مقدمة
القديس أغناطيوس الأنطاكي هو أحد “الآباء الرسوليين”. لأول مرة أطلق هذا الأسم على هؤلاء الآباء في القرن الرابع عشر. وهم الكتّاب الذين اتصلوا بالرسل، أو ظُنَّ أنهم اتصلوا بالرسل. وآثارهم أقرب ما تكون إلى نصوص الكتاب، صيغة وروحاً، وهي، على الغالب، من نوع الرسائل التي تحثّ على التقوى. وأشهر تلك الآثار رسالة اكليمونضوس الروماني، ورسائل اغناطيوس الأنطاكي، التي نحن بصددها الآن، ورسالة بوليكربوس الازميري. وقد ألحق بها “تعليم الرسل الاثني عشر”، والرسالة المنسوبة إلى برنابا، والراعي هرماس، والرسالة إلى ديوكنتيوس.
لا تطلق الكنيسة الكاثوليكية اليوم لقب “آباء” إلاَّ على الكتّاب المتَّصفين، في نظرها، باستقامة العقيدة، وقداسة السيرة، وقدم العهد، بحيث من فاتته أصول هذه الصفات، عدَّ من الكتبة واللاهوتيين، لا من الآباء، اذ أن من المتقدمين من لم تسلم آراؤهم من البدعة، كما أن بين المتأخرين من لا تمتاز سيرتهم بالفضيلة الفائقة. ولا يحصى بين الآباء من غير الأساقفة، إلاَّ من شهدت الكنيسة بتفوّقه في العلم والفضيلة….
الطابع الأول للرسوليين هو رعوي: أي التمسُّك بتعاليم الرسل وعيشُها. وكتاباتهم انما هي رسائل مناسبات. ليست شرحاً علمياً ولا فلسفياً همها الوضوح. وتحث على الطاعة للرؤساء الروحيين. ولهم طابع آخر اسكاتولوجي أي انتظارُ المسيح بنوع تصوفي. عقيدتهم بالثالوث تحملهم على الدعوة إلى الايمان المشترك بالله الواحد والمسيح الواحد والروح القدس الواحد. هذا مع الدفاع عن إنسانية المسيح الكاملة، وأمومة العذراء مريم والحبل البتولي…. عبادة الله ومخافته هو مسلكهم العام. وعند أغناطيوس يُعطى هذا المسلك المنحى الصوفي في كل رسائله وخاصة في رسالته إلى الرومانيين.
مدخل إلى رسائل القديس اغناطيوس
شخصية القديس اغناطيوس
من ألمع شخصيات القرن الثاني للميلاد.كتب رسائله السبع إلى كنائس أفسس ومغنيسية وترالة، وروما، وفيلادلفية، وازمير، وإلى بوليكربوس اسقف أزمير. وهذه الرسائل صورة ناطقة لقلب اغناطيوس المضطرم شوقاً إلى الإستشهاد، قدوة بالحمل الذبيح.
لا يعرف إلاَّ القليل من أحداث حياته، ووقائع استشهاده. دعي “تيوفور” أي حامل النور. وقيل أنه الخلف الثاني لبطرس على كرسي انطاكية. قبض عليه الرومان واقتادوه إلى روما ليموت فيها شهيداً فريسة للضواري. اقتاده الجند من سورية إلى روما. وكان حيثما مرَّ يشدّد المؤمنين ويحضُّهم على الثبات في الايمان. وأثناء إقامته في ازمير كتب الرسائل الأربع الأولى. ومن طروادة كتب الثلاث الأخرى. نجد كل هذا عند المؤرخ اوسابيوس القيصري.
ثم نعلم أشياء أخرى عن حياته من رسائله نفسها. فهي تطلعنا كيف قبض عليه فاضطربت كنيسة أنطاكية، وكيف كان سفره مخفوراً بالجنود، في البرِّ والبحر وخفَّتإلى أزمير وفود الكنائس للسلام عليه، وأين كتب رسائله. وهناك معلومات أخرا نأخذها عن رسالة بوليكربوس إلى مؤمني فيليبي تخبرنا عن مرحلة سفره الأخيرة قبل الإبحار إلى روما.
