بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته للموقع .. وقد نشر هذا المقال في جريدة حامل الرسالة بتاريخ 25 اكتوبر 2015
1 – ثلاثون سنة قضاها المسيح في الناصرة ، لا ندري عنها شيئا…ً كثيراً هي سنوات الصمت في مدينة أقرب إلى القرية تابعة لإقليم الجليل وتحت حكم إسرائيل اليوم ، قيل عنها هل يخرج من الناصرة شيء صالح ( يوحنا 1 : 46 ) لأنها مدينة عرفت باستيطان الرومان لها وأشاعوا فيها كثير من العبث والفساد ، في هذه المدينة بشر الملاك العذراء مريم ، وعادت إليها حين رجعت من مصر وتربى يسوع فيها هذا الزمن الطويل في حضن مريم العذراء وحماية يوسف النجار الذين كان قد عقد خطبته على مريم والزواج عند اليهود مرحلتان ، المرحلة الأولى كتب الكتاب ويصبح زواجاً صحيحاً والمرحلة الثانية يوم الزفاف ، ولا يعرف الزوج والزوجة بعضهما في فترة الخطوبة وإن اعتبرا زوجين ، وفي هذه الفترة ظهر الملاك للعذراء مريم وأقرت له لست أعرف رجلاً فهي بتول ، طاهرة ، عفيفة ، فطمأنها الملاك وشرح لها أنها أصبحت مختارة من الله القدوس وسيحل روحه في كيانك فالمولود منك قدوس يدعى ابن الله أو بعبارة يسيرة لا تخافي يا مريم ستظلين بتولاً إلى الأبد إذ أصبحت عروس روح القدوس ، وهكذا حملت مريم العذراء رسالة التجسد الإلهي وعاشت مكرسة حياتها لأبنها القدوس ولست أدري كيف تجاسر بعض أصحاب البدع على القول بأن مريم أنجبت بعد المسيح ، ألا يشعر هذا البعض بالخجل أمام المشهد الإلهي الذي عطره روح الله ، ليس لأن الزواج كما يظن البعض فيه دنس أو نجاسة فليس في كل ما خلق الله شيء نجس أو دنس ، فالنجاسة والدنس تكمن في فساد الضمير وفساد الإرادة أما الأشياء والأعضاء في الجسد لا تمت للنجاسة بصلة وإنما تؤدي دورها في سنة الخالق العظيم ، لذا أعتبر القديس يوسف النجار من أعظم القديسين لأته عاش حارساً للفادي المسيح وأمه مريم ومات بين يديه وبين يدي العذراء ، فأي ميتة أجمل وأروع وأطهر من هذه ؟
* * * * *
2 – ثلاثون سنة قضاها المسيح في الناصرة ، تعلم مهنة النجارة وهي أشد المهن قربا من الطبيعة ، أنها مهنة أسهمت في بناء الحضارات كافة ، صنعت عروش الملوك ، وأبواب المعابد ، وعجلات السواقي ، وكراسي البيوت ، مادة هذه المهنة الخشب ، الشجر ، والزرع ، ليعرف البشر أن المهنة أيه مهنة ، تسهم في بناء حياة الإنسان وحضارته هي رسالة مقدسة وعبادة حقيقية ، فالوالد الذي يسعى لكسب رزقه وقوت عائلته ، والأم التي تصون أسرتها وتخدم بيتها ، إنما يقومان برسالة مقدسة ، إن أصحاب المهن هم صناع الحضارة وبناة التقدم قيمتهم وكرامتهم لا تقل عن قيمة وكرامة أهل الفكر والثقافة والفن ، كما لا تقل عن رسالة رجال الدين وخدمة الهيكل ، هكذا علمنا المسيح قال أجدادنا في حكمهم “كف البطال والعاطل نجس”
* * * * *
وما يثير التأمل في هذا الصمت المطبق خلال ثلاثين سنة ، سألني ذات يوم طالب في معهد اللاهوت قال : هل كان المسيح يدرك أنه قدوس الله منذ كان طفلاً وصبياً وشاباً ، طرح السؤال في شيء من السخرية ، أجبته في ابتسامة عريضة وقلت له هل سافرت بالطائرة يوماً ، ورأيت وأنت في الفضاء حجم السيارات في الشوارع تزحف كأنها علب كبريت ، هل قرأت أن رواد الفضاء وهم على سطح القمر ، والمريخ يرون الأرض من خلال المنظار كأنها في حجم كرة القدم ، هل هذا ينكر أن هذه الكرة تحتضن سبعة مليارات من البشر وتحمل المحيطات والبحار والجبال ؟ أريدك يا أبني الطالب أن تعرف أن القدوس هو قدوس جنيناً كان أم طفلاً ، أم صبياً ، ، وحاشا للقدوس أن يجهل ذاته ، إن الله الذي كلم موسى على قمة جبل سينا ، في اللحظة ذاتها كان ملء السموات والأرض وهو القدوس الحي ، الأبدي ، والمسيح الله الكلمة ، من أجل حبيبه الإنسان ، أخفى ذاته أخذاً طبيعة إنسان ، لم ينقص ولم يزد ، اللاهوت هو هو ، أما الجسد على صغر حجمه في الطفولة أو الصبا أو الشيخوخة فهو لا يفقد اللاهوت إدراكه بذاته ، ولكنه التواضع الإلهي ، والحب الإلهي لنا وغاية التجسد خلاصنا ، نعم جاء المسيح جنيناً وطفلاً وصبياً وشاباً وقام من الموت في الثالثة والثلاثين من عمره ، لاهوته يحمل ناسوته بلا انفصال أو انقسام هنا تكمن عظمة وقدرة الله وتتضح جلياً محبة وتواضع الله .
