذراء مريم فهى فلرح بتحقيق هذا الأمل.
- تسبحة تشبه ترنيمة التعظيم لاشعيا النبي “فرحا افرح بالرب تبتهج نفسي
بالرب..”(اشعيا10:16-11).
- لا تنسب مريم لنفسها شيئا بل ان كل شيئ هو من نعمة الله.
- ها هى ابنة الناصرة القرية الفقيرة والحقيرة يحبها الله “نظر الى تواضع أمتـِه”. لقد ترك الله
كل الخراف وبحث عن خروف واحد وعن درهم واحد وعن مريض واحد فى بركة.
- لم تتكلم مريم عن الله باسمه ولكن بصفاته فها هى تدعوه القدير و القدوس و اله الرحمة.
- قيل ان هذه التسبحة هى تمهيد للموعظة على الجبل التى سيعلن المسيح فيها طوبى للمساكين والودعاءوالحزانى والجياع(متى5)
- هذه التسبحة تعلن عن ما فى نفس مريم من عمق الشركة مع الله
عيد زيارة مريم العذراء للقديسة أليصابات (يوم 31 مايو)
ان الكنيسة الكاثوليكية الغربيـة فى إحتفالهـا بهذا العيد وضعت قراءاتهـا لتناسب هذا الحدث فيقرأ نص نبؤة صفنيـا القائلة:”ترنمي يا إبنة صهيون.اهتفوا يا اسرائيل. افرحي وتهللي بكل قلبك يا ابنة اورشليم..”(صفنيا14:3-18)، ثم نص زيارة مريم العذراء للقديسة اليصابات(لوقا39:1-47). وهذه الزيارة كانت بمثابـة:
- إثبات من أن كلمة الله فعّالـة فلقد تحقق قول الملاك لزكريا الكاهن من أن يوحنا
“سيمتلئ من الروح القدس وهو فى بطن أمـه”(لوقا15:1)، فعند سلام مريم لأليصابات “ارتكض الجنين فى بطنهـا وإمتلأت أليصابات من الروح القدس”(لوقا41:1).
- تكريس يوحنـا ليكون نبيـّا للرب
ففى العهد القديم تم تكريس ارميـا النبي وهو فى بطن امـه :”قبل أن أصوّرك فى البطن عرفتك وقبل أن تخرج من الرحّم قدّستك وجعلتك نبيـّاً للأمم”(ارميا5:1)، وهنا وبنفس طريقة التكريس وبوجود الـمسيّا الذى كانت تحمله مريم فـى بطنهـا عند زيارتهـا لأليصابات فعند سلام مريم لأليصابات “ارتكض الجنين فى بطنهـا وإمتلأت أليصابات من الروح القدس”(لوقا41:1) ولهذا أعلن الروح القدس على لسان زكريا “وأنت أيهـا الصبي نبيّ العليّ تُدعى لأنك تسبق أمام وجه الرب”(لوقا76:1).
(3) إعلان جديـد عن يسوع
فها القديسة أليصابات بعد أن “إمتلأت من الروح القدس”، “تصيح بصوت عظيم” معلنـة عن وجود الرب “من أين لـى هذا ان تأتى أم ربـيّ إلـيّ”(لوقا43:1) ولقد إستخدمت هنـا كلمة “رب” كما جاءت بعد ذلك فى كتابات العهد الجديد (يوحنا 13:20، أعمال 36:2).
(4) أنشودة تعظيـم من مريم
فالعذراء مريـم أنشدت تسبيحة شكر لله تعالـى ودعتـه بألقاب لاهوتيـة مقدسة “الرب”. “الله”. “القديـر” وذلك عندما قالت:”تعظم نفسي الرب وتبتهج روحى بالله. لأن القدير صنع بي العظائم”(لوقا46:1-49). ولم تقتصر تسبحة العذراء فقط على ألقاب الله بل إمتدت إلـى أعمالـه فى صور متعددة فقد رأت فيه:كفارتـه، وقدرتـه، وعظمته، وقداسته، ورحمته، وقوتـه،
ووداعتـه، وحكمته، وتمام كلمته.
(5) مريـم تابوت العهـد
ففى العهد القديم إحتفل الشعب فى أورشليم بعودة تابوت العهد “بفرح”(2ملوك12:6-15)،
وها هـى أليصابات تصيح “بصوت عظيم” و”يرتكض الجنين من الإبتهاج فى بطنهـا”، وتتساءل اليصابات “كيف تأتى لـى أم ربي”، وكأنـها تردد ما قاله داود النبي فـى القديم “كيف ينزل تابوت الرب عندي”(2ملوك9:6)، وكان قدوم العذراء مريم الى بيت أليصابات سبب بركـة كما كان تابوت الرب سبب بركة لبيت عُوبيد(2ملوك11:6).
ميلاد يوحنا ابن زكريا
طبقا لما جاء في انجيل القديس لوقا فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا.“(لوقا56:1)، ثم ان القديسة مريم قد عادت للناصرة. تتضارب الأقوال اذا ما كانت القديسة مريم قد حضرت ولادة يوحنا ام لا ولكن اغلب الآراء تؤيد انها قد حضرت بالفعل الولادة لكونها احتفظت بكل احداث تلك الولادة وما دار بها وهذا ما سجله القديس لوقا:”وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ابْنًا. وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ الرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. فَأَجَابَتْ أمُّهُ وَقَالَتْ: «لاَ! بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا». فَقَالُوا لَهَا: «لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاسْمِ». ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى. فَطَلَبَ لَوْحًا وَكَتَبَ قِائِلًا: «اسْمُهُ يُوحَنَّا». فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ. فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهذِهِ الأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ الْيَهُودِيَّةِ، فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ السَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: «أَتَرَى مَاذَا يَكُونُ هذَا الصَّبِيُّ؟» وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ. وَامْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلًا: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ، خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ، الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا:أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ بِقَدَاسَةٍ وَبِرّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا.وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ، بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ. لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ». أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ”(لوقا57:1-80).
الحلم العجيب
لنعود الى الناصرة لكي نتفهم ما حدث بالفعل عندما علم يوسف بحبل مريم بعد عودتها من زيارة اليصابات وبيت زكريا الكاهن فعلينا التأمل في رد فعل يوسف والذى جاء انه “هّم ان يخليها سراً” والذى كان محل مجادلة في السنوات الأولى من بدء المسيحية. في العهد الجديد جاءت تلك الآيات: “ أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا”(متى18:1-19). ان السرد او النص الذي جاء يعطي انطباع خاطئ للحقائق وافعال الإرادة، فأي قارئ سيفترض ان يوسف يجب ان يكون قد تحمل سيل من المشاعر المتباينة عندما يواجه قراره، وان هناك اشارة لوجود مأساة او صراع داخلي ربما دار في نفس يوسف لا يمكن تخيله ولكن ما الذى في الحقيقة كانت مشاعر يوسف؟ ماذا كانت المأساة؟ ما هو الاختيار الذى يمكن ليوسف ان يأخذ به لكي يحل المشكلة ويقوم بطلاق مريم وفسخ اي ارتباط؟
ان المفسرين عبر العصور قد افترضوا ثلاث طرق للإقتراب لفهم ذلك النص المبهم:
- نظرية الاشتباه 2- نظرية الحيرة 3-نظرية التقديس
فدعونا نفحص كل نظرية منهم بالتدقيق وباختصار.
1.نظرية الاشتباه The Suspicion Theory– في ذلك النص كما جاء عندما نقرأ انجيل القديس متى فالقديس يوسف اشتبه بأن مريم كانت غير مخلصة وغير امينة ولذا فيوسف قد دمر نفسيا ولكن ظل حبه لمريم عظيما وانه لا يستطيع ان يتحمل فكرة مواجهة مريم للعار والفضيحة امام الناس او عقوبة الموت حيث ان خطية الزنا هي جريمة يعاقب عليها بالإعدام بالرجم. قرر يوسف ان يطلق مريم كما تسمح الشريعة حتى اوقفه ملاك الرب من الاتجاه في
ذلك الفعل.
2. نظرية الحيرة The Perplexity Theory– طبقا لتلك النظرية لم يستطع يوسف ان يفهم ما الذى حدث وهو لا يصدّق ان مريم تستطيع ان تكون غير امينة، وان حبلها لا يمكن انكاره بعد وهو يخضع الى عقوبات قانونية ولما كان يوسف رجلا “بارا” كما وصفه الكتاب المقدس وجد الحلّ والذي فيه يحترم الشريعة ولكن يحفظ مريم ايضا. الملاك في القراءة التى وردت في انجيل متى قدم المعلومات ليوسف التى كان يفتقر اليها وساعدته ليضع خطة للمضي قدماً.
3. نظرية التقديس The Reverence Theory – هذه النظرية الثالثة تظهر يوسف كرجل طغت عليه الرهبة عندما علم بحبل مريم الاعجازي بلا دنس. من البداية عرف تدخل الله الفردي” وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ”، شعر يوسف وقتها انه غير مستحق ان يكون متدخلا ولذا فلقد قرر انه سوف سيتعاون بقدر الإمكان بحفظ سر مريم ولمدة كافية ليحمي مريم وعندئذ يتركها بهدوء. في نص انحيل متى كان اول فعل ليوسف مشابه للقديس بطرس الرسول عندما قال ليسوع:” «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي”( لوقا8:5)، او لقول قائد المئة:” لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي.“(لوقا6:7). على الرغم من هذا اقنع ملاك الرب يوسف ان يضع جانبا خوفه.
ان كل نظرية من تلك النظريات الثلاث يقف وراءها قديسون وعلماء الكنيسة، فمثلا القديس
يوستين الشهيد St Justin Martyr والقديس اغسطينوس St Augustine of Hippo كان من انصار ومؤيدي النظرية الأولى، والقديس جيروم St Jerome فكان مع النظرية الثانية، بينما القديس توما الاكويني St Thomas Aquinas و القديس برنارد ٍ
St Bernard of Clairvaux والقديس St Josemaria Escriva فكانا مع النظرية الثالثة.
القديس توماس الاكويني كطريقته المعتادة لخّص التقليد التفسيري مستعينا بما كتبه العلامة
أوريجون Origen والقديس جيروم فقال:” ان يوسف لم يتوقع الزنا فيوسف يعلم بتواضع مريم”.
ولقد قرأ في الكتاب المقدس ان “العذراء ستحبل” وان “المخلص سيأتي من جذع يسّى” واكثر من هذا فهو يعلم ان مريم من سلالة داود وهكذا اصبح اكثر تصديقا انه يمكن اتمام الوعد عن طريقها اكثر من انها يمكن ان ترتكب اي زنا، وهكذا مؤمن من انه غير مستحق ان يحيا مع مثل تلك القداسة ورغب ان يخليها بهدوء كما قال فيما بعد القديس بطرس الرسول:” «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!»“. هكذا لم يرغب ان يجلب العار لها-وهذا ان تكون له وان يأخذها زوجة مؤمنا انه غير مستحق او طبقا لرأي آخر لا يعرف النهاية ولئلا يوجد انه مدان اذا جاز التعبير اذا ما احتفظ بالسر وظل معها”
ان الكنيسة الكاثوليكية لم تأخذ موقفا رسميا في تفسير النص المختصر الذى جاء في انجيل متى ولكن الغالبية من المسيحيين يميلوا للنظرية الثالثة الخاصة بعدم الاستحقاق.
الميلاد العجيب
وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ. وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلًا مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ». وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ». وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ». فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ (لوقا1:2-20).
يبلغنا القديس لوقا البشير في انجيله ان وقت مريم لتلد جاء مع توقيت الاكتتاب الذى قيل
انه للمسكونة “ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ ” (لوقا1:2). في العهد القديم كما اليوم كان الاكتتاب معروف واداة مفيدة لأجل فرض الضرائب وتخصيص الخدمات العامة. كانت هناك مع ذلك لا توجد وسائل ميكانيكية للسجلات وتجميعها ونقلها او استرجاعها وبهذا فالطريقة يمكن ان تمتد لعدة سنوات.
كان للإكتتاب نظامان:
– نظام رومانـي وهو يجيز لكل فرد أن يكتب أو يسجل اسمه فى محل إقامتـه، أو فـى مكان ما يمتلك من أملاك حتى يسهل تحديد مخصصات كل فرد تجاه الحكّام.
– نظام يهودي وهو يجبـر كل فرد أن يرجع الى مكان ولادتـه حتى لا تختلط الأسباط
بعضهـا بالبعض.
ولقد أصدر الإمبراطور الروماني الأمر بالإكتتاب ليكون عاماً ويشمل كل الأراضي التى تحت
سلطان الإمبراطوريـة وذلك من أجل ترتيب إدارتهـا وتقنين الضرائب. وبهذا تضافرت القوة
الرومانيـة واليهوديـة على تتميم الـمقاصد الإلهيـة، فلقد صدر الأمر من السلطة الرومانية وتم الإكتتاب على الطريقة اليهوديـة، وبهذا انتقل يوسف ومريم إلـى بيت لحم “لكونـه من بيت داود وعشيرتـه”(لوقا4:2). ولقد حدد الإنجيل انه الإكتتاب الأول ليميزه عن اي اكتتاب آخر غير رسمي صدر أو أي إكتتاب آخر جاء بعد ذلك كما جاء فى سفر أعمال الرسل (أع37:5). ولقدد حدد النص أيضاً انـه كان فى زمان كيرينيوس والي سوريـة وهو قد تعيّن قنصلاً رومانياً سنة 12ق.م.، وتعيّن والياً على سوريـة مرتين:الأولى من سنة6-4ق.م. والثانيةمن 6-9بعد الـميلاد ومات سنة 21 بعد الـميلاد.
لاحظ كيف ان انجيل لوقا قد رسم اهتمام اكثر لذلك الإحصاء اكثر من سرد تفاصيل ميلاد يسوع (لوقا1:2-5). لقد كرر لوقا كلمة “يكتتب” اربع مرات في هذا النص ووصف ذلك الإكتتاب مطول عن وصف ميلاد المسيح والذي يقول لنا فقط ان مريم ولدت ابنه البكر ولفته
وقمطته ووضعته في المزود(لوقا7:2).
ان الإكتتاب او التسجيل كان إحصاء ينفذ من وقت لأخر في الأمبراطورية الرومانية والذي يتضمن تسجيل الناس والأملاك من اجل تحصيل الضرائب وأيضا للأغراض العسكرية. حيث ان اليهود سوف لا يتجندوا في الجيش الروماني فكان التركيز لذلك الإعلان هو لنشر القوات حسب تعداد السكان في كل منطقة، ولقد استخدم الرومان نظام ضرائبي ثقيل كوسيلة لتسخير الشعوب التي يهزموها وكمصدر ايراد لتعضيد الإمبراطورية. واكثر من ذلك فالضريبة هي علامة ولاء لروما واليهود في فلسطين في زمن مريم كانوا سيعاقبون اذا ما تأخروا في دفع ما عليهم لروما. لذلك ذكر لوقا ذلك الإكتتاب والذي سيكون ذكرى مؤلمة تذكرهم بحكم الرومان على الشعب اليهودي. ان ذلك الإعلان يتطلب من يوسف ان يسجل في مدينة أجداده والتي هي بيت لحم في اليهودية وهي مدينة صغيرة على بعد حوالي 7 ميل جنوب اورشليم. بفرض ان اليهود اخذوا طريقا آخر بعيدا عن المرور في مقاطعة السامرة بسبب العداء بينهم وبين السامريين فرحلة 90 ميل من الناصرة الى بيت لحم يمكن ان تأخذ حوالي 4 أيام وهي ليست رحلة مرفهة للكثيرين لصعوبتها وخاصة بالتأكيد لأم حبلى.
في نفس الوقت يرينا لوقا كيف ان هناك قوى اكبر والتي في الحقيقة تتحكم في شؤون البشر
وهكذا كان اعلان القيصر هو بمثابة الطريق الذي استعمله الله لكي يولد المسيّا في المدينة المناسبة وهي بيت لحم تنفيذا لما جاء في نبؤات العهد القديم.
بيت لحم كانت مدينة صغيرة ولكنها مرتبطة بتوقعات كثيرة، فبينها انجيل لوقا في البداية على
انها “مدينة داود” لسبب مهم على الرغم من ان مدينة أورشليم هي عادة تحمل ذلك اللقب في
العهد القديم ] (2صموئيل7:5و9و6:10و12و16 – وملوك الثاني 28:9و 22:12)[، فبيت
لحم هـى البلدة التى وُلد فيهـا داود النبي من قبل (1ملوك15:17)، والـمكان الذى مُسح فيـه
داود ملكاً (1ملوك13:16)، والتى شرب من بئرهـا فى حربـه مع الفلسطينيين.
بيت لحم أي بيت الخبـز، وليس غريبـا ان بيت لحم هذه تعطى العالـم كلـه “خبز الحيـاة”(يوحنا48:6) يسوع الـمسيح. “ألـم يقل الكتاب انـه من نسل داود ومن بيت لحم القريـة التى كان داود فيهـا يأتـى الـمسيح” (يوحنا42:7). بيت لحم كان في القديم اسمها “افراتة” والتى
تعني “خصبة” او “غنية الثمار” وهي من أقدم مدن اليهودية.
راعوث جدة العذراء قد تغرّبت من قبل فى بيت لحم (راعوث19:1)، وها هى العذراء غريبـة فـى القريـة. وهـى التى فيهـا قبـر راحيـل زوجـة يعقوب (تكوين19:35)، وهـى التى كان فيهـا بيت يسّى (لوقا4:2)، وفيهـا بئر داود(2ملوك14:23)، وبنى رحبعام ابن سليمان فيهـا حصنـاً(2 أيام4:11).
أكثر من هذا فبيت لحم مرتبطة بنبؤة ميخا النبي والتي تتحدث عن مجيئ المسيّا المنتظر الذي
يحكم العالم:” «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ
يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ»(ميخا2:5)، وايضا ما جاء من نبؤات العهد القديم الأخرى عن المسيّا المنتظر ان يأتي من نسل داود:” أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ”(عدد 17:24)، “وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ”(اشعيا1:11). وكما جاء ان يوسف كان من بيت داود “لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ”(لوقا4:2)، وكما جاء في رسالة القديس بولس لأهل رومية ان المسيح جاء من نسل داود:” عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ”(رومية3:1)، والذي يعني ايضا ان مريم هي ايضا من بيت داود وهذا ما اعلنه الملاك لمريم عن ابنها:” هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ
يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ»“(لوقا32:1-33).
هنا نجد انه من الرغم من انجيل لوقا قد ألقى الضوء على ان مريم ولدت طفلها المسيح اثناء وجودها في بيت لحم من اجل الإكتتاب وكيف ان احتلال الرومان للشعب اليهودي اجبرهم على ذلك الترحال للإكتتاب، فالأنجيل أيضا يرينا مهما يكن من الضيقات التي تعرضت لها مريم ويوسف في ترحالهم لبيت لحم ولكن كانت فرحة ميلاد المخلص كما جاء في النبؤات كافية لتعزيتهما.
اين في بيت لحم ولدت مريم ابنها يسوع؟ هل في مغارة؟ هل في منزل؟ هناك عدة تقاليد تناقلتها الأجيال عبر العصور وانجيل لوقا لم يقدم لنا كثير من المعلومات للإجابة على تلك التساؤلات، فقط مفتاحان هامان قد أعطيت لنا وهما “مغارة” و” الخان”. في تقرير لوقا ان مريم ولدت يسوع فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ”(لوقا7:2). ان ذكر “مزود” (مكان او وعاء للتغذية) يشير ان الطفل يسوع كان في موضع فيه سكنى للحيوانات، وبينما طبيعة “الخان” يكون من الصعب اخلاؤه. ان كلمة katalyma اليونانية التي استخدمها لوقا تترجم عادة ب “inn” والتي في الواقع لها معنى واسع يشير الي أي نوع من مكان للإقامة والكلمة يمكن ان تعود الى خان بدائي (مثال ما جاء “وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ”(خروج24:4 ) او حجرة للضيف في المنزل “قُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا»(لوقا11:22-12)، أو ببساطة مكان للإقامة. احتمال اول ان كلمة katalyma ترجع الي فندق للمسافرين والذي كان موجود بالقرب من بيت لحم ” فَسَارُوا وَأَقَامُوا فِي جَيْرُوتَ كِمْهَامَ الَّتِي بِجَانِبِ بَيْتِ لَحْمٍ، لِيَسِيرُوا وَيَدْخُلُوا مِصْرَ”(ارميا17:41). مثل ذلك الخان سيكون بالتأكيد مختلف عى الموتيلات الحديثة والخان الفلسطيني في ذلك العهد هو مأوى عام او مكان حيث مجموعات كبيرة من المسافرين يتم إقامتهم تحت سقف واحد وفي حجرة واسعة. الضيوف عامة ينامون في الدور العلوي بينما حيوانتهم تظل في الدور السفلي للمبنى او في المغارة القريبة من المبنى. في مثل ذلك السيناريو قد يكون مريم ويوسف لم يجدا غرفة في خان المسافرين ولهذا ذهبا الي أقرب مكان في المغارة حيث مبيت الحيوانات حتى يمكن لمريم ان تلد ابنها. احتمال ثاني ان كلمة katalyma تعود الي جزء مسكون من منزل وحيث ان يوسف مسافر الي مدينة عائلته وعشيرته فيمكن توقع انه لن يبقى في خان المسافرين ولكن مع أقرباء له في بيت لحم. منازل الفلاحين الفلسطينيون غالبا يكون مسكون بأناس وحيوانات تحت سقف واحد، فالأسرة ستقطن على مسطح عالي بعض الشيئ بينما الحيوانات تظل في الطابق السفلي حيث توجد مكان لإيواءهم وتغذيتهم. في مثل هذا السيناريو لم يوجد غرفة في ذلك المكان المزدحم بأهله – katalyna -ولهذا فمريم ولدت ابنها في المكان حيث يحتفظ فيه بحيوانات وولدت ابنها في المزود.
ثالث إحتمال يمكن ان يكون معتمدا على تقليد قديم ان يسوع ولد في كهف في الحدود الخارجية
لبيت لحم وفي بدء القرن الثاني الميلادي هناك دلائل تشير ان المسيحيون كانوا يميلون لهذا ويقول التقليد الكنسي على لسان القديس الشهيد يوستين(150م)، إن القديس يوسف ومعه العذراء مريم عندما بلغا بيت لحم لم يكن لهما فيها أحد، إذ كانا قد استوطنا الناصرة منذ زمن بعيد. فإتجها الى الخان (الـمنزل أو النزُل) وهو مكان يشبه اللوكاندة تستقبل الـمسافرين، فلما لم يجدا فى الـمنزل مكاناً إلتجأ الى المغارة الـملحقة والتى كانت مخصصة للدواب وباتا فيهـا وهناك ولدت إبنها البِكر وقـمّطته وأضجعته فى الـمزود. ولقد شيّدت الملكة هيلانـة كنيسة فوق هذا الـمكان الـمقدس سنة 330م، وبعدها قام الإمبراطور جوستينان الأول(483-563م) وبنى كاتدرائية كبرى على هذا الـمكان، ويقال ان الكنيسة الحاليـة فى بيت لحم هى بقاياها أعيد ترميمها.
مهما كان الحالة فمن المؤكد ان مريم ولدت مسيّا إسرائيل في مكان لا يليق بملك وكما قال القديس يوحنا بولس الثاني:” ان مريم اختبرت ميلاد طفلها في ظروف شديدة الفقر ولم تستطع ان تعطي ابن الله حتى كأي أم تقدم لإبنها المولود حديثا مكانا مريحا ولكن بدلا من ذلك كان عليها ان تلد في مغارة وتضع مولودها في مزود ومهد اعد على عجل متباين ومتعارض مع ابن الله المعظم”.
هذا بالإضافة الى انه على الرغم من انه يمكن لشخص ان يتوقع ان ميلاد ملك إسرائيل الذي انتظرته الأجيال طويلا والذي كان على الشعب ان يهتف بفرح لولادته سيتم ولكن فها هو المسيح المولود يهرب بطريقة خاصة من كل اليهود وكل اليهودية ليولد في مكان غير مألوف. لا يوجد أي قادة دينيين في الديانة اليهودية جاء ليرحب بمسيحهم المنتظر ولا كهنة ولا فريسيون ولا صدوقيون ولا كتبة ولا أي اثرياء او وجهاء او ذات مناصب او سلطة في اليهودية جاءوا للترحيب، فقط بعض الرعاة المجهولين من اسفل قاع المجتمع اليهودي جاءوا ليشهدوا قدوم
ربهم وملكهم.
كان لمريم الكثير الذي تفكر فيه ما بين السفر الي بيت لحم حيث كانت حبلى وان تضع مولودها وسط الحيوانات وتضعه في مزود، وفوق كل هذا ان يهرب ميلاد مسيّا إسرائيل من ملاحظة كل قادة إسرائيل، بالتأكيد ان تلك الطريقة لا يجب ان يعامل بها الملك!.
ان الأنجيل لم يعطينا الكثير عما يمكن ان يكون قد دار في داخل مريم اثناء تلك الأحداث المتواضعة، ولكنه كشف تفصيل واحد ان مريم في وجه الفقر والمهانة والرفض لإبنها لم تظهر أي شكوى او تذمرولم تقل بتاتا :” انتبهوا انا أم المسيّا فيا كل بيت لحم يجب ان تعاملوا عائلتي بأحسن من هذا”. ولكن بدلا من ذلك احتفظت مريم بكل تلك الضيقات الي داخل نفسها
وبصلوات دائمة احتفظت بكل تلك الأشياء متأملة فيهم في قلبها”وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ
هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا”(لوقا19:2).
ترى ما الذي يعنيه ذلك التعبير؟ فلقد تم وصف مريم انها تحفظ وتفكر “وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا” – في تلك الأحداث الغريبة المحيطة بميلاد ابنها- في قلبها. هذا التعبير تحفظ كل تلك الأشياء متأملة فيهم في قلبها يشير الى اكثر من تذكر شيئ او إعادة تذكره. “تتأمل symballein يمكن ان ترجمتها حرفيا “يلقي جنبا الى جنب”، وهي
تشابه شخص يتأمل مقارنا أفكارا بأفكار ومن ثم يجمع أفكاره معا في صلب الموضوع ككل.
في العهد القديم فعل الكلمة اليوناني تعني يحفظ synterein وتصف شخص يعكس تأمله في
معنى الأحدات وخاصة في الرؤى السماوية. عندما قال يوسف لأبوه واخوته عن أحلامه الغريبة عن الشمس والقمر وال 11 نجم يسجدون امامه فذُكر ان اباه يعقوب “وَأَمَّا أَبُوهُ فَحَفِظَ الأَمْرَ” (تكوين9:37-11). وبنفس المعنى عندما فسّر دانيال النبي للملك نبوخذنصر حلمه “احتفظ” الملك تفسير داميال في قلبه، ودانيال نفسه حصل على رؤية في الليل و”احتفظ” بمعنى تلك الرؤية التي كشفت له في حلم ” وَحَفِظْتُ الأَمْرَ فِي قَلْبِي “(دانيال28:7)، وفي كل تلك الحالات فالتعبير الذي يصف شخص ما يريد ان يفسر المعنى للرؤية او الحِلم بطريقة صحيحة هو ان
يحفظه متفكرا فيه.
في حكمة التقليد للعهد القديم اخذ التعبير عمق اعمق بكثير فهو يصف شخص لا يبحث فقط
عن تفسير للرسالة بطريقة صحيحة ولكن أيضا ان يلاحظها وان يحياها ونحن نرى ذلك مثلا في مزمور 11:119″خَبَأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ. لاحظ هنا كيف ان صاحب المزامير يبحث ليس فقط في تأمل فكري شامل لكلمة الله ولكن فهم في قلبه يجعله يحيا طبقا للشريعة، وكذلك مثل ما جاء في سفر الأمثال: 1:3 فالأب يقول لأبنه:” يَا ابْنِي، لاَ تَنْسَ شَرِيعَتِي، بَلْ لِيَحْفَظْ قَلْبُكَ وَصَايَايَ. مرة أخرى التشديد هنا على ان الإبن لا يشمل وصايا ابيه ولكن يفهمها حتى يمكنه ان يحيا حسب نصائح والده الحكيمة. في كتاب يشوع ابن سيراخ يعطى نفس النقطة مع الاهتمام بامثال ونبؤات الله التي أعطاها الله من فوق:” فَإِنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ حِكْمَةِ جَمِيعِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيَتَفَرَّغُ لِلنُّبُوءَاتِ. يَحْفَظُ أَحَادِيثَ الرِّجَالِ الْمَشْهُورِينَ، وَيَدْخُلُ فِي أَفَانِينَ الأَمْثَالِ. يَبْحَثُ عَنْ خَفَايَا الأَقْوَالِ السَّائِرَةِ، وَيَتَبَحَّرُ فِي أَلْغَازِ الأَحَاجِيِّ. (سيراخ 1:39-3).
لهذا، فإن بيان لوقا في نهاية قصة الميلاد من ان مريم “”فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا” يصفها كإمرأة تبحث لأن تفهم المعنى العميق لكل الأحداث المحيطة بميلاد إبنها.
ان مريم تريد ان تفهم ما الذي يحاول الله ان يكشف من خلال تلك المتاعب والضيقات، فهى ليس عندها الإجابات لكل ما يحدث؟، فلماذا يولد ابنها تحت ظروف مضغوطة من إحصاء روماني؟ ولماذا لم توجد حتى غرفة له في الخان عندما جاءت ساعته ليولد؟ ولماذا يدخل هذا العالم بمثل هذا التواضع والفقر؟ تبحث مريم لتفهم خطة الله لكي يمكنها ان تحيا طبقا لما يريده
الله وما الذي يحاول ان يعلمها إياها من خلال تلك الضيقات.
ان انجيل لوقا في الحقيقة يستعمل كلمتان هما مفتاح لتسحيل الإرتباط ما بين ميلاد المسيح
في بيت لحم وموته على الجلجثة وكيف ان الظروف لواحدة هي ظل لظروف للأخرى. يسوع عند ميلاده “قَمَّطَتْهُ” في ملابس ممزقة “وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ”(لوقا7:2)، وعند موته أنزلوا
جسده من على الصليب ولفّوه بلفائف من الكتان “وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْر”(لوقا53:23).
واظهر لوقا كيف ان المسيح رُفض مع مريم أمه منذ البداية عندما ذكر “إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ”(لوقا7:2)، فكلمة “لهما” يمكن ان تفهم وتعود الى يوسف ومريم وعدم وجود موضع لهما لتلد الطفل ولكن كل التركيز كان على مريم والطفل يسوع :” فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ”(لوقا7:2). وهنا بذكر احد المفسرين ان مريم هي موضوع تلك الآيات والطفل هو المستقبِل لكل الأفعال في تلك الآية، فمريم هي التي ولدت ابنها البِكر ومريم هي التي قمطته ولفته ومريم هي التي وضعته في مزود. هنا ثلاث أفعال نشطة تصف تلك الحوادث وكل منها مريم هي الموضوع والطفل هو الهدف وأيضا هنا مريم تعمل منفردة على الرغم من وجود يوسف والذي لم يظهر في تلك الحوادث.
لذلك عندما يقول لوقا في نهاية تلك الآية “لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ” فهذا يرجع خاصة لمريم والطفل. اذا ما كانت هذه هي الحالة فربما لوقا على الفور يظهر كيف ان مريم في الميلاد تشارك معاناة ابنها – موضوع يصبح واضح مع كلمات سمعان الشيخ عند تقدمة الطفل في الهيكل عن سيف يجوز في نفسها “يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ(لوقا35:7). وهذا ما فسّره البابا يوحنا بولس الثاني:” لم يكن لهم موضع في المنزل (لوقا7:2)، فهذه المقولة تذكرنا بما جاء في انجيل يوحنا إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ”(يوحنا11:1) والمتوقع كما ان هناك العديد من مواقف الرفض ليسوع طوال حياته الأرضية. ان لفظ “لهما” يربط الإبن مع الأم معا في ذلك الرفض ويظهر كيف ان مريم اشتركت مع ابنها في المعاناة والألم.
فورا عقب مهمتها في الولادة والأمومة حصلت مريم على بعض مذاق الرفض والمعاناة التي
ستقابل ابنها فرسالة الميلاد هي ظل لرسالة الصليب وهذه الرسالة هي التي ظلت مريم تحفظها
متفكرة بها في قلبها طوال حياتها وحياة ابنها.
انه أيضا يستحق ان نلاحظ رد فعل مريم بالمقارنة بهؤلاء الناس الذين سمعوا تقرير الرعاة عن
رؤيا الملائكة، فلقد تعجبوا ولكنهم لم يأخذوا الوقت ليتأملوا في أهمية ما قد حدث. ان انجيل لوقا وضح الفرق ما بين رد فعلهم واستجابة مريم:” وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ
الرُّعَاةِ. وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا”(لوقا18:2-19).
مريم عكست ما يحدث بداخلها متأملة فيما معنى الحدث في حياتها لكي تكشف مالذي يعلمه إياها الرب فهي “كَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا”. هذا التعبير استخدم في الكتاب المقدس كما قلنا ليصف شخص قد استقبل رؤيا فوق فهمه وينتظر الله لكي يريه معنى ذلك في وقت مناسب. يمكن ان يكون هناك لغز عن رؤيا ظاهرة وواضحة ولكن هو او هي لا يستطيع فهمها بدقة وفي مثل ذلك الوضع يمكن للشخص ببساطة ان يستعجب ثم يمضي في طريقه مثل “ وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ”(لوقا18:2)، او يمكنه ان يضعها ككنز في قلبه.اللغز يمكن ان يؤخذ الي أعماق الإنسان ويحفظ ويتأمل فيه في قلبه، فالإنسان المؤمن ببساطة ينتظر وقت الله وخطته ليكشف له تمام ومعنى ذلك اللغز او الرؤية او الحلم. هذه هي الحالة عند مريم فبصبر تنتظر اكثر لتتفهم وتعي الأحداث التي تمر في حياتها، ولكن ليس عليها ان تنتظر طويلا فبعد أربعون يوما من ميلاد يسوع ستستقبل اعلان آخر مربك من سمعان الشيخ والذي سيلقي ضوء اكثر على معاناة ابنها والرفض الذي سيلقاه.
رعــاة بــيــت لــحــــم
جـاء فى انجيل القديس لوقا:” وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: َنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ.وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلًا مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ». وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ». فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا.ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ. (8:2-20) ذكراً لحادثة صاحبت ميلاد الرب يسوع عن رعاة ظهر لهم ملاك الرب وأعلن لهم بشرى ميلاد المخلص المسيح الرب، وأُعطيت لهم علامة عن طفلاً مضجعاً فى مزود، وصاحب هذا الإعلان العجيب ظهور جمهور من الجند السماوي يسبحون الله.. ومضى الرعاة الى بيت لحم قائلين “تعالوا نذهب لنرى هذا الحدث الذى أخبرنا به الرب”، ووجدوا العلامة-مريم ويوسف والطفل مضجعا فى المزود-“فلمّا رأوه أخبروا بما حدثهم الملاك عنه”، فكل من سمع “كان يتـعجب من كلامهم”، وبعدها “رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما رأوا كما أخبرهم الـملاك”.
والرعـــــاة هـم جماعة من اليهود كانوا على مقربة من بيت لحم، ظهر لهم ملاك، فخافوا خوفاً شديداً , وأعلن لهم البشرى وأعطاهم العلامـة. علامة للإيمان كما هى عادة الله مع بني إسرائيل لأنه يعرف قساوة قلوبهم, فتشاوروا وذهبوا مسرعين ووجدوا العلامة فآمنوا.. وأخبروا بما سمعوا.وعادوا يـمّجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوا ورأوا.
ختان وتسمية الطفل يسوع
طبقا للتقليد اليهودي يتم ختان الطفل بعد ثمانية ايام من ولادته ويتم تسميته وكما جاء في
انجيل القديس لوقا:” وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ الْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ.“(لوقا21:2). في العهد القديم كان الختان فريضة كعلامة عهد ما بين الله والانسان كما جاء في ايام ابراهيم:” هذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ: يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ، فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. اِبْنَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فِي أَجْيَالِكُمْ: وَلِيدُ الْبَيْتِ، وَالْمُبْتَاعُ بِفِضَّةٍ مِنْ كُلِّ ابْنِ غَرِيبٍ لَيْسَ مِنْ نَسْلِكَ. يُخْتَنُ خِتَانًا وَلِيدُ بَيْتِكَ وَالْمُبْتَاعُ بِفِضَّتِكَ، فَيَكُونُ عَهْدِي فِي لَحْمِكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا. وَأَمَّا الذَّكَرُ الأَغْلَفُ الَّذِي لاَ يُخْتَنُ فِي لَحْمِ غُرْلَتِهِ فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا. إِنَّهُ قَدْ نَكَثَ عَهْدِي”(تكوين10:17-14).هذا الحق كان مهما جدا حتى ولو اليوم الثامن قد وقع يوم السبت والذي هو مخصص للرب. وهذا الحق كان ليس مخصوص اجراؤه بواسطة الكهنة لكن يمكن ان يقوم به اي شخص ولكن كان الشرط الوحيد هو وجود 10 اشخاص ليكونوا شهودا بأن هذا الطفل هو من أبناء ابراهيم ويكون مصحوبا بتلاوة صلاة معينة. عملية الختان هذه من المحتمل انها قد تمت في منزل في بيت لحم حيث أمكن ليوسف مريم ن يجدا مكانا وليس في مغارة، فانه لا يمكن تصور ان مريم والتى بعد ولادتها للطفل تعتبر طبقا للشريعة غير طاهرة لمدة 40 يوما كانت تقضيها في مغارة.
إذ تنازل المسيح بتجسده، اتضع أيضًا في خضوعه للناموس رغم عدم حاجته له، كما جاء:” وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ.” (غلاطية4:4-5)، ولكنه أتم كل بر عنا، فاختتن في اليوم الثامن كما أوصى الله إبراهيم كعلامة له ولكل نسله في أجسادهم، تعلن تبعيتهم لله وتميزهم عن غير المؤمنين. وقد جرى العرف اليهودي على تسمية الطفل في هذا اليوم، فسُمِىَ
يسوع أي مخلص، كما أعلن الملاك جبرائيل في بشراه للعذراء مريم.
أسم يسوع
الصيغة العربية للاسم العبري “يشوع” ومعنى الاسم “يهوه مخلص”. واسم يسوع أو يشوع هو
اختصار لاسم يهوشع، ويهوشع يتكون من مقطعين “يهو” أى يهوه، “شع” أى يخلص، فاسم
يسوع أو يشوع أو يهوشع معناه “يهوه يخلص”،
وقد تسمى يسوع حسب قول الملاك ليوسف” فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُهم”(متى21:1)ومريم:” وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوع”(لوقا31:1). ويسوع هو اسمه الشخصي. أما المسيح فهو لقبه. وقد وردت عبارة “الرب يسوع المسيح” نحو 50 مرة في العهد الجديد. ويسوع المسيح أو المسيح يسوع, نحو مئة مرة. بينما وردت كلمة المسيح أيضًا بالمخل(لوقا11:2). ووردت لفظة يسوع وحدها على الأكثر في الأناجيل, ويسوع المسيح, والرب يسوع المسيح في سفر الأعمال والرسائل.
تقديم يسوع فى الهيكل
وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا
بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوسًا لِلرَّبِّ. وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ. وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ. فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ، أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ». وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ». وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلِبَاتٍ لَيْلًا وَنَهَارًا. فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا أَكْمَلُوا كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ الرَّبِّ، رَجَعُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمُ النَّاصِرَةِ. وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ (لوقا22:2-40).
طبقا لما جاء في انجيل القديس لوقا كان هناك حدث بعد 33 يوما من حدث ختان الطفل يسوع:” “وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوسًا لِلرَّبِّ. وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ.”(لوقا22:2-24). هناك احتفالان تم في نفس الوقت أكثر من احتفال الختان: تطهير الأم بعد ولادتها وتقديم الطفل في الهيكل وكلتا الشعائر جاءت طبقا لأوامر الله في العهد القديم اولهما جاء في سفر اللاويين:” وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: «كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلًا: إِذَا حَبِلَتِ امْرَأَةٌ وَوَلَدَتْ ذَكَرًا، تَكُونُ نَجِسَةً سَبْعَةَ أَيَّامٍ. كَمَا فِي أَيَّامِ طَمْثِ عِلَّتِهَا تَكُونُ نَجِسَةً.وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ. ثُمَّ تُقِيمُ ثَلاَثَةً وَثَلاَثِينَ يَوْمًا فِي دَمِ تَطْهِيرِهَا. كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّسٍ لاَ تَمَسَّ، وَإِلَى الْمَقْدِسِ لاَ تَجِئْ حَتَّى تَكْمُلَ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا. وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، تَكُونُ نَجِسَةً أُسْبُوعَيْنِ كَمَا فِي طَمْثِهَا. ثُمَّ تُقِيمُ سِتَّةً وَسِتِّينَ يَوْمًا فِي دَمِ تَطْهِيرِهَا. وَمَتَى كَمُلَتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا لأَجْلِ ابْنٍ أَوِ ابْنَةٍ، تَأْتِي بِخَرُوفٍ حَوْلِيٍّ مُحْرَقَةً، وَفَرْخِ حَمَامَةٍ أَوْ يَمَامَةٍ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، إِلَى الْكَاهِنِ، فَيُقَدِّمُهُمَا أَمَامَ الرَّبِّ وَيُكَفِّرُ عَنْهَا، فَتَطْهُرُ مِنْ يَنْبُوعِ دَمِهَا. هذِهِ شَرِيعَةُ الَّتِي تَلِدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهَا كِفَايَةً لِشَاةٍ تَأْخُذُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، الْوَاحِدَ مُحْرَقَةً، وَالآخَرَ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، فَيُكَفِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ فَتَطْهُرُ»“(لاويين1:12-8). اما الوصية الثانية فجاءت في سفر الخروج:” وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: «قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ، كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْبَهَائِمِ. إِنَّهُ لِي».“(خروج1:13-2). ان تقديم الطفل لم يكن ضروري ان بؤخذ الطفل للهيكل في أورشليم ولكن فقط دفع المبلغ المطلوب للكاهن حسب الشريعة. الكثير من الأمهات كن يفضلن تكريس ابناؤهم في هيكل أورشليم، وهذا ما قامت به مريم مع يوسف وطفلها وذهبوا الى أورشليم.
ذهبت مريم الي هيكل أورشليم حيث المكان المقدس الذي يقدم فيه اليهود ذبائحهم وتقدماتهم الي الله. في الهيكل يوجد اربع ساحات واحدة للكهنة والتى هي الأقرب للمذبح، ثم هناك ساحة للرجال اليهود، ثم ساحة للنساء واخيرا ساحة للوثنيين، وكل ساحة مخصصة بكل دقة لمجموعة منهم وممنوع ان يتخطى حدودها اي احد والا تعرض للموت او الطرد من المجمع. هكذا دخلت مريم وطفلها لساحة النساء حتى تتم شريعة التطهير ثم تذهب بعدها لنقديم الطفل.
من المؤكد انها كانت لا تعرف انه اثناء تواجدها في زيارتها للهيكل انها ستسمع نبؤة عن مشاركتها في ذبيحة لا يُقدر مقدارهافهي ستدعى لتساهم في اعظم ذبيحة يمكن لأم ان تختبرها الا وهي أن تقدم ابنها.
وصلت مريم الي الهيكل وفي ذهنها ذبيحة قليلة الثمن بقليل من المال وفرخي حمام، فالشريعة اليهودية تتطلب ان مريم عليها ان تقدم ابنها البِكر الي الله في الهيكل وتقدم 5 شاقل تعزيزا للكهنة وأيضا قد أتت لتقدم ذبيحة عن نفسها فكإمرأة قد ولدت طفلا تعتبر غير طاهرة نسبيا لمدة 40 يوما. عندما اتى الوقت لتطهيرها بإكتمال ال 40 يوما تتطلب الشريعة ان تقدم حمل وفرخي جمام للكهنة في الهيكل. اذا لم تستطع المرأة ان تتحمل ثمن الحمل يمكنها بدلا من ذلك ان تفدم زوجي حمام او يمام. والحقيقة ان مريم قدمت زوجي حمام (لوقا24:2) يشير انها ضمن الفقراء وانها لا تستطيع ان تقدم حملا. خمسة شاقل وفرخي حمام هم التقدمات التي قدمتهما فقط مريم عندما ذهبت للهيكل في ذلك اليوم. الشريعتان قد تمتا مع العلم انه كان يمكن لمريم ويوسف ان يفعلا ذلك في بيت لحم بدفع ال 5 شاقل للكهنة في اورشليم عن طريق الوسطاء. احد علماء الكتاب المقدس اشار ان الشريعة كانت تلزم ان الابن البكر ان يصبح، كاهنا ولكن غيّر الله هذا الأمر بتخصيص سبط لاوي للكهنوت ولهذا فالأبناء البكر من اسباط اسرائيل الاخرى يتم خلاصهم من هذا الالتزام بدفع تعويض ما. بالنسبة ليسوع فهو معفي من ذلك الالتزام لأن مريم أمه لها اقرباء من سبط لاوي للكهنوت حيث يمكن ان يعتبر ابنها لاويا. لكن يوسف ومريم أراد ان يكرسا ابنهما يسوع للرب لذا فلقد قدماه للرب.
ولكن ظهر رجل اسمه سمعان واعلن لمريم الرحلة الصعبة التي تنتظر طفلها وتنتظرها هي أيضا. يقف سمعان كمثال ليهودي “ وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ” (لوقا25:2).
في هذه الحادثة يظهر الروح القدس في ثلاث مناسبات، فيعطي سمعان القوة لكي يتعرف على مريم ويسوع ضمن العديد من الأمهات مع اطفالهن في الهيكل وايضا ان يتعرف على المسيّا في الطفل والذي ينتظره اليهود منذ سنوات وايضا الروح القدس كان عليه لذا فهو تنبأ واكثر من هذا لقد أعطي رسالة غير اعتيادية من الله. الروح القدس كشف لسمعان انه لن يرى الموت قبل ان يرى مسيح الرب. لذلك كانت كل حياته مرتبطة بالتوقع العظيم في انه في احد الأيام
سيتقابل مع مخلص إسرائيل الملك الموعود به.
قصة سمعان الشيخ كما وردت في التقليد الكنسي تتلخص في أنه كان أحد الـ72 شيخًا من اليهود الذين طلب منهم بطلميوس ترجمة التوراة إلى اليونانية والتي سميت بالترجمة السبعينية. وقيل أن سمعان هذا كان هو المكلف بترجمة سفر إشعياء وأنه في أثناء الترجمة أراد أن يستعيض عن كلمة “عذراء” في نبوة إشعياء “ها العذراء تحبل وتلد ابنًا.. ” بكلمة فتاة إذ تشكك في الأمر. فظهر له ملاك الرب وأكد أنه لن يموت حتى يرى مولود العذراء هذا. وبالفعل إذ أوحى له الروح القدس حمل الطفل يسوع على يديه وانفتح لسانه بالتسبيح مشتهيًا أن ينطلق من
هذا العالم بعد أن عاين بالروح خلاص جميع الشعوب والأمم.
والآن نتخيل المنظر من وجهة نظر مريم ففور وصولها مع يوسف الي هيكل أورشليم اقترب منهما شخص غريب وفجأة أخذ الطفل على يديه وثم رفع المسيح الطفل الى الهواء وابتدأ سمعان يبارك الله قائلا:” «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ.نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ» (لوقا29:2-32).
لكم هي لحظة تدعو للإندهاش وخاصة بالنسبة لمريم، فهي ليس لديها أي فكرة من يكون هذا الرجل ولماذا يبحث عن طفلها ولماذا فعل هذا او قال هذا؟. ولكن بينما سمعان يحمل الطفل ابتدأ يتكلم ويصف عظمة المستقبل لهذا الطفل بكلمات والتي تبدو مشجعة لمريم وتكمل الصورة لها عن مهمة ابنها الملوكية. لقد وصف سمعان الطفل “كخلاص الله” وكـ” نور اعلان للأمم”-صور تذكر بنبؤات من كتاب اشعيا النبي. فأشعيا النبي تنبأ “ قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ، فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلاَصَ إِلهِنَا”(اشعيا10:52) و” فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا، لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ»(اشعيا5:40). لقد أعلن سمعان ان قد رأي اطفل المسيح والذي تنبأ اشعيا ان الخلاص الذي سيجلبه وأيضا تنبأ اشعيا عن كيف ان الله سيرسل صورة المخلص كخادم للرب و” هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ.لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ.قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ»(اشعيا 1:42-5)، وايضا “َنُورًا لِلأُمَمِ”(اشعيا6:42) و ” فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ»(اشعيا6:49). لذلك كانت كلمات سمعان إعلان ان الطفل الذي يحمله على يديه هو ذلك الذي سينفذ مهمة الله للأمم فهو سيكون “ نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ” والذي سيحقق ويتمم نبؤات اشعيا النبي.
كل هذا ترك مريم في حالة تفكير وتعجب فالقديس لوقا يقول لنا ان مريم ويوسف “ وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ”(لوقا33:2). ان النبؤة الثانية لسمعان ستعطي مريم سببا لأن تتوقف أنفاسها فلقد افرد لمريم ووجه لها بكلمات قوية عن مستقبل الطفل والمعاناة التي سيقابلها:” «هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ»(لوقا34:2-35).
لقد وصف البابا يوحنا بولس الثاني نبؤة سمعان “كبشارة ثانية لمريم”، ففي الناصرة وفي البشارة
الأولى علمت مريم انها ستصبح اما لمسيّا إسرائيل والآن من خلال كلمات سمعان في الهيكل – في هذه البشارة الثانية- انها حصلت على صورة أوضح عن ما الذي وافقت عليه منذ 9 اشهر واربعون يوما سابقة. فهذه الكلمات تقول لها الوضع التاريخي الفعلي والذي فيه الإبن سيكمّل مهمته والتي يمكن ان تسمى بمهمة عدم القبول والحزن. وهذا الإعلان أيضا يكشف لها انها سوف تحيا في طاعة الإيمان في المعاناة بجانب معاناة المخلّص وان أمومتها ستكون عجيبة ومحزنة.