تعليم القديس أغناطيوس
نوجز في هذه الصفحة تعليم هذا البطريرك الأنطاكي:
يمكن حصر هذا التعليم في موضوعين أساسيين: الوحدة المسيحية والعماد المسيحي
أ- في الوحدة المسيحية:
إن مضمون رسائل القديس أغناطيوس، وتاريخ تأليفها والظروف التي واكبتها تجعل منها أخير “مدخل إلى تاريخ الكنيسة القديم”، حسب قول العلاّمة هرناك. تبدو الكنيسة من تعليمه نبتة جديدة، مستقلة عن مجموع اليهود، وقد ظهرت في أرض وثنية نقية وجميلة. وتُختصر بكلمة وحدة الكنيسة المسيحية. فكلمة “الأب” و “أبو يسوع المسيح” يرددها غالب الأحيان وهي مستقاة من الأنجيل ومن رسائل القديس بولس. وهدفه إقناع غير المؤمنين بوجود إله واحد ظهر بابنه يسوع المسيح الذي به عرفنا الله الذي لا يُدرك.
أما ابن الله فقد ظهر في الجسد. من الآب جاء وإليه عاد. وكل سلطان على الأرض مستمد من محبة الله الآب والرب يسوع. شخص المسيح واحد، وعن هذا دافع الأسقف الشهيد ضد هراطقة ذلك العصر. بناسوته تألم وصلب وقام وظهر. ولكنه روح أيضاً ومتحد بالآب:
هو ابن الإنسان وابن الله أيضاً. وعلى مثاله يحيا الإنسان المؤمن فلا يحيا بعد بحسب الجسد، بل عليه أن ينقاد لروح المسيح بحياة جديدة فتُحقق فيه الوحدة الجسدية والروحية. هناك صوفية في تعليم أغناطيوس ولكنها ليست تهرباً من العالم، بل هو توق إلى الله، وحب له، وحنين إليه، وغيرة على الكنيسة، وخدمة للأخوة، واخلاص لهم.
غير أن هذه الوحدة المسيحية تتجسَّد في وحدة المسيحيين مع بعضهم البعض. فهي لا تقبل انشقاقاً، ولا كبرياء وقساوة قلب على المحتاجين بل تجمع القديسين بالاحترام والطاعة للسلطة والتفاف الكهنة حول الاسقف، الذي هو من الكنيسة مستودعُ الروح، وراع يهتم بحياة الرعية. لا تحيا الكنائس منفردة، الواحدة عن الأخرى، بل مرتبطة فيما بينها. ومن هذه الرباطات: الصلاة والافخارستيا التي هي صلاة الشكر، والذبيحة التي تجمع المؤمنين حول الأسقف، وحول مذبح واحد، يرمز إلى الكنيسة الواحدة.
ب- العماد المسيحي:
قليلاً ما يتكلم أسقف أنطاكية عن العماد كسر من أسرار الكنيسة بحصر المعنى لكنه يذكر أن يسوع إلهنا “ولد واعتمد ليطهّر المياه بآلامه” ، “ولد حقاً من ذرية داود بالجسد، ولد حقاً من عذراء، عمَّده يوحنا حتى يتم كل برّ” ويفهم بعض البحّاثة أن الأسقف الأنطاكي يثبت في هذين الموضوعين صورة ايمان جرى استعمالها في زمانه. ولعلَّ القضية التي كان يدافع عنها ضد الغنوصيين، أي البرهان على حقيقة التجسد جعلته يأتي عرضاً على ذكر العماد وفقاً للتقليد. وهناك شروح كثيرة لتعليم الشهيد الأنطاكي حول العماد قام بها العديد من الباحثين واللاهوتيين لا مجال لذكرها الآن.
غير أن هذا الأسقف أتى على ذكر العماد في نصين آخرين، جاعلاً منه “درعاً وخوذة” للمؤمنين، “وحقاً من حقوق الأسقف ليكون العماد مرضياً أمام الله”.
قراءة من أغناطيوس الأنطاكي:
تحريض على الوحدة والخضوع للأسقف:
“يليق بكم، إذاً، أن تسلكوا باتفاق مع فكر أسقفكم. انكم معه لمتفقون. أما لفيف كهنتكم الذائع الصيت، والجدير بالله، فهو عن انسجام مع الأسقف، ، ، انسجام الأوتار والقيثارة. وهكذا، باتفاق الشعور، وتناغم المحبة، تُنشدون يسوع المسيح. أقيموا على النمط جوقاً يستطيع، بايقاع الاتفاق، أن يرنم لحق الله، في الوحدة وينشد بصوت واحد، في يسوع المسيح، نشيداً للآب الذي يصغي اليكم ويعرفكم، من الأعمال الصالحة، أعضاء جسد ابنه الوحيد، يجدر بكم اذاً، أن تتعاونوا في الوحدة، فتكون لكم شركة في الله وتدوم شركتكم (من الرسالة إلى كنيسة أفسس).
