“لأنكم كنتم قبلا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب “
الأب بولس جرس
افسس 5 : 8 – 21
“لأنكم كنتم قبلا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور لأن ثمر الروح هو في كل صلاح وبر وحق مختبرين ما هو مرضي عند الرب ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها لأن الأمور الحادثة منهم سرا ، ذكرها أيضا قبيح ولكن الكل إذا توبخ يظهر بالنور . لأن كل ما أظهر فهو نور لذلك يقول: استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح. فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة، من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة، بل امتلئوا بالروح مكلمين بعضكم بعضا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح، لله والآب خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله “
منذ بدء الخليقة حين خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربة خاويه وعلى وجهها ظلمة، بدء الله الخلق بقوله “ليكن نور فكان نور” فالله نور ساكن في النور وجوده نور، حياته نور وحضوره نور وحياة …أما غيابه فظلام وموت وفناء.
هو أمر رهيب حقا ما يتحدث عنه القديس بولس في رسالته اليوم إلينا، شئ فظيع فالفارق كبير بين ان نعيش في الظلام فالشمس مثلاً تختفي تماما من سماء المتجمد الشمالي لمدة 186 يوماً سنوياً والناس يمارسون حياتهم، لكن من المرعب أن نكون نحن الظلام نفسه… الفارق رهيب.
لكن ما يفعله بولس بكل صدق وقسوة هو أن يواجهنا بحقيقة أنفسنا تلك الحقيقة الرهيبة إذ يصف حالنا قبل ان نعرف المسيح حيث كان الظلام يمتد فينا إلى الكيان ذاته ثم ينطلق بنا لنحلق في المدى السرمدي” صرتم نوراً” هكذا يشخص ما يحدث من تحول جوهري في الكيان والحياة بمعرفة المخلص:
فبالخطيئة الأصلية لم يخرج الإنسان من نور الله وفردوس النعيم فحسب
بل فقد تلك الشقافية والنورانية التي كانت تميزه عن باقي الخلائق،
ولم يغادر الفردوس إلى أرض الشقاء حيث يجلس في الظلمة وظلال الموت فقط
بل صار هو نفسه كائن ظلامي يحيا ويفكر ويسلك في ظلام حالك دامس داهم….
وبمجئ الرب يسوع وتجسده انبثق النورمن جديد كما نردد في صلاة باكر
أشرق النور على الأبرار وعم الفرح على مستقيمي القلوب
بمجئ المسيح اشرق النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان ات إلى العالم
وكل الخليقة تهللت بمجيئه حيث خلص آدم من المعصية وعتق حواء من حكم الموت
لا غرو إذن أن يقول “أنا نور العالم من يتبعني لا يمشِ في الظلام”
فالنور هو الأصل وما الظلام سوى غيابه النور وكما نردد في القداس الإلهي: “وفي ملء الزمان وبينما نحن جلوس في الظلمة وظلال الموت ظهرت لنا بابنك الوحيد”. تحول جوهري كاف لاحداث انقلاب في موازين القوى وتغيير كل مقاييس العالم.