إن الإنسان إن لم يصب بأمراض وعاش إلى المائة سنة وأكثر يظل عقله متوهجاً واعياً لذاته وإن ترهل الجسد المادي وارتخت الأعصاب ونفذت الطاقة فالروح لا تشيخ فما بالك باللاهوت مع الفارق بين الله وبين الإنسان ، أننا لا نستطيع أن ندرك بعضاً من سر المسيح الله الكلمة المتجسد إلا إذا أدركنا مقدار محبته لنا ، المحبة الإلهية هي سر التجسد وسر الفداء ، والإيمان المسيحي ليس مجموعة فرائض وطقوس ، بل هو اتحاد بشخصية المسيح كما عبر بولس الرسول ، لست أنا الحي بل المسيح حي فيّ ، لأن المسيح هو الشريعة وربها ( متى 12 : 8 ، لوقا 6 : 5 ) إيماني ليس قوانين الحرام والحلال هذه تنظيمات أخلاقية ضرورية لكن الإيمان أعظم من ذلك بكثير ، وفي حوار صاخب على شاشة التليفزيون قال أحد المحاورين في سخرية : “المسيحية ليست ديانة ، أنها مجرد دعوة للتصوف والزهد” سعدت بكلامه جداً لقد أصاب الحقيقة عن غير عمد ظناً منه أنه ينزل بقدر المسيحية ، فالمسيحية هي المسيح ، والمسيح هو نور العالم ، والطريق والحق والحياة ، وهو دعوة للتحرر فالحق يحرر الإنسان من كل قيود الشر والإثم ، يقدس روحه وجسده كما أوجز المسيح وقال ، أقدس نفسي ليتقدسوا هم ، ليعلمنا أن القدوة أعظم أداة لإثبات ما نؤمن به والمسيح القدوس لم يكن في حاجة ليقدس نفسه .
* * * * *
3 – بقيت كلمة في هذا التأمل ، عن صمت المسيح خلال ثلاثين سنة إلا مرة واحدة وهو في الثانية عشرة من عمره ، حين واجه علماء الدين والناموس في قلب المعبد وأبهرهم بحكمته حتى قالوا من أين له هذه الحكمة والقوات ( مت 13 : 54 ، مرقس 6 : 2 ) إن في هذا الصمت العميق والطويل تتجلى أروع صورة لعمل الخالق ، أنظر كل صباح يأمر الكون أستيقظ ، فيموج الكون بالحياة ، وفي صمت ينمو النبات والطير والحيوان والإنسان ، الله يعمل في صمت ، يستجيب لسائليه ومحبيه في صمت ، معجزاته في كل زهرة ، في كل لحن الطيور ، في كل أصداء النسيم والريح وقبل ذلك كله ، الله ساكن في كيان كل إنسان ، في صمت ، ما أجمل فضيلة الصمت ، كم ندمت على كلام كثير قلته ولم أندم مره على صمت صمته ، والمسيح لا يرفض الإنسان حتى إذا الإنسان نسيه أو رفضه ، صمت المسيح ثلاثين سنة ، ترى ما نوع الحوار الذي كان يدور بينه وبين أمه مريم العذراء ، أغلب الظن أن محور الحوار كان محبة المسيح للإنسان .
د. الأنبا يوحنا قلته