ان رسالة سمعان الي مريم تحتوي على اربع مقولات عن ما ستقابله هي وابنها من معاناة. أولا قال سمعان ان الطفل مصيره لأجل ” قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ”(لوقا34:2) وهذه الكلمات تشير اليالصعوبات التي تحيط بمستقبل ارسالية يسوع وهي صدى لموضوع نشيد مريم الذي قالته في منزل اليصابات وزكريا فهي أعلنت ان “ الْمُسْتَكْبِرِينَ سيتشتتون بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ والأَعِزَّاءَ سينزلون َعنِ الْكَرَاسِيِّ، والْمُتَّضِعِينَ سيرفعون والْجِيَاعَ سيشبعون خَيْرَاتٍ والأَغْنِيَاءَ سينصرفون فَارِغِينَ (لوقا51:1-53). نبؤة سمعان التقطت هذا الموضوع وافترضت استجابة مختلفة لإعلان ملكوت المسيح، فالمرضى والفقراء والمهمشين والخارجين عن العهد
سيظهرون مرحبا بهم في ملكوت المسيح بينما كثيرا من القادة الدينيين والساسة في أيام يسوع
سيعارضونه ويرفضونه لأنهم يرفضون ملكوت الله الذي يقدمه لهم.
ثانيا قال سمعان ان يسوع سيكون “علامة ستقاوم”، هذه اللغة لا تقترح ان هناك شخص ما
سينتقد او يُسخر منه فالكلمة اليونانية antilego تعني دائما حسب ما يستخدمها لوقا في سياق الجملة مقاومة اليهود للمسيح:” وَحَضَرَ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ، الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ الْقِيَامَةِ، وَسَأَلُوهُ(لوقا27:20) و”لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَمًا وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا”(لوقا15:21)وأيضا لتلاميذه “وَلكِنْ إِذْ نَظَرُوا الإِنْسَانَ الَّذِي شُفِيَ وَاقِفًا مَعَهُمَا، لَمْ
يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ يُنَاقِضُونَ بِهِ”(اعمال14:4) واعمال 45:13 واعمال 22:28).
عندما نقرأ محتوى انجيل لوقا بصورة أوسع وسفر أعمال الرسل فكلمات سمعان الشيخ هي ظل للمقاومة العدوانية التي سيواجهها يسوع وأتباعه.
ولكن الصورة الأكثر تأثير عن المعاناة المستقبلية للمسيح هي ذلك “السيف”، فالطريقة التي
استخدمها سمعان وتلك الصورة تقول لمريم شيئان: أولهما انها ستتحقق ان السيف سيخترق ابنها يسوع. في العهد القديم يمكن للسيف ان يكون رمز لحرب واراقة دماء وموت:” وَبِسَيْفِكَ تَعِيشُ”(تكوين40:27) و”وَتَطْرُدُونَ أَعْدَاءَكُمْ فَيَسْقُطُونَ أَمَامَكُمْ بِالسَّيْفِ”(لاويين6:26) و(تثنية25:32) و (يشوع13:5) و “وَإِنْ أَبَيْتُمْ وَتَمَرَّدْتُمْ تُؤْكَلُونَ بِالسَّيْفِ». لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ”(اشعيا20:1). ان صورة سمعان عن سيف يخترق يسوع هو مجازي وحرفي حيث انه يشير الى كلا من المقاومات العنيفة لرسالة المسيح ورفضه وكذلك موته المرعب الذي سيعانيه على الصليب بعد ان احد الجنود الرومان سيغرس جنبه برمح “لكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ”(يوحنا34:19).
ثانيا مريم هي الأخرى تحصل على رسالة ان تلك المقاومة العنيفة للمسيح ستؤثر عليها:” وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ»(لوقا35:2). ان الكلمة اليونانية التي استخدمها لوقا عن السيف ” rhomphaia” هي سيف حاد، ان السيف المذكور هنا هو ليس مطواة او خنجر صغير، بل الكلمة تشير الي سيف كبير جدا واسع وذو حدين. الصورة لمثل ذلك السلاح الذي سيخترق نفس مريم صوريا يبين شدة المعاناة النفسية التي ستواجهها
كنتيجة لرفض الشعب لإبنها ولرسالته. ان لوقا يربط مريم بالمعاناة التي سيعانيه ابنها والتي
هي مذكورة بوضوح اذا اعتبرنا ما جاء في مزمور 22 والذي كان يقع في خلفية فكر كلا من
كلمات سمعان لمريم وسرد الأحداث عن آلام المسيح كما جاء في انجيل لوقا.
ان مزمور 22 يصور الأتهام لرجل بار يعاني بشدة على ايدي اعداؤه فهو يصف بطرق تلقي بظلها على تعذيب المسيح يوم الجمعة العظيمة: “وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ!». وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاُ، قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ!». وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ». وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلًا: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!»(لوقا35:23-39). ايدي وقدم الرجل قد سمروا “ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ”(مزمور16:22) وثيابه قد قسّمت “يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ”(مزمور18:22) وأعداؤه يعايرونه ويقترعون على ثيابه (مزمور 7:22 و18). كل هذا حدث أيضا للرجل البار يسوع والذي قد أتهم بلا عدل وأدين واُسلم للموت بيد اعداؤه
وسمّروا يديه ورجليه على الصليب وعلى لباسه اقترعوا.
ويبدو أيضا مزمور 22 خلفية لكلمات سمعان الشيخ لمريم فالمرّنم يقول:” أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي”(مزمور20:22) وسمعان قال لمريم في لوقا 35:2 ” وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ”. هذا الربط واضح خاصة عندما نقارن كلمات سمعان في لوقا مع ما جاء في ذلك المزمور في الترجمة المسماة السبعينية Septuagint وهي اقدم ترجمة لكتابات العهد القديم الي اللغة اليونانية. كلا النصين استخدما نفس كلمتان – rhomphatia (سيف كبير) و psyche (نفس)- وكلاهما يتضمن مقاومة عنيفة. بهذا قد ربط لوقا مريم مع رفض الشعب ليسوع وآلامه.
تأمل آخر في هذا الصدد فسمعان تكلم عن “نفس مريم pyche والتي تعني النفس كما جاءت في الكتاب المقدس على أساس حيوي وهام في الجنس البشري ومصدر لضمير الإنسان وحريته. لقد قال لها ان هناك شيئ مدمر سيحدث لها هناك في قلبها وان سيف سيخترق نفسها. ان شيئ مدهش ان مريم هي الشخص الوحيد في انجيل لوقا الذي ذكر فيه نفسها وليس مرة واحدة بل مرتان، ففي اول مرة ذكر نفس مريم في أنشودة التعظيم عندما قالت مريم:” «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ”(لوقا46:1)، والمرة الثانية في حدث تقدمة الطفل في الهيكل عندما قال سمعان الشيخ لمريم:” وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ»(لوقا35:2).إذا ما نظر شخص ما لهاتين المرجعان معا لنفس مريم فربما التأمل الروحي التالي يمكن قوله: ان نفس مريم تعظم الله اكثر بمشاركتها في سيف آلام المسيح. في أنشودة التعظيم تعلمنا ان نفس مريم تعظم وتجعل الرب عظيما وفي حدث التقدمة في الهيكل نتعلم اكثر كيف ان نفسها تعظم الرب وكيف ان نفسها تعطي الله تسبيحا أكثر عندما تقدم حبها المضحي لإبنها او بمعنى آخر عندما نفسها تخترق بالسيف.
عيد تقديـم الطفل يسوع فـى الهيكل (يوم 2 فبراير). بعد أربعين يومـا من عيد ميلاد السيد المسيح(25 ديسمبر) يُحتفل بعيد تقديم الطفل يسوع للرب فى الهيكل ومقابلته لسمعان الشيخ (لوقا22:2-34)، وفيه أيضا يُذكر تطهير مريم حسب الناموس الـموسوي. وهو عيد يتم فيه تذكار مريم مع إبنهـا وكيف أنهـا قامت بتميم الوصايا والشرائع الإلهيـة بتقوى وإيـمان، وأيضاً إحتفال بسر رسالة الـمخلص. ولقد بدأ بالإحتفال بهذا العيد رسميا فى الكنيسة منذ عام 542 بعد الـميلاد فى مدينة القسطنطينية، ثم فى رومـا فى أوائل القرن السابع الميلادى. فـى هذا اليوم وضعت الكنيسة قراءاتها لتشمل نبؤة ملاخى النبي القائلة:”هآنذا مُرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامى وللوقت يأتى الى هيكله السيد الذى تلتمسونه وملاك العهد الذى ترتضون به. هـا إنـه آت قال رب الجنود..”(ملاخى1:3-4)، ونص من رسالة القديس بولس للعبرانيين عن الخلاص الذى تم بالـمسيح (عبرانيين 14:2-18)، ونص تقدمة الطفل يسوع فى الهيكل كما جاء فى انجيل لوقا (لوقا22:2-40) والذى يحتوى على الصعود الى الهيكل وتطهير الأم وتقدمة الطفل وذبيحة الفقراء ومقابلة سمعان الشيخ وحنـة النبيـّة.
زيارة المجوس
جـاء فى إنجيل متى ذكراً لحادثة زيارة مـجوس من المشرق الى أرض اليهودية:” وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ».َلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ: «أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ».حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ.ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ: «اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا.وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ.“(متى1:2-12).
جاءوا من المشرق باحثين عن” المولود ملك اليهود” لأنهم رأوا علامة..”نجمـه فى المشرق”، فجاءوا “للسجود له” وإضطربت أورشليم وملكها هيرودس من تلك الزيارة..وإستمع المجوس لتلك النبؤة عن مكان ميلاد المدبر الذي يرعى شعب إسرائيل وعن مكانة بيت لحم و أيضا أصغوا الى رغبة هيرودس الخبيثة من ان يذهب هو ايضا للسجود..وغـادروا أورشليم وأرشدهم النجم الذى ظهر لهم فى الشرق الى مكان الصبي..”ورأوا الصبي مع مريم امه فخـروا وسجدوا لـه ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولبانا ومراً”.وإنصرفوا فى طريق اخرى الى كورتهم بعد ان أُوحي اليهم فى حلم ان لا يرجعوا الى هيرودس. المجــوس….من هم؟ ولأي غرض جاءوا؟ وما هى حقيقة النجم الذى ظهر؟ ولماذا ظهر لهم دون غيرهم؟ وما هذا النجم الذى يظهر ويتحرك
ويختفى ثم يعاود الظهور؟..
المجوس تضاربت الأقوال عنهم فمن قائل إنهم حكماء من أهل العلم المشتغلين بأمور الفلك
وكانوا فيما يقال ملوكــاً وأسماؤهم غضبار وبلطاشصر وملكيور وهناك من يقول ان عددهم لم يكن معروفا، والبعض يقول انهم من بلاد العرب والبعض يقول انهم كانوا من دولة الفرس وكانوا ينتظرون مخلصا فى معتقداتهم مولود من بتول وكانوا ينتظرونه كل الف سنة، وهؤلاء كانوا من رتبة الكهنة وهم ليسوا ملوكا بل هم طبقة ما بين الملوك والشعب، برعوا فى علم الفلك والنجوم وكان كل همهم رصد النجوم وظهر لهم نجم غريب لم يشاهدوه من قبل فرجعوا لكتبهم وعرفوا بالنبؤة فتبعوا هذا النجم بكل شغف ليعرفوا هذا المولود المخلص. ففوجئوا بانه يتحرك ويسير بخلاف عادة النجوم فى حركتها العادية وسار هذا النجم حتى بلاد فلسطين ثم اختفى.
طبقا للعلماء المعاصرون فان ظاهرة ذلك النجم الذي ظهر للمجوس هو من المحتمل ان يكون هو اتصال لكوكب المشترى وكوكب زحل في مسار برج الحوت والذي فيه رأوا تلك الكواكب السمائية الكبيرة في مجموعتنا الشمسية معا والذي اعطى انطباعا انهم نجم كبير. هذا الاقتران ما بين كوكبي المشترى وزحل في برج الحوت نادرا ما يلاحظ وهو يحدث مرة كل 794 عاما. في عام 7 ما قبل الميلاد (وهو العام الذي من المحتمل ولد فيه السيد المسيح) حدثت تلك الظاهرة ثلاث مرات في 29 مايو وأول أكتوبر و5 ديسمبر). ان ظهور تلك الظاهرة ثلاث مرات لم تحدث مرة أخرى، ولقد تم ذلك الاكتشاف بمعرفة عالم الفلك الشهير Johannas Kepler عام 1603. لذلك كان ذلك الظهور علامة عن ان هناك شيئا هاما وخطيرا سيحدث في العالم نهاية زمن وبداية عهد جديد وهذا ما دفع هؤلاء المجوس ان يذهبوا.
ظهر النجم للمجوس بعد مقابلتهم لهيرودس وارشدهم لبيت الطفل “ووقف حيث كان الصبي”..نجم غريب حقا. ان ظهور النجم للمجوس كان تأثيره عجيب عليهم فهم كانوا لن يصدقوا اى شيئ لكن نجم مثل هذا دفعهم للسفر والترحال الى اليهودية وإجتياز أخطار الطريق ثم اخطار مقابلة ملك اليهودية..”اين هو ملك اليهود لقد رأينا نجمه فى المشرق وأتينا لنسجد له”..جاء المجوس ليسجدوا بعدما رأوا العلامة..جاء المجوس لتعليم اليهود، فها هم اهل نينوى والمرأة السامرية والكنعانية وملكة التيمن صدقوا مارأوه وآمنوا، ولكن اليهود أهل النبؤات قست قلوبهم. نجم واحد ساروا ورائه..آمنوا وتجرأوا وتحدوا الملك..إنها شجاعة الإيمان. عجيب أمر هؤلاء المجوس.. انهم توقعوا ان يلقوا ملكاً من اجل هذا سألوا عليه فى بيت الملك، ولكنهم وجدوا طفلاً فى أقماط بدون حرس ولا جيوش..اي خير كانوا يترجونه وقد أبصروا أمامهم كوخا وأماً مسكينة..! ولكن الكتاب يقول عنهم “فخروا وسجدوا وقدموا له عطاياهم”.. “خروا” معناه إنسكاب القلب..”سجدوا” معناه إنسكاب الجسد..”قدموا” معناه إنسكاب النفس. لم يخافوا كما قلنا غضب او إضطهاد او تعذيب او هزء، ولم يكن عندهم وعد إلهي بالخلاص بل أقوال حكيمهم زرادشت ولكنهم بحثوا عنه وفتشوا. أن المجوس هم اول من آمن من الأمميين بالمسيح. إن هذا لا يعني مطلقا ان علم الفلك والسحر ورصد النجوم قد دفع هؤلاء المجوس لأن تؤمن، انهم كانوا حكماء وعرفوا بحكمتهم من هو المسيا الآتي لخلاص العالم أجمع. وعندما تقابلوا مع هيرودس، إضطرب هو وجميع من فى أورشليم. وأراد هيرودس ان يختبر صحة أقوال المجوس فطلب منهم الذهاب والتحقق وفى نفس الوقت أرسل جواسيسه وراءهم..فإن كان حقا هناك مولود سيصبح ملكا لليهودية بدلا منه ومن أولاده فليقتل. وبالفعل أصدر أوامره بقتل أطفال بيت لحم وكان هؤلاء الأطفال يتراوح أعمارهم ما دون العامين وبلغ عددهم بالألاف حسب أقوال بعض المفسرين هم أول شهداء المسيحية. ويقول هيرودس للمجوس “افحصوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه أخبروني لكي آتي انا أيضا وأسجد له”..ألم يقدر هذا الملك ان يذهب وحده لهذه البقعة ويسجد؟..عندما نسنع نحن عن آيات او ظهورات أو معجزات احيانا تنتابنا نفس أفكار هيرودس التدقيق..والشك. لماذا لانـقـل ليتمجد الرب دائما وابداً.
يذكر الكتاب المقدس ان المجوس “قدموا عطاياهم”..ذهباً ولباناً ومـراً.. إنها رموز للملك والكهنوت والألم..فكأنهم يعلنوا ان هذا المولود هو ملك الملوك والكاهن الأعظم وعن طريق الألم سيملك ويخدم. وطبقا للعلامة أوريجون في القرن الثالث الميلادي الذي حدد ان عدد هؤلاء المجوس كانوا ثلاثة لأنهم قدموا ثلاث هدايا وحتى القرن السادس الميلادي عندما تم تحديد اسماءهم.
ويذكر لنا الكتاب المقدس ايضا انهم بعد اللقاء بيسوع “إنصرفوا فى طريق أخرى الى كورتهم”، انه ليس هربا او تخوفا ولكنهم تغيـروا، جاءوا عن طريق وعادوا من طريق آخر، تغيرت حياتهم.
“إذ أوحي اليهم فى حلم”..حلم ورؤيا يعني انهم امتلئوا نعمة وتغيروا فمن قبل اللقاء كان نجم يتحرك فى السماء وبعد لقاء يسوع كلمتهم السماء فى حلم كما كلمت يعقوب ويوسف ودانيال.
هذه الحادثة تعطينا ايضا فكرة عن هيرودس الملك في سنواته الأخيرة فهو أصبح اكثر جنونا حتى انه قتل اكثر من 300 من قادة جيشه وفي نفس الوقت اصدر اوامر بقتل احد ابناؤه وايضا امر بحرق اثنان من الرابيين اي علماء الشريعة وهم احياء وبعدئذ امر بأن كل تلاميذهم واتباعهم ان يقتلوا.
هذا هو هيرودس الذى استقبل المجوس من المشرق وكما جاء في انجيل القديس متى سنجد على الرغم من حدة جنون هيرودس لكنه احتفظ بعض الشيئ بهدوءه الديبلوماسي وايقن ان هؤلاء المجوس يمكن ان يكونوا خير مرشد ليجدوا الصبي ويخبروه فطلب منهم ان يجدوه
ويخبروه.
لكن المجوس قرروا ان لا يعودوا الى هيرودس(متى 12:2). عندئذ تقدم هيرودس الى خطوته المعتادة “غَضِبَ جِدًّا. فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَب الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ.“(متى16:2).
في تلك المذبحة التى نفذها هيرودس لم تعد من افظع اعماله حتى ان المؤرخ اليهودي يوسيفوس اعتبر انه لا تستحق ان تذكر. علماء الكتاب المقدس قدروا ان 20 طفلا هم الذين يمكن ان ينطبق عليهم ما وصفه المجوس في تلك المنطقة ولكن من قتل كان اكثر من هذا. في سنوات هيرودس الأخيرة تجمع الى اكثر 7 جرائم قتل كان من الصعب ملاحظتها ولكن كانت مذبحة بيت لحم اكثرهم صدى:” حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ»“(متى17:2-18).
بعد رحيل زوار المشرق من بيت لحم والتى كانت لها تأثير لمريم ويوسف عظيم وقوي وتأكيد لمهمتهما وتقوية لإيمانهما.
الهروب الى مصر وحياة المنفى والغربة
بعد مغادرة المجوس تكلّم الـملاك مع يوسف فى حلم ليوجه له أمراً غريبـا أنـه الرحيـل والهروب إلى مصر قائلاً له:” وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ فَقَامَ وَأَخَذَ
الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلًا وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ.“(متى13:2-14).
وكان الرحيـل حسب أمـر الرب. لقد أمر الرب ابرام فى القديم أن يترك أهله وعشيرتـه، وها هو يطلب الآن من مريم ويوسف أن يتركا الأهل والعشيرة الى أرض غريبـة ووثنيـة. لابد من التضحيـة إذن ولا بد من حياة الكمال من فضيلة التجرد ولا بد من حمايـة الطفل. وسار يوسف ومريم الى الطريق الـمؤديـة الى مصر.
– انـه نفس الطريق القديـم الذى سار فيـه ابراهيم وسارة أيام الجوع
– انـه نفس الطريق القديـم الذى سار فيه يوسف إبن يعقوب وهو مُباع وهارب من إخوتـه.
- انـه نفس الطريق القديـم الذى سار فيه إخوة يوسف ثلاث مرّات ومعهم بنيامين ويعقوب.
– انـه نفس الطريق الذى سار فيـه موسى كليـم اللـه.
وتفاصيل رحلة العائلة المقدسة الى مصر قد ذكرها البابا ثيوفيليس الثالث والعشرون من بطاركة الكرسي الإسكندري (376-403م) بعد ان ظهرت له العذراء فى رؤيا. ولقد إستمرت الرحلة حوالـي 40 يومـا حتى وصلوا الى الـمطريـة قرب القاهرة حاليـا ومن هناك الى بابليون ناحية مصر القديمة (كنيسة أبى سِرجة)، ثم الى منطقة المعادي (كنيسة المعادي) ثم الى قريـة البهنسة فى بنى مزار ثم عبرت الشاطئ الى جبل الطير بسمالوط ثم الى الأشمونين قرب ملوي ثم الى بلدة قسقام (الدير الـمحرّق) ومكثوا فى هذه الـمنطقة حوالـى 6 أشهر. بعد ذلك وجه الملاك أمراً ليوسف بالعودة قال له:”قم وخذ الصبي وأمـه وإذهب إلى أرض إسرائيل لأنـه مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي فقام وأخذ الصبي وأمـه وجاء الى أرض إسرائيل”(متى20:2-21).
– نجد فى حديث الـملاك ليوسف انه قد تغيرت كلماته بعد ولادة العذراء للسيد الـمسيح عما كان
قبلها. قبل أن تلد العذراء الـمسيح كان يـمكن للملاك أن يدعوها إمرأة يوسف حيث لم تكن مريم لهـا ولد، أما بعد أن ولدت الـمسيح لم يقل له قم خذ إمرأتك والصبي أو قم خذ الصبي وإمرأتك إنـما قال له “قم خذ الصبي وامه”(لوقا13:2) وهنا أصبحت العذراء منـتسبة للسيد الـمسيح، إلاّ ان الكتاب الـمقدس دعاه ابن يوسف دون مريم(متى 16:19)، والجميع كانوا يقولون عنه:”اليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذى نحن عارفين بأبيه وأمـه”(يوحنا42:6).
– ان الله يكلمنا بطرق كثيرة، فقديما كلّمنا بالآباء والأنبياء”(عبرانيين1:1) ثم كلّمنا أخيـرا فى هذه
الأيام فى الإبن وكلمته موجودة بيننا. وهو أحيانا يكلمنا فى الرؤى والاحلام والإلهامات فهل ننصت الى الروح الساكن فينا ونصنع كما صنع يوسف كما أمره ملاك الرب؟
– كلام الله فى الأحلام هى موهبة تمنح لأصحاب القلوب التقية والنقية ولقد صدق يوسف قول ملاك الرب فى الحلم ولم يشك فيه.
– ان الـملاك لم يظهر للعذراء فى حلم وإنـما ظهر ليوسف وأبلغه بأوامر إلهية بالنسبة للصبي وأمه وهذا إبراز لقيمة يوسف ومكانته امام الله. ان دوره ليس دورا هامشياً أو ثانويـاً وإنـما شاءت إرادة الله ان يجعل يوسف خادما للتجسد الالهي وان يكون له دور إيجابي فعّال وإنـما تعامل
معه مباشرة وأمره بتنفيذ تدبيـره مشركاً إيـاه فى العمل والتنفيذ وكلها اوامر الهية.
– رحلة العائلة المقدسة تعطينا مثل الى حياتنا فى وادى المنفى هذا ويلزم ان يكون لنا الشوق الى وطننا السماوي، فوطننا هذا الأرضي لا نمتلك فيه شيئا “لاتكنزوا لكم كنوزاً على الأرض”، ووطننا هذا ملئ بالمتاعب والـمشقّات والآلام فيجب ان نعمل للوطن الآخر كما يثول القديس بطرس:”أنتم ضيوف غرباء فى هذا العالم”(1بطرس11:2).
– رحلة العائلة المقدسة تعطى لنا درسا كيف يمكن ان نحيا فى هذا العالم فيلزم ان يكون
رجاؤنا فى الرب فيسوع كان معهم طوال الرحلة “فنحن فى العالم مثلما المسيح فى
العالم” (1يوحنا17:4).
– هذه الرحلة اكدت ايمان مريم وبرارة يوسف، فالإيمان هو “الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه”(عبرانيين1:11).
– هذه الرحلة تأكيد للنبوة القائلة “من مصر دعوت إبني” “«لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَمًا أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي.” (هوشع 11: 1وكذلك نبوءة إشعياء النبي “هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه” (إش19: 1).
– هذه الرحلة باركت ارض مصر وهى البلد الوحيد الذى زاره يسوع وهذا يعطينا نحن المصريين الثقة ان بركة يسوع مازالت قائمة.
– هذه الرحلة فيها تشابه ما بين 40 يوم عبور ارض سيناء وعبور بنى اسرائيل الى ارض الميعاد فى 40 سنة.
– هذه الرحلة بدأ فيها حياة الألم عند العذراء حسب نبؤة سمعان الشيخ لها فى الهيكل:”وأنتِ
سيجوز سيف فى نفسِك”(لوقا35:2).
– يقول بعض الـمفسرين للكتاب الـمقدس أن حادثـة مجوس المشرق الذين حضروا وسجدوا للطفل وقدّموا لـه “هدايا من ذهب ولُبَان ومُر”(متى12:2)، كان هذا قبل رحيل العائلة الـمقدسة الى أرض مصر وان تلك الكنوز قد ساعدت العائلة الـمقدسة فى مصاريف الرحلة، وهذا يوضح ان العناية الإلهيـة قد دبرّت مجيئ الـمجوس لإحضار مصاريف رحلة الهروب، بالإضافـة الى الـمعانـى الأخرى الروحيـة وأهـمية العطايا للآخريـن والتى قد تحل مشاكل قد لا نراهـا نحن.
– ان مجيئ العائلة المقدسة الي مصر كان سببا ليبارك أهل مصر بوجود يسوع بينهم فتتم النبوة القائلة ” من مصر دعوت ابني ” (هوشع 11: 1) وتتم أيضا النبوة القائلة ” هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر دأخلها ” (اش 19 : 1). ويقال أن أوثان مصر انكفأت عندما حل بها كلمة الله المتجسد كما انكفأ داجون أمام تابوت العهد (1 صم 5 : 3). ويذكر التقليد أنه عند دخول المسيح إلي أرض مصر كانت الأوثان تسقط في كل مدينة يقيمون بها، فكانوا يطردونهم ولذلك إضطروا أن يسيروا 1000كم في أرض مصر.
ان مجيء الرب يسوع المسيح إلى مصر قد هز العبادة الوثنية الجبارة التي عاشت في مصر آلافًا من السنين، ولم يكن من السهل إطلاقًا اقتلاعها من حياة المصريين. كانت الحضارة المصرية عميقة جدًا في جذورها وتعانقت هذه الحضارة مع عبادة ذات فلسفة قوية تداخلت معها الفلسفة الهللينية، بداية من عصر الإسكندر الأكبر وفي عصور البطالمة، وكذلك الفلسفة الرومانية في العصر الروماني. وتكوّنت بذلك مجموعات عجيبة من الآلهة المصرية واليونانية والرومانية جعلت من أرض مصر مرتعًا للعبادة الوثنية في أقوى معانيها. وهكذا ارتجفت أوثان مصر من وجه الرب لأن “كل آلهة الأمم شياطين” (مزمور 96: 5).
لقد امضى العالم الألماني Oscar Meinardus عدة سنوات محاولا اكتشاف رحلة العائلة المقدسة الي مصر ورسم مما جاء في الأناجيل وايضا من علم الأثار واوراق البردي القديمة التى تم اكتشافها حديثا وايضا مما ورد في المراجع القبطية للكنيسة المصرية وجمع نتائجه
ووضعها في كتاب مع دراسة طويلة والذي كان يعيد طباعته بعد اكتشاف دلائل جديدة.
حتى هذه الأيام ان الحجاج الذين يزورون مصر يتبعون خط سير لعدة مواقع من اديرة ومغارات وكنائس قد بنيت على اماكن قيل ان يوسف ومريم قد توقفا في أماكن للراحة او ملجأ اطول. في عام 2001 اتبع احد الصحفيين الأمريكان خط السير هذا في مدة شهران وفيما بعد دونها في كتاب بكل التفاصيل وايضا في فيلم وثائقي وشرح اكثر من 30 موقع قيل ان العائلة المقدسة توقفت فيها.
تلك المسارات لا يمكن التحقق منها بوسائل علمية ولكنها تمثل بكل تأكيد مقياس رحلة العائلة
المقدسة. لا يهم اي مسار قد اتخذه القديس يوسف فهو عليه ان يرحل مئات الأميال مع زوجة ولدت حديثا ومع طفلهما الصغير.
بعيدا عما جاء في نص انجيل القديس متى عن الرحلة الى مصر والعودة منها فلم يسجل مدة بقاء العائلة المقدسة في مصر فليس لدينا اي مراجع يمكن الوثوق بها سوى ما جاء في بعض الكتب الغير قانونية امثال” انجيل متى الزائف” والذي يعود الى عدة قرون الرابع-الثامن ميلادي، وايضا كتاب طفولة يسوع باللغة العربية وآخر باللغة الارمينية والذي يمكن انه قد كتب في القرن الخامس او الثامن الميلادي وغيرها من الكتابات. ان المسيحيين كانوا دائما فضوليين لمعرفة مدة العائلة المقدسة في مصر وهناك كتاب من القرن الثاني الميلادي وحتى القرن العشرين انتجوا العديد من التخيلات كلما جمعوا او عرفوا عن اي معجزات تمت في تلك الفترة ومكانها. في كتاب قديم عن “انجيل الطفولة” كما ذكرنا جاء ان الصبي كان يلهو بان يصنع اشكالا من الطين ثم ينفخ فيها فتحيا وتطير وانه اوقع عقابات شديدة على بعض المتنمرين. بالطبع تلك الصورة عن شخص يسوع تختلف كل الاختلاف عن يسوع كما جاءت به الأناجيل المقدسة ولهذا فكل ما جاء في اي من الكتب المنحولة والتى لم تعترف بها الكنيسة تعد خيالات غير حقيقية وغير منطقية.
اما عن مدة بقاء العائلة المقدسة في مصر فبعض شرّاح الكتاب المقدس يعتقدون ان 1260 يوما كما جاء في سفر الرؤيا “وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا.“(رؤيا6:12) هو العدد المظبوط. بعض الشرّاح القدامى اعتمدوا على بعض ما جاء في التقليد الكنسي. ومع ذلك فالكتاب المقدس يظهر ان العائلة المقدسة قد عادت من منفاها مع وفاة هيرودس الكبير والتى حدثت في سنة 4 ماقبل الميلاد. لقد عاش يوسف ومريم ويسوع في مصر كلاجئين ولهذا السبب فانه من الصعب تخيل من يتذكرهم او من ذا الذي يشير الى اماكن تواجدهم. ايضا مدة اقامة العائلة المقدسة في مصر غير معروفة بدقة ولكن طبثا لما جاء في بعض الكتابات القديمة ظلوا في المنفة مدة 4 سنوات وكان يسوع سن سنتان عندما هرب الى مصر وعاد وهو في سن السادسة.
العودة الى الناصرة
فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ». فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضًا عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ. وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالأَنْبِيَاءِ: «إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا».“(متى19:2-23)
الأخبار قد تصل سريعا لليهود في مصر ومن المحتمل بعد عدة ايام من وفاة هيرودس وربما عرف يوسف ايضا في لحظتها خاصة انه عرف هذا من ملاك الرب. ان ما جاء في انجيل متى يعطى انطباعا ان يوسف قد جهّز حاجاته على الفور وتوجه عائدا الى بيته:” فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ». فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ.“(متى19:2-21).
ان عودة العائلة المقدسة ستكون تحدي طبيعي مثل هروبهم الي مصر فكل السفر في العصور
القديمة كان شاقا فالطرق كانت ملآنى بالحفر ومحفوف بالمخاطر للناس والدواب وعلى جانبي الطرق هناك العصابات واللصوص وقاطعي الطرق وحتى اماكن المبيت على الطريق غالبا ما تكون قذرة ولها اخطارها الخاصة. ولكن في تلك الرحلة نجوا من ضغط متابعة هيرودس وجنوده وعلى طول طريق عودتهم من المحتمل انهم استقبلوا اخبارا ان اغسطس قيصر قد تصرف لإضعاف مملكة اليهود بأن قام بتقسيمها الى اربع مقاطعات ثلاثة منهم يحكمهم ابناء هيرودس وواحدة تحكمها اخت هيرودس. كان على يوسف ان يأخذ قرارا اي من تلك المناطق تكون اقل خطرا وايهم الأحسن؟ لقد اختار يوسف منطقة الجليل حيث يوجد بعض من سلالة داود الملك. انجيل متى ذكر هذا قائلا:” وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضًا عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ.“(متى22:2).
بعد الرحلـة الـى مصر عادت العائلة الـمقدسة إلـى الناصرة بعد أن سمع القديس يوسف أن أركيلاوس قد ملك على اليهوديـة مكان هيرودس أبيـه فخاف أن يذهب إلـى هناك “فأتـى وسكن فى مدينـة تُدعى نَاصرة ليتم الـمقول بالأنبياء إنـه يُدعى ناصريـّاً”(متى33:2). بعد عودة العائلة الـمقدسة من مصر عاشت فى مدينة الناصرة حياة منطويـة كلها عمل ولـم يُذكر فى الأناجيل شيئاً عن هذه الفترة سوى ما ذكره لوقا الإنحيلي من حادثـة إختفاء يسوع فى الهيكل وعمره 12 عاما.ويذكر القديس لوقا أن يسوع “كان يتقدم فى الحكمة والسِن والنِعمة عند الله والناس”(لوقا52:2)، وكان “خاضعـا” ليوسف ومريـم(لوقا51:2).
طفولة يسوع
كان القديس يوسف والقديسة مريم مؤمنان وعلى الرغم من ابنهما المسيّا-ابن داود وابن الله- كان واضحا من ميلاده هذه الحقائق التى فازت بها اسرته لكن لم تكن هناك معاملة خاصة على الأرض. بدأت حياة يسوع في صعوبة بالغة فهو يعلم ان ليس هناك اي ميزة وتمت مقاومته ولا يوجد لدي والديه الارضيين اي مكانة اجتماعية.
للبعض قد تكون تلك الحقيقة حجر عثرة ولكن ليس ليوسف ومريم. ضمن اليهود هناك توقع
مبني على وحي اشعيا النبي ان المسيّا هو “مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ”(اشعيا3:53) وايضا “وَلْنَكْمُنْ لِلصِّدِّيقِ؛ فَإِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا يُقَاوِمُ أَعْمَالَنَا، وَيُقَرِّعُنَا عَلَى مُخَالَفَتِنَا لِلْنَّامُوسِ، وَيَفْضَحُ ذُنُوبَ سِيرَتِنَا يَزْعُمُ أَنَّ عِنْدَهُ عَلِمَ اللهِ، وَيُسَمِّي نَفْسَهُ ابْنَ الرَّبِّ. وَقَدْ صَارَ لَنَا عَذُولًا حَتَّى عَلَى أَفْكَارِنَا. بَلْ مَنْظَرُهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا، لأَنَّ سِيرَتَهُ تُخَالِفُ سِيرَةَ النَّاسِ، وَسُبُلَهُ تُبَايِنُ سُبُلَهُمْ. قَدْ حَسِبَنَا كَزُيُوفٍ؛ فَهُوَ يُجَانِبُ طُرُقَنَا مُجَانَبَةَ الرِّجْسِ، وَيَغْبِطُ مَوْتَ الصِّدِّيقِينَ، وَيَتَبَاهَى بِأَنَّ اللهَ أَبُوهُ. فَلْنَنْظُرْ هَلْ أَقْوَالُهُ حَقٌّ؟ وَلْنَخْتَبِرْ كَيْفَ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الصِّدِّيقُ ابْنَ اللهِ؛ فَهُوَ يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِنْ أَيْدِي مُقَاوِمِيهِ. فَلْنَمْتَحِنْهُ بِالشَّتْمِ وَالْعَذَابِ، حَتَّى نَعْلَمَ حِلْمَهُ وَنَخْتَبِرَ صَبْرَهُ، وَلْنَقْضِ عَلَيْهِ بِأَقْبَحِ مِيْتَةٍ؛ فَإِنَّهُ سَيُفْتَقَدُ كَمَا يَزْعُمُ.“( الحكمة12:2-20)
اقد قبِل يوسف ومريم الاهانات والمصاعب التى أتت. بعد المغامرة الكبرى في بدء حياة العائلة
المقدسة عادوا الى وطنهم الأم وايامهم استقرت في نمط حياة القرية الهادئ. في الانجيل المقدس فقط اسبوع واحد تم تسجيله اثناء تلك السنوات وحتى باختصار شديد تاركا لبعض الكتابات التى لم تعترف بها الكنيسة مجالا للخيالات وسرد قصص غيرمنطقية عن فترة حياة العائلة المقدسة الخفيّة.
يسوع ابن يوسف النجار من المحتمل انه تلقى بعض التعليم في مدرسة القرية على يد احد الرابيين، فحتى في قرية صغيرة الاولاد اليهود كانت لديهم الفرص ليتعلموا ان يقرأوا ويكتبوا مستخدمين الكتب المقدسة كمرجع تعليمي مدرسي. القليل بعض الشيئ معلوم عن مثل تلك البرامج التعليمية فنحن لا نعرف كم تتكرر تلك الدروس ولا طولها ولا تفاصيل لمحتواها وفي الغالب كانت تتم في المجمع الذى هو المكان الوحيد في القرية لمواضيع القراءة والكتابة. طبقا لبعض النصوص اليهودية تنصح بالمزيد من التدريب على القراءة والكتابة يلزم ان يبدأ ما بين اعمار 5-7 سنوات وينتهى لأغلب الاطفال قبل سن 12 عام. في قرية مثل الناصرة فعدد الاطفال لسن الدراسة يكون صغير للغاية وقليل لا يتعدى 10.
على اية حال فانه من الواضح ان يسوع تعلم القراءة لأن القديس لوقا وصفه انه قد قرأ بصوت عالي عندما دفع له سفر اشعيا في المجمع:” وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ». ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ.“(لوقا16:4-20)، والقديس يوحنا يرينا يسوع يكتب باصبعه على الأرض:” قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ”، “ثُمَّ انْحَنَى أَيْضًا إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ”(يوحنا6:8و8)
عبر الوقت دروسه انتهت واصبح يسوع قد حقق درجة من الاستقلالية وقد كبر ايضا الى مساهمة محترمة في عمل ابوه يوسف وبدأ بالتدريج ينمو في العلوم الدينية ومراعاة التقاليد التى يمارسها الناس وفي عمر 12 او 13 يكون من المتوقع من الولد ان يتمم كل الواجبات الدينية وحتى انه عليه ان يذهب الى اورشليم ليدفع الضريبة السنوية نصف شاقل للهيكل.
العثور على يسوع فى الهيكل
وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» فَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ”(لوقا41:2-52)
على الأقل لمدة 7 قرون كل رجل بالغ كان مطالب بالذهاب الي اورشليم 3 مرات في السنة. ان الرب الاله طلب هذا الامر حتى قبل انشاء اورشليم فموسى قد أمر اسرائيل قائلا:” «ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ يَحْضُرُ جَمِيعُ ذُكُورِكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ، فِي عِيدِ الْفَطِيرِ وَعِيدِ الأَسَابِيعِ وَعِيدِ الْمَظَالِّ. وَلاَ يَحْضُرُوا أَمَامَ الرَّبِّ فَارِغِينَ.“(تثنية16:16).
فقط مع بناء الهيكل ايام الملك سليمان كان هذا الأمر يمكن حدوثه، وفقط مع الاصلاحات ايام الملك يوشيا اصبح الأمر إلزاميا. الرحلة الى اورشليم كانت شاقة ولكنها كانت واجب مفرح فالحجاج يحتشدوا على الطرق ذاهبين للأرض المقدسة من كل اركان العالم. اليهود من عدة بلاد يغنون وينشدون التسابيح والمزامير عند اقترابهم من المدينة:” فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي: «إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ». تَقِفُ أَرْجُلُنَا فِي أَبْوَابِكِ يَا أُورُشَلِيمُ.أُورُشَلِيمُ الْمَبْنِيَّةُ كَمَدِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ كُلِّهَا، حَيْثُ صَعِدَتِ الأَسْبَاطُ، أَسْبَاطُ الرَّبِّ، شَهَادَةً لإِسْرَائِيلَ، لِيَحْمَدُوا اسْمَ الرَّبِّ.“(مزمور1:122-4).
من الناصرة تأخذ الرحلة من 4-6 ايام على الأقدام والقافلة تشمل المنازل المتنقلة وبعض العربات ولكن معظم الناس يمشون. كل اسرة تأخذ معها جدي او حمل لتقديمه ذبيحة في الهيكل في ليلة العيد والموكب يمضى مع سرعة المشاركين من اناس ودواب.
النساء والأطفال ليس عليهم اي التزام للقيام بالحج والشيوخ والعجزة كانوا معفيين ايضا. الاطفال عادة لا يذهبون وامهاتهم يبقون في منازلهم للعناية بهم. كان من المعتاد ان الصبية ذو ال 12 عام يحضرون مع اهاليهم لتعريفهم بمناسك الحج والذي سيكون واجب عليهم في السنوات التالية من عمرهم.
عندما بلغ يسوع عمر 12 عام قام بتلك الرحلة مع ابيه يوسف وذهبت امه ايضا حيث لا يوجد اي فرد في المنزل يحتاج للرعاية. لقد ذهبوا مع الحجاج من قريتهم وربما مع آخرين من قرية كوتشيبا القرية الأخرى التى يقطنها أناس من بيت داود. على طول الطريق ربما تقابلوا مع أصدقاء قدامى او معارف. معروف ان مريم لديها عائلة تقطن ما بين الناصرة وأورشليم. عموما كانت الرحلة مبهجة على الرغم من طولها ومشقاتها لكن الشوق للذهاب الى بيت الرب كان يبدد اي خوف او تعب والجميع يرددون بابتهاج:” مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ! تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلهِ الْحَيِّ.” و”أَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ.لأَنَّ الرَّبَّ، اللهَ، شَمْسٌ وَمِجَنٌّ. الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْدًا. لاَ يَمْنَعُ خَيْرًا عَنِ السَّالِكِينَ بِالْكَمَالِ.“(مزمور1:84-2 و10-11).
سيكون من المنطقي ان يسوع قد صاحب ابوه يوسف عندما اخذ الحمل للكهنة للذبيحة فهذا هو اليوم ليكتسب مهارة عندما يكبر ويتولى تلك المسؤولية بمفرده كرجل يهودي فيقود اسرته فيما بعد لتنفيذ الوصايا والشرائع وتقديم ذبيحة الفصح. معا يسوع ويوسف قد حملا الحمل للهيكل ومعا ربما اخذاه لكي يتم شويه. وليمة الفصح تكون عادة ليلا على ضوء المصابيح وتقع مسؤولية ترتيبات تلك الوليمة على الأب والذي عليه سرد سبب ذلك العيد كما اوصى الرب:” وَلِكَيْ تُخْبِرَ فِي مَسَامِعِ ابْنِكَ وَابْنِ ابْنِكَ بِمَا فَعَلْتُهُ فِي مِصْرَ، وَبِآيَاتِي الَّتِي صَنَعْتُهَا بَيْنَهُمْ، فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ».“(خروج2:10) وايضا على الأب تنفيذ كل ما جاءت به الشريعة:” فِي الْعَاشِرِ مِنْ هذَا الشَّهْرِ يَأْخُذُونَ لَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ شَاةً بِحَسَبِ بُيُوتِ الآبَاءِ، شَاةً لِلْبَيْتِ. وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ صَغِيرًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كُفْوًا لِشَاةٍ، يَأْخُذُ هُوَ وَجَارُهُ الْقَرِيبُ مِنْ بَيْتِهِ بِحَسَبِ عَدَدِ النُّفُوسِ. كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ أُكْلِهِ تَحْسِبُونَ لِلشَّاةِ. تَكُونُ لَكُمْ شَاةً صَحِيحَةً ذَكَرًا ابْنَ سَنَةٍ، تَأْخُذُونَهُ مِنَ الْخِرْفَانِ أَوْ مِنَ الْمَوَاعِزِ. وَيَكُونُ عِنْدَكُمْ تَحْتَ الْحِفْظِ إِلَى الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هذَا الشَّهْرِ. ثُمَّ يَذْبَحُهُ كُلُّ جُمْهُورِ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ فِي الْعَشِيَّةِ. وَيَأْخُذُونَ مِنَ الدَّمِ وَيَجْعَلُونَهُ عَلَى الْقَائِمَتَيْنِ وَالْعَتَبَةِ الْعُلْيَا فِي الْبُيُوتِ الَّتِي يَأْكُلُونَهُ فِيهَا وَيَأْكُلُونَ اللَّحْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَشْوِيًّا بِالنَّارِ مَعَ فَطِيرٍ. عَلَى أَعْشَابٍ مُرَّةٍ يَأْكُلُونَهُ. لاَ تَأْكُلُوا مِنْهُ نِيئًا أَوْ طَبِيخًا مَطْبُوخًا بِالْمَاءِ، بَلْ مَشْوِيًّا بِالنَّارِ. رَأْسَهُ مَعَ أَكَارِعِهِ وَجَوْفِهِ. وَلاَ تُبْقُوا مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْبَاقِي مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ، تُحْرِقُونَهُ بِالنَّارِ. وَهكَذَا تَأْكُلُونَهُ: أَحْقَاؤُكُمْ مَشْدُودَةٌ، وَأَحْذِيَتُكُمْ فِي أَرْجُلِكُمْ، وَعِصِيُّكُمْ فِي أَيْدِيكُمْ. وَتَأْكُلُونَهُ بِعَجَلَةٍ. هُوَ فِصْحٌ لِلرَّبِّ. فَإِنِّي أَجْتَازُ فِي أَرْضِ مِصْرَ هذِهِ اللَّيْلَةَ، وَأَضْرِبُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ. وَأَصْنَعُ أَحْكَامًا بِكُلِّ آلِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ. أَنَا الرَّبُّ وَيَكُونُ لَكُمُ الدَّمُ عَلاَمَةً عَلَى الْبُيُوتِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، فَأَرَى الدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ، فَلاَ يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاَكِ حِينَ أَضْرِبُ أَرْضَ مِصْرَ وَيَكُونُ لَكُمْ هذَا الْيَوْمُ تَذْكَارًا فَتُعَيِّدُونَهُ عِيدًا لِلرَّبِّ. فِي أَجْيَالِكُمْ تُعَيِّدُونَهُ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً.“(الخروج3:12-14).
في القرن الاول الميلادي كان من المعتاد ان يردد اليهود وهم يحتفلون بعيد الفصح اناشيد وتسابيح تشمل اشعار آرامية يذكر فيها اربع احداث هامة في تاريخ شعب اسرائيل وشعب الله والتى يقال انها كلها قد حدثت في ليلة عيد الفصح اليوم الرابع عشر من شهر نيسان في النتيجة العبرية اولها هو ليلة الخلق عندما كون الله العالم من لاشيئ وثاتنيها كانت الليلة عندما قدم ابراهيم ابنه اسحق كذبيحة وثالثها ليلة الخروج من ارض مصر عندما تحرر الاسرائيليون من العبودية والرابعة هي الليلة التى لم تأت بعد وهي ليلة المسيّا وهي ايضا يجب ان تأتي في الرابع عشر من نيسان. وفي نهاية وليمة الفصح يتم انشاد مزامير 113-118 ويتبعها مزمور
136.
يسوع يوما ما سيأخذ دور اب الأسرة فيقود تلاميذه لعشاء الفصح، فانه يوسف الذي أظهر
ليسوع كل ما يجب عمله في وليمة الفصح وكيف انه قد تعلم مباركة الخبز والخمر كما فعل
يسوع فيما بعد في العشاء الأخير.
انه من الشيئ الملاحظ ان الحدث الوحيد لطفولة المسيح تم تسجيله في العهد الجديد ويبدو انه شيئ محرج لمريم ويوسف، فحادثة فقد يسوع مثلا تبدو مخيفة فكيف يمكن لمريم ويوسف ان ينسوا صبي ذو ال 12 عام ويتركونه خلفهما في مدينة كبيرة مثل أورشليم؟ واي والدين يمكن ان يفعلا مثل هذا؟ وحتى انه من الأكثر دهشة بعيدا عن أي تفاصيل قد كشفها الأنجيل لنا عن طفولة يسوع فتلك التي تم ذكرها كانت لمحة صغيرة عن السنوات المخفية ليسوع والتي سردها الكتاب المقدس. من تقدمة يسوع في الهيكل كطفل عنده 40 يوما حتى ظهوره عند نهر الأردن وهو رجل ذو 30 عاما لم يقل لنا انجيل لوقا أي شيئ عن حياة يسوع ما عدا حادثة واحدة عندما فقد ثم وُجد في الهيكل وهو صبي ذات ال 12 عام. فلماذا يا ترى ذاك الحدث الوحيد هام عند لوقا؟ وما الذي يمكن ان يقوله لنا عن يسوع وأمه؟
حيث ان اليهود كانوا منتشرين في القرن الأول الميلادي ويقطنون في أماكن بعيدة عن أورشليم فمن المحتمل انهم كانوا لا يقومون بالسفر الي اورشليم إلا مرة واحدة في العام. لا يمكن اذن ان نجزم ان القديس يوسف كان يذهب ثلاث مرات كل عام ولكن حسب ما كتبه القديس لوقا انه كان يذهب مرة واحدة كل عام خاصة في عيد الفصح حسب الشريعة و يقضون هناك ثمانية أيام (عيد الفصح وعيد الفطير معًا). اما الأطفال ما دون سن الثانية عشر عاما فكانوا غير ملزمين بالشريعة ولهذا فليس من المؤكد بين علماء الكتاب المقدس اذا ما كان يسوع وهو دون سن ال 12 عاما كان يصاحب القديس يوسف للعبادة في الهيكل. اما القديسة مريم وكإمرأة يهودية فمن المؤكد انها كانت تصاحب القديس يوسف في رحلته الى اورشليم على الأقل مرة
كل عام.