احترام الأسقف:
“لا تستهينوا بحداثة أسقفكم، بل أدّوا له كل شعائر الاحترام تهيُّباً لسلطان الله. واني لعالم أن كهنتكم القديسين ما استهانوا به لحداثة سنه البادية عليه، بل كأناس واعين في الله أظهروا له الخضوع، ليس له، بل لأبي يسوع المسيح، أسقف الجميع. يليق بنا أن نطيع بدون مراءاة، احتراماً لمن أحبَّنا. لأن الإساءة لا تتناول شخص الأسقف الذي يُرى، بل الذي لا يُرى…..:.
حنطة الله:
“أنا أكتب إلى جميع الكنائس وأخبرها أنني ذاهب بملء رضاي إلى الموت، حباً لله، راجياً ألا تقفوا عائقاً في سبيلي. أستحلفكم ألا يكون لي عندكم عطف في غير موضعه. دعوني فريسة الضواري، فيها أصل إلى الله. أنا حنطة الله، أطحن تحت أنيابها،لأصيح خبزاً نقياً للمسيح. لاطفوا، بالأحرى، هذه الوحوش الضارية لتكون ضريحي، ولا تترك شيئاً من جسدي، لئلا أثقِّل على أحد في رقادي. الأخير. حينئذ أصبح حقاً تلميذ المسيح، عندما يتوارى جسدي عن مرأى هذا العالم. ابتهلوا إلى المسيح حتى أغدوا، بفضل الوحوش الضارية، ضحية إلهي”. (من الرسالة إلى الرومانين).
الهرب من البدع:
“يا أبناء النور الحقيقي،اهربوا من الانقسامات والتعاليم الفاسدة. اتبعوا راعيكم كالخراف، أنى كان. لأن من الذئاب من يظهرون بمظهر جدير بالثقة ليمكنهم أن يقتصوا، بلذات سيئة، من يسارعون الله. لا يكن لهؤلاء مكان في وحدتكم. احترزوا من هذه النباتات السامة التي لا يعتني بها يسوع المسيح، لأنها ليست من زرع الآب”.
الوحدة في الأفخارستيا:
“هذا لا يعني أنني وجدت بينكم انقساماً، بل تنقية بحيث يبقى من هم لله ويسوع المسيح، ملازمين الأسقف. أما التائبون، العائدون إلى وحدة الكنيسة، فهم أيضاً لله، وأحياء بالمسيح بيسوع. يا أخوتي، لا تضلُّوا، ان من يتبع مثيري الشقاق، لا يرث ملكوت الله… لا تشتركوا إلاَّ في افخارستيا واحدة. فانه ليس لربنا سوى جسد واحد وكأس واحدة توحدِّنا بدمه، ومذبح واحد، وأسقف واحد، مع لفيف الشمامسة، رفاقي في الخدمة. وهكذا تُتممون، في كل شيء، ارادة الله. (من الرسالة إلى أهل فيلادلفيا)
توجيهات رعوية:
“أحرّضك بالنعمة المتوشح أنت بها، أن تحثَّ خطاك، وتحُضَّ، بدورك، جميع الأخوة على عمل الخلاص. برِّر كرامتك الأسقفية بحرص تام على الأمور الزمنية والروحية. أبذُل جهدك في سبيل الاتحاد، انه الخير الأفضل، على الاطلاق. ساعد الجميع كما يساعدك الرب. احتملهم بمحبة، كما أنت صانع. صلِّ بلا انقطاع، والتمس من الله أن يزيدك حكمة، مع الأيام. اسهر بروح لا يعرف الراحة. تكلم إلى كل بمفرده، على مثال الله. احمل ضعف الضعفاء، كبطل كامل. حيثما يكثر التعب يكثر الثواب. لا فضل لك إذا أحببت الصالحين. عليك أن تداوي بالوداعة من استشرت فيهم العدوى. لكل جرح مرهم خاص. ضمِّد النوبات الحادة بلفائف طرية. كن حكيماً كالحية، ووديعاً كالحمامة….. (من الرسالة إلى القديس بوليكربوس)