وعندما يشرق النور تتراجع كل قوى الظلمة
ولو كان نور شمعة واحدة يظل قادر على ان يهزم كل قوى الظلام
ومهما كان بسيطا فلا يستطع ان يخفيه كل ظلام العالم
نعم يا رب ما اجمل ذلك و ما اروعه
لقد كنا ظلمة وصرنا نورا
حقا يا رب بنورك نعاين النور
الرسالة العامة “نور الإيمان”
اقتراح للقراءة اليوم “نور الإيمان” لقداسة البابا فرنسيس الصادرة في عيد القديسيِّن بطرس وبولس، سنة 29 يونيه 2013، يتحدث فيها عن نور الإيمان واستعين هنا بالمقدمة والخاتمة وعلى من يريد التعمق في الإيمان أو السباحة في النور الرجوع إليها على موقع كنيسة الإسكندرية
نور الإيمان: أشار تقليد الكنيسة، بهذا التعبير، إلى العطية الكبرى التي جاء بها يسوع والذي، في إنجيل يوحنا، قد قدَّم نفسه هكذا: “جِئتُ أَنا إِلى العالَمِ نورًا فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام” (يو 12، 46). ويعبر القديس بولس أيضًا بهذه الكلمات: “فإِنَّ اللّهَ الَّذي قال: «لِيُشرِقْ مِنَ الظُّلمَةِ نُور» هو الَّذي أَشرَقَ في قُلوبِنا” (2 كو 4، 6). في العالم الوثني، الجائع للنور، قد تطوَّرت عبادة إله الشمس، سول إنفكتوس (Sol Invictus)، والذي كانوا يبتهلون له عند شروقه. وإن كانت الشمس تخرج من خدرها كل يوم، فقد فُهِم جيدا أنها لم تكن قادرة على أن تنشر نورها على كل وجود الإنسان. فالشمس، في الحقيقة، لا تضيء كل الواقع، فشعاعها غير قادر على الوصول إلى ظلال الموت، حيث تُغلق العين البشري أمام نورها. “لم يُرى قط أحد مستعدا للموت– أكد القديس يوستينوس الشهيد– من أجل الإيمان بالشمس”[1]. لقد دعا المسيحيون المسيحَ، مدركين للأفق العظيم الذي فتحه أمامهم الإيمان، الشمس الحقيقي، “والذي تمنح أشعته الحياة”[2]. يقول يسوع إلى مرتا، والتي كانت تبكي أخاها لعازر: “أَلَم أَقُلْ لَكِ إِنَّكِ إِن آمَنتِ تَرينَ مَجدَ الله؟” (يو 11، 40). فمن يؤمن، يرى؛ يرى بنور يضيء كل مسيرة الطريق، لأنه يأتي إلينا من المسيح القائم من بين الأموات، نجم الفجر الذي لا يعرف الغروب.
نور وهمي؟
2. لكن، في التكلَّم عن نور الإيمان هذا، يمكننا أن نسمع اعتراضات الكثيرين من معاصرينا. فيُظن في العصر الحديث أن ذاك النور قد كان كافيا للمجتمعات القديمة، ولكنه قد لا يفيد للأوقات الحديثة، وللإنسان الذي قد أضحى ناضجا، فخورا بفكره، وراغبا في سبر أغوار المستقبل بطريقة جديدة. بهذا المعنى يظهر الإيمان وكأنه نور وهمي، يمنع الإنسان من استثمار جسارة المعرفة. كان الشاب نيتشه (Nietzsche) يدعو الأخت إليزابيث (Elisabeth) للمغامرة، بالسير فوق “دروب جديدة…، حتى في ريب السير للأمام باستقلالية”. مضيفا: “عند هذه النقطة تنفصل الدروب البشرية: فإن شئتِ الوصول إلى سلام النفس والسعادة، فلتحتفظي حتى بالإيمان، ولكن إن أردتِ أن تكوني تلميذة للحقيقة، فعندئذ حَقِقي”[3]. وكأن الإيمان يتناقض مع التحقيق. وقد طوَّر نيتشه، إنطلاقا من هذا، انتقاده للمسيحية لكونها حجَّمت نطاق الوجود البشري، ولأنها حرمت الحياة من الحداثة والمغامرة. وبهذا يضحى الإيمان وكأنه توهَّم من النور يمنع مسيرتنا كبشر أحرار من التقدم نحو المستقبل.
3. في هذه العملية يضحى الإيمان مقترنا بالظلام. وقد فُكِّر في إمكانية إبقاء الإيمان، وإيجاد مساحة له حتى يتعايش مع العقل. وبدت مساحة الإيمان هي تلك التي لا يستطع العقل أن ينيرها، وحيث الإنسان لا يستطيع الوصول إلى اليقين. ومن ثمَّ قد فُهم الإيمان على أنه القفز للمجهول الذي نقوم به عند غياب النور، مدفوعين من عاطفة عمياء؛ أو كأنه نور ذاتي، بإمكانه ربما تدفئة القلب، وجلب تعزية خاصة، ولكن لا يمكنه تقديم نفسه للآخرين كأنه النور الموضوعي والقادر على إضاءة الطريق. لكن، رويدا رويدا، قد لُوحظ أن نور العقل المستقل لا يستطيع إضاءة المستقبل بما يكفي؛ وفي النهاية، يبقى في عتمته تاركا الإنسان فريسة للخوف من المجهول. وهكذا تخلى الإنسان عن البحث عن نور عظيم، عن حقيقة كبرى، ليُرضي نفسه بأنوار صغيرة تضيء الثواني الصغيرة، ولكنها غير قادرة على فتح الطريق. فعندما يغيب النور، يبيت كل شيء مشوشًا، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر، بين الطريق الذي يقودنا نحو الهدف والطريق الذي يجعلنا ندور في حلقات مفرغة، بلا إتجاه.