ان رحلة ال 8 أميال ما بين الناصرة الي أورشليم سوف تأخذ 3-4 أيام والناس عادة يسافرون في تلك الأعياد في جماعات وفي عربات تجرها الركاب ويشترك الأقارب والأصدقاء والجيران عادة في مصروفات تلك الرحلة فالسفر في جماعات كبيرة في الطرق البعيدة تتيح حماية لتلك القوافل من لصوص وقطاع الطرق.
لما بلغ يسوع سن ال 12 عاما صاحب يوسف ومريم. وبالنسبة للصبى يسوع فهذه هي الزيارة
الأولى لبيت أبيه السماوي. كان الهيكل من الضخامة حتى أنه يتسع لمئات الألوف من الذين يصعدون للهيكل في الأعياد.
وسط هذا الهيكل ووسط الشيوخ أساتذة الناموس يجلسون في حلقات الدرس التي يعقدها شيوخ السنهدريم من الصباح حتى وقت التقدمة المسائية للرد على التساؤلات والإستفسارات. وكان على الشعب حضور اليومين الأولين للفصح، وكان يسمح للشعب بالعودة إلى بيوتهم بعد منتصف اليوم الثالث. ولذلك قرر القديس يوسف والعذراء مريم العودة إذ لم يكن هناك داعٍ لبقائهم بقية أسبوع الفصح بعد أن أتموا كل طقوسه، وهكذا فعل الكثيرون وبدأوا رحلة العودة. وكان المسافرون يسيرون على قافلتين، إحداهما للنساء في المقدِّمة والثانية للرجال في المؤخِّرة، وكان الصِبيَّان يسيرون إِما مع الرجال أو النساء. لذلك فإنَّه إذ اِنقضى اليوم الأول في العودة اِقتربت القافلتان واِلتقى يوسف بمريم كل منهما يسأل الآخر عن الصبي، إذ حسب كل منهما أنه مع الآخر، وقد بقيا يومًا كاملًا يسألان عنه بين الرجال والنساء، وإذ لم يجداه قرَّرا العودة إلى أورشليم حيث قضيا يومًا ثالثًا.
ثلاثة أيام يبحث يوسف ومريم عن كنزهما السماوي الذي لا يقاس فكيف لم بيلاحظا اختفاؤه بتلك الصورة؟ لهذا بحثا عن يسوع في شوق شديد. ثلاثة أيام بلا جدوى للبحث عن يسوع وكأن تلك الأيام الثلاث شهورا او سنوات. ترى مالذي دار في قلب وفكر القديسة مريم والقديس يوسف طوال الأيام الثلاثة. كانا يبحثان عنه:” وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ.وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ”(لوقا44:2-46). ثلاثة أيام يبحثان عنه وهما لا يدريا كيف أضاعاه وأين يمكن ان يجداه، انها خسارة عظيمة اصابت قلب يوسف ومريم وشعرا بألم عميق لكونهما قد تقاعسا عن أداء الرسالة المكلفان بها من الله تعالى. ولكن عناية الله كانت هناك فوجد يسوع في الهيكل ” جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا
أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا”(لوقا46:2-48).
لمدة ثلاثة ايام في بحث مستمر عن يسوع وفي الهيكل بكل ما فيه من بشر وجداه جالسا بين
العلماءولكننا لا نستطيع تصور ماذا دار في الحوار بينه وبين الشيوخ، لكن يمكن تصور أن
الحوار دار حول معانى الفصح. فالشيوخ يستغلوا هذه المواسم لشرح معانيها للشعب. وربما أظهر الصبي يسوع المعانى المخفية في رموز الفصح وأنها تدور حول المسيا المخلص حمل الله الذي يرفع خطية العالم. ولكم كانت فرحتهما عندما وجداه وقلقهما قد مضى وظلمة الفقدان قد تلاشت وعاد مجد وجوده في حياتهما.
ان يسوع كصبي له من العمر اثنا عشر عاما لم يكن مسؤلا عن افعاله أمام الرب طبقا للشريعة
والتي تحدث عندما يصل الانسان الى سن 13 سنة. مهما كان الأمر ان يسوع الصبي أدهش شيوخ الهيكل “ جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ” (لوقا46:2-47).لقد استخدم لوقا كلمة ” existanto والتي تصف تعجب مصحوب بمواجهة لحضور الله لذلك شبّه لوقا الشيوخ في الهيكل بأنهم متعجبين من مثل ذلك الصبي الموهوب من الله في اسئلته واجوبته لهم وبهتوا من حكمة الله فيه وهو في عمرال 12 عام.
مريم ويوسف أيضا استجابوا لمثل ذلك المنظر بتعجب ولكن تعجبهم ذو طبيعة مختلفة فلوقا استعمل كلمة مختلفة explagan والتي استخدمت في أماكن أخرى لتصف شخص ممتلء بقوة الله وظاهرة في تعليمه “فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ”0لوقا32:4)، او اخراج الشياطين “ فَبُهِتَ الْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ. وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ” (لوقا43:9)، اوعندما يصاب بالعمي عدو الإيمان كما فعل به بولس “فَالْوَالِي حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى مَا جَرَى، آمَنَ مُنْدَهِشًا مِنْ تَعْلِيمِ الرَّبِّ”(اعمال12:13). يوسف ومريم كانا مملوءان بشعور من القلق العميق لسلامة الطفل بعد ثلاثة أيام وهو بعيد عنهما وهذا الشعور ظل في ذاكرتهما بغض النظر عما شاهداه في الهيكل من مقاطع -ابنهما منهمك تماما ومشغول بأمور أخرى مع معلموا الشريعة في تلك الأيام ويبدو انه غير مدرك لألم الفراق من والديه وما سببه لهما.
يعلّق العلامة أوريجينوس على بحث القدِّيسة مريم والقدِّيس يوسف عن الصبي يسوع، قائلاً:
“وجدوا يسوع فى الهيكل وكان يسأل أحيانًا ويجيب أحيانًا، فكان عظيمًا في أسئلته. ونحن نتضرَّع إليه حتى نسمعه يسألنا ويجيبنا. لنبحث عنه بجهد عظيم مقترنًا بالعذاب، عندئذ نجده، إذ يقول الكتاب: “هوذا أبوك وأنا كنَّا نطلبك معذَّبين”. لا تبحث عن يسوع في تراخِ وفتور وتردّد كما يفعل البعض، فإنَّ هؤلاء لا يجدوه. لا اِعتقد أنهما كانا معذَّبين لاِعتقادهم أن الصبي قد فُقد أو مات، فلم يكن ممكنًا لمريم أن تشك هكذا، وهو الذي حُبل به من الروح القدس، وبشَّر به الملاك، وسجد له الرعاة، وحمله سمعان، ولا يمكن أن تنتاب نفس يوسف هذا الفكر، وهو الذي أمره الملاك أن يأخذ الطفل ويهرب به إلى مصر وسمع هذه الكلمات: “لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها من الروح القدس” (مت 1: 20). لا يمكن أن يخَف يوسف على الطفل وهو متيقِّن أنه الله (الكلمة). إذن فعذاب الأبوين وسؤالهما له مغزى آخر قد لا يستشفُّه القارئ العادي. لقد بحثا عن يسوع وذُهلا لمجرَّد التفكير أنه ابتعد عنهما، أو تركهما وذهب إلى موضع آخر، أو ربَّما صعد إلى السماء لينزل في الوقت المناسب.
بعد انتهاء العيد بدأت العائلات والأصدقاء في اعادة التجمع لرحلة العودة لبلادهم ومن المحتمل ان يشترك معهم في رحلة العودة بعض من قابلوهم في العيد. يوسف ومريم افترضا ان ابنهما يسوع موجود في مكان ما وسط جموع المسافرين مع صبيان في نفس عمره.
مر يوم من تلك الرحلة وعلى الرغم منذلك تحققوا انهما لم يشاهدا يسوع منذ ان تركوا اورشليم. وما بدأ يظهر كوخز من القلق اصبح حزن لا يمكن احتماله كلما تيقن يوسف ومريم انهما لم يشاهدا يسوع في اي مكان في قافلة الرجوع ولا يوجد اي شخص متذكر انه قد رآه منذ مغادرتهم لأورشليم. راجع يوسف ومريم بذاكرتهما الي متى آخر مرة شاهدوا يسوع وبدأوا في مراجعة من يمكنه ان يعرف اين يسوع ومن ربما قد رآه وهما يعلمان ان المدينة كانت مكتظة بالغرباء وان الطرق غير آمنة. يوسف قد يكون متذكرا قصة من يحمل نفس اسمه يوسف الصديق والذي أُخذ وهو صغير الى مصر وكان ذلك الفقد سببا في تحطيم قلب ابيه يعقوب. يوسف يمكن ان يصاب ببعض الفزع والألم حتى وهو يعي تماما ان الله لا يمكن ان يصيب الصبي بأي أذى لأنه كان يضع ثقته دائما في الرب. اليوم قد مرّ والليل تبعه ووراءه يوم آخر وليل آخر وبدأ حزن يوسف ومريم يصل لأقصى مدى التحمل البشري:” لَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ؟ إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ إِلَى مَتَى أَجْعَلُ هُمُومًا فِي نَفْسِي وَحُزْنًا فِي قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ؟”(مزمور1:13-2).
عادا يوسف ومريم الى مدينة اورشليم مرة اخرى وكم كان فرحهما ومدى ارتياحهما واي دموع قد
سكبوها عندما بعد ثلاثة أيام وجدوا يسوع في الهيكل وكان جالسا مع المعلمين بنصت ويسأل، وتجمع الكثيرين من حولهم متعجبين من حكمة الصبي:” وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ.“(لوقا46:2-47).
هل يستطيع يوسف – حتى يوسف الصامت- بعد ان رأى ابنه يسوع ولا يصرخ؟. انها مريم
التى تكلمت قائلة:” «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!»” (لوقا48:2). وجه يسوع كلامه لكلتا والديه قائلا:” «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟».“(لوقا49:2).
اي اب بشري سيشعر بالألم عند تلك الكلمات ومن المؤكد ان يوسف شعر بذلك ولكن الأمر لم يكن غيرة تجاه الله ولم يكن مسألة ان يوسف اراد بعض الاعتراف او الشكر من ابنه، ولكن تلك اللحظة هي علامة فصل والتى تبدو الآن حتمية. ابن يوسف اصبح رجلا ووصل الى نضجه والى سن الاستقلالية وكان واضحا ان لديه مهمة يلزم اتمامها.
سنوات قبل ذلك الأمر قال رجل شيخ عجوز هناك في ذلك الهيكل لمريم:” وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ».“(لوقا35:2). في تلك اللحظة يوسف ايضا شعر بذاك السيف ربما بشدة كأي شيئ آخر قد شعر به أثناء البحث عن الصبي.
يوسف ومريم “فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا”(لوقا50:2). هناك عدم فهم لا مفر منه ما بين
الأجيال وذاك ايضا هو حزن بدأ يشعر به يوسف كأي أب.
لقد وجهت مريم ليسوع هذا السؤال: فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!»(لوقا48:2)، ان الكلمة الأخيرة التي استخدمت في اللغة اليونانية odynomenoi يمكن ان تساعدنا ان نفهم بعض الشيئ عن الصدمة التي تعرضا لها مريم ويوسف في بحثهما خلال الأيام الثلاثة، فالكلمة اليونانية تصف القلق النفسي
والعقلي العميق ومن الغريب انه استخدمت في التقليد اليهودي لتصف خبرة رعب الوالدين من
فقد طفلهم.
فمثلا طوبيا قال لحماه الجديد انه يجب ان يعود الي بيته في الحال لأبيه والذي يُعد الأيام
لعودة ابنه، ويقول:” لأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ أَبِي يَحْسُبُ الأَيَّامَ، فَإِنْ زِدْتُ فِي إِبْطَائِي يَوْمًا وَاحِدًا حَزِنَتْ نَفْسُهُ”(طوبيا4:9)، ويستمر سفر طوبيا في وصف كيف ان غياب طوبيا الإبن سيؤثر على امه وابيه وكيف سيكون قلقهما بعدم رؤية ابنهما سريعا. وكذلك جاء عن ام يهودية في القرن الأول الميلادي وذكرت في سفر المكابيين والتي شاهدت استشهاد أبناؤها السبعة وفرحت من ان زوجها لم يعش تلك اللحظة ليختبر قلقها adynoun وهي ترى كل أبناؤها وهم يموتون
(2مكابيين 7).
ان قلق مريم ويوسف يمكن ان ينظر اليه بنفس الموقف المشابه لوالداي طوبيا وام الشهداء المكابيين فأيضا مريم ويوسف اختبرا قلق عظيم عندما فقدا ابنهما لمدة ثلاثة أيام في أورشليم.
ان أول كلمات نطق بها السيِّد كما جاء في الأناجيل المقدَّسة هي: “لماذا كنتما تطلباني، ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي؟!”. هذه الكلمات تكشف عن طبيعة السيِّد المسيح وعن رسالته كما تحدَّد لنا ملامح السلوك اللائق:
أ. فمن جهة طبيعة السيِّد المسيح، فهو وإن كان لا يتعرَّض على نسبِهِ لمريم ويوسف، إذ قالت
له أُمّه: “هوذا أبوك وأنا كنَّا نطلبك معذَّبين”، إذ كان يوسف أبًا له حسب الشريعة من أجل
التبنِّي وان كان ليس من زرعه، وكانت مريم أُمَّه حسب الجسد، لكنه هو الذي العلي، يؤكِّد علاقته بالآب “ينبغي أن أكون فيما لأبي” معلمنا أنه ابن الله الآب!
من جهة ناسوته ينسب للقدِّيسة مريم لأنها حملته، أخذ منها جسدًا، لكنه لا ينسب جسديًا ليوسف إنما من أجل خدمته له وارتباطه المملوء محبَّة.
فلنتخيل كيف كان شعور مريم في ذلك المنظر فهي تبحث عن ابنها المفقود لمدة ثلاثة أيام في قلق خلال مدينة أورشليم وفقط لتجده منهمك مع العلماء في الهيكل ويبدو انه غير مدرك للحزن الذي سببه لوالديه نتيجة اختفاؤه. عندما سألت مريم يسوع سؤال مفهوم “لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟”، وبدلا من يجاوبها على سؤالها، أجاب الصبي ذو ال 12 عام بأسئلة شائكة منه:”
«لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟»(لوقا49:2).
يخبرنا لوقا ان مريم ويوسف: فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا”(لوقا50:2)، ربما مريم قد تكون
شاكرة لإتحادها مرة أخرى بإبنها ولكنها تركت متحيرة بسر ذلك الحدث الدرامي، ترى ما الذي
حدث؟ ولماذا فقدت يسوع لمدة ثلاثة أيام؟ وما الذي يعنيه الصبي ذو ال 12 عام عن حاجته
الماسة ان يكون “في بيت أبي”؟
دعونا نكتشف معنى إجابة يسوع العجيبة لمريم. أولا لاحظ المقارنة التي صنعها يسوع ما بين
ابوه الأرضي وابوه في السماء، فمريم تكلمه عن “أبوه” بالإشارة الي يوسف بينما يسوع يجيب بالتكلم عن “ابي” والذي يعني ابوه السماوي. بالتأكيد ان يسوع سيكرّم والديه الأرضيين ويطيعهما
– النقطة التي أشار اليها لوقا قائلا:” ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا”
(لوقا51:2)، ولكنه أولا هو ابن الله وأول تعليق يشير له يسوع هو عن ابوه السماوي.
كذلك كلمات يسوع المهمة عن احتياجه ان يكون في بيت ابيه حيث ان الهيكل كان معروف بأنه بيت الله. ان كلمات يسوع أحيانا تفسر انه يشير الي الهيكل في أورشليم حيث وُجد ولكن يوجد هنا اكثر من معنى عن التركيز على المبني المقدس، فالتعبير يمكن أيضا ان يترجم ” شؤون أبي” او “عمل ابي”. حيث ان الفكرة عن “المنزل” في عالم اليوناني-الروماني القديم تشير ليس فقط للمكان ولكن الي سلطة العائلة. ان كلمات يسوع تشير ليس فقط لزيارته الجسدية الي منزل الرب -هيكل أورشليم- ولكن أيضا سوق العمل والإلتزام الذي سيتممه للأب
السماوي فهو يعني شؤؤون ابيه السماوي من هيكل ورسالة وتمجيد.
ان سماع تلك الكلمات جعلت مريم ويوسف يواجهان تحدي عميق بضرورة العمل مع الصبي ذو ال 12 عام الي لذته الفريدة للاتحاد بالأب السماوي وانهما قد دعيا للتعاون مع مهمة ابنهما بأن يتركوه يذهب أينما يريد طبقا لمشيئة وقيادة الأب السماوي حتى لو سبب ذلك لهما أي حزن.
ان تلك المواجهة مع ابنها في الهيكل تمثل خطوة هامة في مسيرة إيمان مريم حتى على الرغم
من انها قد أعطيت لها رؤيا أكثر عن يسوع ورسالته من أي شخص آخر، فربما لم تنتهي مريم
لإستيعاب كامل بعد لما يجري في حياتها وحياة ابنها الإلهي. لقد قال لوقا الأنجيلي لنا ان مريم
تسير بالإيمان وتطلب الفهم العميق وانها “وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا”
(لوقا51:2). لقد سلّمت مريم حياتها واستسلمت لسر ذلك الحدث والتزامها لتحفظ وتتأمل في
كل هذا في قلبها مما جعل البابا يوحنا بولس الثاني يقول ان ذاك الحدث هو تجديد لأحزان
مريم ولقد وصف ذلك المنظر من انه نقطة تحول في حياة مريم، فحتى تلك اللحظة كانت مريم مرتبطة بيسوع أساسيا كأمه تحمل الطفل في احشائها وتلده في بيت لحم وتقدمه في الهيكل كطفل ذو الأربعين يوما. على مدار الوقت قلبها اختبر حزن من عدة أحداث أحاطت بطفولة ابنها، فمن إحصاء قيصر المفروض على الجميع ومن عدم وجود غرفة للطفل في الخان ومن حالات الفقر والتواضع في ميلاد ابنها ومن نيؤة سمعان الشيخ عن الرفض وعدم القبول والقتل الذي ينتظر وليدها وكل هذا يضع في قلب أي أم حزن وألم لا يمكن وصفه.
ولكن الآن وبعد 12 عام تبدأ مريم في علاقة جديدة مع إبنها بعد أن وُجهت برسالة ومهمة يسوع من ان يعمل إرادة الأب السماوي ولم يكن ذلك من ظروف خارجية ولكن ابنها نفسه هو الذي يسبب حزنها ويواجهها مذّكرا برسالته فهو الذي تجسد ليتمم مشيئة الأب. انها مطالبة الآن بالتعاون في مهمة ابنها لتنفيذ مخطط الأب السماوي من اجل خلاص البشرية بعيدا عن أي مشاعر امومة أرضية. لقد أضاف البابا يوحنا بولس الثاني قائلا ان مريم تأملت في تلك الأحداث والتي تتطلب منها تقديم مشاركتها وتعاونها وتجديد استسلامها للرب ولا تنسى سلسلة
الأحداث التي مرت والتي ستأتي وان تضع نفسها آمة للرب لخدمة مهمة ورسالة ابنها الإلهي.
اعتبر ان كل هذا حدث في هذا النص، يسوع مضى مع والديه للحج من الجليل الي أورشليم للإحتفال بعيد الفصح وبمجرد وجوده في المدينة المقدسة ذهب يسوع الي الهيكل وبينما هو هناك أدهش الناس من فهمه، ولكن النهاية كونه انفصل من أمه لأنه يقوم بعمل إرادة أبيه
السماوي وهذا سبب حزن لأمه حتى اتحدت به مرة أخرة في اليوم الثالث.
في البشارة والزيارة دور مريم هو انها أم المسيّا، ولكن بالتدريج نرى ان الأم قد دُعيت للمشاركة
في صليب ابنها وتساهم في مهمة الخلاص. في ميلاد ابنها في ظروف فقر وتواضع في بيت لحم اختبرت مريم بعض من المعاناة الأولية المصحوبة برفض وليدها. وفي التقدمة في الهيكل تعلمت من سمعان الشسخ كيف انها ستشارك في معاناة يسوع وما سيواجه ابنها من سيف سينغرس في فؤادها هي أيضا ولكن الآن عندما كان يسوع في الثانية عشر من عمره اختبرت مريم بطريقة مباشرة ابتعاد يسوع ابنها منها لمدة ثلاثة أيام وعندئذ تعلمت منه ان كل هذا كان
جزء من خطة ابيه السماوي – يجب ان يقوم بعمل ابيه لهذا جاء ولهذا هي رسالته على
الأرض. لقد علّم البابا يوحنا بولس الثاني ان يسوع ببقاؤه في أورشليم كان يعد مريم الي
تعاونها الفريد في سر الخلاص.
ذهبت الأسرة الي بلدتهم ومن المؤكد تغيير قد حدث بعد تلك المحنة يسوع الآن قد كبر وعن طيب خاطر خضع لسلطة يوسف ومريم:” ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا”(لوقا51:2). خضع الله نفسه ليوسف ومريم في الطاعة. ترى ما أعظم شهادة لبرارة يوسف وعظمة ايمان مريم يمكن أن تكون أكثر من هذا؟
عائلة الناصرة
لنتأمل بعائلة يسوع الأرضية، المتكونة من رب العائلة ” القديس يوسف” ومن ربة العائلة
” العذراء مريم ” ومن الصبي ” يسوع “، وذلك عبر أحداث البشارة للعذراء مريم والبشارة لمار يوسف، وولادة يسوع المسيح في بيت لحم، وتقدمة يسوع في الهيكل، والهروب إلى مصر أمـام الطاغية هيـرودس، والعـودة إلى الوطن والسكن في الناصرة مدة ثلاثين سنة، وذلك لكي تقتدي بها العوائل كافة، فإنها قدوة كل عائلة.
دون شك لهذه العائلة خصوصيتها، التي تميزها عن سائر العائلات، بسبب أصل الطفل”يسـوع” ورسالتـه التي تنتظره ؛ ولكـن هـذه الخصوصية لا تظهر للعيان ؛ لان تجسد إبن الله تحقق في الإطار البشري، لذا كان مواطنو يسوع يقولون ” أليس هذا هو إبن النجار ؟ أليست أُمه تسمى مريم….. ” (متى 55:13).
كانت عائلة يسوع شبيهة بسائر العائلات البشرية، إذ إن يسوع مثل سائر الصبيان ؛ ولد بين زوجين تربطهما محبة طاهرة، يحبان ولدهما محبة غامرة، فترعرع يسوع في جو المحبة العائلية ومحبة الله ومحبة القريب ؛ إن نجاح حياة كل وليد متعلقة بأجواء المحبة العائلية التي يولد فيها ويترعرع ويشب.
لم تكن حياة هذه العائلة خالية من الصعوبات، بل كانت تشبه سائر العائلات البشرية، تخللتها الصعوبات كولادة يسوع في ظروف إستثنائية واللجوء إلى مصر والعودة إلى الوطن وغيرها، ولكن في خضم هذه الصعوبات كلها كانت العائلة المقدسة مؤمنة بالله إيمانًا لا يتزعزع وتغمرها ثقة مطلقة بالعناية الربانية والطاعة البنوية لأوامر الرب.إن دعوة كل عائلة هي أن تكون صورة للعائلة المقدسة، تسودها فضائل الإيمان والرجاء والمحبة.
القديس يوسف مثال لكل أب
لنقترب الي القديس يوسف، مثال لكل أب –إن ما يسترعي إنتباهنا في حياة القديس يوسف
هو صمته العميق والمستمر طيلة فترة ظهوره على مسرح أحداث طفولة يسوع المسيح، لا نجد في الإنجيل عبارة واحدة قالها.
إن المواقف التي إتخذها يوسف ازاء أوامر الله، تعبّر بأسلوب بليغ عن سمو شخصيته. إن الإنجيلي متى والإنجيلي لوقا حينما يضعان شخصية القديس يوسف في قلب أحداث سر التجسد، يريدان أن يعبّرا عن موقف الكنيسة الناشئة، كان المسيحيون الأولون ينظرون إلى يوسف الرجل الأول في روحيته وفضائله وعليهم الإقتداء به.
ان الله الذي ألهم الإنجيل المقدس، يُطلق على يوسف صفة ” البار” قائلاً:” كان يوسف رجلها باراً” (متى 19:1)، إنها شهادة الله ذاته، فيا لها من شهادة خطيرة.
يطلق الكتاب المقدس صفة “البار” على الإنسان الذي همّه الوحيد إتمام مشيئة الله بدون تردد وفي الظروف كلها، خاصة أبّان الظروف الصعبة، منها حالما سمع مار يوسف رغبة الله من الملاك قائلاً:”لا تخف يا يوسف أن تأخذ مريـم… صنــع مــا أمـر بــه، فــأخــذ إمـرأتـه ولم يعـرفها حتى ولـدت إبنها البكـر… ” (متى 20:1-24).
وأستمر طائعًا لأوامر الله طيلة حياته، فحين أمره الملاك أن يغادر الأرض المقدسة ويهرب إلى مصر لإبعاد يسوع الطفل مـن الطاغية هيرودس قائلاً له : ” قم فخذ الطفل وأمه وأهرب إلى مصر وأقم هناك حتى أعلمك، لأن هيرودس سيبحث عن الطفل ليهلكه، قـام فـأخذ الطفـل وأمه ليـلاً ولجأ إلى مصر وأقام فيها إلى وفاة هيرودس ” (متى 13:2-14).
” وما أن توفي هيرودس حتى تراءى ملاك الرب في الحلم ليوسف في مصر وقال له : قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، فقد مات من كان يريد إهلاك الطفل فقام فأخذ الطفل وأمه ودخل أرض أسرائيل ” (متى 21:2).
يقدم القديس البابا يوحنا بولس الثاني القديس يوسف مثالاً لآباء العائلات كلهم، وذلك في
إرشاده الرسولي : حارس المخلص Redemptoris Custos التي أصدرها بتأريخ 15 اغسطس1989 قائلاً:” في (العائلة المقدسة) يوسف هو أب، لا تأتي أبوته من أصله، إنها ليست ظاهرة، ولكنها تتحلى تحليًا صادقًا بصفات الأبوة البشرية وتعبر عن دوره كأب العائلة”.
إن العذراء مريم التي تعرف أن يسوع حبل به من الروح القدس توجه كلامها ليسوع قائلة:”ها أنا وأبوك كنا نبحث عنك متلهفين ” (لوقا 48:2) ؛ يعلق البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته آنفة الذكر على هذه الآية قائلاً:”إن هذه الآية ليست عبارة مجاملة، إن ما تقوله أم يسوع يعبر عن حقيقة التجسد كلها، الذي يعود إلى عائلة الناصرة”.
لم يتظاهر يسوع بالتجسد، بل أصبح إنسانًا حقيقيًا مثل سائر الناس لذلك ” كان يسوع يتسامى بالحكمة والقامة والحظوة عند الله والناس ” (لوقا 52:2). أدّى يوسف دوره كمربٍ للصبي يسوع قام بمهمته بتوفير حاجاته المادية كالمأكل والملبس والمسكن ومهنة النجارة وتعلم الشريعة.
هكذا تقدم الكنيسة القديس يوسف مثالاً لكل أب عائلة، في تكميل إرادة الله في الظروف والأوقات كلها.
العذراء مريم مثال كل ربة بيت
تدعونا الكنيسة خلال هذه الأيام أن نتأمل مريم العذراء وهي تؤدي رسالتها كربة بيت. إن القليل الذي تذكره الأسفار المقدسة يكفي لكي يعطينا فكرة عن حبها لعائلتها، هذا الحب الذي كانت الأعمال كافة التي تقوم بها متحلية بها : صبرها، وداعتها، فرحها، وخاصة إندهاشها إزاء طفلها الإلهي المسجود له، لنستعرض الآيات المقدسة التي تساعدنا في اكتشاف دورها الرائد.
– ” ها أنا أمة الرب “ (لوقا 38:1) : إن عظمة مريـم تكمـن في كونها خادمـة الرب، الدور الذي قامت به، ليس فقط يوم البشارة، ولكن دومًا وفي مفردات حياتها كلها.
– ” إن القدير صنع إليّ أمورًا عظيمة ” (لوقا 49:1) : إن نشيد مريم ” تعظم نفسي الرب…. ” هو نشيد شكر، رفعته السيدة التي ستصبح أمًا. يجب على الزوجات، وعلى مثال مريم، أن يكتشفن أن الأمومة هي أمر رائع، وكل طفل يولد هو هدية من الله ؛ وأمام كل طفل يولد ليُرفع الشكر لله، شكرانًا شبيهًا بشكران مريم ” إن القدير صنع إليَّ أمورًا عظيمة “.
– ” لجأ يوسف إلى ناحية الجليل، وجاء مدينة يقال لها الناصرة، فسكن فيها، ليتم ما قيل على
لسان الأنبياء، إنه يدعى ناصريًا ” (متى 22:2-23) :
إن الناصرة في أيامنا هذه مدينة يبلغ عدد سكانها 30.000 نسمة، ولكن قبل ألفي سنة لم تكن
إلاّ ضيعة صغيرة، كما تظهر التنقيبات التي أُجريت فيها، رابضة بين تلال، تزينها أشجار
الزيتون وبساتين الكروم وحقول الحنطة، يزودها نبعُ ماء.
كانت مريم تقوم بواجباتها كربة عائلة فقيرة بكل تفان، كانت تذهب يوميًا إلى النبع لتنقل الماء
إلى بيتها، حاملة الجرّة على مثال سائر النسوة ؛ كانت تعد الطعام وخاصة الخبز بأساليب بدائية ؛ وزادت صعوباتها ومسؤولياتها عندما توفي القديس يوسف.
– ” هناك عند صليب يسوع، وقفت أمه ” : رافقت مريم إبنها في مراحل حياته التبشيرية كلها، وخاصة في ساعة موته على الصليب، بدون تشكٍّ ولا تذمّر، وذلك طاعة لله لأن دعوتها كانت أن ترافق إبنها وهو يكمل رسالته، فرافقته طيلة حياته الأرضية إلى الأخير.
” هذه أمك ” (يوحنا 27:19) : إن أمومة مريم تتعدى أمومتها البشرية، فلا تنحصر بيسوع، بل تشمل جميع البشر، تهتم بهم بكل حنان وتنزل عليهم غيث النعم السماوية، هذا ما ظهر خاصة خلال ظهوراتها في مدينتي لورد وفاطمة وغيرها ؛ إنها تواصل أمومتها نحونا.
يسوع مثال كل البنين
حياة العائلة المقدسة هي حياة عمل وصلاة. مريم تعمل في البيت ويوسف في النجارة. وينتقل يسوع بين الاثنين بعد أن يكون قد حفظ من الكتاب المقدس ما يلقنونه إياه في مجمع البلدة. علاوة على ذلك تسهر مريم على صحة ابنها وعلى تربيته وفقاً لقواعد السلوك والآداب ويعلمه يوسف وصايا الله ويشرح له معنى الأعياد والممارسات والتقوية التي نصّ عليها الكتاب. هذه الحياة في الناصرة يمكننا أن نسميها سنوات تربية يسوع. لقد اهتم به والداه ليجعلاه ينمو ويترعرع ويتسامى في الحكمة والقامة والحظوة عند الله والناس (لوقا 2\51-52). فيوسف ومريم هما مثال للوالدين في تربية أولادهم بروح الله. اما يسوع كان مثالا لأي ابن او ابنة ينشأ في بيت مسيحي يعرف الكتب منذ حداثته ومواظبا على الشريعة الإلهية والوصايا. فإذا امتلأ جو العائلة بالمحبة لله وللقريب، تشرّب الولد هذه الروح وتنشقها دون عناء وقدّرها حق قدرها واحترم
القيم التي يعيشها أهله أمامه فتكون لهعوناً ثميناً لينمو نمواً صحيحاً متكاملاً.
ويذكر الإنجيلي لوقا حادثتين هامتين جرتا ليسوع حينما بلغ الثانية عشرة من عمره : صعوده إلى هيكل أورشليم للإشتراك في مراسيم الفصح وبقاؤه في الهيكل بين العلماء دون علم العذراء مريم والقديس يوسف (لوقا 41:2-50)، والعودة إلى مدينة الناصرة ونمط حياته الأسرية في هذه القرية (لوقا 51:2-52).
“يسوع في هيكل أورشليم بين العلماء”:فلما بلغ إثنتي عشرة سنة، صعدوا إلى (أورشليم) جريًا على السنة في العيد، فلما انقضت أيام العيد ورجعا، بقي الصبي يسوع في أورشليم، من غير أن يعلم أبواه. وكانا يظنان أنه في القافلة، فسارا مسيرة يوم. ثم أَخذَا يبحثان عنه عند الأقارب والمعارف. فلما لم يجداه، رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه. فوجداه بعد ثلاثة أَيام في الهيكل، جالسًا بين المعلمين يستمع إليهم ويسألهم.
وكان جميع سامعيه معجبين أشد الإعجاب بذكائه وجواباته. فلمّا أَبصراه دُهشا، فقالت له أمه :
” يا بني لِمَ صنعتَ بنا ذلك ؟ فهوذا أبوك وانا كنا نبحث عنك متلهفين “. فقال لهما : ” ولمَ بحثتما عني ؟ ألم تعلما أَنه يجب عليَّ أن أكون عند أَبي ؟ فلم يَفهما ما قال لهما”.
إن بلوغ يسوع الثانية عشرة من عمره يعني بلوغه عمر النضوج الديني في التقليد اليهودي، يؤهله أن يصعد إلى أورشليم للإشتراك في مراسيم العيد ويصبح مسؤولاً لأداء الرسالة الإلهية الموكلة إليـه ؛ بهذا العمر بدأ النبي صموئيل يتنبأ (1 صموئيل 3)، وبهذه السن أصدر النبي دانيال حكمًا حكيمًا (دانيال 45:13-64).
يكشف الحديث الذي دار بين يسوع وبين ذويه ثلاثة أمور هامة جدًا : هويته البشرية، هويته الإلهية، رسالته الخلاصية :
إن قول العذراء : ” فأبوك وأنا كنا نبحث عنك ” يكشف هوية يسوع البشرية وانتسابه إلى العذراء
مريم وإلى القديس يوسف الذي هو بمثابة أبيه البشري حسب السجلات المدنية، فإنه إنسان كامل.
وقول يسوع ” ألم تعلما أنه يجب أن أكون عند أبي ؟ “، مشيرًا بذلك إلى كونه إبن الله الوحيد، فهو إله كامل. وسوف يستمر يسوع يستعمل عبارة ” أبي ” طيلة حياته الأرضية ليبيّن علاقته الفردية مع الآب السماوي، ” أحمدك أيها الآب… ” (متى 25:11)، ” أنا والآب الذي
أرسلني… ” (يوحنا 16:8).
إذن كان يسوع واعيًا لأصله الإلهي منذ هذه المرحلة، قوله ” عليّ أن أكون عند أبي ” هي أول كلمة نقلها الإنجيل المقدس عن فم يسوع.
– ” حياة يسوع في الناصرة ” ” ثم نزل معهما، وعاد إلى الناصرة، وكان طائعًا لهما، وكانت أمه تحفظ تلك الأمور كلها في قلبها، وكان يسوع يتسامى في الحكمة والقامة والحظوة عند الله والناس ” (لوقا 51:2-52).
أبدى يسوع كل الإحترام والطاعة للعذراء مريم وللقديس يوسف، بالرغم من أنه إبن الله المتجسد، فلقد صار إبنًا بشريًا حقيقيًا للأبوية الأرضية. كانت العذراء مريم والقديس يوسف يعرفان كيف يربيان يسوع ويعلمانه مهنة النجارة وسائر الأمور الأخرى.
كما أن كلمة يسوع:” ألم تعلما أنه يجب عليَّ أن أكون عند أبي ” تظهر بجلاء أن يسوع كان عالمًا وواعيًا بالرسالة الخلاصية التي أوكلها إياه الآب السماوي.
على الأولاد أن يأخذوا يسوع مثالاً لهم في تكميل واجباتهم الدينية، إذ يبين هذا النص أن الإحتفال بالمراسيم الفصحية وإقامة الصلاة في الهيكل وفي المجامع كانت مقدسة لدى يسوع، إذ كان مثابرًا على تكميلها. كذلك على الأولاد أن يأخذوا يسوع قدوة لهم بالطاعة للوالدين ومساعدتهم في البيت بالإنقياد إلى توجيهاتهم.
موت القديس يوسف
لا نعرف متى وكيف مات القديس يوسف، فالإنجيل لا يُطلعنا على هذه التفاصيل كما لا يأتي على ذكر موت القديسة العذراء ويُقال انه توفي قبل ان يبدأ يسوع حياته العامة إلا ان التاريخ الدقيق غير معروف علماً ان تسليم يسوع والدته الى عهدة القديس يوحنا، لدليل ان القديس يوسف توفي قبل موت يسوع..
ان الرأي الأغلب بين آباء الكنيسة ان القديس يوسف قد مات بين يدي يسوع ومريم قبل ان يبدأ
يسوع خدمته العلنيةوكان في سن الثلاثين وهذا الرأي يؤيده ان كتبة الأناجيل لم تذكر أي شيئ عن القديس يوسف ولم يأتي ذكره في عرس قانا الجليل (يوحنا 2) وأيضا عندما جاء يسوع الي الناصرة قال اليهود “اليس هذا هو ابن النجار” وهذا يعني ان اليهود كانت ذاكرتهم عن القديس يوسف مازالت حية وهذا يعني انه لم يمت منذ مدة طويلة. وهناك رأي بأن القديس يوسف مات وكان يسوع في سن ال 17 سنة وهو الذي كان يعمل في حانوت الناصرة ليعول والدته القديسة مريم، ولكن هذا الرأي لم يتفق عليه علماء الكتاب المقدس.
يذكر الـمرنم “ عَزِيزٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَوْتُ أَتْقِيَائِهِ.“(مزمور15:116) بعد ان خدم القديس
يوسف يسوع ومريم بأمانة ووصل الي نهاية حياته في بيته بالناصرة. فيكون موت القديس
يوسف هو اكرم جداً بسبب مقامه السامي. لقد مات يعقوب بن اسحق بفرح القلب بعدما رأى وجه ابنه يوسف “فقال إسرائيل ليوسف دعنى اموت الآن بعدما رأيت وجهك لأنّك بعد باقِ”(تك30:46)، وسمعان الشيخ قد مات بعد ان حمل على ذراعيه مخلص العالم”الآن تُطلق عبدك ايها الرب على حسب قولك بسلام.فإن عيني قد ابصرتا خلاصك”(لو29:2).
فما كان أشد فرح قلب القديس يوسف فى الساعات الأخيرة من حياتـه فها هو يسوع قدوس الله
عن يمينه ومريم عروسه على يساره وهما ينظران اليه ويشكرانه على ما تحمله من شتى الأتعاب والأحزان لأجلهما ويقدمان له كلمات العزاء والرجاء المبارك والتسليم المطلق ففاضت روح القديس يوسف بهدوء بين ايدي يسوع ومريم. القديس يوسف مات بين يدَي ابنه. فأخذ يسوع يوسف بين ذراعَيه ووضع رأسه على صدره فيا لها من ميتةٍ عذبة ويا لها من فرحة لا تقدر بثمن ومن محبةٍ متقدة!فكانت ذراعَي يسوع التي احتضنت والده في لحظات حياته الأخيرة أكبر كنز وأكبر نعمة. فهو الذي التجأ الى ذراعَي والده مرات ومرات وهو صغير، يُبادل والده بلفتة كلها محبة وعطا،.
وهذا إنعام كبير جعله شفيع الميتة الصالحة فلقد كان موته فى حضور يسوع ومريم وهو موت يرجوه كل مسيحي.
أمـّا متى مات القديس يوسف؟، فغير معلوم تـماما لكن من الـمؤكد انه قد مات قبل ان يـبدأ يسوع
خدمته العَلَنية وهو فى سن الثلاثين”ولـما إبتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة”(لوقا33:3)، ولـم تذكر الأناجيل اي شيئ عنـه بدءاً من أول معجزة صنعها يسوع فى عرس قانا الجليل، ولهذ فقد تكون وفاتـه عن عمر ما بين خمسون الى خمسة وخمسون عامـا.
وذكرت الكتب الـمنحولة الغير قانونيـة ان القديس يوسف قد مات عن سن 111 عاما وذلك فى يوم 20 يوليو عام 18 او 19م، والقديس ابيفانوس اعطى له عمر 90 عاما عندما مات، وهذا كما سبق وان تبين غير مقبول منطقيـاً ولقد قيل ايضا انه قد دُفن فى وادى يهوشافاط، ولكن من المحتمل انه مات ودفن فى الناصرة حيث عاش.
لقد بدأ يسوع خِدمتـه العَلنيـة بعد رحيل القديس يوسف وكان هذا ضمن تدبير الله حتى يـمكن
للسيد الـمسيح أن يعلن جهارة عن محبة الآب السماوي للبشر فلا يتشكك السامعون من أنـه يتكلم عن يوسف أبـيه فى كل مرة يتكلم عن أبيـه كقولـه:”أنا الكرمـة وأبـي الحارِث” (يوحنا1:15)، أو “كما أحبني الآب هكذا أحببتكم”(يوحنا9:15). لقد اعتقد البعض ولهم أسبابهم من ان القديس يوسف كان ضمن القديسين الذين قاموا من الأموات عند موت السيد الـمسيح حيث يُذكر ان “القبور تفتحت وقام كثير من اجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور من بعد قيامته وأتوا الى الـمدينة المقدسة وترآءوا لكثيـرين” (متى52:27-53). ويقول القديس برناردينوس السينائي انه كما عاش يسوع ومريم ويوسف متحدين معا على الأرض متحمّلين نفس الآلام والـمتاعب فلا شك انهم متحدين الآن فى السماء.
بدء حياة يسوع العلنية
لم يذكر الإنجيل عن حياة يسوع قبل بدء خدمته سوى قصة زيارته للهيكل في سن الثانية عشرة. جاء انه قبل بدء يسوع حياتـه العلنيـة “كان لـه نحو ثلاثين سنة”(لوقا23:3)، وهو السن الذي يدخل فيه الاحبار الى خدمتهم، وقد قضى حياته السابقة في الناصرة (متى 2: 23)، وفيها نشأ يسوع وترعرع (لوقا 4: 16) وصرف القسم الأكبر من حياته فيها ولذلك لُقِّب يسوع الناصري نسبة إليها (متى 21: 11) ايضا دعى بالنجار (مرقس 6:3) وبابن النجار (نتى55:13). افتتحت حياة يسوع العلنية بالمعمودية التي تلقاها من يوحنا المعمدان في الاردن. كان يوحنا يكرز “بمعمودية توبة لمغفرة الخطايا” (لوقا 3:3). “حينئذ ظهر يسوع”. فيتردد المعمدان. ويلح يسوع: فينال المعمودية؛ واذا الروح القدس ينزل بشكل حمامة ويحل عليه؛ واذا صوت من السماوات يقول:” هذا ابني الحبيب” (متى 3: 13-17). انه “ظهور” يسوع ليعلن انه تقبل عمله كماسيا اسرائيل وابن الله والمخلص. وبعد هذا أقتيد يسوع إلـى البريـّة حيث صام أربعين يوما (لوقا1:4-13)، وجرب من ابليس ثلاث مرات وانتصر يسوع عليه (متى1:4-11 و مرقس12:1-13 ولوقا1:4-13)، وقد رأى بعض المفسرين في ذكر التجربة في بدء خدمة يسوع الجهارية مقابلة بينها وبين قصة السقوط كما جاءت في سفر التكوين (3) وكيف ان آدم الأول سقط وكيف ان يسوع آدم الثاني خرج منتصرا.
ثم عاد يسوع الى الجليل، وبدأ خدمتة فدعا تلاميذه الأولين (يوحنا35:1-51)، ثم اختار بعد
ذلك اثني عشر ليكونوا من تلاميذه المقربين (لوقا12:6-16).
قانا الجليل
“وفي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ. وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ». وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ، لكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا، دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلًا، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ!».هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُه(يوحنا1:2-11).
اذا ما فرغت المرطبات في حفلة او ليس لديك ما يكفي لتقديمه، فقد تصبح في هذه الأيام لحظة حرجة لصاحب الحفل، ولكن نفاذ النبيذ في حفل زواج يهودي خاصة في أيام المسيح يعتبر كارثة اجتماعية اذ يمكن ان يحطم سمعة عائلة لسنوات قادمة. طبقا للعادات في ذاك الوقت في حفل زفاف يهودي في القرن الأول الميلادي لم يكن احتفال عائلي خاص فقط ولكنه حدث عام فيه يتم التعرف على إتحاد العروس بالعريس وكذلك ارتباط العائلاتان. يأخذ الإحتفال عادة مكانه في منزل العريس والذي يكون مفتوح للضيوف لعدة أيام وبهذا يكون عرضة للتدقيق العام والحكم على أهل العريس وسخاؤهم. انها مسؤولية أهل العريس للتأكد من توافر الطعام والشراب وكفايته لكل من يأت. ولتحقيق هذا الحدث الاجتماعي واستكماله بما يليق، فمعظم العائلات تحتاج ان لا تطلب مساعدة من افراد العائلة فقط بل أيضا من مصادر أخرى كالأصدقاء والجيران والمعارف حتى يتركون انطباعا جيدا في قلوب المدعوون ويحوزوا قبولهم بكل فرح وفخر. ان نفاذ النبيذ كما قلنا في حفل زفاف سيصبح إهانة لعائلة العريس وإشارة تدل على انهم غير قادرين على الإيفاء بمسؤولياتهم كمضيفين بصورة مناسبة وأيضا عن عجزهم عن التواصل الاجتماعي لحفظ كرامتهم ومكانتهم الاجتماعية امام الضيوف وعائلة العروس.
ان هذا التحدي الاجتماعي يلقي بظلاله ولكن بصورة خفيفة في الأزمة التي ستواجه في عرس قانا الجليل العروس والعريس، ولكن تعطينا أيضا بعض الضوء على دور مريم في ذلك المشهد. ان مريم كانت اول من لاحظ الكارثة المنتظرة، هي وحدها كانت مدركة لما سينكشف واحضرت هذه الأزمة لشخص واحد والذي يمكنه ان يحلّ تلك المشكلة، الا وهو ابنها يسوع.
ان التقليد الكنسي الكاثوليكي قد رأى في ذلك المشهد محبة مريم وإنتباهها الشديد لإحتياجات
الآخرين. في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني Lumen Gentium وصفت مريم في عرس قانا الجليل انها قد “تحركت بشفقة”، والقديس البابا يوحنا بولس الثاني قال ان مريم قد “تحركت بقلبها الرحيم” لتساعد تلك الأسرة بأن تحضر اهتمامها من اجلهم لعناية إبنها يسوع، فلقد استشعرت خيبة الأمل التي ستصيب الزوجان الحديثي الزواج من نقص النبيذ واقترحت القديسة مريم في محبة على ابنها يسوع ان يتدخل بقوته المسيانية. لقد رأت الكنيسة الكاثوليكية في هذا النص من انجيل يوحنا مظهر من شفاعة القديسة مريم. كما لاحظت مريم احتياجات الأسرة في قانا قبل ان يلاحظها أي شخص آخر، فهكذا مريم في السماء تستمر في ان تلاحظ احتياجاتنا قبلنا. وكما فعلت مريم في قانا واحضرت تلك الإحتياجات الي المسيح فهي حتى الآن تستمر ان تحضر جميع احتياجاتنا لإبنها من خلال شفاعتها من أجلنا. ان القديس البابا يوحنا بولس الثاني يصف تدخل القديسة مريم بأن ذلك الإحتياج الصغير “ليس لديهم خمر” ولكنه له دلالة
قيمة انها تأتي دائما لمساعدة الجنس البشري في احتياجاتهم وفي نفس الوقت تحضرها امام قوة
ابنها الخلاصية ومحبته الأبدية نحونا وعنايته الدائمة بإحتياجاتنا ومعاناتنا.
ان مقولة مريم ليسوع:” «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ»(يوحنا3:2) يظهر أيضا ايمانها العظيم. ان يسوع ببساطة ضيف في حفلة العُرس ولم يكن مسؤلا عن ذلك الإحتفال وليس لديه مكان لتخزين النبيذ، لذلك ومن الوجهة البشرية لم يكن يسوع هو الشخص الذي يمكن طلب المساعدة منه. ان الأختيار الطبيعي سيكون طلب المساعدة من الخادم المسؤول عن العُرس وكذلك الخدام او عائلة العريس او العروس. مهما كان الأمر كان لغريزة مريم ان تتجه ليسوع في ذلك المأزق وتقول له:” «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». انها تؤمن ان يسوع يمكنه ان يفعل شيئا في هذا وتترحى انه سيعمل نوع ما من عمل غير عادي لتجنب تلك الكارثة.
ما الذي يجعل إيمان مريم في يسوع يظهر بهذه الصورة هو في الحقيقة انه حتى تلك اللحظة
كما أشار الأنجيل انه لم يصنع اية آية أمام الجموع. انها مازالت مؤمنة في قوة ابنها الفوق الطبيعة وتؤمن انه قادر على المساعدة. بهذه الطريقة توقعت الأيمان الكبير الذي سيتكلم عنه يسوع لتوما الرسول “طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا»(يوحنا29:20). ولقد علّق احد مفسري الكتاب المقدس قائلا:” ان كلمات الرب يسوع لتوما تنطبق تماما على اقتراب مريم في عُرس قانا الجليل فهي لم ترى معجزة ولكنها آمنت”، والبابا يوحنا بولس الثاني علّق بنفس المعنى قائلا:” ان مريم هنا انطلقت بإيمان الرسل الذين سيأتوا ليؤمنوا بيسوع فقط بعد ان يشهدوا معجزة تحويل الماء الي خمر”هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ”(يوحنا11:2). مريم من ناحية أخرى آمنت بقوة ابنها الفوق الطبيعة قبل ان تراها منفذة.
“وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»(يوحنا3:2-5).
بعد ذلك نأتي الى اكبرتوتر محيّر وُجه الي مريم جاء ذكره في الأنجيل، فبعد ان قالت مريم
ليسوع “ليس لهم خمر”، اجابها يسوع قائلا: “ما لي ولكِ يا امرأة لم تأت ساعتي بعد” (يوحنا4:2). من اول وهلة تبدو تلك الكلمات من يسوع قاسية-كما لو ان يسوع يدفع امه بعيدا. تخيل في عالم هذا القرن الـ 21 ام تدعو ابنها على مائدة العشاء والإبن يجيب:” «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». من منظور عالمنا الحديث فتلك الكلمات تشابه الي حد كبير كلمات متوقعة من ابن مراهق متهور وليست كلمات من ابن الله القدوس. ولكن اذا اعتبرنا ما الذي يقوله يسوع على ضوء الثقافة اليهودية القديمة ومن سياق ارحب لحفل عُرس في قانا هناك اربع حقائق تلتقي تجعل الأمر واضح كلية من ان تلك الكلمات لا تعكس معارضة عدوانية بين يسوع ومريم ولكن بدلا من ذلك شيئ إيجابي وفي الحقيقة شيئ جميل عن علاقتهما معا.
أولا، في انجيل يوحنا استعمل يسوع لقب “امرأة” ليوجهه بأدب نحو نساء لهن مكانة إيجابية معهن، وهذا يمكن مشاهدته مثلا عندما ظهر يسوع لمريم المجدلية في صباح احد القيامة:” قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟»(يوحنا15:20)، وعندما غفر يسوع الخطايا لإمراة قد أمسكت في زنا”قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟»(يوحنا10:8)، وعندما وجه المرأة السامرية للإيمان بالمسيّا قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ”(يوحنا21:4).
اذا ما اعتبرنا تلك الطريقة الإيجابية التي يدعو فيها يسوع والتي تظهر في انجيل يوحنا فدعوة يسوع لمريم “امرأة” لا تشير الى نقص في الإحترام او تقليل الشأن.
ثانيا، في الزمن الأنجيلي يمكن للرجل ان يوجه لأنثى لقب “امرأة”، ولكن لا يوجد في أي موقع في العالم اليوناني-الروماني القديم او في اسرئيل القديمة نجد مثال لإبن يوجه لأمه بهذا اللقب. يسوع يوجه لأمه ويناديها “امرأة” يبدو فريدا بكل هذا الغموض، ولكن هذا يمكن ان يقترح بأن يسوع له غرض خاص في فكره عندما ناد امه ب”أمرأة”- غرض يكون ابعد عن طريقة عادية متواضعة يوجهها لنسوة آخرين. عندما يطبق هذا على مريم هذا اللقب “امرأة” على الأرجح له
بعض الأهمية وله معنى رمزي.
ثالثا، لنضع في الإعتبار كيف ان مريم قد فسّرت كلمات يسوع، فهل هي ابتعدت من المشهد شاعرة بالحزن او الأذى او بالرفض بأي طريقة؟ لا ولكن كان العكس فلقد سمعت كلمات يسوع وعلى الفور قالت للخدام :”مهما قال لكم فافعلوه”(يوحنا5:2). ان مريم قد فسّرت رد المسيح بطريقة إيجابية وبإيمان كله ثقة ان يسوع سيحقق طلبها وقالت للخدام ان يكونوا مستعدين ان
يفعلوا مهما ما يأمر به ابنها.
أخيرا، ان الإجراءات اللاحقة التي هي تبدو في صالح طلب مريم وليس فقط ان يسوع قام بالعمل ولكنه اعد كميات كبيرة من النبيذ اكثر مما طلبته أمه منه او أي شخص في العُرس يمكن تصوره. كل من الأجران الستة والمستخدمة في التطهير (يوحنا6:2) ستحمل حوالي 15-24 جالون من الماء، وهكذا عندما سأل يسوع ان تملأ تلك الأجران بالماء ثم يتحول كل هذا الماء الي نبيذ فهو بهذا قد وفّر حوالي 120 جالون من النبيذ لحفل الزواج. اذا ما كان ذلك النبيذ الرائع والأكثر وفرة يعني شيئ فهو قد يعني للبعض رقض لطلب مريم فمن الصعب ان نتخيل ماذا يعني الإنجاز اذا لم يكن تحقيق الطلب وبأكثر مما قد تم طلبه. بعيدا عن رفض الطلب لمريم فإن إجابة يسوع بطريقة فاقت كل التوقعات.
لذلك مهما كانت كلمات يسوع من ان يلقب أمه ب”امرأة” ويحيبها قائلا بما معناه:”مالذي تنوى عمله معي”، فهي لا تنطوي على تواصل سلبي ما بين يسوع وأمه. ولكن بدلا من هذا فيسوع قد لقّب أمه يكشف انها اهم امرأة في تاريخ الخلاص، فدعونا الآن نعتبر هذا اللقب “امرأة” على ضوء مقدمة انجيل يوحنا:” فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ” (يوحنا1:1-5).
كثير من الصور المستخدمة في تلك الإقتتاحية من انجيل يوحنا تستعيد قصة الخلق كما جاءت
في سفر التكوين، لقد بدأ يوحنا انجيله بكلمات “في البدء” حيث كرر بداية اول خط في الكتاب المقدس:” فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ”(تكوين1:1). الاصحاح الأول من انجيل يوحنا يستمر في هذا النهج من الخلق في الآيات الأربع التالية والتي تتحدث عن “النور” و “الحياة” و “الخلق” وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ. مرة أخرى اخذت تلك الصور من قصة سفر التكوين عن الخلق في الإصحاح الأول من سفر التكوين(يوحنا 2:1-5) ويرسم يوحنا ويقدم لنا يسوع مقارنا بقصة الخلقة وملقيا الضوء على كيف ان يسوع قد أتى ليجدد كل الخليقة.
بعض مفسروا الكتاب المقدس لاحظوا كيف ان انجيل يوحنا استمر في منهج الخلقة وذلك بوضع سلسلة من الأيام والتي تعكس تأسيس أسبوع خلقة جديد. بعد الجملة الأولى “في البدء” رمز اليوم الثاني في يوحنا 29:1 بكلمات “في اليوم التالي، وبعد ذلك استعمل نفس الجملة ليشير الى اليوم الثالث في يوحنا 35:1 و “في اليوم التالي” واليوم الرابع كما جاء في يوحنا 43:1. وفي النهاية بعد تلك الأيام الأربعة جاء بقصة عُرس قانا كمقدمة اخذت مكانها بعد ثلاثة أيام”””وفي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ”(يوحنا1:2). اليوم الثالث ما بعد الأيام الأربعة سوف يمثل اليوم السابع في انجيل يوحنا وتبعا لذلك اخذ عرس قانا مكانه في مناخ أسبوع الخلق الجديد وفي اليوم السابع.
بإلقاء الضوء ان عُرس قانا اخذ مكانه في اليوم السابع من أسبوع الخلق الجديد يقودنا انجيل
يوحنا لأن نرى يسوع ومريم في نور قصة الخليقة وفي ذلك المضمون عندما يدعو يسوع مريم ب “امرأة” ومع خلفية قصة الخليقة فهذا اللقب يحضر لنا “امرأة” سفر التكوين :” فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ» (تكوين23:2) و”وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ”(تكوين20:3).
هذه المرأة قد لعبت جزء هام في النبؤة الأولى التي أعطيت للبشرية فبعد السقوط واجه الله الحيّة وأعلن هزيمته في النهاية بقوله:” وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ»(تكوين15:3). هذا الإعلان والمعروف protoevangelium أي اول بشارة تعلن لنا ان امرأة ذات يوم سيكون لها نسل، إبن، وهو الذي سيسحق رأس الحيّة. أجيال وأجيال مرت وجاء عرس قانا ويسوع أشار لتلك النبؤة بدعوة مريم ب”امرأة” مع قصة الخلقة في ذاكرتنا. ان يسوع في سرد انجيل يوحنا يربط مريم مع امرأة سفر التكوين (15:3)، وبعيدا عن رفض أمه او ابعاد نفسه عنها فيسوع بدعوة مريم ب “امرأة” يكرمها بطريقة لم يسبق من قبل ان أي امرأة قد كرّمت من قبلها، فهي حواء الجديدة المرأة التي ابنها المنتظر منذ أجيال
سيهزم الشر ويتمم نبؤة سفر التكوين.
مع الخلفية في فكرنا عن امرأة سفر التكوين نحن الأن على استعداد ان نفهم كل كلمات يسوع والتي تبدو متقلبة لمريم في عُرس قانا:” «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»(يوحنا4:2). هناك 3 جوانب في كلمات يسوع تحتاج ان نفهما – “الساعة”- السؤال “ما لي ولك”- و”امرأة”.
أولا تكلم يسوع عن شيئ غامض “الساعة” وبالأخص “ساعته” هو وقال انها لم تأت بعد. ان
“ساعة” يسوع في انجيل يوحنا تعود الى الوقت المحدد من الأب ليسوع لإتمام رسالته وهي تشير
في النهاية الى قمة خدمته الجمهورية -آلامه وموته- عندما يتمجد وعندما ينهزم الشرير وعندما يجمع يسوع كل البشر اليه:” «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ. اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ؟. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ!». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضًا!». فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفًا وَسَمِعَ، قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ!». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ مَلاَكٌ!».أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هذَا الصَّوْتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ. اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ».قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ”(يوحنا23:12-33) و “أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى”(يوحنا1:13) و “تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا”(يوحنا1:17).
في قانا ربط يسوع طلب مريم أمه للخمر مع تلك الساعة التي تعني بدء آلامه وتعجب كيف ان أمه تطلب منه ذلك الطلب حيث ان ساعته لم تأت بعد وخدمته الجهورية لم تكن قد بدأت هي الأخرى بعد.
ثانيا، ان التعبير “مالي ولكِ” يمكن ان يُفهم او يترجم ماذا يكون هذا بالنسبة لي وبالنسبة لكِ.
في العهد القديم يشير هذا التعبير الي نوع من العدواة والخصام او الصراع او الرفض كما جاء مثلا في: “فَأَرْسَلَ يَفْتَاحُ رُسُلًا إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ يَقُولُ: «مَا لِي وَلَكَ أَنَّكَ أَتَيْتَ إِلَيَّ لِلْمُحَارَبَةِ فِي أَرْضِي؟»(قضاة12:11 و “فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا يَقُولُ: «مَا لِي وَلَكَ يَا مَلِكَ يَهُوذَا! لَسْتُ عَلَيْكَ أَنْتَ الْيَوْمَ، وَلكِنْ عَلَى بَيْتِ حَرْبِي، وَاللهُ أَمَرَ بِإِسْرَاعِي. فَكُفَّ عَنِ اللهِ الَّذِي مَعِي فَلاَ يُهْلِكَكَ»(“2أخبار21:35) و “فَقَالَتْ لإِيلِيَّا: «مَا لِي وَلَكَ يَا رَجُلَ اللهِ! هَلْ جِئْتَ إِلَيَّ لِتَذْكِيرِ إِثْمِي وَإِمَاتَةِ ابْنِي؟»(1ملوك18:17). وفي زمن آخر فكانت تعبر عن قلة في التعاون او فرق في الفهم ما بين شخصان- النظر نحو الشيئ بطريقة مختلفة- ولكن بدون أي عداوة كما جاء في: “َقَالَ أَلِيشَعُ لِمَلِكِ إِسْرَائِيلَ: «مَا لِي وَلَكَ! اذْهَبْ إِلَى أَنْبِيَاءِ أَبِيكَ وَإِلَى أَنْبِيَاءِ أُمِّكَ». فَقَالَ لَهُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ: «كَلاَّ. لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَعَا هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةَ الْمُلُوكِ لِيَدْفَعَهُمْ إِلَى يَدِ مُوآبَ»(2ملوك13:3) و”يَقُولُ أَفْرَايِمُ: مَا لِي أَيْضًا وَلِلأَصْنَامِ؟ أَنَا قَدْ أَجَبْتُ فَأُلاَحِظُهُ. أَنَا كَسَرْوَةٍ خَضْرَاءَ. مِنْ قِبَلِي يُوجَدُ ثَمَرُكِ»(هوشع8:14). ان ظل ذلك المعنى يعتمد على المحتوى فما استعمله يسوع في التعبير كما جاء في يوحنا4:2 يتماشى مع سياق المعنى الثاني حيث ان الصدام او الخلاف لا يتفق مع الطريقة التي جاءت في الأنجيل الرابع والذي يقدم فيه علاقة يسوع ومريم في قانا. في قانا سألت مريم يسوع في بساطة ان يفعل شيئا نحو نقص النبيذ في عرس قانا بقولها:”ليس لديهم خمر” ان يسوع أشار انه و مريم ينظران لهذا الطلب للخمر بنظرات مختلفة.
في التقليد اليهودي الخمر رمز قوي مرتبط بالحكمة كما جاء:” اَلْحِكْمَةُ بَنَتْ بَيْتَهَا. نَحَتَتْ أَعْمِدَتَهَا السَّبْعَةَ.ذَبَحَتْ ذَبْحَهَا. مَزَجَتْ خَمْرَهَا. أَيْضًا رَتَّبَتْ مَائِدَتَهَا. أَرْسَلَتْ جَوَارِيَهَا تُنَادِي عَلَى ظُهُورِ أَعَالِي الْمَدِينَةِ: «مَنْ هُوَ جَاهِلٌ فَلِيَمِلْ إِلَى هُنَا». وَالنَّاقِصُ الْفَهْمِ قَالَتْ لَهُ: «هَلُمُّوا كُلُوا مِنْ طَعَامِي، وَاشْرَبُوا مِنَ الْخَمْرِ الَّتِي مَزَجْتُهَا”(امثال1:9-5) ومرتبط بالشريعة ومع حفلات الزواج:” لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ. لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ، لِذلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى. اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ. أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِكَ. نَذْكُرُ حُبَّكَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ. بِالْحَقِّ يُحِبُّونَكَ”(نشيد الانشاد2:1-4) و”مَا أَحْسَنَ حُبَّكِ يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ! كَمْ مَحَبَّتُكِ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ! وَكَمْ رَائِحَةُ أَدْهَانِكِ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْيَابِ!(نشيد الانشاد10:4). ولكن الأكثر وضوحا في ذلك المنظر ان الخمر مرتبط بالفرح في العهد المسياني فالنبي اشعيا مثلا رأى كل الشعوب مجتمعة على جبل الرب في عيد عظيم يرتون من الخمر عندما يأتي الله ليخلصهم:” وَيَصْنَعُ رَبُّ الْجُنُودِ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ فِي هذَا الْجَبَلِ وَلِيمَةَ سَمَائِنَ، وَلِيمَةَ خَمْرٍ عَلَى دَرْدِيّ، سَمَائِنَ مُمِخَّةٍ، دَرْدِيّ مُصَفًّى. وَيُفْنِي فِي هذَا الْجَبَلِ وَجْهَ النِّقَابِ. النِّقَابِ الَّذِي عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ، وَالْغِطَاءَ الْمُغَطَّى بِهِ عَلَى كُلِّ الأُمَمِ. يَبْلَعُ الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ، وَيَمْسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّمُوعَ عَنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَيَنْزِعُ عَارَ شَعْبِهِ عَنْ كُلِّ الأَرْضِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلَّمَ. وَيُقَالُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: «هُوَذَا هذَا إِلهُنَا. انْتَظَرْنَاهُ فَخَلَّصَنَا. هذَا هُوَ الرَّبُّ انْتَظَرْنَاهُ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِخَلاَصِهِ»(اشعيا6:25-9). وعاموس النبي بالمثل تنبأ ان الله ينقذ مملكة داود ويعيدها:” هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، يُدْرِكُ الْحَارِثُ الْحَاصِدَ، وَدَائِسُ الْعِنَبِ بَاذِرَ الزَّرْعِ، وَتَقْطُرُ الْجِبَالُ عَصِيرًا، وَتَسِيلُ جَمِيعُ التِّلاَل، وَأَرُدُّ سَبْيَ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ فَيَبْنُونَ مُدُنًا خَرِبَةً وَيَسْكُنُونَ، وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا وَيَشْرَبُونَ خَمْرَهَا، وَيَصْنَعُونَ جَنَّاتٍ وَيَأْكُلُونَ أَثْمَارَهَا” (عاموس13:9-14).
هكذا عندما سأل يسوع مريم قائلا: ” مالي ولكِ” هو عبارة عن انه يقول لها:” ما هذا الخمر
بالنسبة لي وبالنسبة لكِ”. ان الخمر بالنسبة الي مريم والذي تطلبه هو ببساطة مشروب احتفالي سيساعد العائلات المسؤولة عن العُرس يحتفظون بالتقليد والعادات عند الإحتفال بالزواج. ولكن يرى يسوع انه لأجل ان يقدم هذا الخمر فانه يحتاج ان يقوم بتأدية معجزة ستكشف عن مجده وتطلق بدء رسالته وخدمته المسيانية الجهورية وان هذا يعني انه سيبدأ سيره نحو ساعة آلامه. وهكذا من وجهة نظر يسوع فان مريم تسأل اكثر مما مجرد تزويد الحفل بالشراب. ان الخمر التي تطلبه هو في الحقيقة الخمر المسياني- الخمر الرمزي الذي تنبأ عنه الأنبياء والمصحوب بمجيئ العصر المسياني. ولهذا نرى ان يسوع ربط طلب مريم لذلك الخمر بساعته-الساعة التي تأتي بآلامه، فهل مريم على استعداد لتلك الساعة لتأتي؟
كل هذا القى بظلال إضافية لماذا في تلك اللحظة ربط يسوع مريم ب “امرأة” سفر التكوين (تكوين15:3)، فإذا قام يسوع بتلك المعجزة فسيبدأ رسالته المسيانية وبهذا يبدأ السير نحو ساعته، واذا ما فعل هذا فإن مريم يقترض ان تبدأ دور جديد وليس فقط ان تكون “ام يسوع” بل سبصبح “امرأة”- المرأة التي تنبأ عنها سفر التكوين- أي بكلمات أخرى المرأة التي سيكون ابنها من سيحطم الشرير.
ضع نفسك في موقف مريم ففي البداية كانت ببساطة تحاول ان تساعد بأخبار عن نقص الخمر في حفل العُرس – وليس لحل كل مشاكل العالم؟ فذهبت الي يسوع بطلب أساسي عن الخمر وابتعدت بعد ذلك بعد ان وُجهت بأشياء اكثر ثقلا تضمنت رسالة ابنها المسيانية والإنتصار على الشرير وحل مشكلة خلاص البشرية من الخطيئة. ولكن هناك اكثر من ذلك، ففي ثلاثون عاما حملت مريم ثفل نبؤة سمعان الشيخ فهي تعلم انه في يوم ما عندما يبدأ ابنها رسالته سوف لا يفهمونه ويرفضونه ويعارضونه. وهي أيضا تعلم ان ابنها سيكون «هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ(لوقا34:2)، وفي النهاية سيقتل وحربة ستنغرس فيه.
في حفل بهيج ومناسبة فرح تسأل مريم ببساطة يسوع لبعض من الخمر، فإذا انتبه يسوع لطلب مريم قسوف يحتاج ان يصنع معجزة والتي ستبدأ مسيرة رسالته الجهورية- وان ذلك يعني بدء تحرك يسوع نحو ساعته للموت. ان ساعة نبؤة سمعان الشيخ تبدو انها ستبدأ، فهل هذا ما
تريده مريم في الحقيقة؟
اذا ما كنا والدان تم مواجهتهما بمثل ذلك الإختيار فالكثير منا سيتراجع ويقول ” لقد فكرت مرة أخرى يا يسوع وهذا يعني انك لست في احتياج ان تحضر خمر ودعهم هم يتصرفون”. ولكن مريم لم تفكر نحو ابنها مثل ذلك التفكير وياترى ما الذي لفت نظرها مما قاله يسوع واجابته العجيبة لها؟ ان انجيل يوحنا لم يعطينا ان مريم قد أدركت ما قد يعنيه يسوع ولكن بطريقة عجيبة كانت كلمات ابنها لها هو نوع من الثقة انه سينفذ ما طلبته ولم تظهر مريم أي علامات التردد فلقد تعلمت عندما كان يسوع في سن الاثناعشر سنة وفقد في الهيكل ان يسوع يجب ان يكون في بيت أبيه منفذا كل ما هو للأب حتى ولو هذا يعني الفراق عنها او المعاناة لها. لذلك ففي قانا استمرت مريم تقول “نعم” لمشيئة الله وان تستسلم لخطة الله الأب ليسوع وهي لم تبتعد عن دعوة الله لها. مريم كخادمة للرب تقول للخدام في العُرس ” «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»(يوحنا5:2) وأطاع الخدام وتمت الآية وبدأت رسالة يسوع الجهورية، وهكذا ساعدت مريم في وضع بدء مسيرة يسوع والأحداث التي ستقود رحلة ابنها نحو الجلجثة حيث سيموت من اجل خطايانا.
ان آية قانا الجليل حيث لم يرفض لها يسوع طلباً بل قدم ساعة مـجده لما عرضت عليه مريم حاجة الناس وحيرتهم (يوحنا4:2).
قصة عرس قانا الجليل تُلقي ضوءاً على علاقة العذراء مريم بالـمسيح الرب من جهة إمكا
نية تشفعها عن الأخرين ومدى استجابة الرب لشفاعتها.
والكنيسة تؤمن ان عرس قانا لايزال قائما والضيف الإلهي كما كان بالأمس هو هو قائم اليوم
وإلى الأبد، والبشرية هى بعينها عاجزة وقد افرغت خمرها وفى أشد الحاجة الى العون الروحي
والحكمة التى تسلك بها فى ظلمة هذا العالم، وأجران التطهير فارغة ومنسية لفشل الإنسان فى السلوك حسب الناموس والوصايا، والقلوب جافة ومتلهفة وهنا كل العيون تنظر الى الأم فى توسل لكي تنقل كلمة البشرية الى آذان الضيف الإلهي لكى يرحم ضعف البشرية، لا كأنه غافل عن الـمحبة ولا كأنه لا يسمع ولا يرى ولا كأنه كان يريد ان يسمع السؤال واضحاً. ان الرب مشتاق ان تصل الى اذنه كلمة واثقة تعبر عن حاجة الناس، ولكن من شفاه مؤمنة بقدرته السرمدية، وهو يريد قلباً يطلب منه بدالة، دالة البنوة الكاملة أو دالة الأمومة الواثقة. حينما تقدمت العذراء اليه بالسؤال”ليس لهم خمر” (يوحنا 3:2) كانت شفيعة العرس كله وكل الـمتكئين والعالـم، ولا تزال هى الشفيع لـمن ليس لهم عون. إنها لا تلح بالسؤال كمن يتضرع الى إلـه قاس ولكنها بدالة شديدة تضم توسلها الى رحمته وترفع سؤالها بالثقة حتى يـبلغ إلى إستجابة الرب الوديعة.
كـما نرنّم فـى القداس الباسيلي: “ليس لنا دالة عند ربنا يسوع المسيح سوى طلباتك يا سيدتنا كلنا
والدة الإله”.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: “هنا بدء الكشف عن مفهوم “المجد” في هذا السفر، وهو: “الحضرة الإلهية”. اللَّه يمجدنا حينما يعلن حضوره فينا، ونحن نمجده حينما نعلن حضوره في العالم. ففي هذه الآية أُعلن حضور الآب في ابنه وحيد الجنس، الذي يخبر عنه.
“عندما حول الماء خمرًا ماذا يضيف الإنجيلي؟ “وآمن تلاميذه به” (يوحنا٢: ١١). فهل كان للشيطان أن يؤمن به؟
ويقول القديس أغسطينوس:”إن قال قائل: لا يوجد في هذا القول دلالة كافية على أن هذه الآية
هي بداءة آيات المسيح لأجل إبداعها في قانا الجليل، لأنه من الممكن أن يكون فعل في غير ذلك المكان آيات أخرى غيرها. نقول له: إن يوحنا المعمدان قد قال من قبل عن المسيح: “وأنا لم أكن أعرفه، لكن ليظهر لإسرائيل، لذلك جئت أعمد بالماء” (يوحنا 1: 31)، فلو كان المسيح فعل في عمره المبكر عجائب لما كان الإسرائيليون قد احتاجوا إلى آخر يعلن عنه. لأن ذاك (يسوع) الذي جاء بين الناس وبمعجزاته صار معروفًا، ليس فقط للذين في اليهودية وإنما أيضا للذين في سورية وما وراءها، وفعل هذا في ثلاث سنوات فقط، فإنه ما كان محتاجًا إلي هذه السنوات الثلاث لإظهار نفسه (مت 4: 24)، لأنه كان من شهرته السابقة قد عُرف في كل موضع. أقول أن ذاك الذي في وقت قصير أشرق عليكم بالعجائب فصار اسمه معروفًا للكل، لم يكن بأقل من ذلك لو أنه في عمره المبكر صنع عجائب وما كان يبقى غير معروف كل هذا الزمن (حتى بلغ الثلاثين من عمره). فإنه ما كان قد فعله لبدا غريبًا أن يفعله صبي. في الحقيقة لم يفعل شيئا وهو طفل سوى أمرًا واحدًا شهد له لوقا (لو 2: 36) وهو في الثانية عشر من عمره حيث جلس يسمع للمعلمين وقد دهشوا من أسئلته. بجانب هذا فإنه من الأرجح والمعقول انه لم يبدأ آياته في عمره المبكر، لأنه بهذا لبدت أمرًا مخادعًا. إن كان وهو في سن النضوج تشكك كثيرون فيها، كم بالأكثر لو أنه صنع العجائب وهو صغير. فإن ذلك كان قد
أسرع به إلي الصليب قبل الوقت المحدد، خلال سم الحقد، ولما قُبلت حقائق التدبير.
هذه الآية تمّت بمشاركة أمّ يسوع أيضاً. عينها ساهرة لا للانتقاد بل لتلبية حاجة تزيد من سعادة
أهل البيت والمدعوين. وحينما لاحظت نفاد الخمر، تدخلت تدخلاً لطيفاً ولفتت انتباه ابنها بما
لها من دالة عليه وبما عندها من شعور عميق مع العروسين في حيرتهما. وبالرغم من جواب يسوع لها، وجوابه يبدو صعباً، تبقى مريم واثقة من أن ابنها لا يرد لها طلباً يهدف إلى خدمة الإنسان. لذلك تتجه إلى الخدم حتى يأتمروا بأوامر يسوع: “مهما يأمركم به فافعلوه”. وفي كلامها هذا برنامج عمل وحياة لكل مؤمن يتبع يسوع. كم من مرة لا نفهم ما يطلبه يسوع منا وما يأمرنا به فنحاول أن نتملّص منه. كم من مرة تبدو لنا الحياة معه والحلول التي يعرضها علينا صعبة التطبيق، فنتهرب متذرعين بألف حجة وحجة. ولكن كلام مريم لنا يبقى هو هو لا يتغير: “مهما يأمركم به فافعلوه”. فما من إنسان واحد اهتدى بأوامرهوخابت آماله. وهي المثال الحي على صحة ما تقول. إن يسوع يبدو متردداً في قبول طلب أمّه بحجة أن ساعته لم تأت بعد.
وساعة يسوع هي زمن موته وقيامته. فيها يظهر مجده الإلهيّ واتحاده مع الآب وحبه للبشر. وهكذا ينتقل يسوع من الأمور المادية إلى الأمور الروحية، من الخمرة التي نفذت في العرس إلى تلك الساعة التي يعوض فيها عن نقص أهم وأعمق فيخلص البشر بذبيحته ويمنحهم الحياة. لقد فهمت مريم أن جواب يسوع لها لا يدل على أي احتقار بل ينظر إلى المستقبل، إلى ساعة تجلّيه على الصليب. خضعت مريم لسر هذه الساعة وأمرت الخدم أن يصغوا إلى توجيهات يسوع دون تردد.
أن يسوع استبق الأمور ولم يرد طلب أمّه وخلق خمرة جديدة أظهر بها مجده وجعلها عربون
عطايا العهد الجديد بدمه. إن مريم دلّت الناس على ابنها وفتحت لهم طرق الحياة الجديدة بإيمانها واستسلامها التام لمشيئته وبدعوتها إياهم حتى يتبعوه كما يرسم لهم الطريق. وبناء على طلب أمّه صنع يسوع أولى آياته هذه فأظهر مجده وآمن به تلاميذه” هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ”(يوحنا11:2).
حياة مريـم وبدء رسالـة يسوع العلنيـة
بعد أعجوبـة عُرس قانـا الجليل والتى فيهـا صنع يسوع أولـى عجائبـه الزمنيـة (يوحنا1:2-11)، يذكر لنـا القديس يوحنا الإنجيلي: “وبعد هذا انحدر الى كفر ناحوم هو وأمـه واخوتـه وتلاميذه ولبثوا هناك أيامـا غير كثيرة”(يوحنا12:2)، ثم بعد هذا ترك يسوع كفر ناحوم وذهب الى أورشليم “وكان فصح اليهود قد قرب فصعد يسوع الى أورشليم”(يوحنا13:2)، ومن الـمرّجح ان مريم العذراء قد رافقت إبنهـا فى هذه الزيارة فهى تعودت ان تذهب الى اورشليم بمناسبة العيد “وكان أبواه يذهبان الى اورشليم كل سنة فى عيد الفصح”(لوقا41:2). وهنا فى أوؤشليم يظهر يسوع للـمرة الأولـى كـمرسل من الله يتفقد الهيكل وطرد الباعة والصيارفة “لا تجعلوا من بيت أبي بيت تجارة”(يوحنا16:2). وفى فترة العيد “آمن باسمه كثير من الناس لـما رأوا الآيات التى أتـى بهـا”. وبعد هذه الأيام غادرت مريم أورشليم وتركت يسوع يتابع جولاتـه التبشيريـة فى مدن اليهوديـة وقراهـا، امـا مريم فمن الـمحتمل انهـا عادت الى الناصرة موطنها الأول وعاشت فيهـا، على الرغم مما ذكره متى الإنجيلي “ولما سمع يسوع ان يوحنا قد ُسلم انصرف الى الجليل وترك الناصرة وجاء فسكن فى كفر ناحوم التى على شاطئ البحر فى تخوم زبولون ونفتالي”(متى12:4-14) ويذكر ايضا فى موضع آخر:”فركب السفينة وإجتاز العبـر وأتى الى مدينته فى كفر ناحوم”(متى1:9)، وهذا لا يؤكد إذا ما كانت مريم كانت تعيش مع يسوع فى كفر ناحوم أم انها كانت تقيم فى الناصرة حيث قد تركته لرسالتـه التى جاء من أجلهـا للعالـم. وكانت تلتقى بيسوع فى فترات قصيرة للغايـة فكان اللقاء والإفتراق صعب ومؤلـم على الأم، ولكن كانت القديسة مريم تقبل فى أستسلام لـمشيئة اللـه. وهذه اللقاءات تمت فى أعياد الفصح فى أورشليم (ثلاث أعياد مرّت فى حياة يسوع العلنيـة)، وفى كل مرّة كان يـمر يسوع فى الناصرة أو بجوارهـا، وعندما ذهبت مع الأقرباء محاولـة منعهم “فخرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا انه شارد العقل”(مرقس21:3).
وبدأت أخبار يسوع وأخبار العجائب تتناقل وتعاليـمه تنتشر “وسار بعد ذلك فى كل مدينة وقريـة ينادي ويبشر بـملكوت الله ومعه الإثناعشر(لوقا1:8). فكان يسوع يعلّم “كـمن لـه سلطان وليس كالكتبة والفريسيين”(متى28:7)، وكانت الجموع فى بلدته تتعجب قائلة:”من أين له هذه الحكمة والقوات. أليس هذا إبن النجّار”(متى54:13). كانت تعاليـم يسوع تعاليـم بسيطة فى كلمات بسيطة لهذا نفذت الى القلوب.
ووصل يسوع فى جولاتـه التبشيرية الى الناصرة حيث موطنه الذى عاش فيـه وعـمل، والقديسة مريم كانت مقيمة فيهـا و”أتى الناصرة حيث نشأ”(لوقا16:4-30)، وفى مجمع الناصرة أعلن يسوع صراحـة أنـه الـمسيح الـمنتظر بعد أن قرأ نص اشعيا النبي الذى يتنبأ عن الـمسيّا، فقال لهـم: “اليوم تـم هذا الـمكتوب فى مسامعكم”. ولكن كان هجوم أهل الناصرة عليـه شديد :”أليس هذا إبن يوسف” و “اصنع ههنا كل شيئ سمعنا انه جرى فى كفر ناحوم”، وتعجّب يسوع من عدم إيمانهم حتى ان الكتاب الـمقدس يذكر “غير انه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم”(مرقس5:6)
وإمتلأ أهل الناصرة من الغضب “فقاموا وأخرجوه خارج الـمدينة وإقتادوه إلى قمة الجبل الذى
كانت مدينتهم مبنية عليه ليطرحوه عنهـا”(لوقا28:4).
وذكر هذه الواقعة بهذه التفاصيل من القديس لوقا الإنجيلي يؤكد مرة أخرى أن مريم العذراء كانت حاضرة فى مجمع الناصرة ورأت ما حدث وذكرتهـا كأحد شهود العيـان. ويـا للأم الـمسكينة فقد شهدت كل هذا وبكت من قلة الإيمان ومن غلاظة القلوب وعلى شعب لا يبغى الخلاص
والتوبـة، وعلى إخوة يريدون التخلص من أخوهم وها هو سيف آخر ينغمس فى قلب الأم.
وتـمر الأيام وقبل عيد الفصح فى السنة الثالثة لخدمة يسوع العلنيـة، سمعت العذراء مريـم عن
إقامـة لعازر من بين الأموات وهياج رؤساء الهيكل ضده حتى أن يسوع أقام بالقرب من أورشليم. وقبل الفصح أيضاً أتى يسوع الى بيت عنيـا وأخبر تلاميذه بـما سيحدث لـه حتى يجنبهم ضعف الإيمان. وفى أحد الشعانين أراد يسوع زيارة أورشليم وإنتشر خبر مجيئه فإهتزت الـمدينة كلهـا وصرخت الجماهير “هوشعنا إبن داود” و”مبارك الآتـى بإسم الرب”، وربـما قد شهدت مريم العذراء هذا الإستقبال الرهيب لإبنهـا فهى كعادتهـا تذهب للعيد كل عام. وأمضت مريم الأيام الأخيرة مع يسوع وحضرت العشاء الأخيـر فى العليّة ورأت الإسخريوطي خارجـاً ليلاً ليتتم ما قد إتفق عليـه مع رؤساء الهيكل.
وتـم القبض على يسوع فى بستان الزيتون ليلة الخميس وحوكم وأديـن ووقف شهود زور ضده
وفى فجر الجمعة يأخذونـه الى بيلاطس ثم هيرودس ثم بيلاطس مرة أخرى ويُسلّم يسوع للـموت ويُطلق باراباس. وأقتيد يسوع الى الصلب وسار فى أروقة أورشليم، هذه الأروقـة التى شهدت تعاليمه وعجائبه وشهدت أيضاً هتاف الشعب “أنت ملك اسرائيل”.
ومريـم الأم ترى كل هذا، ترى وليدهـا “رجل أوجاع متمرساً بالعاهات محتقر ومرذول…”(اشعيا53)، وتراه يسقط تحت الصليب، وترى نسوة أورشليم يبكين، وترى سمعان القيراونـي، وترى الـمسامير تُدق ويُعلّق حبيبهـا على الصليب، وتسمع كلماتـه السبع الأخيرة، وما يطلبـه منهـا أن تكون أمـاً للحبيب وللجنس البشري كلـه “هوذا إبنكِ”(يوحنا26:19) وبقيت معـه حتى “نكّس رأسـه وأسلم الروح”(يوحنا30:19)، ثم رافقت يوسف الرامي عندما وُضع يسوع فـى القبـر. وفى اليوم الثالث قام يسوع من بين الأموات وظهر للعديد من الشهود لـمدة أربعين يومـا، ولـم تذكر الأناجيل أي شيئ عن ظهوره لـمريم أمـه ولكن لا يُمكن إستبعاد الرأي القائل بأن يسوع إكرامـاً لأمـه قد ظهر لهـا لا ليثبت إيمانهـا بل لكي يعرفهـا بدورهـا الجديد كأم للكنيسة التى هى جسده السري.
مريم تحت الصليب
وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ” (يوحنا25:19-27).
لم يقل لنا الأنجيل في العهد الجديد الكثير عن خبرة مريم العذراء عند جبل الجلجثة، وفي الحقيقة انجيل يوحنا يأتي الينا فقط بتسجيل انجيلي عن وجودها هناك. لم تقل أم يسوع كلمة واحدة والفعل الوحيد التي قامت به هو وقوفها عند صليب إبنها. نعم ان مجرد وقوفها عند صليب يسوع يمكن ان يقول لنا كثيرا عن ان مريم هي تلميذة مؤمنة وآمينة حتى النهاية.
منذ ذلك الحين الذي بدأ يسوع فيه يتكلم خاصة عن موته القادم في أورشليم وقال لتلاميذه عن معاناته ومرافقته حتى الصليب:” حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ»(متى24:16-28) وأيضا في مرقس 34:8-1:9) وأيضا في لوقا23:9-27).ولكن معظم التلاميذ سيخلون يسوع في يوم الجمعة العظيمة بتركه عندما أُخذ لكي يُصلب. عند العشاء الأخير تنبأ يسوع من كل هذا سيحدث وقال كيف ان الرسل سيتركونه:” هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ الآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ،
وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي”(يوحنا32:16).
11 من ال 12 رسول هجروا يسوع يوم الجمعة العظيمة، ولكن فقط التلميذ الذي كان يحبه يسوع كما عرّف نفسه وهو يوحنا ظل مع يسوع حتى النهاية، وأيضا اربع نسوة وقفن عند صليب يسوع عند لحظاته الأخيرة واظهروا ايمان عظيم اكثر من بطرس مثلا والذي قال يوما ما انه سيتبعه مهما ذهب حتى انه اعلن ليسوع قائلا له:” يَا سَيِّدُ، لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ!»(يوحنا37:13). حتى الآن يبرهن على الإيمان بالفعل وليس بالقول وبطرس لم يوجد واقفا عند صليب يسوع، وبدلا من ذلك نرى بطرس واقفا في منظر محاكمة يسوع وتعذيبه كما جاء في انجيل يوحنا مشتبه في انكار معرفته بيسوع وواقفا على باب دار رئيس الكهنة”وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفًا عِنْدَ الْبَابِ خَارِجًا”(يوحنا16:18)، وكان بطرس واقفا يتدفأ مع العبيد والخدام:”وَكَانَ الْعَبِيدُ وَالْخُدَّامُ وَاقِفِينَ، وَهُمْ قَدْ أَضْرَمُوا جَمْرًا لأَنَّهُ كَانَ بَرْدٌ، وَكَانُوا يَصْطَلُونَ، وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفًا مَعَهُمْ يَصْطَلِي”(يوحنا18:18)، وناكرا معرفته بيسوع ثلاثة مرات”فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ: «أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِ هذَا الإِنْسَانِ؟» قَالَ ذَاكَ: «لَسْتُ أَنَا!»(يوحنا17:18) و “وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفًا يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ: «أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ؟» فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا!». قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذْنَهُ: «أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي الْبُسْتَانِ؟» فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضًا. وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ”(يوحنا25:18-27).
مريم العذراء كانت مع مجموعة النسوة اللواتي برهن على ايمانهن وشجاعتهن بدلا عن بطرس والعشرة الرسل الأخرون والذين تركوا يسوع في ساعته والتي يحتاج فيها الى اكثر من تعضيد. مريم واحدة من قلائل وقفن عند صليب يسوع في يوم الجمعة العظيمة، واكثر من هذا فانجيل يوحنا أيضا يظهر ويشير بأن مريم قد أظهرت ايمانها اثناء الألام بمشاركة ابنها في معاناته
بطريقة فريدة.
لقد تأمل البابا يوحنا بولس الثاني في كيف متعارض الصليب كما يبدو من وجهة النظر البشرية عما سمعته مريم اول مرة من الملاك عند البشارة، ففي ذلك الوقت قيل لها ان إبنها سيكون “عظيما” وان الله سيعطيه “عرش داود أبيه”، وانه” سيملك على بيت يعقوب للأبد” و” ان مملكته لن تزول”:”هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ»(لوقا32:1-33).
والآن تقف عند اقدام الصليب وماذا تشهد مريم بعيون بشرية ما يظهر على انه “انكار تام لتلك
الكلمات”. عند الجلجلثة، كل شيئ قاله الملاك جبرائيل لمريم عن ابنها ومملكته التي لا تنقرض يبدو ويثبت انه خطأ. كما قال البابا يوحنا بولس الثاني انه فقط الإيمان القوي يستطيع ان يتحمل ويحملها خلال تلك الساعة المظلمة ويقدر ان تذكرها بأن تظل تلميذة مؤمنة تقف عند صليب ابنها الوحيد. كم هو عظيم وفوق الطبيعة طاعة الإيمان الذي اظهرته مريم امام وجه الله وكيف انها انكرت ذاتها وسلمته لله بدون تحفظ ومقدمة كل إرادتها له هذا الذي تفوق طرقه كل عقل او تصور:”يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ
الاسْتِقْصَاءِ!”(رومية33:11).
خلال حياة القديسة مريم ومنذ دعاها الله لكي تسلّم نفسها لخطة الله الخلاصية للبشر وتخضع كيانها كله وحياتها من أجل أسرار لم تنكشف بعد لها وقادتها تلك الرحلة خلال الفقر والمعاناة ولحظات من عدم التأكد وعدم الفهم. ولكن الآن لقد أُخذت الي جبل الجلجلثة حيث في يوم الجمعة العظيمة تشهد ليس قبول المجد من إبنها كملك بل رفض كامل وتعذيب ثم موت على خشبة. هنا تواجه مريم اختبارها العظيم للإيمان، فمن وجهة النظر البشرية لا يشبه المسيح أي ملك على الإطلاق فهو مضروب ومعرّى ومجروح ومسمّر على صليب. يسوع يشبه انسان فشل بطريقة مأساوية يسخرون منه ويقتل من أعداؤه. صلبه على أيدي الرومان واعداؤه وامام ووسط شعبه يبدو علامة لنهاية ملكوت الله والذي جاء ليعلن عنه ولكي يؤسسه هنا على الأرض. ولكن مريم يتم تحديها بشكل قوي لكي ترى ما أراد ان يظهره انجيل يوحنا – ان صليب يسوع هو في الحقيقة عرشه، فعندما “يُرفع” على الصليب يظهر كملك وان رئيس هذا العالم- الشرير- قد طرح خارجا:” اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ»(يوحنا31:12-32).
في تلك اللحظة الحرجة بينما لا يوجد أي سند بشري يعضد مريم والشيئ الوحيد الذي يمكن ان
تعتمد عليه هو إيمانها بأن المعلّق على الصليب هو في الحقيقة إبن الله والذي سيملك للأبد،
إيمان بأنها في الحقيقة “أم ربي” كما قالت لها اليصابات يوما ما، إيمان بأن ذلك هو “السيف” في حقيقته كجزء من خطة الله كما تنبأ سمعان الشيخ في القديم وان ابنها مرة أخرى يقوم بعمل “أبيه السماوي”. عندما وجدت مريم نفسها واقفة تحت الصليب فهي بلا شك تعاني من حزن عظيم، ولكن كتلميذة مؤمنة حتى النهاية فلن تتزعزع وهي أيضا تقف تحت الصليب مؤمنة وواثقة في خطة الله من اجل إبنها ومتذكرة كل ما كُشف لها من قبِبل الملاك والرعاة ونبؤات العهد القديم ويسوع نفسه. لقد علّم القديس البابا يوحنا بولس الثاني بأن إيمان مريم في تلك اللحظة يشمل الإيمان بكلمات إبنها للرسل والتلاميذ من انه:” أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ” (متى21:16)، وهكذا استخلص البابا يوحنا بولس الثاني من ان رجاء مريم عند وقوفها تحت
الصليب يشمل نور اقوى من الظلمة هذا الذي قد غمر قلوب كثيرة.
مريم بعد القيامة والصعود
تذكر مريم في سفر أعمال الرسل(12:1-14) مع الحاضرين في أورشليم من التلاميذ الاثني عشر بعيد صعود يسوع إلى السماء وفق الكتاب المقدس وهي الوحيدة التي ذكرت باسمها؛ ويذكر السفر: أنهم كانوا جميعًا يداومون على الصلاة بقلب واحد (أعمال14:1) كذلك فقد كانت مريم حاضرة عند اختيار خلف يهوذا الإسخريوطي، وعند حلول الروح القدس، ويعتبر هذا الحدث هامًا إذ إنه وفق المعتقدات المسيحية فهو يمثل ميلاد الكنيسة، وبداية عصر الرسل.
التقليد الكنسي يذكر أن مريم قد انضمت فعلًا إلى بيت يوحنا بن زبدي كما كان يسوع أوصى وهو على الصليب، ويذكر أيضًا أنها سكنت في بيته في أورشليم أحد عشر عامًا، ثم انتقلت وإياه إلى أفسس في آسيا الصغرى، حيث قضت هناك سائر سنواتها، ولا يزال بيت العذراء في أفسس المكان التقليدي الذي عاشت فيه مريم عند انتقالها من فلسطين.
ورغم أن حياتها بشكل عام كانت هادئة إذاك غير أن عددًا من الأحداث الهامة أشرفت عليها: لقاؤها بلوقا الذي نقل عنها أخبار الميلاد والطفولة ووضعها في إنجيله، ومساهمتها في إنشاء كنيسة أفسس، وكذلك رسم أولى الأيقونات، وتأسيس كنيسة فيليبي التي كانت أولى
الكنائس التي تبنى على اسمها في المسيحية.
انتقال مريم العذراء للسماء
عادت مريم إلى أورشليم في سنيها الأخيرة، ومن غير المعروف كيف توفيت أو طريقة وفاتها، هناك بضعة ميامير (قصائد شعبية) تذكر أنها مرضت ومن ثم توفيت، وتجمع الطوائف المسيحية التي تكرم العذراء أنها قد انتقلت من جبل الزيتون بحضور من تبقى حيًا من التلاميذ الاثني عشر إلى السماء مباشرة؛ يأتي هذا الاعتقاد استنادًا إلى عدد من نبوءات العهد القديم، وتختلف الطوائف بتفاصيل الاعتقاد به؛ وبحسب التقليد المسيحي أيضًا فإن الانتقال قد تمّ بعد 13 إلى 15 عامًا من قيامة يسوع وبالتالي يكون قد تمّ بحوالي عام 43، ويسع القول أنها كانت بحدود الستين من عمرها آنذاك.
لا نجد شيئا عن هذا السر في الأناجيل أو الرسائل غير أنه سجلت لنا تقاليد قديمة وقصص
وروايات شعبية عن انتقال مريم العذراء منذ القرن الخامس وقد يكون أقدم تقليد حفظ لنا لقصة الإنتقال في اللغة القبطية، هو ذلك التقليد المعروف في الصعيدية والبحرية.
ومن بعده جاء التقليد اليوناني الذي حفظ لنا في خطبة منسوبة الى يوحنا الإنجيلي من القرن السادس، وكذلك في خطبة ليوحنا التسالونيكي نحو سنة 620.
إن أقدم مخطوطة للتقليد السرياني للإنتقال ترجع الى القرن الخامس، وضمن هذا التقليد في اللغة السريانية القديمة.
والى جانب هذه التقاليد الثلاثة وصلت الينا ترجمات قديمة مهمة في اللغة اللآتينية (ميليطون نحو سنة 550) والأرمنية والجيورجية والعربية والحبشية. ومن الخطباء والواعظين الذين فسروا معنى سر الإنتقال يمكننا أن نذكر يعقوب السروجي (521) في اللغة السريانية، وعند البيزنطيين قسماس الخياط (القرن الثامن) وجرمانوس بطريرك القسطنطينية (733) وأندراوس الكرتوني 740 الذي القى خطبة في كنيسة قبر العذراء في القدس نحو سنة 718، ويوحنا
الدمشقي الذي خطب في نفس المكان سنة 740 ويوحنا المسّاح (القرن الحادي عشر) الذي ربط رؤيا التجلي بالإنتقال السماوي..
تقاليد القصص الشعبية
1 – التقليد القبطي
لقد جاء فى كتاب سنكسار الكنيسة القبطية والمستعمل فى كنائس الكرازة المرقسية وهو الكتاب الجامع لسير الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين لكل يوم من ايام السنة وايضا قراءات الأعياد السيدية والمجامع واعياد الملائكة والرسل والبطاركة والقديسين عامة فى الكنيسة ومشاهير
القديسين فى العالم المسيجي قبل الإنشقاق عن قصة الإنتقال مايلي:
حسب روايـة القديس يوسف الأريوباغى مـا يلي:
انـه بعد رقاد وموت مريم العذراء وكان جميع الرسل مجتمعين فى ذاك الوقت ماعدا تومـا
الرسول الذى كان غائبا فى الهند عند نياحة العذراء، وعند عودتـه سأل عنهـا فأخبروه بكل ما حدث. وتظاهر القديس توما أنه لن يؤمن ان لم يرى الجسد بعينيه فى القبر، لكن عند القبر أخبرهم ان الجسد ليس بداخله، وبالفعل إذ دحرجوا الحجر لم يجدوا الجسد، فلم يعرفوا ماذا يقولون. عندئذ أخبرهم القديس توما أنه رأى جسدها يرتفع الى السماء، وقد أعطته القديسة مريم “طرحتهـا” وأراهم إياهـا، ففرحوا وسألوا الرب أن يروا العذراء. وفى فجر السادس عشر من مسرى حدثت رعود عظيمة وظهرت جوقة من الملائكة وجاء الرب يسوع محمولا من الشاروبيم، ومعه السيدة العذراء وأعطاهـم السلام وقاموا برؤيتها وهي جالسة عن يمين ابنها وإلهها وحولها طغمات الملائكة وتمت بذلك نبوة داود القائلة: “قامت الملكة عن يمين الملك”. وهناك بعض الروايات تذكر أن جسد العذراء لم يصعد حتى السادس عشر من مسرى من يوم نياحتهـا فى 21 طوبـة قبل ذاك اليوم بسبعة أشهر، حيث جاء الرب ومعه نفس أمـه وسأل الجسد أن يصحبهـما فأخذها معه على مركبة تتقدمهما الملائكة.
