خاص بالموقع – بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته المعاون البطريركي
1 – أنا نور العالم ، من يتبعني لا يمشي في الظلام لكنه ينا…ل نور الحياة ( يوحنا 8 : 12 ) عندما تتكاثف السحب في زمن الخريف والشتاء تحجب بهاء السماء وبهجة الفضاء ثم تمضي لتعود السماء زرقاء اللون صافية رائعة ، أقول هذا وأنا أشهد أحداث عصري الذي أعيشه ، وقد اشتدت العواصف وتزاحمت المحن حتى كاد الأمل في مستقبل أفضل يتوارى عن الوجدان ويسقط أبناء البشر في بلادنا في هوة اليأس والإحباط …
قرأت التاريخ ، وهزتني كثرة الحروب والآلام ، وعجبت كيف عاشت المسيحية إلى عصري وكيف صمدت الكنيسة القبطية برغم جحافل الطغاة وأنهار الدماء والدموع ، وعندما كنت أجلس وحيداً ، أصمت وأغوص في أعماقي ، وأطفئ جميع الأنوار ، يتجسد أمام عيني شخص المسيح ، أتخيله أمامي ، أتجاسر وأسأله ما هذا الذي يحدث ؟ الناس تتعذب وتئن ، كثير من القيم تنحسر ، أهل الظلام يشيعون القبح والظلم وأهل النبل والخير يختفون وكأن الحياة أضحت ملكاً للقساة والأشرار ، لم أكن أسمع رداً على أسئلتي من المسيح ، فمن أنا حتى يتجلى لي الله الكلمة ويخاطبني ، لست موسى ولا إيليا ولست أحد القديسين ، برغم صمته كنت أشعر أنه يرسل لي شعاعاً من نور وأمل ، حتى أدركت مع سفر العمر ورحيل الشباب أن للحياة معنى في فرحها وفي آلامها ، في هزيمتها وفي نجاحها ، كما لمست في خبرة إنسانية صادقة أن المسيح الحي لا زال نوراً للعالم ، أنه الحقيقة العظمى في التاريخ البشري وهو النور الإلهي لا تخفيه ظلمة ، ولا يبهت توهجه مع توالي القرون ، أيقنت بعد هذه التجارب أن لا شيء يستحق الكفاح وبذل الجهد إلا الاتحاد بهذا الشخص الإلهي ، فالله تجلى للبشر ، وغالبية البشر لم تعرفه ، والله أخلى ذاته وخلع مظهر اللاهوت ومجد السماء يلبسه للإنسان ، وعندما كنت استيقظ من حلم اليقظة أعود لأجد أن البشر تعساء ، بؤسهم شديد متصل ، رجاءهم واهن ضعيف ، فأطلب من المسيح نوراً لأحقق شيئاً من الخير أو لأنثر عطراً من الجمال من حولي أو لأرسم ابتسامة على وجه حزين
* * * * *
2 – عزمت على أن أخترق الخوف والجهل والتردد ، وأن أحاول أن أقترب أكثر فأكثر متأملاً “سر المسيح” قرأت ما كتبه أعداء أو محبون ، استمتعت برسوم وفن المبدعين الذين صوروه وبشعر الذين مدحوه ، وتتبعت سيرته منذ التبشير بمجيئه ، والحمل به ، وولادته ، ثم أيامه على الأرض ، ومعجزاته حتى مأساة رحيله ، وأشد ما هز أعماقي قيامته من الموت ، وظللت في رحلة الحياة أتساءل هل هذه أساطير ؟ ولكني أمام حقائق التاريخ خشعت لإنسان ، أنتصر على الجهل بالنور ، على القبح بالجمال ، على الفساد والعفن الروحي بالنقاء والطهر والعفاف ، على الألم والموت بالقيامة والحياة ، أدركت لماذا صاح الجندي الروماني الذي طعنه بالحربة في جنبه قائلاً بالحقيقة كان هذا ابن الله ، لست أدري عن هذا الجندي شيئاً ، هل كان رومانياً أم من المرتزقة ، أم يهودياً تجنس بالجنسية الرومانية ، وبالطبع أهمله التاريخ كملايين الجنود المجهولين ، ولم يتبقى منه إلا العبارة العجيبة التي خرجت من أعماقه لتنير للتاريخ والمؤرخين نوراً لاكتشاف سر المسيح ، ليس من الواضح حتى اليوم أسرار أحداث عالمنا بوجه عام وبلادنا العربية بوجه خاص ، هل هي نقطة تحول في التاريخ تتحول فيها أوروبا إلى عالم جديد يفقد هويته المسيحية وتقطع جذوره بها ، فالدول الصغيرة التي تواجه تدفق المتألمين المهاجرين الجياع والعراة لا تعرف كيف ستتصرف وماذا سيحدث بعد أن يقطنها الملايين القادمين من الشرق ، هل آن الأوان لغروب شمس المسيحية عن أوروبا التي عاشت بعد الحربين ( 1914 – 1945 ) ما يقرب من مائة سنة حتى اليوم في ترف ورفاهية وحضارة وعلم ، هل آن الأوان لتسقط هذه الحضارة ؟ وماذا نقول عن عالمنا العربي لم يحدث منذ آلاف السنين أن اشتعلت الحروب في وقت واحد في أغلب مناطقه ، هل ستغير هذه الحروب وما تجره من شرور وجدان شعوب غلب عليها الجهل والأمية وسادها الفقر وهي تملك المال ، هل نحن أمام عصر جديد وتاريخ جديد .
أين المسيح في ذلك كله ، أين نوره وتوهجه ؟ سأحاول اختراق سر المسيح في هذه التأملات ، أريد أن أعرف مدى حبه للبشر ومدى حبه للكنيسة وسبب إصراري على التأمل أني لازلت أشهد شعاع النور المتدفق من المسيح في ظلمة العصر ، وبؤس الحروب ، لازلت أؤمن أنه “نور العالم” .
د. الأنبا يوحنا قلته.
- هذا المقال منشور بجريدة ليمساجي الأحد 27 سبتمبر 2015