نور للاكتشاف
4. من الضروري إذا استعادة خاصية نور الإيمان، لأنه عندما تنطفئ شعلته تفقد معها كل الأنوار الأخرى حيويتها. فنور الإيمان يمتلك، في الحقيقة، خاصية فريدة، لكونه قادر على إضاءة كل وجود الإنسان. إن النور كي يكون هكذا قادرا، لا يمكن له أن يكون منحدرا من أنفسِنا، بل يجب أن يأتي من مصدر أكثر أصالة، يجب أن يأتي، بالنهاية، من الله. فالإيمان يولد من أحشاء اللقاء مع الله الحيّ، والذي يدعونا ويكشف لنا محبة يسوع، محبة تسبقنا ويمكننا أن نستند فوقها لنكون راسخين في تشييد الحياة. عندما يحوِّلنا هذا الحب فإننا نحصل على أعين جديدة، ونختبر فيه وجود وعد كبير للاكتمال، وتنفتح أمامنا شاكلة المستقبل. إن الإيمان الذي نحصل عليه من الله كعطية فائقة للطبيعة، يظهر كنور للطريق الذي يوجِّه مسيرتنا في الزمن. فمن ناحية، الإيمان ينبثق من الماضي، فهو نور ذاكرة تأسيسية، تلك الخاصة بحياة يسوع، حيث أظهر محبته التامة والموثوق بها، والقادرة على هزيمة الموت. بيد أن، في ذات الوقت، ولكون المسيح القائم من بين الأموات يجذبنا لما يتخطى الموت، فالإيمان هو نور يأتي من المستقبل، ويفتح أمامنا الآفاق الشاسعة، ويحملنا لما يتخطى حدود “الأنا” المنعزل نحو رحابة الشَرِكة. ومن ثمَّ، ندرك أن الإيمان لا يقطن الظلام؛ بل أنه هو نور لظلماتنا. دانتي، في الكوميديا الإلهية، بعد أن اعترف بإيمانه أمام القديس بطرس، قد وصف الإيمان وكأنه “شرارة،/ تتسع فتتحول لشعلة حية/ كنجم في أعالي السماء في باطني يتلألأ”[4]. في الحقيقة عن هذا النور، نور الإيمان، أودُّ التحدُّث، حتى ينمو ويُضيء الحاضر، وكي يتحول إلى نجم يكشف آفاق مسيرتنا، في وقت يحتاج فيه الإنسان بشكل خاص إلى نور.
وختم البابا فرنسيس رسالته الرائعة بهذه الصلاة الجميلة
لنتوجه بالصلاة إلى مريم، أم الكنيسة وأم إيماننا:
أيتها الأم، ساعدي إيماننا!
افتحي إصغاءنا للكلمة، كي نتعرف على صوت الله وعلى دعوته.
ايقظي فينا الرغبة في اتباع خطواته، خارجين من أرضنا ومحتضنين وعدَه.
ساعدينا في أن نسلم أنفسنا لتلمسنا محبته، وكي نتمكن من أن نلمسه بالإيمان.
ساعدينا في أن نثق فيه كليًّا، وفي الإيمان بمحبته، لا سيما في أوقات الشقاء والصليب، عندما يكون إيماننا مدعو للنضج.
أبذري في إيماننا فرحة القائم من بين الأموات.
ذكِّرينا بأن مَن يؤمن ليس وحيدا البتة.
علمينا أن ننظر بأعين يسوع، حتى يكون هو نور طريقنا. حتى ينمو نور الإيمان هذا فينا دائما، إلى أن يأتي ذاك اليوم الذي لا يعرف غروبا، والذي هو المسيح ذاته، ابنك، وربنا!
آمين