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى 16 مسرى من كل عام(22 أغسطس) بهذا العيد الـمبارك على حسب التقويم اليوليانـى، أمـا حسب التقويم الغريغورى “الـمصحح” فيقع فى 15 أغسطس وهذا ما تعيد بـه غالبية كنائس العالـم. ولقد بدأ فـى الإحتفال بهذا العيد فـى الشرق منذ
القرن الخامس الـميلادي.
والكنيسة القبطية الأرثوذكسية إذ تحتفل بعيد “رقاد العذراء” يوم 21 طوبـة فى كل عام قبطى والذى يوافق عادة يوم 29 يناير، وتحتفل بعيد ظهور جسدها الـموجود فى السماء للتلاميذ والذى يُطلق عليه عيد صعود جسدهـا للسماء فى يوم 16 مسرى الموافق 22 أغسطس، فيظهر هنا أن هناك فرق بين يوم رقادهـا ويوم إنتقال جسدهـا للسماء، بينما فى الكنيسة الأثيوبيـة الأرثوذكسية فيُحتفل بدفن الجسد يوم 8 أغسطس وصعوده فى 9 أغسطس. لقد تجنبت الكنيسة الكاثوليكية فى إحتفالاتهـا هذا الفرق فيتم الإحتفال للنياحة والصعود معاً فى 15 أغسطس.
- التقليد السرياني
يقول هذا التقليد أن مريم العذراء كانت تصلي عند قبر المسيح في اورشليم عندما ظهر لها الملاك جبرائيل ليخبرها بموتها القريب. فتذهب مريم الى بيت لحم لتصلي من أجل مجيء الرسل، فيتحقق هذا المجيء حيث يأتي الرسل ويحيطون بفراش مريم حيث يظهر المسيح مع الملائكة، ليأخذ نفس مريم معه، وسط نور عجيب. وعندما تتم مراسيم الدفن يأتي المسيح مع الملائكة، ليحمل جسده أمه مريم الى الفردوس، تحت شجرة الحياة، وهناك يتحد جسد مريم بنفسها مرة أخرى.
منزل العذراء في أفسس
هناك من يذكر انه قد تم إكتشاف المنزل الذي كانت تسكنه مريم العذراء في أفسس بتركيا والذي قيل انها ماتت هناك وتم اكتشافه عام 1800م ويطلق عليه Meryemana Evi وهناك آلالاف الحجاج الذين يذهبون لهذا المكان للتبرك ولكن لا توجد اي وثيقة او كتابات قديمة تؤكد ذلك سوى ما جاء في كتابات بعض الأساقفة في القرن الثالث عشر عن وفاة القديس يوحنا والقديسة مريم معا في أفسس وايضا ما جاء في رؤى الطوباوية كاترين امريتش.
أبعاد انتقال مريم العذراء الى السماء
ما آمنت به الكنيسة منذ القرون الأولى وعبرّت عنه بطرق متنوّعة في الصلوات الليترجيّة ومواعظ الآباء، وتحديد العقيدة في الكنيسة الكاثوليكيّة في موضوع انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى المجد السماوي، هو إعلان للعظائم التي صنعها الله في مريم العذراء، بحسب قولها: “ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدّوس، ورحمته الى جيل وجيل للّذين يتّقونه” (لوقا1: 48- 50). إنّ عظائم الله قد رافقت مريم العذراء طوال حياتها، وبما أنّ الله هو إله الحياة التي لا نهاية لها، تؤمن الكنيسة أنّ ما صنعه الله من عظائم لا يتوقّف عند حدود هذه الحياة بل يمتدّ الى ما بعد الموت. ويستطيع كلّ مؤمن أن يقرأ في مسيرة حياة مريم العذراء مسيرة إيمانه، وفي مصير مريم العذراء بعد الموت مصير كيانه ومصير شخصه في نهاية الزمن.
الروح القدس أحيا جسد العذراء فيقول بولس الرسول: “إذا كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم” (رومية 8: 11).
انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح القدس الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله هو نفسه يكمّل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي. الروح القدس هو قدرة الله المحيية، وهذه القدرة لا يوقفها شيء: إنّها حركة دائمة، وديناميّتها تفوق ما يستطيع عقلنا البشري تصوّره. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين ويقيم الموتى (راجع لوقا 4: 18- 19؛ مرقس18:12-28). وبهذه القدرة قام هو نفسه من الموت. وبهذه القدرة سيقيم الأموات في الدينونة العامة. ولأنّ مريم العذراء كانت في جسدها ونفسها مستسلمة استسلامًا تامًّا لعمل الروح القدس، آمن المسيحيّون منذ القرون الأولى أنّها حصلت حالاً بعد موتها على قيامة الجسد التي
هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الزمن.
بهاء القيامة
الخلاص في الديانة المسيحيّة ليس إنقاذ الإنسان من الخطايا بقدر ما هو إعادته الى بها الصورة الإلهيّة التي خُلق عليها.. الديانة المسيحيّة هي ديانة البهاء والمجد، وتلك السمة هي التي تبرّر وجودها وتثّبت صحتّها. فإذا كان لله وجود، وإذا كان الله قد ظهر لنا في شخص ابنه وكلمته وصورة مجده يسوع المسيح، فلا بدّ من أن يكون الله إله المجد والبهاء. وهذا ما تعبّر عنه الكنيسة في اعتقادها بانتقال مريم العذراء. تقول الكنيسة البيزنطية في إحدى صلوات عيد رقاد السيّدة: “ما أعجب أسرارك أيّتها السيّدة النقيّة، لأنّك ظهرت عرشًا للعليّ، واليوم قد انتقلت من الأرض الى السماء. فمجدك وافر البهاء، ويعكس أشعّة المواهب الإلهيّة” (صلاة المساء الكبرى). إنّ أشعّة المواهب الإلهيّة التي حصلت عليها مريم العذراء تنعكس في حياتها. فهي السيّدة النقيّة لأنّها “ممتلئة نعمة”، وقد “ظهرت عرشًا للعليّ”، لأنّ ابن الله سكن فيها، وتكلّلت تلك المواهب “بانتقالها من الأرض الى السماء”، وظهر فيها مجد الله الوافر البهاء.
لا يمكننا التنكّر للواقع والتغاضي عن الخطيئة في العالم. ولكنّ قيامة المسيح هي أيضًا جزء من هذا الواقع. من قبر المسيح انبعث نور الله، ومع المسيح القائم من بين الأموات دخل مجد الله العالم، ويعمل كالخمير على تجديده من الداخل. تاريخ العالم ليس تاريخ معركة مجهولة المصير بين الحقّ والباطل، بل تاريخ ولادة جديدة. يقول بولس الرسول: “إنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل.. إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضًا، من عبوديّة الفساد الى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخَّض، وليس هي فقط، بل نحن أيضًا الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضًا نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي افتداء أجسادنا” (رومية 8: 20-23). نحن من الآن أبناء الله، ولنا باكورة الروح، ولكنَّ ما نحن عليه سيتجلّى على أتمّ وجه في المجد الخالد، فيكون عندئذ للجسد المفتدى، القائم، قسط من السعادة كبير، حسب قول بولس الرسول:” الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال الترابي يكون الترابيّون، وعلى مثال السماوي يكون السماويّون، وكما لبسنا صورة الترابي نلبس أيضًا صورة السماوي” (1 كورنثوس 15: 47- 49). في وسط عالمنا لبس المسيح السماوي جسدنا الترابي، وبهذا الجسد ارتبط بعالمنا. وقيامته الجسديّة لم تفقده ارتباطه بنا، بل بدخوله مجد الآب، صار ارتباطه بنا أكثر اتّساعًا. ارتفع عن الأرض ليجتذب اليه الجميع (يوحنا 12: 32)، ارتفع الى السماوات ليملأ مجده جميع الأرض، بحسب قول المزمور: “ارتفع اللهمّ على السماوات، وليكن مجدك على جميع الأرض” (مزمور 57: 12؛ راجع أيضًا أفسس 4: 8- 10). المسيح لم يتمجّد وحده. “فبعد إذ أميت بالجسد، استردّ الحياة بالروح، وبهذا الروح عينه مضى وبشّر الأرواح المضبوطة في السجن” (1 بطرس 3: 19)، أي إنّه نزل الى “الجحيم” مقرّ الأموات حيث كانت نفوس الصدّيقين تنتظر، كفي سجن، مجيئه الخلاصي وصعودها معه الى السماء، وبشّرها بأنّ عمل الفداء قد تحقّق، وتمّ الانتصار على الموت. وفي الموضوع عينه يتكلّم إنجيل متّى عن عامه كسيرين من الأموات مع المسيح: “القبور تفتّحت، وكثيرون من القدّيسين الراقدة أجسادهم فيها قاموا، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدّسة، وتراءوا لكثيرين” (متّى 27: 52-53).
إنّ ابن الله الذي “له مجد الآب من قبل كون العالم” (يوحنا 17: 5) قد تجسّد في أحشاء مريم العذراء. وبسبب تلك الشركة الروحيّة في المجد والبهاء بين السيّد المسيح وأمّه، آمنت الكنيسة أنّ مريم العذراء، بعد موتها، شاركت ابنها مجد قيامته كما شاركته، في تجسده، مجد ظهوره.
قيامة الأجساد:
جسد الإنسان، في نظر الكتاب المقدّس، ليس سجنًا يجب التخلّص منه للوصول الى العالم الحقيقي، عالم الأرواح. نظرة الكتاب المقدّس الى الإنسان لا تقوم على التناقض بين الجسد والروح، بل على التناقض بين الفرد المنعزل المتقوقع على ذاته والشخص المنفتح في علاقاته على الكون وعلى الآخرين وعلى الله. والجسد هو ما يتيح للإنسان الحيّ أن يرتبط بعلاقات بنّاءة بالكون والآخرين والله. فالجسد هو إذن الإنسان ذاته من حيث ارتباطه بالعالم الخارجي. لذلك أيضًا رأى معظم آباء الكنيسة، ولا سيّمَا في الشرق، أنّ التجسّد كان لا بدّ منه، ولو لم يخطأ الإنسان، وذلك ليكتمل ارتباط الله بالإنسان وارتباط الإنسان بالله، ونعمة الله التي تعمل في الإنسان تعمل فيه حيث يبني ذاته ويحقّق كيانه وعلاقاته، فتجعله في روحه وفي جسده أكثر انفتاحًا على الله وعلى الآخرين. للنعمة قوّة تغيير وانفتاح، وعملها هو عمل الحياة الإلهيّة نفسها. كلّ اتصال بالله لا بدّ له من أن يغيّر الإنسان، وإلاّ كان الله مجرّد وهم ابتكره خيال الإنسان ليكوّن لنفسه ما يتعلّق به في هذه الحياة المتقلّبة. إلهنا شخص حيّ يحوّل كلّ من يتّصل به، يدخل أعماق الإنسان ليملأه بحياته الإلهيّة. وقيامة الأجساد هي امتلاء الإنسان من تلك الحياة الإلهية في كل أبعاد كيانه وفي كل ارتباطاته بالله وبالكون وبالآخرين.
إيمان الكنيسة بانتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو اعتراف بأنّ اتّحادها الصميم بالله بجسدها ونفسها، هذا الاتحاد الذي تحقّق لها بتجسّد ابن الله في أحشائها، كما تحقّق لها أيضًا بأمانتها لمحبّة الله واستسلامها لعلم الله فيها طوال حياتها، هذا الاتّحاد يستمرّ بعد موتها باشتراكها في مجد القيامة. فكما تمجّد ابنها وصار مرتبطًا بدخوله مجد الله بالعالم كلّه، هكذا أيضًا تمجّدت مريم العذراء وصارت مرتبطة بالعالم كلّه. وما سيحدث لجميع المؤمنين في القيامة العامة، أي ارتباطهم الكامل الممجّد بالعالم وبالله، قد حدث لمريم العذراء كما حدث لابنها يسوع المسيح لدى قيامته من بين الأموات.
ثمّ إنّنا في انتقال مريم العذراء الى المجد السماوي نقرأ عمل الروح القدس في الإنسان. وكل مؤمن يعرف أنّ مسيرة حياته هي مسيرة عمل الروح القدس فيه. ومريم هي في الكنيسة رمز عمل الله في كل مؤمن.
إمرأة سفر الرؤيا
وَانْفَتَحَ هَيْكَلُ اللهِ فِي السَّمَاءِ، وَظَهَرَ تَابُوتُ عَهْدِهِ فِي هَيْكَلِهِ، وَحَدَثَتْ بُرُوقٌ وَأَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَزَلْزَلَةٌ وَبَرَدٌ عَظِيمٌ. وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ: امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسِهَا إِكْلِيلٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَهِيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِدَ. وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى فِي السَّمَاءِ: هُوَذَا تِنِّينٌ عَظِيمٌ أَحْمَرُ، لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ تِيجَانٍ. وَذَنَبُهُ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُومِ السَّمَاءِ فَطَرَحَهَا إِلَى الأَرْضِ. وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ، حَتَّى يَبْتَلِعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ. فَوَلَدَتِ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ. وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إِلَى اللهِ وَإِلَى عَرْشِهِ، وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا. وَحَدَثَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ وَلَمْ يَقْوَوْا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ. فَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذِي يُضِلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ، طُرِحَ إِلَى الأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا قَائِلًا فِي السَّمَاءِ: «الآنَ صَارَ خَلاَصُ إِلهِنَا وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُ مَسِيحِهِ، لأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ الْمُشْتَكِي عَلَى إِخْوَتِنَا، الَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إِلهِنَا نَهَارًا وَلَيْلًا. وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ. مِنْ أَجْلِ هذَا، افْرَحِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَالسَّاكِنُونَ فِيهَا. وَيْلٌ لِسَاكِنِي الأَرْضِ وَالْبَحْرِ، لأَنَّ إِبْلِيسَ نَزَلَ إِلَيْكُمْ وَبِهِ غَضَبٌ عَظِيمٌ! عَالِمًا أَنَّ لَهُ زَمَانًا قَلِيلًا». وَلَمَّا رَأَى التِّنِّينُ أَنَّهُ طُرِحَ إِلَى الأَرْضِ، اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَلَدَتْ الابْنَ الذَّكَرَ، فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَوْضِعِهَا، حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ، مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ. فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ. فَأَعَانَتِ الأَرْضُ الْمَرْأَةَ، وَفَتَحَتِ الأَرْضُ فَمَهَا وَابْتَلَعَتِ النَّهْرَ الَّذِي أَلْقَاهُ التِّنِّينُ مِنْ فَمِهِ. فَغَضِبَ التِّنِّينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ لِيَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ، وَعِنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ”(رؤيا19:11و1:12-17).
لقد رأت الكنيسة الكاثوليكية عبر الأجيال في نص سفر الرؤيا هذا لحظة تكليل مريم العذراء، فمن البشارة حتى الصليب رحلة إيمانها قد أخذتها من خلال العديد من التجارب و الضيقات ولكن في كل وقفة في الطريق قد أثبتت انها خادمة مؤمنة للرب. لقد حفظت كل هذا متفكرة به في قلبها حتى ولو لم تفهم. لقد تعلمت ان توافق حياتها أكثر وأكثر لمهمة إبنها والتي هي من مشيئة الأب السماوي، ولقد فعلت هذا حتى وان خطة الأب قد يسبب لها الألم. كنتيجة لذلك
فليست هي فقط ام ليسوع ولكن أيضا تلميذة أمينة بارزة لكل تابعيه حتى الصليب.
في سفر الرؤيا تظهر مريم في السماء بمظهر ملكي رائع “ملتحفة بالشمس” وعلى رأسها اكليل من 12 كوكبا او نجماً. ان رحلتها مع الرب قد قاد مريم لنهايتها السعيدة فلقد عبرت عتبة المجد وشاركت ملك ابنها السماوي “كملكة فوق كل الأشياء” كما تعلّم الكنيسة الكاثوليكية. فمثل القديس بولس، مريم يمكنها أن تقول:” قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا”(2تيموثاوس7:4-8).
في تقليد الكنيسة الكاثوليكية المرأة في هذا النص غالبا ما ترتبط بالقديسة مريم ولكن فسّر الكثيرين بأن المرأة ليست الا رمز لأسرائيل او الكنيسة، ولكي يمكن تعريف بدقة هذه المرأة الغامضة يجب ان نأخذ في الإعتبار ثلاث شخصيات رئيسية في ذلك المشهد: المرأة وطفلها الذكر والتنين. المرأة تضع مولودا ذكرا حيث سيهاجم من التنين والإبن الذكر قد رُفع الي الله وجلس على العرش بينما التنين يُهزم ويُطرح الي أسفل(رؤيا1:12-9).
اثنان من الثلاث شخصيات من السهل التعرف عليهما، التنين قد عُرف بصراحة في الآية 9
حيث جاء عنه “ فَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ”(رؤيا9:12)، والمولود الذكر قد وُصف بأنه” عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ”(رؤيا5:12) – إشارة الي الملك المسياني كما جاء في المزمور” «أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي». إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ. تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَزَّافٍ تُكَسِّرُهُمْ»(مزمو6:2-9).وعلاوة على ذلك من حيث ان المولود الذكر قد رُفع الي الله ويجلس على عرشه فمعظم مفسروا الكتاب المقدس عرفوا هذا الطفل بأنه المسيح.
ان تعريف “المرأة” ليس واضح ولكي نتعرف على تلك المرأة يجب ان نأخذ في الإعتبار خمس حقائق تعلمناها عنها في سفر الرؤيا اصحاح 12:
أولا – المرأة لها اكليل من 12 نجم والذي يذكرنا بال 12 رسول وال 12 سبط في إسرائيل.
ثانيا – ان المرأة ولدت طفلها بألم الولادة وهذا يذكرنا بنبؤات إبنة صهيون كما جاءت في العهد
القديم، فصهيون هي جبل اورشليم وقد شخّصت كصورة أم تتألم قبل ان تلد طفلا. صورة امرأة صهيون تلد أصبحت رمز قوي كيف ان الشعب اليهودي المؤمن سيعاني من معاناة كثيرة في فترة تقود الى عهد المسيّا:” كَمَا أَنَّ الْحُبْلَى الَّتِي تُقَارِبُ الْوِلاَدَةَ تَتَلَوَّى وَتَصْرُخُ فِي مَخَاضِهَا، هكَذَا كُنَّا قُدَّامَكَ يَا رَبُّ. حَبِلْنَا تَلَوَّيْنَا كَأَنَّنَا وَلَدْنَا رِيحًا. لَمْ نَصْنَعْ خَلاَصًا فِي الأَرْضِ، وَلَمْ يَسْقُطْ سُكَّانُ الْمَسْكُونَةِ. تَحْيَا أَمْوَاتُكَ، تَقُومُ الْجُثَثُ. اسْتَيْقِظُوا، تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ التُّرَابِ. لأَنَّ طَلَّكَ طَلُّ أَعْشَابٍ، وَالأَرْضُ تُسْقِطُ الأَخْيِلَةَ”(اشعيا17:26-19) و ” أَنْ يَأْخُذَهَا الطَّلْقُ وَلَدَتْ. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْمَخَاضُ وَلَدَتْ ذَكَرًا. مَنْ سَمِعَ مِثْلَ هذَا؟ مَنْ رَأَى مِثْلَ هذِهِ؟ هَلْ تَمْخَضُ بِلاَدٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ تُولَدُ أُمَّةٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟ فَقَدْ مَخَضَتْ صِهْيَوْنُ، بَلْ وَلَدَتْ بَنِيهَا!(اشعيا7:66-8).
وعامة في العهد القديم تسستخدم عبارة ” ابنة صهيون ” مرادفة ” لابنة أورشليم ” ( 2 ملوك 19 : 21 ) ويستخدم إشعياء عبارة ” بنت صهيون ” ست مرات بهذا المعنى، كما يستخدمها إرميا إحدى عشرة مرة أيضاً، كما يستخدمها ميخا وصفنيا وزكريا بهذا المعنى أيضاً: “ابتهجي يا بنت صهيون واهتفي يا بنت اورشليم هوذا ملكك يأتيك صديقاً مخلّصـاً وديعاً راكبا على آتان وجحش ابن آتان”(زكريا9:9)، و”ترنـمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هآنذا آتـي وأسكن فى وسطك يقول الرب. فأسكن فى وسطك فتعلـمين ان رب الجنود قد ارسلني اليكِ”(زك10:2-11)، و”ترنّمي يا ابنة صهيون، اهتف يا اسرائيل. افرحي وابتهجي بكل قلبك يا ابنة اورشليم قد نزع الرب الأقضية عليكِ..أزل عدوكِ.مَلَك اسرائيل الرب فى وسطكِ”(صفنيا14:3).
ثالثا- المرأة تلد المسيّا ذاك الذي “ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ”(رؤيا5:12) ومزمور9:2).
رابعا- ابن المرأة يحقق ما قاله الرب في سفر التكوين 15:3 متنبئ ان المرأة سيكون لها نسل وهو الذي سيسحق الشرير. اصحاح 12 من سفر الرؤيا يشبه بطريقة درامية إتمام تلك النبؤة من ان التنين (الشيطان) يطرح الي اسفل الي الأرض مهزوما بينما ابن المرأة الذكر “ وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إِلَى اللهِ وَإِلَى عَرْشِهِ”(رؤيا5:12).
خامسا- تختبر المرأة الخروج الجديد فبعد إنتصار ابنها على الشرير طارت المرأة الي البريّة حيث عالها الله وأنقذت على أجنحة الملائكة:” وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا” و ” وَلَمَّا رَأَى التِّنِّينُ أَنَّهُ طُرِحَ إِلَى الأَرْضِ، اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَلَدَتْ الابْنَ الذَّكَرَ، فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَوْضِعِهَا، حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ، مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ. فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ. فَأَعَانَتِ الأَرْضُ الْمَرْأَةَ، وَفَتَحَتِ الأَرْضُ فَمَهَا وَابْتَلَعَتِ النَّهْرَ الَّذِي أَلْقَاهُ التِّنِّينُ مِنْ فَمِهِ. فَغَضِبَ التِّنِّينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ لِيَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا”<(رؤيا6:12و 13-16) – صور للتذكرة بقصة الخروج والتي فيها قد أحضر إسرائيل الي البريّة حيث اعال الله الشعب بالمن السماوي (الخروج4:16-5) وحفظت بأجحنحة الملائكة حيث قال الله لهم:” أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ”(خروج4:19).
مع كل تلك الخلفية يمكننا ان نفهم لماذا “المرأة” تُرى كرمز للكنيسة فمثل الكنيسة المرأة في اصحاح 12 من سفر الرؤيا قد تم حمايتها وتم اعالتها من الله والصورة كما جاءت في رؤيا13:12-16 تصف ان الله يحمي شعبه في العهد الجديد. ويمكننا أيضا ان نفدّر التفسير بأن “المرأة” هي رمز لشعب إسرائيل في العهد القديم، وتلك النظرة منطقية عن أمرأة متوجة بأثني عشر نجما والتي تذكرنا بأسباط إسرائيل ال 12، وأيضا تشرح صورة الولادة بألم والتي تذكرنا بنبؤات إبنة صهيون وعن الضيقات التي واجهت شعب الله.
هل هناك مكان لنرى مريم العذراء في ذلك المشهد؟ بينما ان “المرأة” قد تظل لها بعض المعنى
الرمزي تشير الى إسرائيل او الكنيسة، يجب ان نحتفظ في فكرنا على انها صورة لأم المسيّا وحيث انها ترجع كونها أماً للمسيّا أفلا سيقودنا هذا الي مريم؟. انه يبدو من المستحيل ان المسيحيون الأوائل لم يروا مريم في كل هذا المشهد للمرأة. لقد كتب احد علماء الكتاب المقدس ” انه من غير الممكن ان آباء الكنيسة في نهاية القرن الأول الميلادي قد تكلموا وكتبوا عن أم المسيح وتغافلوا عن مريم العذراء؟” أكثر من هذا حيث ان الشخصيتان الأخريتان الرئيسية في نص سفر الرؤيا قد تم معرفتهما كشخصيتان مفردتان (مولود ذكر= يسوع، والتنين=الشيطان)، فيبدو انه من غير المحتمل ان الشخصية الرئيسية الثالثة “المرأة”، ليست فرد على الإطلاق ولكن فقط رمز لمجموعة جماعية، بل بالأحرى اذا كان الشيطان والمولود يمثلان شخصيتان فالمرأة من المحتمل ان تمثل هي الأخرى فرد أيضا. علاوة على ذلك، إعطاء فكرة كتابية عن افراد يمثلون مجموعات من الناس فالمرأة في سفر الرؤيا الاصحاح ال 12 يمكن ان تفهم على انها كل من فرد (مريم) وممثلة لشعب الله ككل (إسرائيل و/او الكنيسة). ومريم تصبح بهذا الشخص المناسب يحمل كلا من القديم والجديد لشعب العهد من حيث انها تقف كمعبر ما بين القديم والجديد. اذا ما كانت هناك امرأة واحدة في تاريخ الخلاص من تستطيع ان تمثل احسن تمثيل كلا من وعد وعهد إسرائيل القديم وبداية وعد وعهد جديد لشعب الله فمن المؤكد ان تكون “مريم العذراء أم يسوع”.
تكليل القديسة مريم العذراء
ان المرأة في سفر الرؤيا 12 تم التعرف عليها على انها مريم العذراء يمكننا ان نرى كيف ان النص يكشف اين رحلة مريم مع الله في النهاية قادتها: ان تكلل بالمجد في السماء وان تشارك في ملك المسيح طبقا للوعد الذي اعلنه لكل التلاميذ المؤمنون.
سفر الرؤيا الاصحاح ال 12 قدّم لنا مريم صورة مريم كملكة عظيمة عاكسا حالتها الملكية
الممتازة:” وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ: امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسِهَا إِكْلِيلٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا”(رؤيا1:12).
هذه الآية تكشف ملك مريم الرائع بثلاثة طرق: أولا، انها ترتدي اكليل يرمز الي مكانتها
الملوكية في السماء. ثانيا، المرأة تحت رجليها القمر وهذا أيضا يشير الي ملوكيتها فالكتاب المقدس اذا ما كان شيئا تحت قدمي يعكس قيادة ملوكية ونصر على أعداء الشخص مثال ما جاء:” قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ» (مزمور1:110). ثالثا، ان الصورة الثلاثية السماوية للمرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت رجليها ومتوجة بإكليل من اثنا عشر كوكبا توضح أيضا سلطانها الملكي. صورة مشابهة يمكن ان نجدها في حلم يوسف الصديّق في العهد القديم والذي فيه الشمس والقمر و11 كوكبا سجدوا أمامه رامزا الى السلطة الملوكية والذي ستكون ليوسف الصديق على ابوه وامه (مرموز بالشمس والقمر) وفوق اخوته (يرمز بال 11 نم او كوكب)” ثُمَّ حَلُمَ أَيْضًا حُلْمًا آخَرَ وَقَصَّهُ عَلَى إِخْوَتِهِ، فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ حَلُمْتُ؟ حُلْمًا أَيْضًا، وَإِذَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا سَاجِدَةٌ لِي». وَقَصَّهُ عَلَى أَبِيهِ وَعَلَى إِخْوَتِهِ، فَانْتَهَرَهُ أَبُوهُ وَقَالَ لَهُ: «مَا هذَا الْحُلْمُ الَّذِي حَلُمْتَ؟ هَلْ نَأْتِي أَنَا وَأُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ لِنَسْجُدَ لَكَ إِلَى الأَرْضِ؟»(تكوين9:37-10). وفي سفر الرؤيا اصحاح 12 شبهت مريم العذراء بمثل تلك الصور الثلاثية السمائية وهكذا تظهر سلطتها الملكية متذكر ما جاء عن يوسف الصديق.
لذلك ففي هذا الكتاب الأخير من الأنجيل المقدس تظهر مريم في السماء بمنظر ملكي رائع مشتركة في مملكة ابنها المنتصر. هذا ناتج من ايمانها الثابت خلال حياتها -من البشارة الي اجتماعها مع الكنيسة في الصلاة قبل الخماسين وحلول الروح القدس على الرسل. لقد كوفئت بأكليل البِر و شاركت في ملك ابنها، ولكن كما نلاحظ في نهاية هذا الاصحاح حالتها الملوكية لا يجب ان ترى على انها منفصلة عن كل مسيحي مؤمن تبع المسيح في حياته بأمانة. ان ملك مريم لا يعني أن يُعجب به فقط من بعيد، فإيمانها وخدمتها للرب يجب ان يُحتذى به من كل مؤمن فهي أم لنا ومثال لنا.
ان العهد الجديد يعلمنا ان كل مسيحي مؤمن بالمسيح سيشترك في ملكه، فلقد قال يسوع لرسله
هذا الوعد:” فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ”(متى28:19-30)، وبالمثل وعد تلاميذه الذين سيبقوا معه في تجاربه سيحكمون إسرائيل الجديدة:” أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتًا، لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ»(لوقا28:22-30).والقديس بولس عكس ذلك التعليم مشيرا لتلميذه تيموثاوس قائلا:” صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضًا مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نُنْكِرُهُ فَهُوَ أَيْضًا سَيُنْكِرُنَا”(2تيموثاوس11:2-12). في سفر الرؤيا لن تكون مريم الشخص الوحيد الذي يُعطى له الأكليل، فصور الأكليل ترجع للمشاركة في ملكوت المسيح والذي أعطي لكل القديسين كثواب او جائزة لثباتهم في الإيمان للنهاية من خلال التجارب والضيقات والإضطهادات:” كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ”(رؤيا10:2)، “هَا أَنَا آتِي سَرِيعًا. تَمَسَّكْ بِمَا عِنْدَكَ لِئَلاَّ يَأْخُذَ أَحَدٌ إِكْلِيلَكَ”(رؤيا11:3)، “وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا. وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ”(رؤيا4:4)، “فَنَظَرْتُ، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ قَوْسٌ، وَقَدْ أُعْطِيَ إِكْلِيلًا، وَخَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ”(رؤيا2:6) و “ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ”(رؤيا14:14).وحيث ان العهد الجديد قد بيّن لنا ان مريم العذراء هي مثال وأنموذج لتلميذ ليسوع ومن يسمع لكلمة الله ويحفظها ويعمل بها:” فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ»(لوقا38:1)، “فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ»(لوقا45:1)، “فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا»(لوقا21:8) و”أَمَّا هُوَ فَقَالَ: «بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ» (لوقا28:11)، وأيضا لشخص ظلّ امينا طوال حياتها:” هؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ(اعمال14:1) وحتى ثابتة معه حتى موته على الصليب (يوحنا25:19-27). ان سفر الرؤيا يعكس تماما ان مجدها الملكي ومشاركتها في ملك المسيح ومتوجة بأكليل على رأسها من اثنا عشر كوكبا هو تحقيق لكل الوعود التي اعلنها السيد المسيح.
ومريم العذراء هى أيضاً مثال لشعب العهد الجديد ومُلكه كما جاء عنه:”اما انتم فجيل مختار وكهنوت ملوكي وامة مقدسة وشعب مُقتنى لتخبروا بفضائل الذى دعاكم من الظلمة الى نوره العجيب. وانتم لم تكونوا حيناً شعباً اما الآن فشعب الله” (1بطرس9:2-10)، “وجعلنا ملوكا وكهنة لله ابيه“(رؤيا6:1)، “وجعلتنا لإلهنا ملكوتاً وكهنة ونحن سنملك على الأرض” (رؤيا10:5)، وايضاً حسب وعد الله فى القديم للشعب”وانتم تكونون لي مملكة احبار وشعباً مقدساً”(خروج6:19). وشعب العهد الجديد هذا هم الذين سيملكون مع السيد المسيح كما جاء
“وان صبرنا فسنملك معه“(2تيموثاوس12:2) وهم “يملكون الى دهر الدهور” (رؤيا5:22).
مريم العذراء لأنهـا كانت رسولـة وتلميذة كاملة تبعت تعاليـم السيد الـمسيح وعـملت إرادة الآب
السماوي فإستحقت أن تدخل ملكوت السماوات (متى21:7) وأن تنال إكليل الحياة (رؤ10:2)، وإكليلاً لا يفنى (1كورنثوس25:9)، وأن تجلس معه على عرشه حسب وعد السيد المسيح للمؤمنيـن”أؤتيـه أن يجلس معي على عرشي” (رؤيا21:3) وتحقيقا لما جاء في مزمور داود يُعظّم الـملك والـملكة القائـمة عن يـمينه “قامت الـملكة عن يـمينك بذهب أوفيـر” (مزمور10:44).
ومريم العذراء بعد ان انهت مجرى حياتها على الأرض قد انتقلت الى ملكوت ابنها الحبيب.
ومُلك العذراء مريـم يجب أن يُفهم على انـه فـى الحب والخدمـة وليس للدينونـة والحُكم، ومريم أمضت كل حياتهـا فى الأرض فـى تواضع وخدمـة مستـمرة “هـا أنـا آمـة الرب”(لوقا28:1)، ومع يسوع إبنـها وخضوعهـا التام لـه ولرسالتـه حتى الصليب والقيامـة، وحتـى بعد موتهـا واصلت خدمتهـا نحو أبناءهـا لتساعدهـم للوصول للحياة مع الله وذلك عن طريق ظهوراتها وتجلياتها فى الكثير من بلدان العالم وما ترسله من رسائل روحية لحث المؤمنين للرجوع الى الله.
مع كل تلك الخلفية يمكننا ان نرى ان مريم قد توجت بالمجد تقف كمذّكر ثابت لنا وعلامة ان
الله يريدنا ان نحقق مشيئته في كل حياتنا كما فعلت امنا مريم. إذا ما كنا تلاميذ مؤمنين وأمناء مثل مريم وان كنا ثابتين في طريق حياتنا الإيمانية ونستعمل حياتنا لنخدم خطة الله، نحن أيضا سنشترك في ملك المسيح الإنتصاري. ويجب ان نثق ونؤمن ان ملكتنا السماوية ترشدنا دائما في رحلتنا على الأرض وتتشفع لنا دائما في السماء حتى يمكننا ان نتحد بها وبإبنها وحتى كما قال القديس بولس جاهدنا الجهاد الحسن وأنهينا السباق نتحد بها في سماء ابنها وملكوته وننال اكليل البر والمجد. وكما كانت مريم كإمرأة في رحلة غربتها على الأرض وفي مسيرة إيمانها واجهت الإضطهادات وعدم التأكيد والتجارب والصعوبات لكنها ظلّت قريبة جدا من أبنائها الروحيين وهم مازالوا على الأرض فهي أكثر إلماما بما نعانيه وكأم هي قادرة على توجيهنا وإرشادنا نحو ابنها يسوع فهي ليست ببعيدة عنا فلنلتجئ دائما اليها ملتمسين شفاعتها وصلواتها
من أجلنا.
تذكار عيد تكليل مريم سلطانـة على السموات والأرض – وضع هذا العيد البابا المُكرّم بيوس 12، عام 1954 “السنة المريميّة”. وينفل به يوم 22 أغسطس من كل عام.
إنّ العذراء الطاهرة، بعد أن عَصمها الله مِن كلّ صلةٍ بالخطيئة الأصليّة، وطَوَت شَوْط حياتها الأرضيّة، نُقِلت جسدًا وروحًا الى السماء، وأعلنها الرّب سلطانة الكون لتكون بذلكَ أكثر ما يكون الشّبه بابنها، ربّ الأرباب، وقاهر الخطيئة والموت. فانتقال العذراء اشتراكٌ فريدٌ في قيامة ابنها، واستباق لقيامة المسيحيّين الآخرين.
تعاليم البابا بيوس 12
الهدف مِن هذا العيد هو أن يُدرك الجميع بطريقةٍ أوضحَ ويكرّموا بإيمانٍ أكبر رحمةَ وأمومةَ سيادةِ العذراء مريم التي حَمَلت الله في أحشائها.
إنّ مريم التي تُدير قلبها الأمومي نحونا والتي تهتمّ لأمر خلاصنا، تعتني بالجنس البشري بأسرِه. لقد جعلها الرّب ملِكة السماء والأرض، مُمَجَّدةً فوق أجواق الملائكة وصفوف القديسين في السماء، جالسةً عن يمين يد ابنها الوحيد، ربّنا يسوع المسيح، تلتمسُ بقوةٍ أعظم وتحصل
على ما تطلب، مِن خلال صلواتها الأموميّة.
-هو، ابن الله، يعكُس على أمّه السّماويّة، المَجد والجلال وسُلطان ملوكيّته، فإنّه لم يُشارِك أحدٌ
سلطانَ الشهداء يسوع، في عمل الخلاص كما شاركته “أمّه ومُساعِدَته؛ مريم. فإنّها تبقى أبدًا مُرتبطةً بِه، بقوّةٍ فريدةٍ لامتناهية، لتوزيع النّعم المُتدفّقة مِن الفداء.
إنّ يسوع هو المَلك طَوال الأبديّة، بالطبيعة وبحقّ المُلكيّة: فبِه ومعه وبالتبعيّة له، مريم هي ملكة بالنّعمة، وبإرتباطها الإلهي (أمومتها)، وبحقّ المُلكيّة، وباختيارٍ فريد مِن الله الآب.
فلنُكرّم إذًا سلطانة الملائكة والبشر، غير مُعتقدين البتّة بأنّ أحدً منّا مُعفًى عن تأدية الإشادة
بنفس مريم الأمينة والمُحبّة، صارِخين الى تلك الملِكة الحقّة، الملِكة التي تستحضرُ لنا بركة السلام؛ بأن تُرينا بعد هذا المنفى، يسوع، سلامنا وفرحنا الآتي والدائم.
كلمات مريم
يذكر لنا الكتاب المقدس سبعة كلمات او جمل نطقت بها القديسة مريم العذراء أم يسوع، وكل من هذه الجمل والكلمات مملوءة بمعاني تعكس شخصيتها وحياتها الروحيـة ويمكن التأمل فيها بعمق. لقد قال السيد المسيح:” اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ.” (لوقا45:6)، ولهذا فكلمات القديسة مريم مملوءة بالمعاني وتعكس ما قلبها من إيمان قوي وهي تشابه في شهرتها كلمات السيد المسيح على الصليب:
- الكلمة الأولى- “كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا “(لوقا34:1)- بتوليـة محفوظـة
تكلمت مريم بتلك الكلمات في الناصرة عندما بشّرها رئيس الملائكة جبرائيل بأنها ستصبح أما لله. كان رد فعلها في الحال لذلك الخبر العظيم ليس واحد من الإشادة بالنفس او المجد الشخصي ولكن كان احد الردود المثيرة للدهشة الصادقة. كيف ان دعوة الله للأمومة يمكن تحقيقها حيث انها لا تزال عذراء؟. ان اول جملة او كلمة قالتها مريم تظهر فطريتها الصادقة فعلاقتها بالله لا توجد اي مساحة للتظاهر او إخفاء حقيقة مشاعرها. لقد عبرّت بحرية عن دهشتها وخوفها وبساطتها. لايزال حسب الطريقة الطفولية، مريم بسرعة قبلت دعوة الله فلم تهرب او تختبئ من ذلك التحدي فهي كانت تتطلع الى توضيح فقط لكي يأتي الفعل الصحيح في مكانه.
- الكلمة الثانية – “هوذا أنا أمة الرب”(لوقا38:1) – خدمـة رائعة
في أقرب واسرع وقت عندما أكد لها رئيس الملائكة ان بتوليتها ستبقى محفوظة ولن تمس وان ذلك الحدث سيأتي بحلول روح الله القدوس فلم يبقى امامها اي مجال للتحفظ، فهي على الفور حددت موقفها وعلاقتها بالله كخادمة مكرسة جاهزة لكي تعطي خدمة بكل حماس. ان الكلمة الثانية تظهر ان مريم منفتحة بكل حرية لمشيئة الله وخاضعة لإرادته القدوسة. ان كلمة “آمة” في اليونانية هي شكل أنثوي كما جاء في العهد القديم لعبد او خادم لله. ان الجملة بكاملها تشهد تأكيد مريم لسمو وعظمة الله وطاعتها التى لا تشوبها شائبة لخطته الخلاصية من اجل البشر، وفي نفس الوقت تظهر تواضع مريم ونكران الذات والتزامها بالفقر الحقيقي.
- الكلمة الثالثة- “ليكن لي كقولك”(لوقا38:1) – طاعـة إيمانيـة
الآن تذهب مريم ابعد من ذلك بأن تضع مفهومها الى فعل، لقد وافقت ان تأخذ ما كشف لها رئيس الملائكة جبرائيل وان تصبح هي اما لإبن العليّ. في تلك اللحظة التاريخية اصبح ابن الله إنسانا وليبدأ تاريخ خلاص البشرية. هذه الكلمة الثلثة تشرح مدى عمق تفهم مريم ومعرفتها بالله وبمجرد ان عرفت ما يستلزمه دعوة الله لم تتردد لحظة. مثل ذلك الإيمان يمكن أن ينبع فقط من مشاركة فعالة وتأمل في الكتب المقدسة والتى تصف وعود الله وإتمامها في تاريخ الشعب المختار. أنها تشير الى معرفة مريم للتقليد المسياني المسلّم بأمانة عبر الأجيال.
- الكلمة الرابعة- “تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي….” (لوقا46:1-55) – تسبحة فرح
في زيارة لأليصابات نسيبة العذراء مريم في جبال أورشليم ردت على تحية المرأة الأكبر سناً وتسبحتها العجيبة برسالة شعرية تسبح بها الله الذي صنع مع مريم العظائم, هذه هي أنشودة التعظيم واحدة من أجمل الترانيم والتسابيح التى قيلت. أمتلأت أنشودة التعظيم الى إشارات للعديد من الأعمال العظيمة التى قام بها الله لشعبه المختار كما جاءت في العهد القديم، وتشير الى الأشياء العظيمة التى ستأتي مبتدأ بالحدث العظيم والذي فيه مريم شاركت في جزء كبير منه ألا وهو تجسد إبن الله. في أنشودة التعظيم تلك يمكننا ان نلمح الى ذكاء مريم وروح المعرفة والقلب الفرح والإهتمام بالآخرين وحب الله، وتعكس ايمان ثابت ورجاء لا يخيب وحب غير عادي. تلك القطعة الشعرية أيضا تذكرنا بتيسحات العهد القديم أمثال ميريام أخت موسى وحنة أم صموئيل النبي ويهوديت. كلمات المجد والتى قيللت ليهوديت في القديم يمكن تطبيقها على مريم من قِبل الكنيسة:” «أَنْتِ مَجْدُ أُورُشَلِيمَ وَفَرَحُ إِسْرَائِيلَ وَفَخْرُ شَعْبِنَا” (يهوديت10:15). الكلمة الخامسة – “يا بني، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين” (لوقا48:2) – مسؤوليـة حانية
اثنا عشر عاما بعد مولد يسوع، فقدت مريم عن غير قصد ابنها أثناء رحلة الى أورشليم، وبعد بحث محموم والذي قد يكون تعرضت فيه لبعض الأفكار السلبية وجدت يسوع في اليوم الثالث في الهيكل وأظهرت معاناتها بتلك الكلمات. تلك الجملة الخامسة أبرزت حنان مريم وقبولها للمسؤولية وسلطة الله المعطاة لها، وابنها مازال خاضعا لها وليوسف ولكن المضمون كله لهذا الحدث اتجه الى أبعد. تلك الجملة الخامسة تظهر ان مريم تشارك الغالبية من البشر التى تختبر الصعوبات والقلق، وها هي تواجه بعض الغموض في إيمانها وتتعرض كبشر لما يتعرض له اي إنسان في رحلة الإيمان.
- الكلمة السادسة – “ليس لهم خمر”(يوحنا3:2) – عطاء المحب
ما يقرب من عشرون عاما بعد حدث زيارة الهيكل هناك حفل زواج في قانا الجليل ولاحظت مريم ان نبيذ حفلة العرس قرب على النفاذ وهو شيئ محرج للغاية في ذلك الزمن، فتدخلت مريم على الفور وتشفعت الى ابنها قائلة له عما حدث. ان تلك الكلمة السادسة تظهر عظمة قلب مريم فهي ملاحظة لكل شيئ وكل التفاصيل وتعرف ما الذي تفعله هذا بالإضافة الى إيمانها بإبنها يسبق ويعد للمعجزة او العلامة التى سيجريها. وهكذا تظهر مريم يقظتها من انها متجهة لأداء دوررها في خلق شعب جديد لله، جماعة مسيانية ستتكون حول يسوع بدءا من اول آية في قانا:” هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ.” (يوحنا11:2). فدور مريم هو ان تشير طريق الشعب الجديد نحو يسوع بأن تعدهم من خلال
تلك المعجزة لقبول آياته وتعايمه.
- الكلمة السابعة – “مهما قال لكم فافعلوه”(يوحنا5:2) – إيمان راسخ
بعد ان ابلغت مريم يسوع بمشكلة العروسان في عرس قانا التفت مريم الى السقاة طلبت منهم ان يفعلوا كل ما يأمرهم به ابنها مهما قال لهم. ان كلماتها تطابق لكلمات الشعب المختار عندما وعدوا ان يتمسكوا بالعهد مع الرب:” «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ»“(خروج8:19)، وايضا:” تَقَدَّمْ أَنْتَ وَاسْمَعْ كُلَّ مَا يَقُولُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُنَا، وَكَلِّمْنَا بِكُلِّ مَا يُكَلِّمُكَ بِهِ الرَّبُّ إِلهُنَا، فَنَسْمَعَ وَنَعْمَلَ.“(تثنية27:5). بتلك الكلمة السابعة عبّرت مريم عن إيمان كل الشعب المستعد لتلقي الوحي الذي يعلنه يسوع.
بالإضافة الى كشف مريم عن شخصيتها ودورها فكلمات مريم تحمل معنى خاص لنا، فهي
كخادمة لله فهي مثال لكل المسيحيين من حيث اننا جميعا مدعوون ان نكون خداما لله. ان
التأمل في كلمات مريم وفي حياتها سوف يفتح الباب لا محالة لنا فنستطيع ان ننمو في حياة الخدمة. اذا كنا حكماء سوف نتبع تلك النصيحة التى جاءت في سفر الأمثال:” احْفَظْ وَصَايَا أَبِيكَ وَلاَ تَتْرُكْ شَرِيعَةَ أُمِّكَ. اُرْبُطْهَا عَلَى قَلْبِكَ دَائِمًا. قَلِّدْ بِهَا عُنُقَكَ. إِذَا ذَهَبْتَ تَهْدِيكَ. إِذَا نِمْتَ تَحْرُسُكَ، وَإِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَهِيَ تُحَدِّثُكَ. لأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِصْبَاحٌ، وَالشَّرِيعَةَ نُورٌ، وَتَوْبِيخَاتِ الأَدَبِ طَرِيقُ الْحَيَاةِ.“(أمثال20:6-23).
رفات وذخائر
الذخائر هي بقايا لقديس سواء كل الجسد او جزء منه او اشياء تلامست مع ذاك القديس، اما الرفات فهي عبارة عن بقاء الجسد بعد موته دون تحلل. والذخائر او رفات القديسين تكرم من المؤمنين بعد موافقة السلطة الكنسية (مجمع ترينت الجلسة 25) وذلك لأن أجساد القديسين بينما هم على الأرض هي هياكل للروح القدس واعضاء حيّة في جسد المسيح. ان الإكرام يمكن ان يأخذ صورة التمثل بفضائل ذلك القديس او اظهار احترام وتقدير خاص لرفاته او ذخائره. اخيرا ان ذلك الاحترام او التقدير لا يقدم للأشياء المادية ولكن لشخص القديس. لهذا فذخائر القديسين تعتبر اشياء مقدسة ويتم وضعها في مكان بجوار مذبح الصلاة في الهيكل او احيانا في دولاب خاص ويتم عرضها للمؤمنين للتبرك بها وذلك في عيد ذلك القديس وذلك من خلال دورة داخل الكنيسة مع التسابيح والترانيم. بدأ الاهتمام بتلك الذحائر والبحث عنها خاصة في بدء المسيحية مع دفن اجساد الشهداء، وزاد الأمر مع الجملات الصليبية للأراضي المقدسة واكتشاف قبر السيد المسيح وصليبه مع مجهودات القديسة هيلانة ثم بدأت عمليات انشاء الكنائس والمغارات وتم تهريب عدد كبير من تلك الذخائر الى روما ومن الى بلاد اوروبا.
بالنسية الى القديسة مريم فنفس الشيئ ولكن هنا المر مختلف فبعد انتقالها للسماء بالنفس والجسد فمن الطبيعي لا يكون هناك اي بقايا او رفات او اشياء متعلقة بها ولكن كان البحث لا يتوقف عن اي شيئ لمسته العذراء او استخدمته اثناء حياتها على الأرض. بالطبع هناك العديد من الكنائس التى تعرف بإحتوائها على صورة او صور للعذراء رسمها القديس لوقا الانجيلي وهناك صور عجائبية مثل صورة جوادالوبي بالمكسيك لكن لا يوجد اي شيئ مادي سوى ما يعرف ب”زنار مريم” او “حزام مريم” والذي قيل ان القديس توما الرسول اخذه من القديسة مريم عندما شاهد موكب الملائكة وهي تنقل جسدها للسماء. وفيما يلي اشهر القطع او الأشياء المقدسة المعروفة والتى يدعى انها تخص القديسة مريم:
- قطعة من ملابس العذراء – يزعم ان الامبراطور مارسيان استلمها من المطران جوفينال
مطران اورشليم قي سنة 452م واختفت عام 1453 عندما هزم الأتراك الامبراطورية ويقال ان جزء منه موجود الان في دير vatopedi في جبل آثوس اليوناني.
