بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته للموقع وقد تم نشر هذا المقال بجريدة الميساجى بتاريخ الاحد 15 نوفمبر
المنشور بجريدة ليمساجي الأحد 15 نوفمبر 2015
1 – لم تكن صدفة أن يأتي المسيح وأمه مريم لحضور عرس أحد الأ…قرباء ذلك لأننا ندرك تماماً أن كلمة “صدفة” أو حظ ، ليس لها حقيقة في الفلسفة أو العلوم أو الحياة الروحية ، لا على الأرض ولا في الفضاء ، بل تمضي الأمور وفق سنن قد لا نعرفها ، قال بعض المؤرخين أن العرس كان حفل زواج الرسول أندراوس وربما كانت العروس تمتد إلى نسب مريم العذراء أو يوسف النجار فحضور يسوع وأمه ( يوحنا 2 ) ومشاركتهما فرحة العائلة تدل على ارتباط بين العائلتين ، وتعرف الأعراس في الشرق بأمرين لا يخلو عرس منهما ، شرب الخمر من جهة والرقص والطبل من جهة أخرى ، ولازال الشرق في كل حوض البحر المتوسط يعرف ويمارس هذه الطقوس .
* * * * *
2 – تأمل المشهد برؤية إنسانية وتاريخية ، عرس شرقي فيه ضجة وصخب ورقص وشرب خمر ، صورة حية من حياة المجتمع الإنساني في كل زمان وكل مكان ، وتأمل في وجود المسيح وأمه مريم ، وأرجع إلى مشهد الخلق عندما شهد الخالق على العرس الأول بين آدم وحواء ، ألا تلمس هذا الخيط الإلهي الذي يربط “سر الزواج” ويعطي له صبغة مقدسة ، رجل وامرأة يبارك الله زواجهما في الفردوس وعريس وعروس يبارك المسيح بوجوده هذا الارتباط ، في البدء خلقنا جميعاً من رجل واحد امرأة واحدة ، فما الذي حدث للإنسان وقد استبدت به شهواته ، وأذلته نزواته ، فأطلق العنان للعلاقة بين الرجل والمرأة فكان لموسى امرأتان ، ولإبراهيم امرأتان ، ثم اندفعت البشرية ليكون لسليمان الحكين مئات النساء ، وانتشرت سوق الجواري حتى أن هولاكو عندما دخل بغداد منتصراً وجد في قصر الخليفة كما ذكر المؤرخون العرب أربعة آلاف من الجواري ، وقال القائد المنتصر لخصمه المهزوم لو كنت بذلت أموالك على إعداد جيشك بدلاً من امتلاك الجواري لما انتصرت عليك ، وتصل بنا حضارة العصر الذي نعيش فيه إلى انفلات كامل حتى سمعنا عن الزواج الحر بلا أية طقوس أو عقود أو التزامات وذكرت المجلة الكاثوليكية “الحياة Lavie” أن 75% من الزواج الأوروبي يتم دون تسجيل في الكنيسة أو الدولة ، ناهيك عن الانفلات في الطلاق دون إحساس بذنب ، وليذهب الأطفال ، وقيمة الرجل أو المرأة إلى الجحيم ، بل سمعنا عن زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، كما تتردد أصداء التحدي للكنيسة وقوانينها بل وللمسيحية وأخلاقها ، فحضور الخالق في العرس الأول ، وحضور المسيح الله – الكلمة – في عرس قانا الجليل هو أقوى دليل على أن العلاقة الزوجية إنما هي ثمرة لمحبة الله للإنسان ، ورمز للسمة المقدسة الدينية التي لا يصبح بدونها الزواج صحيحاً سليماً ، لذلك رفع المسيح “الزواج” إلى درجة سامية إلى قدسية الأسرار ، كسر القربان ، والاعتراف ، وليس مجرد علاقة جسدية بين رجل وامرأة ، إن الزواج إبداع إلهي ، لا يقل سمواً على خلق السماء والأرض ، فما بال الإنسان قد نزل به إلى مجرد شهوة وعبادة للأنانية .
* * * * *
3 – تواجد المسيح وسط الزغاريد والرقص والخمر لا يعني أنه يوافق على كل التقاليد والأعراف وإنما هو الله المحبة يحترم الإنسان ولم يأت ليعلنها ثورة أو يشعل فتنة بين الناس ، فالله الخالق يشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، طويل البال ، صبور على الملحدين والأثمة والقتلة ، خلق للإنسان إرادة وأعطاه حرية ، وهو تبارك لا يخون قوانينه أو يغير شرائعه ، وعبارته لأمه مريم “مالي ولك يا امرأة” ليس فيها انقاص من كرامة أمه والدليل أنه حقق لها ما أرادته ، بل عبارته تشرح لنا ولكل متأمل أن المسيح له ملء اللاهوت ، فلا ينبغي أن نخلط بين رؤيته الإلهية وهو إنسان كامل ولإنسانيته رؤيتها وحدودها أنه بهذه العبارة أوضح حريته الإلهية المطلقة وأن إنسانيته لا تجرح لاهوته ولا تؤثر في شرائعها ، وستبقى العذراء مريم بعد حدث عرس قانا الجليل رمز الشفاعة العظيمة لمن يلجأ إليها لا عن سلطان وإنما عن حب لا يدركه أحد بينها وبين الحبيب ، ويظلم المسيحية ظلماً بيناً من قال أن المسيحية تحتقر الجسد وتنظر إلى الجنس نظرتها إلى أمر نجس ، فالمسيحية تقدس الكون كله كما تقدس الجسد ، أنه هيكل أقامه الخالق وأبدعه مكاناً تسكن فيه الروح ويقوم يوم الدينونة مع قيامة الأموات ، ليس فيه جزء نجس أو عضو نجس ، بل الجسد سيمفونية إلهية يعزف بها الله ليتصل الخلق ويستمر الجنس البشري ، إنما النجاسة في الضمير والإرادة ، يقول المسيح من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى ، لم يقل المسيح أن المرأة عورة ، تنجس من ينظر إليها بل قال أن النجاسة تنطلق من “الإرادة” والشهوة والخضوع للنزوة ، ليس في المسيحية مادة نجسة ، أو طعام نجس ، ليس في الكون كله شيء نجس هذا ميراث ثقافات العصور المظلمة والشعوب المتخلفة ، جسد الإنسان رجلاً كان أو امرأة هو لحن إلهي ، أنشودة سمائية ، وعرس قانا ووجود المسيح أعاد إلى العرس الأول بين آدم وحواء معناه الحقيقي ، فالله موجود في كل حدث وكل مكان ، أما مبادئ العالم المعاصر وتمرده على المسيحية وأخلاقها فلن يغير من عظمة المسيح وقدسية شرائعه ، إن نجوم السماء تتوهج منذ بداية الخلق ، لم تطفئها الزلازل والبراكين والعواصف ، والمسيحية هي الإيمان الحق ستظل متوهجة لتنير للبشرية طريقها .
د. الأنبا يوحنا قلته