- زنار او حزام – وقصة الزنار تعود إلي وجوده مع رفات القديس توما الرسول كدليل
علي رؤيته إصعاد جسد العذراء للسماء حتي تم نقل جسد توما الرسول والزنار لمدينة الرها في شهر اغسطس 394م، وهي مدينة سورية موجودة اليوم تحت السلطة التركية بإسم ” أورفة ” ثم تم نقل الزنار منفرداً إلي كنيسة السيدة العذراء بمدينة ” حمص ” السورية عن طريق أحد الأباء، وتم إكتشاف الزنار في يوليو 1953 وكان ذلك علي يد مار أغناطيوس أفرام الأول برصوم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس في كاتدرائية ” أم الزنار”. و كنيسة أم الزنارشيدت هذه الكنيسة في منطقة بستان الديوان عام 59م وسميت بهذا الإسم ” أم الزنار ” لوجود الزنار بها ويذهب لزيارتها الكثير من المسيحين من جميع الطرائف كل عام، كما تعتبر مقراً لطائفة السريان الأرثوذكس في حمص.
- شعر العذراء – بعض من شعر العذراء يدعى انه موجود في كاتدرائية Messina في
صقلية بعد ان أحضر اليها اثناء الحملة الصليبية لأورشليم وهناك اماكن اخرى تتدعي نفس الشيئ.
- منزل العذراء Loreto“منزل العذراء مريم المقدّس” في لوريتو (إيطاليا) وهو ضمّ 3 جدران من بيت العذراء في الناصرة، نُقِلَت إلى لوريتو بطريقة عجائبية
- 5. خطاب – من المفترض ان ارسلته القديسة مريم للمسيحيين الوائل في Messina
ولكن بالفحص والتحقيق تبين انه كتب الفعل بمعرفة Constantine Laskaris في القرن الخامس عشر.
- خاتم الزواج Santo Anello والذي يقال انه محفوظ في كاتدرائية Perugia بايطاليا
- رسالة للقديس اغناطيوس الإنطاكي لمريم العذراء وردها عليه واكتشف بعدها انه مزور
وكتب في القرن الثاني عشر.
التحليل النهائي والشيئ الأكثر اهمية انه لا يوجد اي شيئ من ذخائر او رفات للقديسة مريم وانها تركت لنا ذخائر روحية لطاعتها وايمانها وفضائلها التى أثرت على المسيحيين في انحاء العالم.
صورة للعذراء مريم
لم تحفظ لنا أي صورة على الشبه الحقيقي لمريم، و أما الصورة البيزنطية، التي يقال
إن القديس لوقا رسمها، تنتمي فقط إلى القرن السادس، ولقد أعيد إنتاجهاو هناك سبع وعشرون نسخة موجودة، عشر منها في روما. وكتب القديس أوغسطينوس يعبر عن رأي مفاده أن المظهر الخارجي الحقيقي لمريم غير معروف لنا، وأننا في هذا الصدد لا نعرف ولا نؤمن بشيءمن هذا القبيل. ان أقدم صورة لمريم هي تلك الموجودة في مقبرة بريسيلا وتمثل العذراء كما لو كانت على وشك إرضاع الطفل يسوع، وبالقرب منها صورة نبي أو إشعياء أو ربما ميخا النبي ونتمي الصورة إلى بداية القرن الثاني، وتقارن بشكل إيجابي مع الأعمال الفنية الموجودة في بومبي. من القرن الثالث لدينا صور للسيدة العذراء حاضرة في عبادة المجوس؛ توجد في مقابر دوميتيلا وكاليكستوس. توجد صور تعود إلى القرن الرابع في مقبرة القديسين بطرس ومارسلينوس؛ في واحدة من هذه تظهر ورأسها مكشوف، وفي أخرى وذراعيها ممدودتان كما لو كانت في الدعاء، ويقف الطفل أمامها. على قبور المسيحيين الأوائل احتلت مريم دائما مكان الشرف.
إلى جانب اللوحات على الجدران وعلى التوابيت، تقدم سراديب الموتى أيضا صورا لمريم مرسومة على أقراص زجاجية مذهبة ومختومة عن طريق قرص زجاجي آخر ملحوم بالأول. نتمي هذه الصور بشكل عام إلى القرن الثالث أو الرابع.
التسلسل الزمنى لحياة القديسة مريم العذراء
ان التسلسل الزمني لحياة مريم العذراء يعتمد تماما على التسلسل الزمني لحياة ابنها يسوع المسيح والتى هي في ذاتها حفظت وسجلت في العهد الجديد، ولذلك في احسن الظروف لتسلسل حياة مريم يمكن ان تكون ارشادية بدلا من ان تكون قاطعة. ومع ذلك التسلسل الزمني- حتى ولو كان واحد مؤقت- يكون احتمال ان يساعد في رؤيتنا لشخص كان في القديم حاضرا امامنا. هكذا فالتسلسل الزمني التالي تم رسمه ليعطينا فكرة ما عن حياة أمنا القديسة مريم:
20/23 قبل الميلاد – ولادة مريم ليواقيم وحنة
17/20 – تقديم مريم للهيكل
8/11 – خطبة مريم ليوسف (متى16:1) و (لوقا27:1)
7 – البشارة بميلاد المسيح لمريم (لوقا26:1-38)
– زيارة مريم لنسيبتها اليصابات (لوقا39:1-56)
6/7 قبل الميلاد – ميلاد يسوع في بيت لحم (لوقا1:2-19)
– وجدوا مريم مع الطفل (متى18:1-25)
– ختان يسوع في اليوم الثامن (لوقا21:2)
– تطهير مريم حسب الشريعة بعد 40 يوما (لوقا22:2-24)
– نبؤة سمعان الشيخ عن يسوع ومريم (لوقا25:2-35)
– حنة النبيّة تتكلم عن يسوع (لوقا36:2-38)
– العودة الى الناصرة (لوقا 39:2)
4/6 قبل الميلاد – زيارة المجوس (متى1:2-11)
– الهروب الى مصر من هيرودس الملك (متى 13:2-14)
4/؟ قبل الميلاد – العودة الى الناصرة بعد موت هيرودس (متى19:2-23)
6 بعد الميلاد – وجدوا يسوع في الهيكل في اورشليم (لوقا41:2-50)
6/؟ – 27/28 – حياة مريم ويوسف مع يسوع في الناصرة (لوقا51:2)
30 بعد الميلاد – مريم في عرس قانا الجليل (يوحنا1:2-11)
مريم مع يسوع أثناء حياته وخدمته العلنية (متى46:12-50، مرقس 31:3، لوقا19:8-21، يوحنا12:2-13)
- تطويب يسوع الغير مباشر عن مريم لإيمانها (لوقا27:11-28)
33 ميلادية – مريم عند الصليب (يوحنا25:19-27)
-مريم مع الرسل في العليّة بعد صعود يسوع (أعمال14:1)
43/48 – موت وانتقال مريم بالنفس والجسد للسماء لتتحد مع ابنها يسوع
- والدة الله
العلم المريمي Mariology
لأن مريم تحتل موقعا مميزا في تدبير الله الخلاصي، بأنها أم ابن الله المتجسد وبكر الخليقة
المفتداة، نشأ في الكنيسة ما يسمى “اللاهوت المريمي”، علم كغيره من العلوم، يبحث ليُظهر
الحقيقة ويوضح أمامنا صورة مريم، شارحاً ومثبتاً موقعها الذي أراده الله لها. وهذا اللاهوت له
مرجعيته التي تعطيه حيويته وقوته وتجدده.
الكنيسة الكاثوليكية تعتمد على الكتاب المقدس كمرجع أساسيّ لتعاليمها، وبالتالي كل تعاليمها هي لشرح وتوضيح ما اوحي في الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد وهي تسعى جاهدة لفهم تدبير الله المُعلن من خلال الكتاب المقدس، وهي حريصة الحرص الشديد على أن تبقى أمينة لشهادة المعلم يسوع لأبيه، وشهادة الرسل ليسوع.
لذلك، إذا أردنا التكلم عن مريم، فالكتاب المقدس هو المرجع الأول الذي نعود إليه، ومنه ننطلق لنفهم سر مريم، الذي هو سر أمومتها ومرافقتها لابنها يسوع كلمة الله “في البدء كان الكلمة… والكلمة صار بشراً” (يوحنا1:1-14)، وهو مضمون البشارة الجديدة وهو منتظر الشعوب.
والمصدر الثاني لكل تعليم كنسي هو ما يعرف “بالتقليد المقدس” والذي يتكلم عنه أيضاً المجمع الفاتيكاني الثاني في دستور عقائدي في الوحي الإلهي، الفصل الثاني، الفقرة 8: “…ولذا فالرسل، وقد سلَّموا ما كانوا قد تسلموه، ينبِّهون المؤمنين إلى التمسك بالتقاليد التي تعلموها سواء بالوعظ أو بالرسائل (2تيموثاوس15:2) وإلى الجهاد في سبيل الإيمان. وهكذا فإن الكنيسة بتعليمها وحياتها وطقوسها، تخلِّد وتنقل للأجيال بأسرها كل ما هي عليه وكل ما تؤمن به.هذا التقليد الذي استلمناه من الرسل يتقدّم في الكنيسة بمعونة الروح القدس، فهذا التقليد المقدَّس الذي وصل إلى أباء الكنيسة، تسلَّموه وتأملوا فيه وشرحوه. والمصدر الثالث هو الطقوس الكنسية، فالشعب المقدّس والممسوح بالروح القدس، نظَّم ذاته ونظم إحتفالاته وأعياده، ووضع مواعيد للقاء للصلاة وتمجيد الله وشكره. وبوضع المواعيد والأزمنة نشأ ما يسمى “بالوقت المقدس” و”اليوم المقدس”، وبالتالي نشأت ما تسمى “بالسنة الطقسية”، وهذا ما يسمى بالزمن الليتورجي الذي به تقام الإحتفالات الليتورجية. فهذا الزمن يكون مقدّساً لأنه مخصص للقدوس، ولأن أساس اللقاء وغايته هو الله. فهذا الشعب لكي يحيي هذه الإحتفالات الليتورجية استند إلى المرجعين السابق ذكرهما: فكان الكتاب المقدس والتقليد المقدس مصدر إلهام، فظهر دور الليتورجية بأنها تستند إلى هذين المرجعين وأصبحت بالنسبة لنا مرجعاً مهماً وأساسياً.والليتورجية احتفلت وأظهرت بعض خصائص مريم أو بعض الحقائق المريمية قبل أن تكون هذه الحقائق موضوع بحث لاهوتي أو موضوع إعلان عقائدي. مثلا على ذلك: شفاعة مريم السماوية، فقد نظمت صلوات تطلب شفاعة العذراء قبل أي إعلان كنسي رسمي عن ضرورة تكريم وطلب شفاعة مريم. وبالتالي أصبح رواج إحتفال ليتورجي معين بمثابة عمل الروح في وسط شعبه، فمئلا رواج عيد الحبل بلا دنس وانتشاره قبل إعلان عقيدة الحبل بلا دنس اعتبر بـمثابة برهان على هذه الحقيقة اللاهوتية.
محتوى “العلم المريمي” او “اللاهوت المريمي” يمكن تقسيمه الي جزءان كالتالي:
- الجزء الأول ويشمل مهمة مريم الفردية وأمومتها والنتيجة الطبيعية لأمومتها الروحية للمؤمنين وفضائلها ومناقشة وتامل في مكانتها الفريدة.
- الجزء الثاني ويشمل امتيازات مريم مثل الحبل بلا دنس الخطيئة الأصلية والممتلئة نعمة والبرارة والبتولية الدائمة وعدم فساد جسدها وانتقالها بالنفس والجسد للسماء.
الثالوث الأقدس ومريم
اعلن المجمع الفاتيكاني الثاني في الفصل الثامن: دستوره العقائدي عن الطوباوية مريم أم الله في سر المسيح والكنيسة ما يلي:” أمَّا وقد قرَّرَ الله بصلاحِهِ المتسامي وحكمته الفائقة أن يفتدي العالم “لمّا بلغ ملءُ الزمان أرسل ابنه مولوداً من امرأة… لننال التبني” (غلاطية4:4-5) “الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء”. فالعذراء مريم التي قَبِلَت، عند بشارة الملاك، كلمةَ الله في قلبها وفي جسدها، وقدَّمَت الحياة للعالم، هي معروفة ومكرمة كأمّ الله الحقة، وأم المخلص. وقد افْتُدِيَت بطريقةٍ ساميةٍ نظراً إلى استحقاقات ابنها، المرتبطة به برباطٍ وثيقٍ لا ينفصم. اغتنت بهذه المهمّة الفائقة، وهذا الشرف، بأن تكون أم ابن الله، وبالتالي ابنة الآب المفضَّلة، وهيكلَ الروح القدس، بهذه العطية عطية
النعمة غير العادية، تسامَت إلى حدٍ بعيد فوق كلِّ الخلائق في السماء وعلى الأرض”.
مريم والأب السماوي: ان مريم هي نفسها تلك المرأة التي لوَّحَ عنها الله آنذاك بطريقةٍ نبويّة في الكلام على الوعد بالانتصار على الحية، الوعد الذي قطعه الله للأبوين الأولين بعد سقوطهما بالخطيئة (تكوين15:3) وهي كذلك العذراء التي ستحبل وتلد ابناً يُدعى اسمه عمانوئيل (را. إش 7: 14؛ مي 2:5- 3؛ متى 1: 22- 23).
ولقد حَسُن لدى أبي النعم أن يسبق التجسد رضى هذه الأم المختارة، حتى أنه كما ساهمت امرأةٌ في عمل الموت، تساهم أيضاً امرأةٌ في الحياة. وهذا ما يَصحُّ بنوعٍ عجيب في أم يسوع التي أعطت العالم الحياة، حياةً منها تجدَّدَ كلُّ شيء، وقد حَباها الله نِعماً على مستوى مهمة عظمى كهذه. وقد زهت عذراء الناصرة، منذ اللحظة الأولى للحبل بها، بقداسةٍ وهّاجة وفريدة جداً، فحيَّاها ملاك البشارة المنتدب من الله ممتلئةً نعمة (لوقا28:1). فأجابت البشير السماوي، “هاءنذا أمةُ الربِّ، فليكن لي حسب قولك” (لوقا38:1).
العذراء القديسة مع يسوع الإبن: إنَّ الاتحاد الذي يربط الأم بابنها في عمل الخلاص لظاهرٌ منذُ ساعة الحَمْل البتولي بيسوع حتى موته، ويبدو أول ما يبدو ساعةَ ذهبت مريم مسرعةً لتزورَ أليصابات؛ فحَيَّتها هذه بالمباركة التي آمنت بالخلاص الموعود به، في حين ارتكض السابق في أحشاء أمه (لو 1، 41 – 45) ثم في الميلاد عندما أرت أم الله بفرحٍ إلى الرعاة والمجوس، ابنها البكر الذي كانت ولادته تكريساً لبتوليَّتها الكاملة وليس فقداناً لها (181)، وأيضاً في الهيكل بعدما قدَّمت ذبيحةَ الفقراء، إذ قرَّبَت ابنها للربِّ؛ فسمعت سمعان يتنبأ في الوقت عينه، أن الابن سيكون علامةَ خلافٍ، وإنَّ نفسَ الأمِّ سيَنفذ فيها سيفٌ، وهكذا ستظهر أفكارُ الكثيرين (لو 2، 34- 35). أمَّا وقد ضاعَ الطفل يسوع ففتش عنه والداه حزينين، ووجداه في الهيكل منشغلاً بأعمالِ والده، لكنّهما لَمْ يفهما كلمة الصبي. أمّا أمه فكانت تحفظ كل هذا في قلبها وتتأمل فيه (لو 2، 41– 51).
وفي حياة يسوع العامَّة تظهر أمُّه بكل وضوحٍ منذ البدء عندما حصلت بشفاعتها، وقد حرَّكَتها الشفقة، على أن يبدأ يسوع المسيح عجائبه في عرس قانا الجليل (يوحنا1:2-11). وطيلة كرازة يسوع قَبِلَت الكلام الذي به وَضَعَ الابنُ الملكوتَ فوق كلِّ اعتباراتِ وعلاقاتِ اللحم والدم، وذلك عندما أعطى الطوبى للذين يسمعونَ كلمةَ الله ويحفظونها (مرقس35:3؛ لوقا27:11-28)، كما كانت تعملُ هي بكلِّ أمانةٍ (لوقا19:2 و51). هكذا تقدَّمَت العذراء مريم في غُربة الإيمان مُحافظةً بكلِّ أمانةٍ على الاتحاد مع ابنها حتى الصليب حيث كانت واقفة (يوحنا25:19) -ولم يكن ذلك بدون تصميمٍ إلهي- تتألَّم بقوّةٍ مع ابنها الوحيد، مشتركةً بقلبها الأمومي في ذبيحته، معطيةً إلى تقدمة الذبيح، المولودِ من لحمها، رِضى حبِّها، إلى أن يُعطيها يسوع المسيح بالذات، المُنازع على الصليب، إلى تلميذه أُمَّاً له بهذه الكلمات “يا امرأة هذا ابنك” (يوحنا26:19-27).
الروح القدس ومريم
في مناسبتان في العهد الجديد أظهرت مريم وعلاقتها بالروح القدس. في يوم الخمسين نجد ان مريم كانت حاضرة في العلّية عندما حل الروح القدس:” هؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ.“(اعمال14:1) و” وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ”(اعمال1:2-4). ولكن عندما نتكلم عن الحبل المسياني في أحشاء البتول مريم نجد كلا من متى ولوقا يظهران تلك الحقيقة بصورة واضحة. في انجيل القديس متى وجدت مريم حبلى من الروح القدس:” أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.“(متى18:1)، ومن هنا جاء الإخطار ليوسف:” إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: «يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.“(متى20:1). في انجيل القديس لوقا اعلن الملاك لمريم ان ابنها سيدعى ابن العليّ:” وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ”(لوقا31:1-32)، ثم يضيف الملاك اجابة لتساؤلات مريم:” «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.“(لوقا35:1).
وبالتالي فهي نتيجة لذلك ان فعل الروح القدس في مريم ان ابنها سيملك على كرسي داود والى الأبد:” وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».“(لوقا33:1)، وانه سيدعى ابن الله وابن العليّ وان مريم في نفس الوقت ان الروح القدس حلّ عليها وقوة العليّ ظللتها(لوقا35:1).
منذ البداية لقب الملوكية في الشعب العبراني “الممسوح من الرب” اي المسيّا (والذي باللغة العبرية مثل “المسيح” في اللغة اليونانية للممسوح” كان مصاحب مع الآتي والمختار من الرب:” فَيَحِلُّ عَلَيْكَ رُوحُ الرَّبِّ”(1صموئيل6:10) و” فَأَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ الدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ. وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِدًا..“(1صموئيل13:16)، أو روح الله” فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ اللهِ فَتَنَبَّأَ فِي وَسَطِهِمْ.“(1صموئيل10:10). إذا ما أنقذ شاول الإسرائيليين من العمانويين وداود من الفلسطينيين فكان ذلك بسبب انهما قد قبلا قوة من الله والتى دعاها الكتاب المقدس “روح”. بالنسبة لشاول وداود فتلك “الروح” هي قوة من العليّ ضرورية للحياة ولقيادة شعب الله.
في الكتاب المقدس فالروح خاضعة بالكامل للرب فهو قادر ان يأخذها من البشر :” فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ.“(تكوين3:6)، في نهاية فترة من الزمن وبهذا تصبح حياة الإنسان محدودة. طبقا لمزمور داود 104 “ تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ،
وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ.تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ”(مزمور29:104-30).
ان تلك روح الحياة التى أعطاها الرب الى شاول ثم أخذها منهتاركا فيه قوة الروح الشريرة “ وَذَهَبَ رُوحُ الرَّبِّ مِنْ عِنْدِ شَاوُلَ، وَبَغَتَهُ رُوحٌ رَدِيءٌ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ.“(1صموئيل14:16)، وداود من جهة أخرى حفظها له حتى آخر كلماته:” فَهذِهِ هِيَ كَلِمَاتُ دَاوُدَ الأَخِيرَةُ: «وَحْيُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى، وَوَحْيُ الرَّجُلِ الْقَائِمِ فِي الْعُلاَ، مَسِيحِ إِلهِ يَعْقُوبَ، وَمُرَنِّمِ إِسْرَائِيلَ الْحُلْوِ رُوحُ الرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي.“02صموئيل1:23-2). في بعض قضاة اسرائيل فتلك الروح تصرفت بشكل عابر ولكن بشكل أكثر ديمومة مع يوسف:” فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِعَبِيدِهِ: «هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هذَا رَجُلًا فِيهِ رُوحُ اللهِ؟»“(تكوين38:41).
بعد سقوط المملكة منح روح الرب للأنبياء مثل حزقيال وبأمر من الله أمر النبي الروح ان تنشط
في اسرائيل(حزقيال 37)، وسوف يتدفق الروج الى كل بيت اسرائيل:” وَلاَ أَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُمْ بَعْدُ، لأَنِّي سَكَبْتُ رُوحِي عَلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ».“(حزقيال29:39)، وفيما بعد في كل الأجساد.
ولكن طبقا للنبي اشعيا ومدرسته ما خدث كان بسبب ان روح الرب ستحلّ على جذع يسى بمواهب الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة والرحمة والخوف من الرب وهي مواهب يستطيع بها الله ان يجغل الإنسان يخاف من الرب:” وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ، فَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ”(اشعيا1:11-3) و” أَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ.“(اشعيا9:11).
طبقا لما جاء في نبؤة اشعيا:” «هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ”(اشعيا1:42)، فالروح على “عبد الرب” الذي سوف يجعل شريعة الرب معلومة للأمم:” لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ».“(اشعيا4:42). في النهاية وكما جاء في اشعيا النبي:” أَيْنَ الَّذِي جَعَلَ فِي وَسَطِهِمْ رُوحَ قُدْسِهِ، “(اشعيا11:63) سمي الروح القدس كما ان الله قدوس. احزن الشعب عندما كان هذا الروح في موسى فهو الذي سيقود الشعب للراحة:” الَّذِي سَيَّرَ لِيَمِينِ مُوسَى ذِرَاعَ مَجْدِهِ، الَّذِي شَقَّ الْمِيَاهَ قُدَّامَهُمْ لِيَصْنَعَ لِنَفْسِهِ اسْمًا أَبَدِيًّا، الَّذِي سَيَّرَهُمْ فِي اللُّجَجِ، كَفَرَسٍ فِي الْبَرِّيَّةِ فَلَمْ يَعْثُرُوا؟ كَبَهَائِمَ تَنْزِلُ إِلَى وَطَاءٍ، رُوحُ الرَّبِّ أَرَاحَهُمْ”(اشعيا12:63-14)، حيث ان الله يريد شعبه ان يكون مقدس:””كَلِّمْ كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ الرَّبُّ إِلهُكُمْ.“(لاويين2:19)، وذلك بأن يحبوا اقرباؤهم وجيرانهم كأنفسهم:” بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.“(لاويين18:19) و”كَالْوَطَنِيِّ مِنْكُمْ يَكُونُ لَكُمُ الْغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ، وَتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ.“(لاويين34:19).
لذلك ففي العهد القديم فالمسيّا ورسالته لتقديس الشعب مرتبط كثيرا مع فعل حلول روح الله.
وبخصوص أم المسيّا مهما كان دورها وما سيكون، لم يذكر اي شيئ عن روح الله بالنسبة لذلك
الأمر. أكثر من ذلك كما جاء في العهد القديم ان المسيّ يكون إبن ووارث الله من خلال
“ أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا.“(2صموئيل14:7) و “«أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي». إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.“(مزمور5:2-7) و “الَّذِي تَثْبُتُ يَدِي مَعَهُ. أَيْضًا ذِرَاعِي تُشَدِّدُهُ.” “أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا، دأَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ.“(مزمور21:89 و27)، ومزمور 110 هذه البنوة تكون مصحوبة بالكهنوت كملكي صادق:”أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ”(مزمور4:110) حيث ان الله هو رئيس الكهنة الأعظم:” وَمَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ، أَخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا. وَكَانَ كَاهِنًا للهِ الْعَلِيِّ.“(تكوين18:14). في نص انجيل لوقا من جهة أخرى تلك البنوة ترجع الى أمومة مريم.
في وصف فعل روح الله على المسيّا فالتوراة اليهودية غالبا ما تغير الفعل، ففي القضاة مثل شمشون جاء:” فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، فَشَقَّهُ كَشَقِّ الْجَدْيِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ.“(قضاة6:14) وللملوك مثل شاول وداود تكلم الكتاب المقدسعن “حلّ” و”فارق” في كثير من الترجمات، وفي مثال جدعون القاضي جاء “ وَلَبِسَ رُوحُ الرَّبِّ جِدْعُونَ فَضَرَبَ بِالْبُوقِ”(قضاة34:6). فالروح يمكن ايضا “يفارق” النبي او “يسقط” او “يحمله بعيدا” (مثال ايليا- وَقَالُوا لَهُ: «هُوَذَا مَعَ عَبِيدِكَ خَمْسُونَ رَجُلًا ذَوُو بَأْسٍ، فَدَعْهُمْ يَذْهَبُونَ وَيُفَتِّشُونَ عَلَى سَيِّدِكَ، لِئَلاَّ يَكُونَ قَدْ حَمَلَهُ رُوحُ الرَّبِّ وَطَرَحَهُ عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ، أَوْ فِي أَحَدِ الأَوْدِيَةِ»“(2ملوك16:2). في اليشع النبي “وَلَمَّا رَآهُ بَنُو الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي أَرِيحَا قُبَالَتَهُ قَالُوا: «قَدِ اسْتَقَرَّتْ رُوحُ إِيلِيَّا عَلَى أَلِيشَعَ». فَجَاءُوا لِلِقَائِهِ وَسَجَدُوا لَهُ إِلَى الأَرْضِ.“(2صموئيل15:2) ولداود جاء “يحل”” وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ.“(اشعيا2:11)، فالكتاب المقدس يشير الى دوام وجود روح الله بقوله “استقر على”فجاء عن يوسف ” فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِعَبِيدِهِ: «هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هذَا رَجُلًا فِيهِ رُوحُ اللهِ؟»“(تكوين38:41)وفي موسى جاء “ ثُمَّ ذَكَرَ الأَيَّامَ الْقَدِيمَةَ، مُوسَى وَشَعْبَهُ: «أَيْنَ الَّذِي أَصْعَدَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ مَعَ رَاعِي غَنَمِهِ؟ أَيْنَ الَّذِي جَعَلَ فِي وَسَطِهِمْ رُوحَ قُدْسِهِ”(اشعيا11:63)، ولكن جاء في سفر العدد عن القاضى عُثْنِيئِيلَ بْنَ قَنَازَ أَخَا كَالِبَ الأَصْغَرَ.فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ”(قضاة10:3)، وفي النهاية اتى روح الله الى العظام الميتة لشعب اسرائيل وأقامها:” فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَني، فَدَخَلَ فِيهِمِ الرُّوحُ، فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظيمٌ جِدًّا جِدًّا”(حزقيال10:37).
انه ذلك الفعل الذي اختاره القديس لوقا ليصف حلول الروح على مريم «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، “، ربما كطريقة لشرح دوره النشط والحلاصي لذلك التكريس لميلاد المسيّاني.
“قوة العلي” يمكن ان تكون المقصود إشارة لكهنوت ملكيصادق “كاهن الله العلي” والذي هو احد السمات في الرسالة العبرانيين. لقد أشار القديس لوقا الى “سحابة تظللهم” كما جاء:” أَنْتَ يَا رَبُّ قَدْ ظَهَرْتَ لَهُمْ عَيْنًا لِعَيْنٍ، وَسَحَابَتُكَ وَاقِفَةٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ سَائِرٌ أَمَامَهُمْ بِعَمُودِ سَحَابٍ نَهَارًا وَبِعَمُودِ نَارٍ لَيْلًا.“(عدد14:14)، وظهرت في مزمور لداود:” الرَّبُّ حَافِظُكَ. الرَّبُّ ظِلٌّ لَكَ”(مزمور4:121) لكي يصف لطف الحماية الإلهية ويتجنب ان ينظر الى “القوة” للعليّ كفعل عنيف. ان حضور الروح يكون احيانا كريح عنيفة ومخيفة كما حدث لموسى وايليا، ولكن النسل المقدس المولود من مريم قد قدّس شعبه في سلام وهدوء.
ربما كان في فكر القديس لوقا خاصة ما جاء في مزمور داود:” احْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ الْعَيْنِ. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ اسْتُرْنِي”(مزمور8:17)، وكيف ان الأب السماوي عندما اعلن عن ابنه الوحيد ظهر الروح القدس على هيئة حمامة علامة السلام، وايضا يمكن ان يكون الانجيلي متذكرا حماية الله لمؤمنيه كما جاء:” اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ. أَقُولُ لِلرَّبِّ: «مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ».لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِ وَمِنَ الْوَبَإِ الْخَطِرِ.بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ، وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ.“(مزمور1:91-4).
آباء الكنيسة ومريم
في تقليد الكنيسة الحي والمقدس، المُستمر منذ تأسيس الكنيسة حتى أيامنا هذه، يحتل آباء الكنيسة مكانة خاصة، تجعلهم يتميَّزون عن أي شخصية أخرى في تاريخ الكنيسة. فالآباء هم أول من وضع الخطوط العريضة لبنية الكنيسة، التنظيمية، العقائدية والرعوية، وما قدَّموه يحتفظ بقيمتهِ بشكل دائم. من الآباء حصلنا على قانون الكتاب المقدس، قوانين الإيمان، قوانين الحياة الكنسيّة، الليتورجيا، أوائل الخلاصات اللاهوتية والتعليمية، أضف إلى ذلك التأملات في الحياة الروحية، الزهدية والصوفية. لهذا فإن سلطان تعليمهم في الأمور اللاهوتية يبقى فريداً في تاريخ الكنيسة. على أننا يجب أن نبقى يقظين لئلا نجعل من “لاهوت الآباء” عبارة جامدة، يمكنها أن تختصر كل الخبرات والآراء المتنوّعة في مسيرة واحدة، فالبحث اللاهوتي كان لا يزال في بداياتهِ، كما أن المواقف الرسمية للكنيسة من بعض الأمور العقائدية قد نضجت مع الزمن، لهذا ففي دراسة الآباء علينا أن نحذر تبسيط الأمور، وألا يكون استشهادنا بأقوالهم عفوياً خالياً من الموضوعية والدراسة النقدية للمحيط الزمني والمكاني الذي عاشوا فيهِ. ركزّت الـمؤلفات التى كتبها آباء الكنيسة للدفاع عن مكانـة مريـم العذراء وأمومتهـا وشفاعتهـا وبتوليتهـا الدائـمة وغيرهـا من العقائد. ولقد صدرت مؤلفات من آباء الكنيسة أمثال هيبوليتس الرومانى(130-235)، والقديس ايريناوس(130-202)، والقديس غريغوريوس صانع العجائب (+270) والقديس امبروسيوس اسقف ميلان(339-397)، والقديس يوستين الشهيد(100-163)، وترتليان(160-235)، والقديس افرام السرياني(303-373) والقديس كيرلس الأسكندري(+444)، والقديس أوغستينوس(+480)، والقديس البابا جريجورى الكبير(540-604)، والقديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية(+733)، والقديس يوحنا الدمشقي(675-746)، والقديس غريغوريوس النارغي(+950)، والقديس بطرس دميانوس(1007-1072).
العقائد المريمية
عن أهم الـمعتقدات التى أعلنتهـا وتعلـمها الكنيسة الكاثوليكيـة عن القديسة مريـم العذراء أم يسوع
يرجى الرجوع الى مجلّد “العقائد المريمية حسب تعليم الكنيسة الكاثوليكية[13]“والصادر في 8
سبتمبر 2017 والذي يحوي بعضاً من الأسانيد الكتابيـة وبعضاً مما جاء فى أقوال الآبـاء من الحجج والبراهيـن لكي نتفهـم أصول تلك التعاليـم الكنسية. امام التساؤلات العديدة التي تتعرض لمكانـة العذراء مريم أم يسوع ِوما تعلّمه الكنيسة الكاثوليكية، فلقد سبق ان تم نشر سلسلة من الكتيبات في الفترة من عام 2003 وحتى 2007 تحت عنوان “الأسانيد الكتابيـة للتعاليـم الكنسية عن القديسة مريم أم يسوع” فى خمسة أجزاء، والتى تحوي محاولة الإجابـة على أهم القضايـا التى تؤمن بها وتعلنهـا الكنيسة الكاثوليكيـة عبر عصورهـا والتى أثارت بعض الجدل فى نفوس البعض عن من هى القديسة مريـم العذراء أم يسوع.
أما مجلّد “العقائد المريمية” فهو تجميع لتلك الكتيبات كمرجع لكل من يحاول البحث عن إجابة او من يريد التعمق عن كل ما يُثار نحو التعاليم الكنسية عن أم يسوع. يحتوي هذا المجلّد على عدة أبواب، ففى الجزء الأول سنتعرّض لبعض النقاط الأساسية للتأمـل وللإلتقـاء قبل الخوض فى العقائد والتعاليـم الكنسية عن مريم العذراء، ثم الباب الثاني يشمل بعض الأسانيد والحجج الخاصـة بالتعليم القائل بعصمة مريم العذراء من دنس الخطيئة الأصليـة. وفى الباب الثالث سنتعرّض لقضيـة بتوليـة مريـم الدائـمة، أما الباب الرابع فيتعرض لمعنى لقب مريم أم الله “ثيؤتوكوس”، وأمـا الباب الخامس فسوف يشمل معنى إنتقال مريم العذراء بالنفس والجسد للسماء ثم الباب السادس فهو عبارة عن شرح معنى الإكرام وأسبابه ونتعرض لشفاعة القديسة مريم والقديسين مع محاولة الرد على بعض التساؤلات الأخرى وذلك من خلال ما جاء في الكتاب المقدس والتعاليم الكنسية.
الأمومة الإلهيـة
أبرزت الكنيسة أهمية شخصية العذراء مريم كوالدة الله، بعد انعقاد مجمع أفسس
مباشرة سنة 431م، وذلك لضبط مفهوم التجسد الإلهى ومقاومة بدعة نسطور. وهكذا أضافت مضمون العقيدة التى أقرها هذا المجمع فى مقدمة قانون الإيمان والتى مطلعها: “نعظمك يا أم النور الحقيقى ونمجدك ايتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم أتى وخلص نفوسنا….”.
“والدة الإله” ليس مجرد إسم ولا هو لقب تكريمي للعذراء، إنـما هو تعريف لاهوتـي يحمل حقيقة
حيّة إيـمانية، وتحمل لنا أيضا فعل محبة الله فى أعلى صورها.
الحقيقة ان العذراء مريم ولدت الإله الـمتأنس، أي الـمسيح بلاهوتـه وناسوتـه، وعندما نقول عن أم انها ولدت إنسانا لا نقول انها أم الجسد فقط بل أم الإنسان كله مع انها لـم تلد روح الإنسان الذى خلقه الله، هكذا تدعى القديسة مريم والدة الإله ولو انها لم تلد اللاهوت لكن ولدت الإله الـمتأنس. إذا كان السيد الـمسيح هو الله الذى ظهر فى الجسد كقول الرسول بولس”عظيم سر التقوى الذى تجّلى فى الجسد”(1تيمو16:3) فوجب أن تدعى العذراء بأم الله فهى أم يسوع، ويسوع هو الله وعلى هذا تكون القديسة مريم هى أم الله، وبالعكس إذا لـم تكن القديسة مريم أم الله لا يكون الإبن الـمولود منها إلها. إن حبل مريم بيسوع الـمسيح لـم ينتج عنه تكوين شخص جديد لـم يكن له وجود سابق كـما هى الحال فى سائر البشر بل تكوين طبيعة بشرية اتخذها الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس الـموجود منذ الأزل فى جوهر واحد مع الآب والروح القدس. فيسوع الـمسيح ليس إلا شخص واحد، شخص الإله الـمتجسد الذى اتخذ طبيعتنا البشرية من جسد مريم وصار بذلك إبن مريم.
الحبل بلا دنس
تحدد عقيدة الحبل بلا دنس ان مريم العذراء وحدها وُجدت منزهـة عن الخطيئة الأولـى فمريم
دخلت العالم وهى ممتلئة نعمة وذلك منذ لحظة الحبل بها من أبويها. وهذه النعمة الخاصة قد أُعطيت لها بصفة فريدة وإستثنائية نظرا لإستحقاقات إبنها المسيح الفادي فلكي يتجسد ويصير إنسانا كاملا كان لا بد له من طبيعة إنسانية كاملة غير ملوثة بالخطيئة، لذلك وجب أن تكون تلك الأم التى سيأخذ منها طبيعته البشرية طاهرة بريئة من كل دنس الخطيئة ومن هنا نتج ضرورة منح العذراء بالرغم من كونها حُبل بها طبيعيا كأي إنسان بشري، إمتيازا خاصا يحررها من الخطيئة الأصلية التى يتوارثها الجنس البشري وهكذا تكون العذراء قد تمتعت بالنعمة المبررة وهى بعد فى أحشاء أمها وهىحالة النعمة التى تمتع بها الإنسان الأول فى لحظة خروجه من يد
اللـه. ولقد اضاف البابا بيوس التاسع هذا اللقب لطلبة مريم العذراء فى عام 1854.
البتولية الدائمة
بتوليـة مريم العذراء حقيقة مؤكدة، فها هى شهادة الـملاك جبرائيل للقديس يوسف تعلن: “فإن المولود فيهـا إنـما هو من الروح القدس”(متى20:1)، وفـى بشارة الـملاك جبرائيل للعذراء يُعلن أن “الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تظللكِ ولذلك فالقدوس الـمولود منكِ يُدعـى إبن الله”(لوقا35:1)، وهذا تـتميمـاً لنبؤة اشعيا القائل”هـا أن العذراء تحبل وتلِد إبنـاً ويدعى اسـمه عـمانوئيل”(اش14:7).
وهـذه الكلمة “عذراء”، أو كلمةALMA ألـما باللغة العبرية والتى استخدمها الوحي الإلهي على لسان إشعيا تعني فتاة صغيرة “بنت” عذراء وهي لم تستخدم من قبل لوصف امرأة متزوجة وهذه أول مرة تستخدم لوصف فتاة صغيرة. فسفر التكوين يصف رفقة قبل أن تتزوج بإسحق “بكراً لم يعرفها رجل” (تك16:24)، وكان على اشعيا أن يختار ما بين الكلمتين فقط الـمـتوافرتين فى ذلك الوقت، واحدة تصف امرأة صغيرة قبل زواجها، والأخرى التى ترتبط بالزواج والتى تحمل معنى العذريـة. والجدير بالذكر أن كلمة ألـما جاءت لغويـا بـما يفيد استمرار البتوليـة لهذا لـم تترجـم “عذراء” بل “العذراء” لتصف والدة عمانوئيل كعذراء دائـمة حتى بعد إنجابهـا الطفل. وعند ترجمة النص العبري الى اليونانية استخدمت الكلمة اليونانية “بارثينون” والتى تعني دائما عذراء كما جاء فى انجيل متى.
وبحسب إيماننـا الـمسيحي فإن مريم هـى “الدائـمة البتوليـة” أي ان مريم بتول قبل الولادة وفى
الولادة وبعد الولادة. بتول قبل الولادة إذ حبلت بيسوع المسيح دون معرفة رجل، وبتول فـى الولادة إذ انهـا ولدت يسوع وبقيت بتولا، وبعد أن ولدتـه لـم يكن لها علاقة مع أي رجل فليس من أمر يستحيل على الله، فالذى فى البدء وضع نواميس الحبل والولادة لدى البشر يغيـرها الآن فـى الحبل بـه وولادتـه، جامعـا فـى أمـه العذراء مريم مفخرتيـن تعتـز بهما كل الفتيات والنساء ألا
وهـما البتولية والأمومـة.
عقيدة الإنتقال
أعلـن البابا بيوس الثانــى عـشـر فى 1/11/1950فى رسالته البابوية “إن والـدة الإلـه المنـًزهـة
عـن كـل عيـب,مـريـم الدائـمـة البـتـوليـة, بعـد أن أنهـت مـجـرى حـيـاتـهـا الأرضــيـة, رٌفـعـت بجسـدهـا ونفـسـها إلـى المجـد السمـاوي” وهـكـذا تحتـفـل الكنيـسة الكاثوليكيــة فى أنحـاء العـالـم فى الخامـس عشر من أغسطس من كل عـام بهـذا العيـــد. إن إعـلان هـذه العقيدة يعبـر بشكل واضح عن إيمان الكنيسة منذ القرون الأولـى للمسـيحـية.إن إنتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح الذى حـل عليها وأحيا جسدها لتصير أمـاً لابن الله, هو نفسه يكمـل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي لآن مريم العذراء كانت فى جسدها ونفسها مستسلمة إستسلامـا تــامـا لعمل الروح القدس. فإنـتـقـال مريم حدث سـبـاق لتحرير البشر أجمعين من سلطان الموت وعودتهم الى وضعهـم الفردوسي الآول و هـذا الإنتقال كما يقول المجمع الفاتيكانى الثانى هو “علامة رجاء وطيد”، رجاء فى أن قيامة الأموات بفضل يسوع المسيح ستتم وتحدث, وإنتقال مريم الى السماء بجسدها وروحها علامة لقيامة البشر. أنـه يبدو من المحال إن مريم العذراء التى حبلت بالسيد المسيح وولدتـه وغـذتـه بلبنها وحملته على ذراعيها وضمتـه إلى صدرهـا قد إنفصلت عنه بعد حياتها على هذه الآرض، إن لم نقل بنفسها, فبجسدها. فبما أن فادينا هو إبن مريم، لم يكن بإستطاعته، هو الخاضع خضوعا تاما للشريعة الإلهية, ألاُ يؤدى الإكرام ليس فقط الى الآب الآزلي بل أيضا الى أمـه المحبوبة فحفظها من فساد القبر فرفعت بالجسد والنفس الى المجـد فى أعلى السماوات, لتــتألـق فيهـا كملكـة على يمين ابنها ملك الدهور الآزلي.
فضائل مريم[14]
يوما مـا صرخت إمراءة فى إحدى عِظات يسوع فى الناصرة “طوبى للبطن الذى حملك والثديين
الذين رضعتهمـا.أما هو فقال بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه” (لوقـا 27:11-28).
فهـل إستحقت مريم التطويب لأنها ام يسوع وكفى؟، أم لإنها سمعت كلام الله وحفظته متفكرة فيه فى قلبها وعملت بـه (لوقا51:2). ان التأمل فى فضائل مريم وحياتها سوف يعكس لنا مثالاً حياً يشجع كل مؤمن على التقدم فى الفضائل الإنجيلية بفعل نعمة الروح القدس والذى حلّ على البتول وحصلنا نحن عليه فى المعمودية. سوف نتعلم من مريم إيـمانهـا وقبولها لكلمة الله (لوقا26:1-28)، وطاعتها (لوقا38:1)، وتواضعها (لوقا48:1)، ومحبتها (لوقا39:1-56)، وحكمتها (لوقا29:1ولوقا19:2)، وخدمتها للآخرين (لوقا56:1)، وممارستها للشرائع الإلهية(لوقا21:2-41)، فى شكرها لعطايا الله(لوقا46:1-49)، فى تقدمتها فى الهيكل(لوقا22:1-24)، وفى صلاتها مع المؤمنين(اعمال12:1-14)، وغربتها (متى13:2-23)، وآلامها (لوقا34:2-35و 49ويوحنا25:19)، وفقرها وثقتها فى الله (لوقا48:1و24:2)، وفى خدمتها لإبنها من الميلاد وحتى الموت على الصليب (لوقا1:2-7ويوحنا25:19-27)، فى رقة مشاعرها نحو إحتياج الآخرين(يوحنا1:2-11)، فى طهارة بتوليتها(متى18:1-25ولوقا26:1-38). ان التأمل فى فضائل مريم وحياتها سوف يعكس لنا مثالاً حياً يشجع كل مؤمن على التقدم فى الفضائل الإنجيلية بفعل نعمة الروح القدس والذى حلّ على البتول وحصلنا نحن عليه فى المعمودية. هذه الفضائل والتى للأم سوف تنقلها لأبنائها والذى يتأملون فيها ويتمثلون بها فى حياتهم للنمو فى النعمة و التقوى ومحاولـة التشبه بأم يسوع وأم الكنيسة جمعاء “لكي نجعل كل إنسان كاملاً فى المسيح”(كولوسي28:1).
مـريـم العذراء فـى إيـمانهـــا
نقرأ فى رسالة القديس بولس للعبرانيين تعريفاً عن الإيـمان: “الإيـمان هو الثقة بمـا يرجى والإيقان بأمور لا تُرى” (عبرانيين 1:11). وأيضاً كما يقول الرسول:”وبغيـر إيـمان لا يستطيع أحد أن يُرضي الله لأن الذى يدنو إلى الله عليه أن يؤمن بأنـه كائن وأنـه يُـثيب الذين يـبتغونـه”(عبرانيين6:11).
وهناك عامـة أربعـة أنواع من الإيـمان:
أ- إيـمان ناتج عن كلمات أو نتيجة إستجابة فورية لصياغة لفظية بعد عِظة مثلا أو قراءة كتاب.
ب- إيـمـان يُفهم ويُدرك بالعقل فقط (سليمان رغم حكمته قد بّخر لألهة غريـبة).
ج – إيـمـان كعمل سلوكي كمثل السامري الصالح وهذا يكون ثابت مع أي عقيدة أو مستوى
أخلاقي وليس مع شخص يسوع.
د – إيـمـان مـتكامـل، أي إيـمـان بفهم وإدراك وعمل، وهذا يتطلب إقتناع الفهم وتسليم الإرادة وثقـة القلب.
الإيـمان هو تبعيـة كليـّة للـه ويتطلب فى الأساس معرفـة الله وهذه الـمعرفـة يلزمها قبول هبـة اللـه
لكى تساعد الإنسان على قبول الحقائق الإلهيـة “نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذى من الله لنعرف الأشياء الـموهوبـة لنـا من اللـه”(1كورنثوس12:2)، وكما يقول الرسول:”فإن كان أحد يظن انـه يعرف شيئاً فإنـه لـم يعرف شيئاً بعد كـما يجب أن يعرف ولكن ان كان احد يحب اللـه فاللـه معروف عنده”(1كورنثوس2:8-3)، ولهذا دعى يوحنا الإنجيلي الـمؤمنون بأنهم صاروا أبناء الله “فأمـّا الذين قبلوه فأعطى لهم سلطاناً أن يكونوا أبناء اللـه اي الذين يؤمنون بإسـمه”(يوحنا13:1).
وكلمة “تؤمن” فى اللغة العِبريـة يُعبـر عنهـا بكلـمتان “Aman” والتى جاء منها كلـمة “آميـن”، وكلمة “batah” والتى ترتكز على الثقة والإستنارة، هـما تـمثلان قطبي فعل الإيمان “نور مُرسل قد أُستقبل” و”إستجابـة”. فالإيمان ليس حالـة أو فعل يظهر مرة ثم يختفى، بل هو ثقـة مطلقـة فى شخص مـا وهذا يعنى الإستعداد لقبول كل الأشياء والأفعال التى تأتـى من الله، حتى فى أصعب وأخطر الـمواقف، وهذا يستلزم أن يتخلّى الإنسان عن كل إعتماده وثقتـه فى إمكانياتـه وقدراتـه الشخصيـة.
والكتاب المقدس مليئ بأنواع عديدة من الإيـمـان فهناك إيـمان الرعاة والتى أُعطيت لهم علامة من السماء، وموسى الذى طلب من الله عدة علامات ليصدقه فرعون والشعب العبراني، واليهود الذين طلبوا من يسوع “أيـّة آية تصنع لنرى ونؤمن بك”، ونثنائيل الذى صرخ بـمـلك الـمـسيح عندما أخبره بأنه رآه تحت التينة قبل أن يدعوة فيلبس، وإيـمـان إبراهـيم وتركه لأرضه و قبوله تقديم ابنه اسحق ذبيحة لله كأمر الرب له، وايـمـان زكريا الكاهن والذى شك وقال كيف أعلم هـذا وأنا شيخ وإمرأتي متقدمة فى حياتها.
وإيـمـان مــريـم والذى لـم تطلب علامة عن صِدق قول الملاك جبرائيل عندما أخبرها بالميلاد العجيب بل أتت لهـا العلامـة من أن العاقر ستلد. عاشت مريم مع يسوع الطفل وكأي طفل عادي أرضعته وكان محتاجاً لها لتغذيته، فلو كان يسوع يعلن لها عن طبيعته الإلهية بإستمرار لـمـا كان لـمـريم فى إحتياج لحياة الإيـمـان ومـا كانت تتعجب من إجابة إبنها وهو فى الثانية عشر ” لماذا كنتمـا تطلبانني الم تعلما انه ينبغي أن أكون فيمـا لأبي” (لوقا 49:2) أو عند
عرس قانا الجليل ” مـالي ولكِ ياإمراءة لم تأت ساعتي بعد” (يوحنا 2:4).
أحداث البشارة والـميلاد والرعاة والـمجوس وفى الهيكل والهروب الى مصر ثم الحياة فى الناصرة ثم على الصليب لم تنكره بل وقفت بجانبه بشجاعة وثبات ثم اخيرا نجدها مع التلاميذ فى العُليـّة بعد الصعود مباشرة مواظبة على الصلاة والطلبة بنفس واحدة مع التلاميذ.كل تلك الأحداث التى تعكس إيـمان مريم برسالة إبنها وأثبتت أنها حفظت الكلمة وأطاعت الوصية وأكـمـلت مشيئة الله بدقة ومواظبة حتى النهاية.
إيـمان مريم كان بلا فلسفة ولا طلب علامات أو آيات.لـم تفكر فى العار الذى يلحقها بهذا
الحبل.فاقت بإيـمانها قائد الـمئة واللص اليمين والمرأة النازفـة، لهذا قالت “قالت أمه للخدام مهما
قال لكم فإفعلوه” (يوحنا5:2).
آمنت مريم برسالة السماء ولـم تقل انها مازالت صغيرة حتى تتبع الله كـما فعل أرميا فى القديم ذات يوم ” فقلت آه أيها السيد الرب هـآنذا لا أعرف أن أتكلـم لأنـي صبي” (أرميا 6:1).
وعن إيمان مريم يقول القديس أُغسطينوس (مريم صارت مطّوبة بسبب تقبلها الإيـمـان بالمسيح أكثر من تقبلها الحمـل به وتقربها للمسيح بالجسد كأم كان بلا ربح لو لم تحمل المسيح فى قلبها). “من يصنع مشيئة أبي الذى فى السموات هو..أخي وأختي وأمي” (متى 50:12).
عندما أخبر الملاك جبرائيل العذراء مريم قائلا “لا تخافي يا مريم فإنك قد نلت نعمة عند الله وها انت تحبلين وتلدين إبنا وتسمينه يسوع” وشرح لها كيف يكون هذا الحبل الإلهي ” الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللّك” فالـمنطق البشري يقول كيف يحدث هذا؟ وهذا ما أعلنته مريم “كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً”.. فمريم قد تقول فى نفسها (انا ناذرة البتولية..أنا كنت أخطط حاجة أخرى لحياتي..أنا كنت أريد..وانا كنت أخطط….) انها كلهـا تخطيطات بشرية. ولكن عندما عرفت مريم ان هذه هي مشيئة الرب، وتذكرت إيـمـان ابراهيم وكيف ترك أرضه وعشيرته وعندما قدّم ابنه ذبيحة حسب إختبار الله لـه.
وتذكرت ايضا إيـمـان موسى وقبوله قيادة شعب الله من أرض العبودية الى أرض الـمـوعد.
وتذكرت معنى حلول الروح القدس ومجد الرب يحل فى مكان ما، فتذكّرت خيمة الإجتماع
“غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب الـمسكن فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة
الإجتماع” (خروج35:40)، وأن قوة العلي ستظللهـا (لوقا35:1).
إذن “انه ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يوحنا23:2)، انه أمر سماوي، وإرادة سماوية.
لـم تطلب مريم علامة لتؤمن مثل موسى لكي يصدقه فرعون والشعب العبرانـي” انهم لا
يصدقونني ولا يسمعون لقولي بل يقولون لم يتجلّ لك الرب” (خروج7:4).
لـم تطلب علامة مثل جدعون كما جاء فى سفر القضاة “ان كنت قد أصبت حظوة فى عينيك
فأعطيني علامة على انك انت الذى كلمني “(قضاة 17:6) وكان أن الرب أعطاه من جزاز
الصوف فى البيدر وسقوط الندى وغيرها من العلامات.
لـم تطلب علامـة مثل بني اسرائيل عندما طلبوا من يسوع آية لكى يؤمنوا به “أيـّة آيـة تصنع لنراها ونؤمن بك”(يوحنا30:6).
مـريم لم تطلب، ولكن أعطاها الـمـلاك العلامة ان نسيبتها أليصابات العاقر حبلى فى شيخوختها.
مـريم فى إيـمـانها -لم تؤمن نتيجة علامة أو عظة او قراءة كتاب ونحن نريد أكثر من معجزة وآية كل يوم حتى نؤمن بالله.
إستجابت مـريم لدعوة الرب والذى يحترم إرادة البشر.
“فقالت للـمـلاك ها أنذا آمة للرب” (لوقا 38:1)، ولهذا استحقت أول تطويبات العهد الجديد على لسان القديسة اليصابات:”طوبـى للتى أمنت”(لوقا45:1).
موضوع الإيـمـان والعلم ومدى تشكك الناس.
الإيـمـان أعلى من العقل، والعقل أعلى من الغريزة.
عقيدة مثل وجود الله والثالوث الأقدس، أو عقائد مثل الفداء، والقيامة والـموت فإننا لو أدركنا إيـمـاننا بهذه الـمـعتقدات بالعقل أو الغريزة والحواس فلن نؤمن.
مـريم فى إيـمـانـها لم تفكر فى العار الذى سيلحقها بهذا الحبل الإلهي. آمنت بلا فلسفة وتعقيدات
وعلامات.
إن رسالة بولس للعبرانيين تشهد لإيـمـان الـمؤمنين:”الذين بالإيـمـان قهروا الـمـمـالك وعملوا البر ونالوا الـمـواعيد وسدّوا أفواه الأسود” (عب 11).
إن الإيـمـان ليس قولا “أمـا أنا فأريك ايـمـاني بالأعمال، انت تؤمن ان الله واحد حسن والشياطين
ايضا يؤمنون ويرتعدون. الإيـمـان بغير الأعمال ميت” (يعقوب14:2-19و26).
مـريـم فى إيـمـانـها..أعطتنـا الـمثل والقدوة الصالحـة.
فى قبولهـا بالحبل الإلهي، فى خدمتها لأليصابات، فى خدمتها ليسوع، فى خدمتها ليوسف، وفى
خدمة بيتها، فى إحتمال الآلام والضيق والهروب الى أرض مصر وسماعها بقتل أطفال بيت لحم، وفى غربتها وحياتها فى الناصرة التى لا يخرج منها شيئ صالح فعاشت حياة منطوية بلا تذمر.
إيـمـانها فى عرس قانا الجليل بقدرة إبنها الإلهي.إيـمـانها تحت الصليب فلم تيأس وتلعن السماء.
أتعتقدون ان مريم فكرت فى نفسها قائلة (أحقا هذا الطفل الذى ولدته هو مخلص العالم؟..أحقا هذا الذى يعمل بيديه فى حانوت النجارة هو مخلص العالم؟..أحقا هذا الـمـعلّق على الصليب هو مخلص العالم ؟..أحقا هذا الذى قُبر داخل القبر هو مخلص العالم؟..أحقا هذا القائم من الأموات هو يسوع ابنها؟..والعديد من التساؤلات)..
فى الحقيقة انه منذ أن سلّمت مريم نفسها لتكون آمة للرب حتى موتها وبعد موتها وإنتقال جسدها ونفسها للسماء مازالت تشهد بإيـمـانها..موجهة قلب أبنائها الـى يسوع مخلّص العالـم ومازالت تردد وصيتـهـا الوحيـدة لـنـا “مهما قال لكم فافعلوه”(يوحنا 5:2)، وبهذا أعطتنـا مثالاً حيـّا للكنيسة فى العالـم كما علّم القديس أمبروز (340-397م):
“ان أم الله هى مثال للكنيسة فى إيمانهـا ومحبتها واتحادها الكامل مع المسيح”.
كلام يسوع أحيانا صعب..معتقداته أحيانا صعبة على الفهم ” ان كثيرا لـمـا سـمعوا قالوا هذا الكلام صعب من يستطيع سمـاعه” (يوحنا61:6) وتركوه، لأنهم لم يؤمنوا انه الحق والطريق والحياةوالقيامة.
وهنا يدعونـا الرسول بولس قائلاً:”فإمتحـنوا أنفسكم هل أنتم على الإيـمان. اختبـروا أنفسكم. أو مـا
تعرفون أنفسكم إنّ فيكم الـمسيح يسوع إلاّ إذا كنتم فى شيئ غيـر مُـزّكيـن”(2كورنثوس5:13).
مريـم العذراء فـى محبتهـــا
كتب يوحنا الرسول فى رسالتـه عن الـمحبـة فقال:” اللـه محبة، من ثبتَ فى الـمحبة فقد ثبت فـى
اللـه واللـه فيه” (1يوحنا16:4).
عـن معـنى الـمحبـة كـما جاءت فـى العهـد الجديـد والذى قد كُتب باللغة اليونانيـة سوف نجد أنـه جاءت فيـه ثلاث كلمات تحمل معنى الـمحبة وهى:EROS,PHILEO, and AGAPE، ولكن كل كلمة تختلف فى مضمونها. فكلمة EROS تعنى ان الشخص يحب ولكن بشروط معينة ولا يـمكنه الـمساعدة، وكلمة PHILEO تعنى ان الشخص يحب إذا وجد شيئ يجذبـه نحو الشخص الآخر، أما كلمة AGAPE فتعنى ان الشخص يحب بلا شروط وهذا هو نوع حب الله للإنسان والذى لا يعتمد على مشاعر حسية بقدر ما يرتكن الى الفعل ذاتـه، وهى أيضاً تحمل أعلى وأنبل أنواع الحب الذى يتجه نحو غاية كريمة أبديـة. ولهذا كانت المحبة الـمسيحية من نوع “اغابـي” وهو عمل الخير للجميع بلا تمييز وعدم طلب أي شيئ بل عمل الصلاح ولا يهم من هم الناس ولا كيف يقابلون.
وهنالك فرق جوهري بين الـمحبة فى الـمسيحية وبينها فى العلاقات الإنسانيـة، ففى العلاقات هى رد فعل لإنطباعات القلب نحو الآخرين بدون أن يكون هناك أي عمل خاص نعمله نحن، اما الـمحبة الـمسيحية فهى ممارسة كاملة تنبع من أنفسنا من القلب ومن العقل.
واللـه عندما يصف نوع محبته للإنسان وضعها فى رتبة أقوى وأرفع من طبيعة الأمومـة التى تربط الأم برضيعهـا:”هل تنسى الـمرأة رضيعها فلا ترحم إبن بطنهـا حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك”(اشعيا15:49). وفى العهد الجديد إرتفعت محبة الله للإنسان حتى انه بذل إبنـه”هكذا أحب اللـه العالـم حتى إنـّه بذل ابنـه الوحيد”(يوحنا16:3)، و”بهذا تتبيـن محبة الله لنـا أنّ اللـه أرسل ابنـه الوحيد إلى العالـم لنحيا به وإنـما الـمحبة فى هذا أننـا لم نكن نحن أحببنـا الله بل هو أحبنـا فأرسل إبنـه كفّارة عن خطايانـا”(1يوحنا9:4-10).
وهذه الـمحبـة الإلهيـة “قد إنسكبت فى قلوبنـا بالروح القدس الـمعطى لنـا”(رومية5:5)، وبهذه
النعـمة نستطيع كما يقول بولس الرسول:”ان تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول
والعمق والعلو وتعرفوا محبة الـمسيح الفائقـة الـمعرفة لكى تمتلئوا إلى كل ملء الله”(افسس17:3-19).
ولكى نحلل معنى الـمحبة الـمسيحية فلدينا رسائل القديس بولس حيث استخدم فيها كلمة الـمحبة
60 مرّة. وللتعرف على خواص هذه الـمحبـة يـلزم أن نتعرف:
- على أصلهـا: هى من الله “لأن محبة الله قد أُفيضت فى قلوبنا بالروح القدس الذى أُعطى لنـا”(رومية5:5)
- مكانهـا: فى قلب وإرادة الإنسان
- فعلهـا: فى حب فعل الخير وصداقـة الآخريـن فحب الله يجعل الإنسان يرغب فى تـمجيده وإجلالـه.
- دوافعهـا: إلهيـة
- مداهـا: اللـه والبشر “أحبب الرب إلهك بكل قلبِك وكل نفسِك وكل قدرتك وكل ذهنك وقريبك كنفسِك”(لوقا27:10).
وفى مثل الـمرأة الخاطئة التى سكبت الطيِب عند قدمي يسوع نجد مثال واضح لخواص الـمحبة المسيحية فلقد قال عنهـا السيد الـمسيح:”إن خطاياها الكثيرة مغفورة لهـا لأنهـا أحبّت كثيراً” (لوقا47:7)
وعـن صفات الـمحبـة فلقد تم وصـفهـا على لسـان القديـس بولس فى رسالته الأولـى الى كورونـثوس : “الـمحـبـة تـتأ نـى وتــرفـــق. المحـبـة لا تحـــسد ولا تتباهــى ولا تنـتـفـــخ. ولا تـأتـي قــباحــة ولا تـلتـمـس مـاهـو لـهـا. ولا تحــتد ولا تـظـن الســوء. ولا تفــرح بالظــلـم , بل تفــرح بالحــق. و تحـتـمـل كـل شـيئ.وتــصــدق كـل شـيئ.وتـرجـو كـل شـيئ.وتـصــبـر على كــل شـيئ. المحــبـة لا تـــســقط أبـداً “(1كورنثوس4:13-8).
ونشـيد الإنـــشـاد يــصـف الـمحبـة بـإنهـا “قــويـة كالـمـوت..مــيــاه كثيرة لا تستطيع ان تـطفئ الـمحـبـة والسـيـول لا تـغـمـرهــا” (نـش 7:8).
لقد قال السيد الـمسيح ان كل الوصايا والشرائع يـمكن ان تتلخص فى كلمة واحدة ألا وهى “الـمحبة “(متى36:22-40).
والرسول بولس يقول ان هناك ثلاث فضائل تثبت “والذى يثبت الآن هو الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة وأعظمهن المحبة”(1كورنثوس13:13).
والرسول يوحنا يعرّف لنا الـمحبة قائلاً:
“انـما الـمحبة فى هذا اننا لم نكن نحن أحببنا الله بل هو الذى أحبنا فأرسل ابنه كفّارة عن خطايانا”(1يوحنا10:4)، ويقول أيضا “من لا يحب فانه لا يعرف الله لأن الله محبة”(1يوحنا8:4). وهذه الـمحبـة لا يـمكن أي شيئ يفصلنـا عنهـا كقول بولس الرسول: “فـمن يفصلنـا عن محـبّة الـمسيح أشّدة أم ضيـق أم جوع أم عري أم خطر أم إضطهاد أم سيف. كما هو مكتوب اننـا من أجلك نُـمات كل النهار. قد حُسبنـا مثل غنم للذبح ولكننا فى هذه جميعهـا يعظم إنتصارنـا بالذى أحبنـا فإنـي متيقن أنـه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوّات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقـة أخرى تقدر أن تفصلنـا عن محبـة الله التى فى الـمسيح يسوع ربنـا”(رومية35:8-39) وإلاّ لفقدنـا كل شيئ: “إن كان أحد لا يحب الرب يسوع فليكن أناثيما” كما أعلن الرسول بولس (1كورنثوس 22:16).
وكل شيئ يجب أن يبدأ بـمحبة الله لأن اللـه محبـة، والتمحبة الـمسيحية هى إنطباع لـمحبة الله لنـا. وهناك إرتباط وثيق ما بين المحبة والإيمان وهو ما جاء فى رسائل القديس بولس لأهل افسس وكورنثوس وفليمون، فالـمحبة هى علاقة مع الله وشركة مع الآخرين، فالمحبة بدون إيـمان هى مجرد شعور وعواطف، والإيـمان بدون محبة هو أمر أجوف. فعلى الإنسان الـمسيحي أن يصلّى كثيراً طالباً ان تنسكب محبة الله فى القلب فالـمحبة الـمسيحية ليست عملاً بشريـاً، بل هى ثـمر من ثمار الروح القدس وعلى الإنسان أن يُستعلن فيـه الـمسيح ثانيـة فى كل أعماله وسلوكياتـه ولهذا أوصانـا الرسول قائلاً:”لتكن أموركم كلهـا بالـمحبـة”(1كورنثوس14:16)، و”اسلكوا فى الـمحبة كما أحبنا الـمسيح”(افسس2:5)، و”البسوا الـمحبـة التى هى رباط
الكمال”(كولوسي14:3).
أمـا عن الـمحبـة فى حياة مريم العذراء فقد انعكس الى سلوك عملى فنقرأ بدءاً من بشارة الـملاك لهـا وإستجابتهـا لدعوة اللـه لهـا بحب “فقالت مريم ها أنـا آمـة الرب”(لوقا38:1)، ثم نقرأ: “فقامت مريم فى تلك الأيام وذهبت مسرعة الى الجبال الى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على اليصابات”(لوقا39:1). محبة مريم محبة عاملة، قويـة، سخية، كاملة عملاً بقول السيد الـمسيح:”هذه وصيتي أن يحب بعضكم بعضا كما انا أحببتكم”. وها هى مريم تحمل الكلمة وتأتي الى بيت العاقر لتخدم وليبارَك يوحنا وهو فى بطن امه اليصابات. وسمعت مريم مديح
اليصابات ولم تفتخر بل أجابت بأنشودة التعظيم والتى تعكس الفكر اللاهوتي عند مريم العذراء.
وفى عرس قانا الجليل عرفت حاجة العرس وأسرعت بطلب معونة ابنها الإلهي والذى صنع أولى عجائبه الزمنية عند طلبها. لقد أحبت العذراء مريم الله وعاشت مكرسـة لـه فى الهيكل منذ طفولتها وسط تسابيح ومزامير وصلوات وذبائح وبخور، وأحبت الله عندمـا أطاعت دعوتها ان تغادر الهيكل لتُخطب للقديس يوسف النجار، وظلّت على حبهـا للـه بأن جعلت بيتهـا هيكلاً آخر، وجاءت لهـا البشرى فعبّرت عن حبهـا للـه بأن قبلت فى تواضع أن تكون أم الكلـمة الـمتجسدة وواظبت على تطبيق وصايا الناموس والشرائع الإلهيـة بكل أمانـة وسلكت فى الـمحبة حتى نهاية رسالة إبنهـا الإلهـي عند الصليب وحتى ما بعد القيامة. وبعد إنتقالهـا بالنفس والجسد للسماء لـم تفقد محبتهـا للكنيسة ولا لأبنائهـا فكانت لظهوراتهـا تشجيعاً للجميع لكي يحبوا اللـه من كل القلب. لقد أحبت مريم العذراء الله إلى الـمنتهى وكان لها الرجاء والصبر والصدق والتفانى والتواضع والـمعرفة والإيمان وعدم التفاخر وعاشت الـمحبة فيها ليست فقط 9 أشهر بل عمرها كله فتحركت وعاشت فى ملء الـمحبة وكانت حياتها نموذجاً حيـّاً للإنسان الـمُحب للـه، فإستحقت أن ندعوها “أم المحبـة الإلهيـة”(يشوع بن سيراخ24:24).
مريـم العذراء فـى رجاءهــا
الرجـاء هو إحدى الفضائل الكبرى-“الإيـمان والرجاء والـمحبة”(1كورنثوس13:13)، وهو فضيلـة تجعلنـا نرجو بـملء الثقـة الخيرات التى وعدنـا بهـا اللـه. والرجاء يعـتمد على الإيـمان بـمحبة الله وبحكـمته وبـمواعيده الإلهيـة، وبدون ذلك لا يكون للإنسان أي رجاء لهذا قال بولس الرسول:” إنكم كنتم فى ذلك الوقت بدون مسيح أجنبييـن عن رعويـة إسرائيل وغرباء عن عهود الـموعد لا رجاء لكم، وبلا إله فى العالـم”(افسس12:2).
والرجاء عطيّة مجانيـة من الله:”وربنا يسوع المسيح نفسه والله أبونا الذى أحبنـا وأعطانا عزاءً
أبديـا، ورجاءً صالحاً بالنعـمة”(2تس16:2). والسيد الـمسيح هو موضوع رجاءنـا
(1تيطس1:1). والرجاء هو سر الفرح فى ضيقات الحياة وسر السلام لهذا دعانا الرسول بولس قائلاً:”ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم. لأنـه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، كذلك الراقدون بيسوع سيُحضرهم الله أيضاً
معه”(1تسالونيكى13:4-14).
وبالرجاء نتشوق لـمواعيد الله ومجيئه فيتجاوز الإنسان آلام هذا العالـم ويشتاق للإنطلاق:”لي
الحياة هى الـمسيح والـموت هو ربح..لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع الـمسيح”(فيلبي21:1و23)
و”لأننا بالرجاء خلصنا، ولكن الرجاء الـمنظور ليس رجاءً، لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً،
ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبـر”(رومية24:8-25).
وبقدر ما ننـمو فى الإيـمان ننـمو فى الرجاء بقوة الروح القدس ولهذا قيل:”وليـملأكم إله الرجاء
كل سرور وسلام فى الإيـمان، لتزدادوا فى الرجاء بقوة الروح القدس”(روميـة 13:15). وإذا كان
رجاءنا فقط فى هذا العالـم “فنحن أشقى الناس”(1كورنثوس19:15)، لهذا قيل:”من أجل
الرجـاء الـمحفوظ لكم فى السماوات”(كولوسي5:1).
لقد قال الرسول بولس “نفتخر فى الضيقات عالـمين أن الضيق ينشئ صبراً والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى لأن محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس الـمعطى لنا” (رومية3:1-3)، وقال ايضاً:”على حسب إنتظاري ورجائـي لا أخزى فى شيئ بل أتصرف بكل جرأة حتى أن الـمسيح يُعظّم الآن كـما عُظّم كل حين فى صبري”(فيلبي20:1).
ولنـا فى عظة السيد الـمسيح على الجبل والتطويبات (متى3:5-12) والصلاة الربّيـة (متى9:6-13) لأعظم ثقـة ورجاء.
وعن الرجاء فى حياة القديسة مريم العذراء سوف نراه فى محبتها للـه وثقتهـا العظمى فى قدرتـه تعالـى كقول الـمرّنم: “فأنك أنت رجائي أيها السيد الرب أنت متكلي منذ صبائـي”(مزمور5:70)، والتى إنعكست فى تسبحتهـا:”لأن القدير صنع بـي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى أجيال وأجيال للذين يتقونـه”(لوقا49:1-50)، وفى تسليـمهـا لـمشيئة الله “ها أنا آمـة الرب فليكن لي بحسب قولك”(لوقا38:1)، وفى فرحهـا الدائـم بعظائـم القديـر فهتفت قائلة:”تعظم نفسي الرب”(لوقا46:1)، وفى حياتهـا وخدمتهـا حتى موت إبنهـا على صليب العار ولم تيأس ويضعف رجاءهـا بل كان رجاءهـا ثابت فى أن إبنهـا يسوع هو “القدوس” و”إبن الله”(لوقا35:1) وانـه هو “الذى يخلّص شعبـه من خطاياهم”(متى21:1) وأنـه “لا يكون لـملكه إنقضاء”(لوقا33:1)، فعاشت فرح القيامة كما “فرح التلاميذ حين أبصروا الرب”(يوحنا20:20)، وظلّ رجاءهـا ثابت وواظبت على الصلاة مع التلاميذ فى العليـّة بعد صعود إبنهـا إلى السماء (أعمال14:1)، و حتى موتها وإنتقال جسدها ونفسها للسماء.
لهذا “فلنصحُ لا بسين درع الإيـمان والـمحبـة وخوذة رجاء الخلاص لأن اللـه لم يجعلنـا للغضب
بل لإقتنـاء الخلاص بربنـا يسوع الـمسيح الذى مات لأجلنـا”(1تسالونيكى8:5-9)، ولنكن “مستعدين دائماً للإحتجاج لكل من يسألكم حجج الرجاء الذى فيكم”(1بطرس15:3).
مريـم العذراء فـى حِكـمتهــا
الحِكمة أو الفطنـة هـى فضيلـة من شأنهـا أن تؤهـل من اتصف بها أن يحسن إختيار الطرق
الـموصلة للخلاص.
وجاء فى الكتاب الـمقدس أن يوسف قد أتاه الله “نعمة وحكمة”(أعمال10:7)، وموسى تعلّم حكمة الـمصريين، وسليـمان قد صلّى طالباً الحكمة(1ملوك9:3)، ودانيال كان مملوء من حكمة الله(دانيال14:5). ويصف الكتاب الـمقدس يسوع المسيح بأنه حكمة اللـه “حكمة الله وقوة الله”(1كورنثوس24:1)، ويقول ايضاً إنـه: “الـمدخر فيه جميع كنوز الحكمة”(كولوسي3:2). وإن الذى يسكن فيـه روح الله لا بد أن تسكن فيـه الحكمة فقد قيل عن الروح القدس إنه روح الرب “روح الحكمة والفهم، روح الـمشورة، روح الـمعرفـة”(اشعيا2:11)، وذكر الرسول بولس أن الحكمة هى من مواهب الروح القدس “فيعطى واحد بالروح كلام الحكمة”(1كورنثوس8:12). وهذه الحكمة التى من الله قال عنها القديس يعقوب الرسول:”أما الحكمة التى من فوق فإنهـا عفيفة ثم مسالـمة حليـمة سهلة الإنقياد مـملوءة رحمة وأعمال صالحة لا تدين ولا
تراءى”(يعقوب17:3).
ومريم أم يسوع قد إمتلأت من الروح القدس:”إن الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العليّ تظللكِ”(لوقا35:1)، فكانت فى كل أدوار حياتهـا فـى غايـة الحِكمة بل كانت مثال الحِكمة ولهذا فيـمكنهـا بـمثال حياتهـا أن تكون نموذجـا للـمشورة والحِكمة الصالحة والتى تقود الإنسان للخلاص والحياة مع الله “فإبتغاء الحكمـة يُبلغ إلى الـملكوت”(حكمة21:6). ولقد جاء عنهـا:”لما رأته أضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية” (لوقا29:1)، “وقالت للملاك كيف يكون هذا وانا لست أعرف رجلاً” (لوقا34:1)، “وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به فى قلبها” (لوقا19:2).بادرت مريم بالإستفهام وبدا ينضج إيمـانها بالإستنارة”قوة العلي تظلك”وتحقق ذلك بطاعتها وتسليمها “لأن الرب يعطي حكمة ومن فمه المعرفة والفهم” (أمثال1:2) ومريم إمتلأت من نعمة الله فأعطاها الحكمة والفهم والمـعرفة والعدل والقوة
(حكمة7:8).
فلنطلب من اللـه أولاً هذه الحكـمة التى “من فوق” بالصلاة وفى ذلك يقول يعقوب الرسول:”إن
كان أحدكم تعوزه حكـمة فليطلب من الله…وليطلب بإيـمان غير مرتاب البتـة”(يعقوب5:1-6)، فكما صلّى دانيال للـه طالباً الحكـمة لأنـه “واهب الحكمة للحكماء والعِلـم لعارفي الفِطنـة” (دانيال20:2-22).
لنلتجئ إذن إلى أمنـا مريم العذراء والتى تُعطى من يلتجئ إليهـا يسوع الِحكمة الأزليـة وتسأل الروح القدس أن يهب الإنسان أن ” يعلم كل شئ” حسب وعد السيد الـمسيح لتلاميذه “وأما الـمعزّى الروح القدس الذى سيرسله الآب بإسمى فهو يُعلّمكم كل شئ ويُذّكركم كل ما قلته لكم”
(يوحنا26:14).
مريـم العذراء فـى تقواهـــا
التقوى أو البرارة تعنى القداسة والعيش فى الحق والعدل والعمل بوصايا الله أي تعنـى الحيـاة مع اللـه وكما يقول الـمرّنم:”فى شريعة الرب هواه وفى شريعتـه يهُذّ نهاراً وليلاً”(مزمور2:1). التقوى هى أيضاً عبادة الله وحبه من كل القلب والنفس والقدرة”أحبب الرب إلهك بكل قلبِك وكل نفسِك وكل قدرتك وكل ذِهنك”(لوقا27:10).
لقد وصف الكتاب الـمقدس البعض بتلك الصِفـة مثال القديس يوسف خطيب العذراء مريم “بالبار” (متى 19:1)، كما دعى من قبل نوح البار (تكوين 9:6) وأيوب الصديق (أيوب1:1)، وطوبيـا البار(طوبيا8:1).
إن للرجل البار مكانة فى قلب الله حتى أنه قال لإبراهيم” إن وجدت فى سدوم خمسين باراً فى
الـمدينة فإني أصفح عن الـمكان كله من أجلهم” (تك 26:18)، ويذكر الـمرنّم ذلك قائلاً:”لأنك تبارك الصديق يارب كأنه بترس تحيطه بالرضا”(مزمور12:5)، “القليل الذى للصِدّيق خير من ثروة أشرار كثيرين”(مزمور 16:37)، و”ينصرهم الرب وينجّيهم”(مزمور29:36)
فمـاذا تعـنى التقوى او البرارة او الحـيـاة مـع اللـه؟
ومـا هـى فـائدتـهـا للإنسان الـمؤمـن؟
الـحـيـاة مـع اللـه تعطـى الإنسان:
1. قـوة وثـقـة “إن سرت فـى وادى ظلّ الموت لا أخاف شراً لأنك معـى” (مز4:23)..
وبنفس القـوّة يقول الـمرنّم “الرب نوري وخلاصـى مـمن أخاف” (مزمور1:27)، وكذا كانت ثقـة العذراء فى الرب القدير.
2. قـوة أن لا يخطئ هكذا كان يوسف الصّديق يشعر دائـما إنـه واقف أمام الرب واللـه يراه فكيف يخطئ فصرخ صرختـه الـمعروفـة عند محاولـة زوجـة فوطيفار إغراءه بالشر “كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله”(تكوين 9:39).
3. الإيـمان بأن اللـه موجود معـنا وجود دائـم للـه فـى حياة الـمؤمن وليس وجوداً مؤقـتـا “كل الأيام وإلـى إنقضاء الدهـر”(متى20:28).
4. الـفـرح بالأبـديـةلـهـذا أعلـن القديس بولس “لـي إشتهـاء أن أنطلق وأكون مع الـمسيح فذاك أفضل جداً” (فيليبى 23:1)
5. أن يـدعـو الآخـريـن فالإنسان الـمؤمن يدعو الكل إلـى العِشـرة مع اللـه ويقول لهـم ما قالـه الـمرّنم:”ذوقـوا وأنظروا ما أطيب الرّب”… أو عندمـا عرف فيلبس يسوع دعا نثنائيل قائلا:” وجدنـا الذى كتب عنـه موسى فـى الناموس والذى كتب عنه الأنبياء”(يو45:1).
6. الشعور بوجود اللـه فـى الأماكن الـمقّدسة كـما قال يعقوب عن بيت إيـل “إن اللـه فـى هـذا
الـمكان” (تكوين 16:28).
7. حب الصلاة الدائـمة والحديث مع اللـه كـما كان يفعل أباءنا القديسين “صلوا بكل صلاة ودعاء كل حين فـى الروح” (أف18:6)..وكـما طلب الـمرّنم “واحدة طلبت من الرّب وإياها ألتـمس أن أسكن فـى بيت الرب كل أيام حياتـى لكى أعاين نعيم الرّب وأتأمـل فـى هيكله” (مز4:26).
8. حـب الوجـود مـع اللـه“إلـى مـن نذهب وكلام الحياة الأبديّة هـو عندك” (يو68:6)
9. حـب تـنفيذ وصايـا الرب” مـا أشّد حبّي لشريعتك. هـى تأملي النهار كلـه” (مز97:118)
لهـذا فبـالـخطيّة يزول الإحساس بالوجـود والحياة مع اللـه..ويشعر الـخاطئ بإنفصال عن اللـه. وقـد ظهـر هـذا الإنفصال فـى عـمقه حيـنما صرخ قايـين قائلا للرب ” ذنبى أعظم من أن يُـحتـمل إنك طردتنى اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أختفـى” (تك13:4)
والعذراء مريم إمتازت بعبادتهـا لله الكاملة بإيمانهـا ورجاءهـا وطهارتهـا وكانت كل أفكارها ونياتها وحواسها كلها متجهة نحو الله. لقد أتـممت رسالتها على الأرض مشابهة فى ذلك إبنهـا الإلهي القائل لأبيه السماوي:”أنا قد مجّدتك على الأرض وأتـممت الـعمل الذى أعطيتنى لأعمله”(يوحنا4:17). لقد أضافت لها الكنيسة لقب “يا إناء العبادة أو التقوى الجليلة أو السامية” لأن مريم العذراء تعطى صورة صادقـة وصحيحة للعبادة الحقّة لله.
وعن حيـاة التقوى عند مريـم العذراء نجد حرصهـا على تنفيذ وصايا الله: “لـمـا تمت ثـمـانية أيام ليختتنوا الصبي سُمي يسوع كـمـا تسمـى من الـمـلاك قبل أن حبل به فى البطن” (لوقا21:2)، “ولـمـا تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به الى أورشليم ليقدموه للرب”(لوقا22:2)، “وكان أبواه يذهبان فى كل سنة الى أورشليم فى عيد الفصح”. لقد أعطت مريم نمـوذجا للإعتراف بسلطة الكنيسة وتعاليمها ووصاياها وتقديم أبنائنا لله. السير مسافات لتنفيذ الواجبات الدينية. تقديم كل مـا نمـلك للرب حتى أعز ما نمـلك وهم أولادنا.
مريـم العذراء فى وداعتهـــا
ان السيد الـمسيح فى عظتـه على الجبل قد طوّب الودعاء قائلاً:”طوبـى للودعاء فإنهم يرثـون الأرض”(متى4:5)، ويقول الـمرّنم:”إن الرب يرضى من شعبـه. يُجـّمل الودعاء بخلاصـه”(مزمور4:149)، ويُطالبنا بولس الرسول أن نسلك فى دعوتنـا “بكل تواضع ووداعـة وأناة”(افسس2:4)، وقال أيضاً:”وأنتم الذين اختارهم الله فقدّسهم وأحبهم إلبسوا عواطف الحنان والرأفـة والتواضع والوداعـة والصبـر”(كولوسي12:3)، وأوصى تلميذه تيموثاوس أن يقتفى”البِر والتقوى والإيمان والـمحبة والصبر والوداعـة”(1تيموثاوس11:6). والعذراء مريم الوديعـة هى أكثر من عرفت الـمسيح الوديع والـمتواضع القلب:”تعلّموا منّي أنـّي وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحـة
لأنفسكم”(متى29:11).
فمريم هى أم الوديع والـمتواضع القلب ولذا كانت متزينـة “زينـة إنسان القلب الـمُستتـر أي زكاء
الروح الوديع الساكن الذى هو كثير الثـمن أمام الله”(1بطرس4:3) وتحلّت بثمر الروح “الوداعـة”(غلاطية23:5)
ولو لـم تكن مريم وديعة لـما تجسّد فيهـا الله الكلـمة ولـما رأى انهـا الـمختارة “قد نلتِ نعـمة عند الله”(لوقا30:1)، وولدت يسوع “الوديع”.
مريـم العذراء فى صبرهــا
الصبـر هو إحدى الفضائل الأخلاقيـة، والكلمة تعنـي “الثبات او التجلّد أو قوة العزيـمة”، وهى فضيلـة تساعد الفرد على التغلب على اليأس والإحباط والـمعارضـة وفقدان شخص عزيز وعلى تحـمل آلام الـمرض وتخطى الصعاب وكل شيئ يسبب ألـم للإنسان، وذلك دون أن يفقد هدوءه أو يسخط على ما يواجهـه. والصبـر يقترن عادة بإيـمان قوي كما يقول القديس يعقوب:”إحتسبوا كل سرور أيهـا الإخوة أن تقعوا فى تجارب مختلفة عالـمين أنّ إنتحان إيـمانكم يُنشئ الصبـر. حتى يكون العـمل الكامل للصبـر بحيث تكونون كاملين موفّريـن غير ناقصين فى شيئ”(يعقوب2:1-4).
ولهذا فلقد قال بولس الرسول:”انكم محتاجون إلى الصبـر لتعـملوا إرادة اللـه فتنالوا البركـة التى وُعدتم بها”(عبرانيين35:10)
وعن الصبـر والإحتمال فى حياة مريم العذراء فسوف نجد انـه قد تنبأ سمعان الشيخ عن سيف الأوجاع والألم الذى سيجوز فى نفس مريم فقال لها:”وأنت أيضا سيجوز فى نفسكِ سيف لتُعلن أفكار من قلوب كثيـرة”(لوقا35:1). ومريم تحملت سيف التغرب ( هروبها بالطفل الى ارض مصر وحياتها فى مدينة الناصرة)، وتحملت سيف الإذدراء، وسيف الهروب، وسيف اليتم، وسيف الترمل، وسيف فقد وحيدها على الصليب فصدقت فيهـا نبؤة ارميا النبي القائلة: ” ماذا أُشبّـه بكِ يا بنت أورشليم ماذا أساوي بك فأُعزّيكِ أيتهـا العذراء بنت صهيون”(مراثـى ارميا 13:2)
ومع هذا ظلّت مواظبة على الصلاة والإيـمان والمحبة والرجاء.
ومشكلة الألـم فـى حياة مـريم وحياة البشـر عـمومـا هـو من الأمور التى تستحق التأمل.
ويـمكننا على ضوء السيد الـمسيح وحياته وموته وقيامته أن نرى أن الألـم والشر والـموت لـم يعد ذلك اللغـز الذى حيًر الإنسان منذ القديـم ففـى الـمسيح سُحق الـموت وحررنا من عبودية الخطيّة
“كل من يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة”، و لكن جاء الـمسيح ليحررنا من تلك العبودية “فإن حرركم الإبن كنتم فى الحقيقة أحراراً (يوحنا34:8-36)
“أين غلبتك أيها الـموت؟!.أين شوكتك يا موت؟!
الشكر لله الذى يؤتينا الغلبـة بربنا يسوع الـمسيح”(1كور54:15-57).
لقد قضى الـمسيح على الشر والخطيئة دون القضاء على حريّة الإنسان ولكنه جدّد الإنسان من الداخل وقّوم طبيعته البشرية الـمحدودة مظهراً وجه اللـه الحقيقى ومبيناً للإنسان الطريق الوحيد الذى لا بد للإنسان أن يسلكه إذا أراد الحياة الأبديـة.
إن مريـم عرفت ما سر الألـم وشاركت إبنهـا فـى تحـمله حتى تعطى للإنسان الجديد قوة ويسهم مع الـمسيح فـى تجسيد الفداء فـى ذاته وفـى الأخرين وفـى الكون حتى يزول الشر وتزول الخطيئة ” ويصير اللـه كلاً فـى الكلّ” (1كورنثوس28:15).
لقد دعانا السيد الـمسيح:”وفيما أنتم ذاهبون إكرزوا قائلين إنه قد إقترب ملكوت السموات، إشفوا
مرضى، طهروا برصا، أقيموا موتـى، أخرجـوا شياطين.مـجانا أخذتـم ومـجانا أعطوا”
(متى 7:10-8)…
لقد قال الرسول بولس “نفتخر فى الضيقات عالـمين أن الضيق ينشئ صبراً والصبر تزكية
والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى لأن محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس الـمعطى لنا”(رومية3:1-3).
إن مواعيد اللـه عظيـمة، فلنأخذ الألـم بشكر ونحمـل الصليب برجاء ثابت فكما قال بطرس الرسول:”فإن من النعـمة أن تكابد الـمشّقات ويتحمل الظلم لأجل ضمير مُطيع لله. وبالحقيقة أيـّة مفخرة لكم إن كنتم تُلطمون وأنتم خاطئون فصبرتم ولكن إن كنتم تتألـمون وأنتم فاعلو خير فهذا نعـمة لدى الله. ولهذا دُعيتم لأن الـمسيح أيضاً تألّـم لأجلنـا وأبقـى لكم قدوة لتقتفوا آثاره”(1بطرس18:2-21). إذن كما قال بولس الرسول:” فلا شدة ولا ضيق ولا جوع ولا عري ولا خطر ولا إضطهاد أو سيف يـمكن أن يفصلنـا عن محبـة الـمسيح” (روميـة 55:8)، ولنطلب من إلـه الصبـر والتعزيـة أن يهبنـا الصبر لكى “نّمجد الله أبا ربنـا يسوع الـمسيح بنفس واحدة وفم واحد(رومية5:15-6)، ولنقرأ الكتاب الـمقدس كلمة الله “لأن كل ما كتب من قبل إنـما كُتب لتعليـمنا ليكون لنا الرجـاء بالصبـر وبتعزيـة الكُتب”(رومية4:15)، وعلينـا أن نؤمـن بأن لنا مـجد عتيد أن يظهـر عند مجئ السيد فـى مجده “هـا أنذا آت سريعا وجزائـي معى لأكافـئ كل واحد حسب اعـمالـه” (رؤيا 12:22).
مريـم العذراء فـى طاعتهـــا
فضيلة الطاعـة فضيلة عظيـمة إذ قال الكتاب الـمقدس:”أيها الأبناء أطيعوا أباءكم فى الرب فإن هذا هو العدل”(افسس1:6)، كما قال أيضاً:”أطيعوا مرشديكم”(عبرانيين17:13).
ويذخر الكتاب المقدس بأمثلـة من أطاعوا الله كإبراهيـم الذى “إنطلق كما قال له الرب”(تكوين1:12-4) وطاعـة موسى وهارون (خروج6:7)، وطاعـة يشوع بن نون (يشوع40:10)، وطاعة عزرا الكاهن(عزرا10:7)، وطاعـة يونان النبي(يونان3:3)، وطاعـة يوسف خطيب مريـم العذراء (متى24:1)، وطاعـة السيد الـمسيح :”إن طعامي أن أعـمل مشيئة من أرسلني وأتـمم عـمله”(يوحنا34:4).
ان الطاعـة هـى الخضوع للوصايـا الإلهيـة فالله “يصنع رحـمة إلى ألوف من محبيّ وحافظى
وصاياه”(تثنية10:5)، و”حافظ الوصيّة يحفظ نفسه والـمتهاون بطرقـه يـموت”(امثال16:19) وكما يقول يوحنا الرسول:”لأن هذه هى محبـة الله أن نحفظ وصاياه”(1يوحنا3:5)، ولهذا أوصـى تلـميذه تيموثاوس قائلاً:”أن تحفظ الوصيّة بغير كلف ولا عيب إلى تجلّي ربنـا يسوع الـمسيح”(1تيموثاوس14:6). ولقد أوصانـا السيد الـمسيح قائلاً:”إنّ خرافي تسمع صوتـي وأنا أعرفهـا وهى تتـبعني وأنا أعطيهـا الحياة الأبديـة فلا تهلك إلى الأبد ولا يختطفهـا أحد من يدي”(يوحنا27:10-28) وايضاً طوّب من “يسمع كلـمة الله ويحفظهـا”(لوقا28:11) لأن الذى يعـمل ويعلّم الناس الوصايا “فهذا يُدعى عظيـماً فى ملكوت السموات”(متى19:5). ولقد وصف القديس بطرس الـمؤمنيـن بأنهـم”أبنـاء الطاعـة”(1بط14:1).
وعـن مـريـم فلقد أطاعت إرادة السماء عندما بشرّها الـملاك “بأن القدوس الـمولود منهـا يُدعى إبن الله” فأجابت على الفور “هاأنذا آمـة الرب”.وأيضا قبولها الترحال مع يوسف وهى حبلى بيسوع الى بيت لحم اليهودية وخضوعها للرحيل الى مصر او الحياة فى مدينة الناصرة طاعـة للقديس يوسف كـما أمره ملاك الرب (متى13:2و19).
ولـم تخضع مـريم للسـماء ولزوجهـا فقط، بل كانت خاضعة أيضا لإبنها فأطاعته وعاشت بعيدة فى فترة رسالته الـعلنية، وعند الصليب ذهبت مع يوحنا الحبيب الى بيته حسب أمر إبنها وأيضا بعد القيامة ذهبت الى الجليل مع باقي الرسل حسب طلب يسوع (متى 16:28) وبقيت مع الرسل فى أورشليم عند حلول الروح القدس فى الخماسين (أعمال 14:1).
مريـم العذراء و حياة الشكر للرب
يطالبنـا الله أن نشكره كل صباح وكل مساء “وللقيام كل صباح لحـمد الرب وتسبيحه وكذلك كل مساء”(1أخبار30:23)، ولهذا يقول الـمرّنم: نُبادر إلى وجهه بالإعتراف ونهتف له بالنشائد”(مزمور2:94)، وايضاً:”ادخلوا أبوابـه بالإعتراف. دياره بالتسبيح. إعترفوا لـه وباركوا إسمه”(مزمور4:99). ويدعونا بولس الرسول قائلاً:”أشكروا على كل شيئ”(1تسالونيكى18:5)، و”اشكروا فى كل حين على كل شيئ”(افسس20:5) وأيضاً يُطالبنـا قائلاً:”مهما أخذتم فيه من قول أو فعل فليكن الكل بإسم الرب يسوع الـمسيح شاكرين به لله الآب”(كولوسي17:3).
وفضيلة الشكر ترتبط عادة بالفضائل الأخرى كالقناعة والتواضع والإيمـان وبالفرح والسلام.
والسيد الـمسيح أعطانـا مثالاً:”ثم أخذ السبعة الأرغفة والسمك وشكر”(متى36:15) و “وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم”(متى26:26).
ومريـم العذراء فى تسبحتهـا الرائعـة هتفت قائلـة:” فقالت مريم تعظم نفسي الرب” (لوقا46:1) وهنا تعترف مريم وترجع كل شيئ للرب القدير والقدوس.
مريـم العذراء و حيـاة الصلاة
الصلاة هى لقاء شركة وإتحاد بين الله والإنسان، ومخاطبة النفس للرب، وحديث القلب معـه، وسكب الروح أمـامـه، وتقديم ذبيحة التسبيح الشفهيـة لجلالـه وعظـمته اللانهائيـة. والصلاة هـى طلب لـمواهب او نِعم خاصـة من الله من أجل تـمجيد إسم الرب، وبواسطتهـا ننال منـه النعـم الضروريـة لحياتنـا الروحيـة والزمنيـة. تتطلب الصلاة أن يتطابق فكر وإرادة الإنسان الـمصلّي مع الله والإتحـاد بـه، ويجب أن تكون حارة وصادقـة ونابعة من قلب مؤمن وواثق وخاشع ومتواضع،
كما يجب أن تصاحبهـا الأعمال الصالحـة وبأفعال للشكر والتسبيح ومساعدة الآخريـن.
إن الصلاة هـى صـِلـة.. صلة الإنسان باللـه قلبا وفِكراً..
هـى الإحساس بالوجود فـى الحضرة الإلهية كـما كان إيليا النبـي:”حي هو رب الجنود الذى أنا واقف أمامـه” (1ملوك15:18).
هـى عاطفـة حب نعبّـر عنهـا سواء بالصلاة الصوتية التى تستعمل فيها الألفاظ والجـمل سواء أكانت محفوظـة أو مرتجلـة، أو بالصلاة العقلية التى تكون من عـمق القلب كـما كان يرنم داود”توهج قلبى فـى داخلي فـى هذيذي أتقدت فـّي نار” (مزمور1:42).
هــى تواضع من اللـه أن يسمح لـنا بأن نتحدث إليـه وأن نكلـمه. لذلك عار وخطيّة أن نقول ليس لدينا وقت للصلاة.
هل يجرؤ العبد أن يقول انه ليس لديه وقت للكلام مع سيّده؟!.
واللـه غيـر محتاج إلـى صلاتنـا بل نحن الذين نحتاج للصلاة التى نأخذ منها قوة ومعونـة وبـركـة.
ومثل أى فعل من أجل الخلاص، فالنعـمة مطلوبـة ليس فقط من أجل أن تقودنـا للصلاة، بل
ايضاً من أجل أن نعرف ما الذى نصلّي من أجلـه كما يعلن لنـا القديس بولس الرسول: “الروح
أيضاً يُعضد ضعفنـا فإنـّا لا نعلـم ماذا نصلّي كـما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع لنـا بأنـّات لا
تُوصف”(رومية26:8).
أمـا عن حياة الصلاة مع مريم العذراء فنقرأ: ” هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع” (أعمال 12:1-14).
إن مـريم كانت ثمرة من ثـمار الصلاة فلقد كانا أبواها حنة ويواقيم عاقران ودخولها الهيكل منذ طفولتها، وخطبتها ليوسف بعد صلاة الكهنة كما يخبـرنـا التقليد الكنسي.
وصفات الـمـصلي هـى أن يكون متواضعاً-واثقاً بالله-مـواظباً.
ونجد أن القديسة مريم العذراء كانت واثقة ومواظبة ومتواضعة.
وأيضا عندما هتفت مريم بأنشودة التعظيم فهذا دليل على أن نفسها كانت متشبعة بترانيم
وتسابيح وكلمات الله.
والسيد الـمسيح لم يترك فرصة إلا وانفرد وصلى لأبيه السماوي”وفـى أيام بشريته قرّب تضرعات
وتوسلات بصراخ شديد ودموع” (عبرانيين7:5)
مريـم العذراء فـى فقـرهـا
فى الكتاب الـمقدس هناك العديد من الآيات التى تحث الـمؤمنيـن على التجرد والكفاف والفقـر وعدم حب الـمال ولقد قال السيد الـمسيح:”لا يستطيع أحد أن يعبد ربّيـن لأنـه إمـّا أن يبغض الواحد ويُحب الآخر أو يُلازم الواحد ويرذُل الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا الله والـمال”(متى24:6)، وأيضاً قال للشاب الغني:”إن كنت تريد أن تكون كاملاً فإذهب بع كل شيئ لك وأعطـه للـمساكين فيكون لك كنز فى السماء وتعال وإتبعنـي”(متى21:19).
وهـا هو معلـمنا بولس الرسول يقول لنـا:”فأنكم تعرفون نعـمة ربنـا يسوع الـمسيح كيف افتقـر من أجلكم وهو الغنـي لكي تستغنوا أنتم بفقـره”(2كورنثوس9:8)، ويُطالبنـا قائلاً:”نزّهوا سيرتكم عن حب الـمال وأقنعـوا بـما عندكم فإنـه قال لا أخذلك ولا أهـملك”(عبرانيين5:13)، ولهذا أوصي تلـميذه تيموثاوس قائلاً:”ان حب الـمال أصل كل شر وهو الذى رغب فيـه قوم فضلّوا عن الإيـمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة. أمـا أنت يا رجل الله فأهرب من ذلك وأقتف البِرّ والتقوى
والإيمان والمحبة والصبر والوداعـة”(1تيمو10:6-11).
وعن التجرّد وحياة الكفاف عند القديسة مريم العذراء فنقرأ أن مريم ويوسف قد قدمـا فى الهيكل
“ذبيحة كما قيل فى ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام”(لوقا34:2)، وهى تقدمة الفقراء.
ان الله لا يحتاج الى فضة وذهب بل يحتاج الى النفوس والى قلوب حية ولنا فى مثل فلس
الأرملة وكلام يسوع عن طيور السماء وزنابق الحقل دليلا على ان الله ينظر الى القلوب
المحبة وليس لعطايانا التى تعطى للمباهاة والإفتخار.
مريم الـمـكتفية فى الرب، كقول الـمرنم “الرب راعي فلا يعوزني شيئ” (مزمور22).
نقرأ سليمان فى أمثاله ” شيئين سألتك فلا تمنعنيهما قبل أن أموت أبعد عني الباطل وكلام
الكذب، لا تجعل حظي الفاقة ولا الغنى بل أرزقني من الطعام ما يكفيني لئلا أشبع فأجحد وأقول مَن الرب أو أفتقر فأسرق وأتخذ اسم إلهي بالباطل” (أمثال 7:30-9).
وأيضا ” لقمة يابسة معها طـمـأنينة خير من بيت مـمـلوء ذبائح ومعها خصام” (أمثال 1:17).
ومريم فى تسبحتها تقول:”رفع الـمـتواضعين وأشبع الجياع خيراً” (لو 51:1-53) فهـا هـى تعلن
فرحتها وإتضاعها وان الخير الذى لها هو من الله. والتسبيح دليل ايضا للسرور والقناعة كـما
جاء فى رسالة يعقوب “أمسرور أحد فليـرتل” (يعقوب 13:5).
مـريم وحياتها القانعة من الوجهة الـمـادية، فرجلها يوسف نجار مكتفي بـمـا أعطاه له الله. لم تطلب مريم من رجلها مسكن لائق بأم المسيح، ولم تطلب من رجلها أشياء لا يقدر عليها فكما جاء “الـمرأة الصالحة نصيب صالح تُمنح حظاً لـمن يتقي الرب فيكون قلبه جذلاً ووجهه بهجاً كل حين غنيا كان أم فقيراً”(يشوع بن سيراخ3:26-4).
وفى صلاتنا “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم” هـل حقا نعني ما نطلب؟
ان الإنسان دائم التطلع للإقتـتناء، إقتناء كل الأشياء، فالقلب معلّق بالأرضيات وليس بالإلهيات، لهذا قال السيد الـمسيح:”لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والآكلـة وينقب السارقون ويسرقون. لأنـه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك”(متى19:6و21).
إن بركة الرب كبيرة وعظيمة.انظروا الى بركة ابراهيم وبركة نوح وبركة يعقوب وبركة يوسف وبركة شعب اسرائيل نفسه فقد دخلوا مصر 70 فرداً فخرجوا مع موسى 600 ألف.
فلنحيا حياة وبركة الرب كـما عاشتهـا أمنـا مريـم العذراء فهى كل ثروتنا فى هذه الأرض وكما
يقول بولس الرسول:”بل نُظهر أنفسنا كخدّام اللـه كأنـا فقراء ونحن نُغنـي كثيرين. كأنـا لا شيئ
لنا ونحن نملك كل شيئ”(2كورنثوس10:6).
مريـم العذراء فى طهارتهـــا
الطهارة أو النقاوة هـى صِفـة لكل مادة مفردة وغيـر مـمتزجـة بشئ آخـر، والنقاوة فـى الحياة
الروحيـة هـى فضيلة تجعل عقل الإنسان وقلبـه وتصوراتـه وذاكرتـه خاليـة من كل شئ يـمكن أن يعكـرهـا، وللنقاوة مـيزات لا تحصـى لهذا صرخ داود قائلا: “قلبـاً نقيـّا أخلق فـيّ يـا الله”(مز12:50)، وجاءت كإحدى التطويبات التى أعلنها السيد الـمسيح فى موعظتـه على الجبل
“طوبـى لأنقيـاء القلوب فإنـهم يعاينون الله”(متى8:5).
الطهارة هـى الفضيلة الساميـة أو الفضيلة الـملائكيـة لأنهـا من صِفات الـملائكة.والطهارة هـى من
صميم جوهـر قداسـة الله. كـما أن الحياة فى الطهـارة والقداسة هى شرط ضروري للحياة مع الرب، ففي سفر الرؤيا نرى 144 ألف قال عنهم الوحي الالهي:”افتدوا من الأرض هؤلاء الذين لـم يتنجسوا مع النساء لأنهم أبكار هم التابعون للحمل حيثما يذهب ولم يوجد فى أفواههم غش لأنهم بلا عيب قدام عرش الله”(رؤ 4:14-5). ويعلن لنا الـمرنم ” من يصعد الى جبل الرب ومن يقوم فى موضع قدسه النقي الكفين والطاهر القلب الذى لا يحمل نفسه الى الباطل ولم يحلف بالغش” (مزمور 3:23-4) و”النفس العفيفـة لا قيـمة توازنهـا”(يشوع بن سيراخ20:26).
والقديس بولس فى رسالته الأولى الى تسالونيكي يعلن: “فإن مشيئة الله انـما هي تقديس أنفسكم وان يعرف كل واحد منكم كيف يصون أناءة فى القداسة والكرامة لا فى فجور الشهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله” (1تس 3:4-5)، ويوصي تلميذه تيموثاوس: “احفظ نفسك عفيفا” (1تيمو 22:5). وفى رسالته الى كولوسي ” اهتموا لـما هو فوق لا لـما هو على الأرض” (كولوسي 2:3).
الطهـارة بنحصل عليها فى سر الـمصالحة بالإعتراف والصلاة وأعمال الرحـمة، واللـه يطلب طهارة القلب لكي يستطيع أن يسكن فينـا ونتحد بـه.
ومريـم العذراء حائـزة على كل هذه الصِفات من نقاوة القلب والفكر والإرادة، فنقرأ ان الله أرسل
ملاكه جبرائيل الى عذراء من الناصرة مخطوبة لرجل وعلى الرغم من أن العذراء كانت مخطوبة الى أنها تسآلت “كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً” لأن مريم كانت قد نذرت نفسها بتولا وكرست ذاتها بكليتها للرب. ان بتوليتها وقداستها نتيجة إمتلائها بالنعمة “يا ممتلئة نعمة” ولهذا فتلقب مريم “بالعذراء القديسة” او بـ “العذراء كل حين”، أو بـ “العذراء مريم”.
مريـم العذراء فى أمـانتهـــا
لقد دعانـا السيد الـمسيح إلى هذه الأمـانـة فتحدث عن العبد الأمين قائلاً:” فمن هو هذا العبد الأمين الحكيم الذى أقامه سيده على خدمه ليعطيهم الطعام فى حينه طوبى لذلك العبد الذى إذا جاء سيده يجده يفعل ذلك” (متى 45:24).
والأمانـة هـى مقياس الدينونـة فالله سيقول للعبد الأمين:”نعـما أيهـا العبد الصالح الأمين كنت أمينا فى القليل، فأقيمك على الكثيـر. أدخل إلى فرح سيدك”(متى21:25و23).
والأمانـة يلزم أن تكون بلا حدود فيقول الرب:”كن أمينـا إلى الـموت. فسأعطيك إكليل الحيـاة”(رؤيا10:2).
الأمـانـة تجاه اللـه حافظاً وصايـاه وإتـمام خدمتـه تعالـى كما قال الرسول بولس:”أنا أشكر الـمسيح
يسوع ربنـا الذى قوّانـي لأنـّه عدّنـي أمينـا فنصبنـي للخدمـة”(1 تيموثاوس12:1).
الأمـانـة نحو الآخريـن وخلاص نفوسهم كقول بطرس الرسول:”حين تفوزون بعاقبـة الإيـمان بخلاص النفوس”(1بطرس9:1).
ومريم كانت أمينة فى خدمتها بالهيكل وخدمة المسيح طفلا وشابا ورجلا وحفظ الشريعة والأمانة فى تربية الأبناء، والأمانة فى العمل والوقت والخدمة.
كانت مـريـم متفانية فى إنجاز الواجبات الدينية “لـمـا تمت ثـمـانية أيام ليختتنوا الصبي سُمي يسوع كـمـا تسمـى من الـمـلاك قبل أن حبل به فى البطن” (لو21:2)، “ولـمـا تـمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به الى أورشليم ليقدموه للرب” (لو22:2)، “وكان أبواه يذهبان فى كل سنة الى أورشليم فى عيد الفصح”. فأعطت مريم بذلك نمـوذجا للإعتراف بسلطة الكنيسة وتعاليمها ووصاياها وتقديم أبنائنا لله.
كانت مريـم فى كل حياتهـا خاضعة لإرادة اللـه، وفى تسليم كامل للـه بحيث كانت كل أفعالهـا
وتصرفاتـها وأفكارهـا وأقوالـها مطابقـة لـمشيئة اللـه لأنهـا كانت “أَمـة للرب”(لوقـا38:1)، ووصيتهـا الوحيدة الـمدونـة كانت “مهـما قال لكم فإفعلوه” (يوحنـا5:2).
فالإنسان الأميـن للـه يسّلـم مشيئـته للرب فلا يكتئب ولا ينفعل بل يتقبّل كل الأمور برضى وشكر وذلـك لأنــه “منـه وبـه ولـه كل الأشياء” (روميـة36:11).
مريـم العذراء فى تواضعهــا
الإتضاع فى الـمسيحية سر من أسرار الـمسيح نفسه الذى مارسه فى ذاتـه وأعطاه لنـا نحن الـمؤمنين كقوة بها نتنازل راضيـن طائعيـن عن كل حق بشري مادي أو كرامـة أو مكافأة أو إمتياز تشبهـا بالـمسيح وتـمسكاً بحق الله وكرامتـه ونعـمته.
فالسيد الـمسيح هو أعظم مثال لفضيلـة التواضع:
- “تعلّموا منـي لأنـي وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحـة لنفوسكم”(متى29:11).
- “فإن كنتُ وأنـا السيد والـمعلّم قد غسلت أرجلكم فأنتم أيضاً عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”(يوحنا14:13-15).
- – “فإنكم تعرفون نعمة ربنـا يسوع الـمسيح كيف افتقـر من أجلكم وهو الغنـي لكي تستغنوا
أنتم بفقره”(2كورنثوس9:8).
- – “لكنـه أخلى ذاتـه آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه البشر وموجوداً كبشر فى الهيئة فوضع نفسه وصار يُطيع حتى الـموت موت الصليب”(فيلبي7:2-8).
- – “ان إبن البشر لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين”(متى28:20).
ومنشأ هذه الفضيلـة هو الإحساس بعظمة اللـه القديـر”الرب يُميت ويُحيي يهبط غلى الهاويـة ويصعد. الرب يُفقر ويُغني يضع ويرفع. يقيم الـمسكين من التراب ويرفع الفقير من الـمزبلة”(1ملوك6:2و9).
والتواضع هو ضرورة لخدمـة اللـه “قد أُخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك” (ميخا 8:6).
لهذا قال بولس الرسول:”فأنه إن ظنّ أحد أنـه شيئ وهو ليس بشيئ فقد غرّ نفسه”(غلاطية3:6)، وايضا قال:”من الذى يـميزك يا هذا وأي شيئ لك لم تنلـه. فإن كنت قد
نلتـه فلـماذا تفتخر كأنك لـم تنلـه”(1كورنثوس7:4).
ومريم العذراء وسط النعم هتفت بالشكر “تعظم نفسي الرب” معلنة ان كل النعم هى من الرب
“لأنه صنع بى عظائم” وتعلن “هوذا أنا آمة للرب”، ورغم سماعها مديح اليصابات “كيف تأتي أم ربي الي” لكنها صرخت “لأنه نظر الى تواضع آمته” (لوقا 48:1).
إن الكبرياء والغنى البشري هى أمور تحجب عظمة الله وتتعارض مع حبه. إن الله إختار أماً لإبنه من بين تلك الفئة التى يدعوها الكتاب فقراء يهوة أي اولئك الذين ترقبوا الخلاص.
وكلنا يعلم أن سقطة الإنسان الأولى كان سببها الكبرياء (سقطة الشيطان -أش 13:14-14، سقطة آدم -تك5:3)، ونقرأ فى سفر الرؤيـا مـا جـاء لـملاك كنيسة اللاذقية: ” وبـما انك تقول أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة بـي الى شيئ ولست تعلم انك شقي وبائس ومسكين وأعمى وعريان” (رؤيا17:3).
ان مريم العذراء “قالت هـا أنذا آمة الرب”..فلم تفكر كيف ستنفذ أمر الرب..أو كيف
سيستخدمها الرب..فقدمت ذاتها بكليتها طائعة.
بعد أن أخبر الملاك مريم بالسر الإلهي والحبل بـمخلّص العالم..يقول لنا الكتاب انها أسرعت
الى بيت أليصابات وهناك سمعت مديحاً وتطويباً على لسان أليصابات بعد ان إمتلأت من الروح القدس (لو 42:1-45).
كان يـمـكنها أن تتفاخر. ملاك يُبشر ولسان يهتف وجنين يركض بإبتهاج!
كان يـمـكنها أن تعلن هذه البشرى للعالم أجمع والذى كان فى شوق وإنتظار للـمـسيا.
كان يمكنها أن تصيح (تعالوا وانظروا..هاتو تقدماتكم وبخوركم فأنا أم الـمسيا…!!).
ولكنها أعلنت إتضاعها العجيب ” تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع آمته” (لو 48:1).
وعند زيارة الـمجوس باحثين عن الـمـولود ملك اليهود..لم تقل مريم أنا أم الـملك وقدموا لي الهدايا والإكرام والسجود..
لقد كانت السقطة الأولى للإنسان هى خطيئة الكبرياء..
“تصيران آلهة عارفي الخير والشر” (تك 5:3) وسقطة الشيطان كانت ايضا بسبب الكبـرياء كما
جاء فى سفر اشعياء (أش 13:14-14).
“فـمن رفع نفسه اتضع ومن وضع نفسه ارتفع”(متى12:23)، وكما يوصينا معلّمنا بولس
الرسول قائلاً:”فالبسوا كمختاري اللـه القديسين الـمحبوبيـن أحشاء الرحـمة واللطف والتواضع والوداعـة والآنـاة”(كولوسي12:3).
مـريـم العذراء فـى صـمتهـا
السكوت التام ليس فضيلة كاملة ولا كثرة الكلام فضيلة “فللسكوت وقت وللتكلم وقت”(جامعة7:3)، وقال سليـمان الحكيم ان “كثرة الكلام لا تخلو من الـمعصيـة”(امثال19:10)، ولهذا أوصانا بطرس الرسول قائلاً:”إن أراد أحد أن يحب الحياة ويرى أيامـاً صالحـة فليكفف لسانـه عن الشر وشفتيـه أن تتكلـما بالـمكر”(1بطرس10:3)، ولهذا قال السيد الـمسيح:”ان كل كلـمة بطالـة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين، لأن بكلامك تتبرر وبكلامك
تُدان”(متى36:12).
والصمت دلالة على نوع من الكمال الروحي الذى يحقق الإنسان كقول يعقوب الرسول:”إن كان
أحد لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل”(يع2:3)، وأيضا دلالة على التديّن”إن كان أحد فيكم
يظن أنـه ديّن وهو ليس يلجم لسانه بل يخدع قلبه فديانته باطلة”(يعقوب26:1).
وأعطتنـا القديسة مريم العذراء مثالاً صالحاً فى حياة الصمت:”أما مريم فكانت تحفظ جميع هذه الأمور متفكرة بـه فى قلبهـا”(لوقا19:2)، فهى لـم تكن تحفظ الكلام فقط بل كانت تتفكر به فى قلبها. لقد رأت مريم العذراء أموراً عجيبـة فى حياتهـا كبشارة الـملاك جبرائيل وتسبحة اليصابات لها وإرتكاض الجنين فى أحشائهـا، ورأت زكريا الكاهن الذى صار صامتـاً، وتحيـة الرعاة وزيارة الـمجوس ونبؤة سمعان الشيخ فى الهيكل وجلوس الطفل يسوع بين الـمعلـمين، وغيرها من الأحداث ولكنهـا كانت صامتـة “متأملـة فى قلبهـا”. صمتت أمام يوسف النجار وقت أن ساوره الشك ولم تدافع عن نفسها، وصمتت أمام أحداث الهروب وشكوك اهل الناصرة، وتحت الصليب، ولكنهـا تكلـمت واخبرت الرسل وفأخبرتهـم بـما لـم يُخبروا عنـه فكتبوا الأناجيل فى ضوء ما تكلـمت به إليهـم. وبـمراجعة الأناجيل نجد انهـا لـم تسجل إلاّ القليل من كلـمات مريـم العذراء، فـمثلاً فى حديثهـا مع الـملاك قالت عبارتين:
+ “فقالت مريم كيف يكون لي هذا وأنا لست أعرف رجلا”(لوقا34:1).
+ “فقالت مريم هوذا أنا آمـة الرب فليكن لي بحسب قولك”(لوقا38:1)
وعند فقد يسوع فى الهيكل قالت لـه:
+ “فقالت له أمـه يا إبني لِم صنعت بنا هكذا ها إننـا أنا وأباك كنّا نطلبك متوجعين”(لوقا48:2).
وفى عرس قانا الجليل قالت عبارتيـن:
+ قالت للسيد الـمسيح”ليس لهم خـمر”(يوحنا3:2)
+ قالت للخدام”مهما قال لكم فإفعلوه”(يوحنا5:2).
وحينما أرادت أن تتكلم نطقت بتسبحتها الـمعروفـة مسبحة الله على قدرتـه ورحمته ووداعتـه
وقدسيتـه (لوقا46:1-55).
فالصمت يساعدنا على الصلاة وعلى سماع صوت الله داخلنا ويحفظنا من زلاّت اللسان
ويساعدنا على الإحتفاظ بالحرارة الروحيـة الداخلية.فلنتعلـم فضيلة السكوت أو الصـمت فنستطيع أن نُلجم الجسد كلـه(يعقوب3).
مـريـم العذراء وحيـاة السلام
يتلهف الإنسان على السلام فى وسط عالم ملؤه الضجيج والفوضى والضغوط الـمتواصلة. والكثيرون منهم يكّفون عن السعي للسلام إذ يعتبرون الوصول إليـه مستحيلاً، ولكن السلام الحقيقي، سلام القلب والفكر هو أقرب ما يـمكن بالإيمان بيسوع الـمسيح كما يُعلـمنا القديس بولس:”لتكن لكم النعمة والسلام من اللـه أبينا والرب يسوع الـمسيح”(1كورنثوس3:1).
فالسلام هو بركـة وعطية من السيد الـمسيح للقلب والنفس وهو “ليس كسلام العالم” كما قال الـمسيح يسوع: “قد كلـمتكم بهذا ليكون لكم فـيّ سلام”(يوحنا33:16)، وهو ثـمرة للروح القدس (غلاطية22:5)، “فإن ملكوت الله هو برّ وسلام وفرح فى الروح القدس”(رومية17:14) ويُدعـى صانعـو السلام بأبنـاء الله (مت9:5).
ولهذا ينصحنـا الرسول بولس قائلاً:”وليتغلّب فى قلوبكم سلام الـمسيح الذى إليـه دُعيتم فى جسد واحد”(كولوسي15:3)، وأيضاً:”وليحفظ سلام الله الذى يفوق كل فهم قلوبكم وبصائركم فى يسوع الـمسيح”(في7:4).
ان الخطيّة والخوف والشك والريبة وعدم اليقين وقوى اخرى كثيرة تحاربنا من الداخل لكن يتحرك سلام اللـه إلى داخل قلوبنـا ويحيا ليحِد من هذه القوى الـمعاديـة ويقدم العزاء والراحـة عوض الصراع والحرب. لقد قال الرب يسوع إنـه سيعطينـا هذا السلام إن كنا مستعديـن لقبولـه لهذا يُطمئنـا قائلاً:”لا تضطرب قلوبكم ولاتجزع”(يوحنا27:14).
لقد استجابت مريـم العذراء للعديد من الصلوات من اجل ان يحل السلام على الأرض وخاصة بعد الحرب العالـمية الأولـى ولهذا أُطلق عليهـا “ملكة السلام”. ومريم كملكة تعطى العالم حضوراً لعدل ومحبة ورحـمة السيد الـمسيح. مريم أعطت العالـم “رئيس السلام”(اش 6:9) الذى سبّحت لـه الـملائكة “وعلى الأرض السلام” (لو14:2). ومريم الطاهـرة والـمـمتلئة نِعـمة تعطى مكرميهـا السلام الداخلي الذى تزينت بـه، وتشترك معهم فـى الصلاة لإبنهـا يسوع معطـى السلام
“سلامى أعطيكم، سلامى أترك لكم”(يوحنا27:14).
مـريـم العذراء وحيـاة الفرح
“الفرح” هو من ثمار الروح القدس (غلاطية23:5)، لهذا دعانا بولس الرسول إلى الفرح
دائماً:”افرحوا فى الرب كل حين وأقول أيضاً إفرحوا”(فيلبي4:4).
ولـِم لا نفرح وقد أوصانـا السيد الـمسيح قائلاً:”كلّمتكم بهذا ليكون فرحي فيكم ويتم فرحكم”(يوحنا11:15)، ووعدنـا قائلاً:”لا ينزع أحد فرحكم منكم”(يوحنا23:16)، وكلـما طلبنـا شيئـاً من الآب السماوي بإسم يسوع يزداد هذا الفرح”إسألوا تُعطوا ليكون فرحكم كاملاً”(يوحنا24:16). والفرح هو هِبـة الله كما يقول بولس الرسول لأهل روميـة:”ملكوت الله هو بـر وسلام وفرح فى الروح القدس”(رومية17:14)، ويتبع حضور الله كما يقول الـمرّنم:”قد عرّفتنـي سبُل الحياة وستملأني فرحاً مع وجهك ولـي من يـمينك لذّات على الدوام”(مزمور11:15)، فالرب هو الذى يحوّل النوح إلى طرب ويُعزّي ويُفرّح من الحزن(ارميا13:31). ومريـم العذراء عبّرت عن فرحهـا بالتسبيح والترانيـم كقول يعقوب الرسول:”هل فيكم مسرور فليُرّتل”(يع13:5)، وأنشدت تسبحتهـا العجيبة:”فقالت مريم تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي باللـه مخلّصي..”(لو46:1).
لقد أتـى الفرح فى حياة مريم العذراء بتجسد الـمسيح فى أحشائهـا فها هو يوحنا الـمعمدان
“يرتكض بفرح”(لوقا44:1) فى أحشاء اليصابات ورنّـمت مريـم. وبعدهـا هتفت الـملائكة بـميلاد يسوع إبن مريـم “ها آنذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب”(لوقا10:2-11).
بـمريم العذراء تحققت نبؤات الفرح التى وعد بهـا اللـه فى القديم إبنـة صهيون: “ترّنـمي يا ابنة صهيون. افرحي وتهللّي بكل قلبك يا ابنة اورشليم” (صفنيـا14:3)، “ابتهجي جداً يا بنت صهيون واهتفي يابنت اورشليم”(زكريا9:9)، و”إستيقظي استيقظي البسي عزّك يا صهيون البسي فخرك يا أورشليم”(اشعيا1:54). فرح البشارة وفرح الزيارة وفرح الـميلاد وفرح القيامـة مع التلاميذ(لوقا41:24و52).
منذ القرن الثانـى عشر مع بدء إنتشار تلاوة صلوات الـمسبحة الوردية يتم التأمل فى خمسة أسرار الفرح وعادة يتم تلاوتهـا يومي الإثنين والسبت وهـى تأمـل فـى طفولـة السيد الـمسيح كـما جاءت فـى إنجيلي متى ولوقـا، وسُميّت بأسرار الفرح بسبب الفرح الذى أعطتـه للعالـم أجمع. فالـملاك جبرائيل والقديسة مريم العذراء كانـا فـى شدة الفرح بالحدث العظيم للتجسد، والقديسة اليصابات والقديس يوحنـا الـمعمدان إمتلأ من الفرح عند زيارة القديسة مريم ويسوع بعد بشارة
الـملاك، والسماء فرحت لـميلاد الـمخلّص، وسمعان الشيخ إمتلأ بالتعزية
والفرح عندما أخذ الطفل يسوع بين يديـة، ولا أحد يمكن أن يخفى فرحـة يوسف ومريـم عندما وجدا يسوع بالهيكل بعد ثلاثـة أيام من البحث عنـه.
ونشأت بعد ذلك صلوات أخرى يتم التأمل فيهـا فى سبعة أحداث كالبشارة-زيارة اليصابات-ميلاد يسوع-زيارة الـمجوس-وجود الطفل يسوع فى الهيكل-القيامـة-ثم صعودها بالنفس والجسد للسماء. وإزداد عدد تلك الأحداث فى إكرام آخـر حتى وصل إلى 12 حدث من أحداث الفرح فى حياة العذراء.
فلنفرح كل حين “هللويـا فإنـه قد ملكَ الرب الإلـه القادر على كل شيئ. لنفرح ونتهلل”(رؤيا7:19).
التعليم المسيحي ومريم العذراء[15]
مريم العذراء كما جاءت فى تعاليم الكنيسة الكاثوليكية
1. فى قانون الإيمان
أبرزت الكنيسة أهمية شخصية العذراء مريم كوالدة الله، بعد انعقاد مجمع أفسس مباشرة سنة
431م، وذلك لضبط مفهوم التجسد الإلهى ومقاومة بدعة نسطور. وهكذا أضافت مضمون العقيدة التى أقرها هذا المجمع فى مقدمة قانون الإيمان والتى مطلعها: “نعظمك يا أم النور الحقيقى ونمجدك ايتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم أتى وخلص نفوسنا….”.
قانون الايمان الرسولي
أؤمن باله واحد آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض.
وبيسوع المسيح ابنه الوحيد، ربنا الذي حُبل به من الروح القدس وولد من مريم العذراء.
تألم في عهد بيلاطس البطي، صُلب، ومات وقُبر؛ نزل الى الجحيم؛
وقام من الموت في اليوم الثالث. صعد الى السماء، وهو جالس عن يمين الآب القادر على كل شيء.
سيأتي لكي يحكم الأحياء والأموات.
أؤمن بالروح القدس، وبالكنيسة الكاثوليكية، وبركة القديسين،
وبغفران الخطايا، وقيامة الجسد، وبالحياة الأبدية. آمين
قانون إيمان نيقيا والقسطنطينية
أؤمن باله واحد آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض،
كلّ ما يُرى وكلّ ما لا يرى.
أؤمن بربّ واحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد،
ولد من الآب قبل كل الدهور؛ إله من إله، نور من نور، أله حق من اله حق،
مولود غير مخلوق، مساوٍٍ للآب في الجوهر؛ وبه خلق كل شيء.
من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء
وتجسد من الروح القدس وولد من مريم العذراء، وصار انساناً.
صلب من أجلنا في عهد بيلاطي البنطي، ومات وقبر.
وقام في اليوم الثالث، كما جاء في الكتب،
وصعد الى السماء، وجلس عن يمين الآب.
وسياتي بالمجد لكي يحكم الأحياء والأموات، وليس لملكه انقضاء.
أؤمن بالروح القدس، الرب المحي، المنبثق من الآب والابن،
مع الآب والابن يسجد له ويمجّد، وقد تكلّم بالأنبياء.
نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية،
أعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.
انتظر قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي آمين.
مريم العذراء والمجامع الكنسية المسكونية
“من هو الـمسيح؟”، على إجابة هذا السؤال الهام قامت الكنيسة منذ نشأتها بالرد على كل
الهرطقات والبِدع التى تمس سر الـمسيح وسر التجسد ومن أجل هذا إنعقدت الـمجامع الـمسكونية فى نيقية و القسطنطينية وأفسس وخلقيدونية وأعلنت الكنيسة مبدأ إيمانها والـموجود فى قانون الإيمان والذى تؤمن بـه جميع الطوائف الـمسيحية فى هذه الأيـام والذى جاء فيـه أن السيد الـمسيح “تجسّد من الروح القدّس ومن مريم العذراء وصار إنسانا”. ففى مجمع نيقية (325م) تم تحديد عقيدة بتولية مريم الدائـمة، وفى مجمع افسس (451م) تم إعلان حقيقة ان مريـم هـى أم الله “ثيئوتوكوس”.
رسائل باباويـة ونشرات
لقد صدرت مئات الرسائل البابويـة لحث الـمؤمنين على الصلاة وحوت العديد من التعاليـم العقائديـة. ومن أمثال تلك الرسائل ما نشره كلا من:
البابا بيوس الخامس (1854)، و البابا لاون الثالث عشر Pope Leo XIII
(1878-1903)، والبابا بيوس الحادى عشرPope Pius XI (1922-1939) والبابا بيوس الثانى عشرPope Pius XII (1939-1958)، والبابا يوحنا الثالث والعشرونPope John XXIII (1958-1963)، والبابا بولس السادس Pope Paul VI(1963-1978) وحتى البابا الحالي يوحنا بولس الثانـي Pope John Paul II (1978-2013 ). وفى تلك النشرات بعض من جوانب عن حياة مريم العذراء ودورهـا فى الكنيسة.
تعرّف “العقيدة” بأنها إعلان الإيمان الـمسيحي فى كلمات وعبارات محددة، تعبر عن حقائقه الجوهرية، وتجمع الـمؤمنين فى إيمان واحد مشترك، أساسه الوحي الإلهي الذى تسلّمته الكنيسة فى الكتاب الـمقدس والتقليد الـمقدس. والكنيسة الكاثوليكية اعلنت العقائد فى مجامع عامة مثل المجمع التريينتي (1545-1563) أعلن فى جلسته رقم 25 والتى كانت فى 4 ديسمبر 1563:”ان القديسين الـمالكين مع السيد المسيح يقدمون صلواتهم لأجل البشر وانه حميد ومفيد ان نطلب صلواتهم بخشوع ونلتجئ الى عونهم ومساعدتهم لنوال عطايا الله ونعمه بواسطة ابنه سيدنا يسوع المسيح الذى هو وحده مخلصنا وفادينا”.
إن إعلان ان مريم العذراء هى الشفيعة للمؤمنين يرجع تاريخه الى القرون الأولى للمسيحية وجاء ان وساطتها إما (1) لأنها أم الله المملؤة نعمة فهي تحتل مكان وسيط ما بين الله ومخلوقاته، (2) او لأنها مع المسيح وبعده مباشرة تعاونت فى مصالحة الله مع البشر عندما كانت على الأرض، او (3) لأنها موزعة للنعم التى يهبها الله لعبيده المخلصين. لأي سبب من الأسباب السالفة الذكر يلزم ان يكون المفهوم ان وساطة مريم انما هي ثانوية وتعتمد أساساً على وساطة المسيح الأساسية فيعتبرها البعض (امين الخزانة) أو المتصرف للنعم السماوية. ولابد ان نفهم جيدا انها ليست هى المعطية للموهبة او النعمة السماوية وان دورها فقط هو طريقة الإنتقال. وعندما ندعوها كأم تعرف من هم البنين وحاجاتهم فهى تقدم لنا المعونة
بالصلاة معنا امام الله.
أعلن البابا بيوس الثالث عشر سنة 1891 ان كل النعم والبركات انما تأتي لنا من الله عن طريق مريم، وقد تبعه بعد ذلك فى نفس الإيمان ما تبعه من الباباوات.
المـجــمــع الفـاتـيكـانـي الـثـانـــي
لقد تم دراسة دور مريم ووساطتها فى المجمع الفاتيكانى الثاني (1964) ولقد خاف البعض من إعلان انها وسيطة خوفاً من تبلبل ذلك الفكر عند غير المسيحين او غير الكاثوليك لأن الوسيط الوحيد هو المسيح يسوع كما جاء فى 1تيمو 5:2 وغافلين ان بولس الرسول نفسه ذكر فى موضع آخر ان موسى ايضا وسيط كما جاء فى غلاطية 19:3. وعليه أعلنوا بعد مداولة طويلة ان العذراء مريم تعترف بها الكنيسة بإنها المحامية Auxiliatrix, Adjutrix, Mediatrix وأعلنوا بوضوح ان هذا ليس معناه انه يوجد وسيط آخر غير السيد المسيح.
المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) هو المجمع المسكوني الحادي والعشرون. دعا إليه البابا يوحنا الثالث والعشرون. أصدر عدداً من الدساتير والمراسيم والقرارات والبيانات والتصريحات. وهو يكمل ما لم يستطع المجمع الفاتيكاني الأول أن ينجزه، ولا سيما ما يختص بجماعية الأساقفة.
انعقد المجمع من 11 تشرين الأوّل 1962 إلى 8 كانون الأوّل 1965. وها هي مراحل انعقاده:
– المرحلة الأولى: الجلسة الأولى، 11 تشرين الأول 1962-8 كانون الأول 1962.
افتتح البابا يوحنا الثالث والعشرون المجمع الفاتيكاني الثاني في 11 تشرين الأوّل 1962،
وأوضح الغرض منه – كما أوضحه أيضاً آباء المجمع أنفسهم في بدء الأعمال – وهو “تحديث” الحياة الكنسيّة، أيّ تعميق الحياة المسيحية، وتطوير المؤسّسات الكنسية بالنظر إلى ضرورات العصر ومقتضيات الزمان. وتعزيز وحدة المسيحيين، ومساندة العمل الرسوليّ في الكنيسة.
البابا بولس السادس: 21 حزيران 1963- 6 آب 1978
– المرحلة الثانية: الجلسة الثانية والثالثة، 29 أيلول 1963-4 كانون الأول 1963
– المرحلة الثالثة: الجلسة الرابعة والخامسة، 14 أيلول 1964-21 تشرين الثاني 1964
– المرحلة الرابعة: الجلسة السادسة حتّى التاسعة، 14 أيلول 1965-7 كانون الأول 1965
– الاحتفال بختام المجمع: 8 كانون الأول 1965.
ملخص ما جاء في دستور المجمع الفاتيكاني الثاني ما يلي:
أولاً، مقدمة
العذراء القديسة في سر المسيح
52-أمَّا وقد قرَّرَ الله بصلاحِهِ المتسامي وحكمته الفائقة أن يفتدي العالم “لمّا بلغ ملءُ الزمان
أرسل ابنه مولوداً من امرأة… لننال التبني” (غل 4، 4- 5) “الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء”. فَسِرُّ الخلاص الإلهي هذا يَظهر لنا ويستمر في الكنيسة، التي أقامها الرب بمثابة جسده، وفيها يجب على المؤمنين المنضمّين إلى المسيح الرأس، والمتَّحدين في الشَرِكَة عينها مع كل قديسيه أن يُكَرِّموا “في الطليعة ذكر المجيدة مريم الدائمة بتوليتها، والدة إلهنا وربنا يسوع المسيح”.
العذراء القديسة والكنيسة
53- فالعذراء مريم التي قَبِلَت، عند بشارة الملاك، كلمةَ الله في قلبها وفي جسدها، وقدَّمَت الحياة للعالم، هي معروفة ومكرمة كأمّ الله الحقة، وأم المخلص. وقد افْتُدِيَت بطريقةٍ ساميةٍ نظراً إلى استحقاقات ابنها، المرتبطة به برباطٍ وثيقٍ لا ينفصم. اغتنت بهذه المهمّة الفائقة، وهذا الشرف، بأن تكون أم ابن الله، وبالتالي ابنة الآب المفضَّلة، وهيكلَ الروح القدس، بهذه العطية عطية النعمة غير العادية، تسامَت إلى حدٍ بعيد فوق كلِّ الخلائق في السماء وعلى الأرض. ولكنها في الوقت عينه متحدة مع كل الناس الذين هم بحاجةٍ إلى الخلاص، لأنها من ذرية آدم، بل بالأكثر هي بالتمام “أم لأعضاء المسيح، لأنها ساهمت بمحبتها كي يولد في الكنيسة المؤمنون الذين هم أعضاء ذلك الرأس”. لهذا أيضاً هي مُحيَّاة كعضوٍ فائقٍ وفريدٍ لا مثيل له في الكنيسة، وصورة ومثالاً باهراً في الإيمان والمحبة، وهي موضوعَ عاطفةٍ بنويَّةٍ تُكرِّمها
الكنيسة الكاثوليكية، بإلهام من الروح القدس، كما يليق بأم حبيبة.
نية المجمع
54- لهذا يتوخى المجمع المقدس، وهو يقدّم تعليم الكنيسة التي فيها يتم الفادي خلاصنا، أن يوضح بعناية، من جهة، دور الطوباوية العذراء في سر الكلمة المتجسد، والجسد السري؛ ومن جهة أخرى واجبات المفتدين نحو أم الله، أم المسيح، وأم البشر وفي طليعتهم المؤمنين. ودون أن يهدف المجمع إلى أن يُقدم عن مريم تعليماً كاملاً، وإلى أن يقول الكلمة النهائية في المسائل التي لم يوضحها اللاهوتيون إيضاحاً تاماً، فمن حق المدارس الكاثوليكية أن تحافظ على الآراء التي تُعلِّمها بحرية حول من تحتل في الكنيسة المقدسة المنزلة الرفيعة بعد المسيح مع كونها قريبة منا جداً.
ثانياً، دور الطوباوية العذراء في تدبير الخلاص
أم المسيح في العهد القديم
55- تُظهر الأسفار المقدسة في العهدين القديم والجديد، والتقليد المكرَّم، بطريقةٍ تزداد وضوحاً
يوماً بعد يوم، دورَ أمِّ المخلص في تدبير الخلاص، وتعرضها أمام ناظرينا. فكتب العهد القديم تصف تاريخ الخلاص الذي فيه تَهيأ تدريجياً مجيء المسيح إلى العالم. وهذه الوثائق القديمة كما تقرأها الكنيسة وتفهمها على نور الوحي اللاحق والتام، تُظهر شيئاً فشيئاً وفي ضياءٍ زائد وجهَ المرأة، أم المخلص. في هذا الضوء، هي نفسها التي لوَّحَ عنها آنذاك بطريقةٍ نبويّة في الكلام على الوعد بالانتصار على الحية، الوعد الذي قطعه الله للأبوين الأولين بعد سقوطهما بالخطيئة (تك 3، 15). وهي كذلك العذراء التي ستحبل وتلد ابناً يُدعى اسمه عمانوئيل (را. إش 7، 14؛ مي 5، 2- 3؛ متى 1، 22- 23). وهي نفسها التي تحتلُّ المنزلة الأولى بين وُدعاء الرب ومساكينه، الذين كانوا يرجون منه بثقةٍ الخلاص وينالونه. أخيراً مع ابنة صهيون الفريدة نفسها تَمَّت الأزمنة، بعد انتظار للوعدِ طويل، وابتدأ التدبير الجديد عندما أخذ منها ابن الله الطبيعة الإنسانية، ليحرِّرَ إنسان الخطيئة بأسرار جسده.
مريم في البشارة
56- ولقد حَسُن لدى أبي النعم أن يسبق التجسد رضى هذه الأم المختارة، حتى أنه كما
ساهمت امرأةٌ في عمل الموت، تساهم أيضاً امرأةٌ في الحياة. وهذا ما يَصحُّ بنوعٍ عجيب في أم يسوع التي أعطت العالم الحياة، حياةً منها تجدَّدَ كلُّ شيء، وقد حَباها الله نِعماً على مستوى مهمة عظمى كهذه. وبالتالي فليس من الغرابة بأمر، أن تكون راسخةٌ العادةُ المتَّبَعة عند الآباء القديسين أن يَدعوا أمَّ الله كليَّة القداسة وبريئةً من كلِّ دنسِ الخطيئة، وكأنَّ الروح القدس قد جَبَلَها وجعل منها خليقة جديدة. وقد زهت عذراء الناصرة، منذ اللحظة الأولى للحبل بها، بقداسةٍ وهّاجة وفريدة جداً، فحيَّاها ملاك البشارة المنتدب من الله ممتلئةً نعمة (لو 1، 28). فأجابت البشير السماوي، “هاءنذا أمةُ الربِّ، فليكن لي حسب قولك” (لو 1، 38). وهكذا قد أعربت مريم، بنت آدم، عن قبولها كلمة الله، فأصبحت بذلك أم يسوع وقد تجاوبت بملء رضاها وإرادة الله الخلاصية دون أن تُعيقها أيةُ وصمةِ خطيئةٍ، بتقديم ذاتها كلياً أمةً للربِّ لشخصِ ابنها وعمله، لتُسهِم معه وتحت أمره في سرِّ الخلاص وذلك بنعمة الله القدير. وهكذا يَعتبر الآباء القديسون بحقٍّ أنَّ مريم لم تسهم في خلاص البشر كأداةٍ سلبية بين يدي الله فقط، وإنّما بحرَّيةِ إيمانها وطاعتها. وبالفعل هي نفسها بطاعتها، على حسب قول القديس إيريناوس “قد غدت سبب خلاصٍ لِذاتها وللجنس البشري بأجمعه” ولقد عبَّرَ عن ذلك معه وبرضى عددٌ غفيرٌ من آباءِ الكنيسة الأولين في مواعظهم إذ قالوا، “إن العقدة التي سبَّبَها عصيان حواء، حُلَّت بطاعةِ مريم؛ وما ربطته العذراء حواء بقلَّة إيمانها، حلَّته مريم العذراء بإيمانها”، وبمقارنتهم مريم بحواء، يسمون مريم “أمَّ الأحياء” ويصرِّحون مِراراً “على يد حواء كان الموت، وبمريم كانت الحياة”.
العذراء القديسة وطفولة يسوع
57- إنَّ الاتحاد الذي يربط الأم بابنها في عمل الخلاص لظاهرٌ منذُ ساعة الحَمْل البتولي بيسوع حتى موته، ويبدو أول ما يبدو ساعةَ ذهبت مريم مسرعةً لتزورَ أليصابات؛ فحَيَّتها هذه بالمباركة التي آمنت بالخلاص الموعود به، في حين ارتكض السابق في أحشاء أمه (لو 1، 41 – 45) ثم في الميلاد عندما أرت أم الله بفرحٍ إلى الرعاة والمجوس، ابنها البكر الذي كانت ولادته تكريساً لبتوليَّتها الكاملة وليس فقداناً لها، وأيضاً في الهيكل بعدما قدَّمت ذبيحةَ الفقراء، إذ قرَّبَت ابنها للربِّ؛ فسمعت سمعان يتنبأ في الوقت عينه، أن الابن سيكون علامةَ خلافٍ، وإنَّ نفسَ الأمِّ سيَنفذ فيها سيفٌ، وهكذا ستظهر أفكارُ الكثيرين (لو 2، 34- 35). أمَّا وقد ضاعَ الطفل يسوع ففتش عنه والداه حزينين، ووجداه في الهيكل منشغلاً بأعمالِ والده، لكنّهما لَمْ يفهما كلمة الصبي. أمّا أمه فكانت تحفظ كل هذا في قلبها وتتأمل فيه (لو 2، 41– 51).
العذراء القديسة في حياة يسوع العامة
58- في حياة يسوع العامَّة تظهر أمُّه بكل وضوحٍ منذ البدء عندما حصلت بشفاعتها، وقد حرَّكَتها الشفقة، على أن يبدأ يسوع المسيح عجائبه في عرس قانا الجليل (يو 2، 1- 11). وطيلة كرازة يسوع قَبِلَت الكلام الذي به وَضَعَ الابنُ الملكوتَ فوق كلِّ اعتباراتِ وعلاقاتِ اللحم والدم، وذلك عندما أعطى الطوبى للذين يسمعونَ كلمةَ الله ويحفظونها (را. مر 3، 35؛ لو 11، 27- 28)، كما كانت تعملُ هي بكلِّ أمانةٍ (لو 2، 19 و51). هكذا تقدَّمَت العذراء مريم في غُربة الإيمان مُحافظةً بكلِّ أمانةٍ على الاتحاد مع ابنها حتى الصليب حيث كانت واقفة (يو 19، 25) -ولم يكن ذلك بدون تصميمٍ إلهي- تتألَّم بقوّةٍ مع ابنها الوحيد، مشتركةً بقلبها الأمومي في ذبيحته، معطيةً إلى تقدمة الذبيح، المولودِ من لحمها، رِضى حبِّها، إلى أن يُعطيها يسوع المسيح بالذات، المُنازع على الصليب، إلى تلميذه أُمَّاً له بهذه الكلمات “يا امرأة هذا ابنك”
(يو 19، 26– 27).
العذراء القديسة بعد الصعود
59- ولكنَّ الله الذي أراد ألا يظهر سرَّ خلاص البشر بجلاءٍ إلا في الساعة التي يُرسل الروح الذي وَعَدَ به المسيح، نرى الرسلَ قبل يوم العنصرة “مثابرين بقلبٍ واحدٍ على الصلاة مع النساء ومريم أم يسوع ومع أخوته” (رسل 1، 14). ونرى مريم تطلب هي بصلواتِها عطيَّةَ الروح الذي كان حلَّ عليها يومَ البشارة. أخيراً إنَّ العذراء البريئة وقد وقاها الله من كلِّ دنسِ الخطيئةِ الأصلية، بعد أن كَمَّلت مجرى حياتها الزمنية، صَعِدت بالنفس والجسد إلى مجدِ السماء، وعظَّمها الرب كملكةَ العالمين حتى تكون أكثرَ مشابهة لابنها ربِّ الأرباب (رؤ 19، 16) المنتصر على الخطيئة والموت.
ثالثاً، العذراء الطوباوية والكنيسة
مريم أمة الرب، والمسيح الوسيط الأوحد
60- إنَّ وسيطَنا وحيدٌ وفقاً لكلمات الرسول القائل، “لأنَّ الله واحد، والوسيط بين الله والناس
واحد، الإنسان، المسيح يسوع، الذي بَذل نفسه فداءً عن الجميع” (1 طيم 2، 5- 6). لكنَّ دورَ مريم الأمومي نحو البشر لا يَحجُب ولا يُنقِص بشيءٍ وساطة المسيحِ الوحيدة هذه بل يُظهر قوَّتَها. لأنَّ كلَّ تأثيرٍ خلاصيٍّ للطوباويةِ مريم في خلاص البشر، لا يُولد عن حتميَّةٍ ما، بل يَنبع عن رضى الله ويَصدر عن فيضِ استحقاقات المسيح. إنه يرتكز على وساطته، ويتعلق بها تماماً، ويستمدُّ كلَّ قوته منها؛ ولا يعيق اتحاد المؤمنين المباشر مع المسيح بطريقةٍ ما، بل بالعكس يعززه.
إشتراك مريم في سر الفداء
61- إنَّ العذراء الطوباوية التي أُعِدَّتْ منذُ الأزل، في تصميم تجسُّد الكلمة كي تكون أمَّ الله،
غَدَتْ على الأرض، بتدبيرِ العناية الإلهية، أُمّاً حبيبةً للمخلِّص الإلهي، وشريكةً سخية في عمله بصفةٍ فريدةٍ أبداً، وأَمَةً للرب وديعة. بالحبلِ بالمسيح، وبوضعها إياه في العالم، وبتغذيتها له، وبتقدمته في الهيكل إلى أبيه، وبتألمها مع ابنها الذي مات على الصليب، ساهمت في عَمَل المخلص مساهمةً لا مثيل لها بخضوعها وإيمانها، برجائها ومحبَّتها الحارة كي تعود الحياة
الفائقة الطبيعة إلى النفوس. لهذا كانت لنا أُمَّاً في نطاقِ نظامِ النعمة.
دور مريم الخلاصي يربط بابنها وإلهها
62- إنطلاقاً من الرضى الذي حَمَلَته بإيمانها يوم البشارة وحافظت عليه دون ترددٍّ تحت الصليب، تستمرُّ أمومة مريم في تدبير النعمة دون ما انقطاع حتى يبلغ المختارون الكمال الأبدي. وفعلاً إن دورها في الخلاص لم يتوقف بعد صعودها إلى السماء، إنها لا تزال تحصل لنا بشفاعتها على النِعَمِ التي تُؤكِّدُ خلاصَنا الأبدي. إنَّ حبَّها الأمومي يجعلها تصغي إلى إخوةِ ابنها الذين لم يُكملوا غربتهم، أو إنهم لا يزالون عرضةً للمخاطر والضيقات حتى يصلوا إلى الوطن السعيد. لهذا تُدعى الطوباوية العذراء في الكنيسة بألقابٍ عدّة منها الحامية، والمُعينة، والمساعدة، والوسيطة ؛ إنما يُفهم كلُّ هذا بنوعٍ أنه لا ينتج عنه أيُّ نقصان أو زيادة في شرفِ المسيح الوسيط الأوحد وفعاليته.
وبالفعل لا يمكن لخليقةٍ أبداً، أن تُوضع على قدم المساواة مع الكلمة المتأنِّس والمخلص. ولكن كما أنه في كهنوتِ المسيح يشتركُ تحت أشكالٍ شتّى الخَدَمَةُ والشعب المؤمن، وكما أنَّ صلاحَ الله الواحد يفيض فعلاً على الخلائق بأنواعٍ مختلفة، كذلك وساطة المُخلِّص الفريدة لا تمنع، بل بالأحرى تَحثُّ الخلائق على التعاون المتنوِّع المشترَك، النابع من مصدرٍ واحد. وإنَّ الكنيسةَ لتعترف دون تردُّدٍ بمثلِ هذا الدور الذي تقوم به مريم مرتبطةً بابنها، وإنها لا تبرح تختبره، كما أنها لتنصح قلوب المؤمنين، حتى إذا ما ساعدهم هذا العون الأمومي، أ