اعداد مراسل الموقع من القاهرة ، بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته للموقع
وقد تم نشر هذا المقال بجريدة حامل الرسالة بتاريخ 2 نوفمبر الجارى
1 – أيها القراء تأملوا معي في معنى هذه الآية ( يوحنا 13 : 1… ) “كان قد أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى الغاية ، وهكذا أحب الله العالم ( يوحنا 3 : 16 ) هل شهدت يوماً تدفق فيه المطر بغزارة وكأنه يغسل الأرض بما عليها ؟ هكذا جاء المسيح ليغمر الإنسانية كافة بالمحبة ، أعظم الشرائع وأجملها لأن الله في ذاته الإلهية محبة ليس صفة للقدوس ، بل هي جوهره وأعماقه ، ومعجزاته ، لطالما عاشت البشرية قروناً طويلة وحتى اليوم وهي عطشى للمحبة ، جائعة للنقاء ، بائسة شقية بما يزدحم فيها من شر وفساد وقسوة وعنف ، ولازالت حتى اليوم بشرية فيها كل أسباب الغنى والترف ولكنها تفتقد العدل والمساواة فالأمر الوحيد الذي يعطي للإنسان كرامته وقيمته أن تحبه وأن تحترمه ، وليس من الله أي فكر أو دين أو مذهب أو فلسفة ، أمور تحرض على الكراهية والبغضاء والعداوة بين بني الإنسان .
* * * * *
2 – تعلمنا مسيرة الإنسانية وتاريخ الحضارات وتطور الشعوب أن الفلاسفة والحكماء التف حولهم حواريين وتلاميذ وأتباع يسمعون أقوالهم ويعجبون بآرائهم ويسيرون على خطاهم ، فكان لسقراط وأفلاطون وأرسطو أتباع ومريدون ، وكان لابن سينا وابن رشد والفارابي تلاميذ ، ولازالت الدنيا تزخر بالتيارات الفكرية والدينية التي يفجرها أصحابها ويسير فيها من يريد ، ولكن هؤلاء المعلمين في غالبيتهم كانت لهم سقطات وخطايا وعيوب رصدها التاريخ وتحدث بها المؤرخون .
شخص واحد أسمه يسوع المسيح تجاسر وقال في العلن دون تردد “من منكم يثبت عليّ خطية” لم يجمع حوله مريدين أو تابعين ولم يؤسس مدرسة وإنما دعا رسله واحداً واحداً ، دعوة شخصية ( لوقا 6 : 14 ) دعوة محبة ليس فيها سيد وعبد أو معلم وتلاميذ ، ليس فيها استيعلاء وكبرياء الفلاسفة أو خنوع للقائد ، بل أعلنها منذ البداية الكبير هو خادم الكل ، لا أسميكم عبيداً بل أحبائي ، والإنسان – أي إنسان – هو مدعو من الله دعوة خاصة به أن يحيا ويحمل رسالته باتحاد مع خالقه ، لسنا أرقاماً عند الله بل كل إنسان هو ابن لله له مكانته وكرامته .
هذا هو منهج المسيح والمسيحية ، فالرسل أحباء والتلاميذ أحباء والكهنوت دعوة محبة ، قال : أتبعني للرسول لاوي فترك كل شيء وتبعه ، ليس في المسيحية استعباد أو تسلط أو رئاسة بل فيها خدمة وعطاء باقتناع ورضا ، والمسيحية لا تنتشر بالحروب والموت للعدو وإجبار الإنسان على دين أو إيمان ، بل المسيحية هي الحق ، لأنها هي المحبة والحق يحرر الإنسان من كل قيد ، والحقيقة تشهد للحقيقة كالنور لا يخفى ولا يدارى ، والمحبة تملأ ضميره وقلبه وإرادته بالسلام وهي التي أطلقت شرارة حضارة المحبة ، وإن كان التاريخ قد حمل المآسي والانقسام والتعصب فإن التاريخ حمل أيضاً سير الشهداء والقديسين والزهاد الذين حفظوا العهد مع المسيح أن يكونوا مثله نوراً للعالم .
تأمل في جمال الطبيعة وقوة الشمس ، أنها تبسط النور والحرارة من جهة وتصنع الظلال من جهة أخرى ، ليس في الكون جمال مطلق أو كمال مطلق لأن المطلق واحد هو القدوس ، جاء المسيح وغمر الإنسانية بالمحبة والفداء ، وشرع في بناء كنيسة المحبة والفداء ، فأختار رسلاً وأتباعاً وملأهم بالمحبة ولا تزال المحبة أصعب الفضائل وجوهر الإيمان ، ولك أن تلقي نظرة تأمل على مشهد العالم ، لن تجد فيه إلا قوتين تتجاذبان الإنسان قوة المحبة والنقاء والخدمة والضمير الصالح ، والقوة الثانية قوة الكراهية والحروب ، حتى في بنيان الكنيسة ، أو العائلة أو المجتمع ، يتصارع تيار المحبة مع تيار رفض الإنسان الآخر والأنانية والظلم والرغبة في سحق الإنسان الآخر والتعدي على حقوقه والميل إلى الاستبداد غريزة في أعماق الكثيرين وهذه هي قضية العالم اليوم ، والقرون الماضية ، إن من اعظم ما قدمه المسيح للرسل والكنيسة والعالم أنه رفع من قيمة الإنسان وكرامته في كل معجزاته وتعاليمه ، المحور الأهم في أية حضارة هو الإنسان ، حتى أنه قال بلا تردد وبرغم ثقافة وتقاليد عصره :”الإنسان أهم من السبت” أهم من الدين والطقوس فالدين في خدمته وليس الإنسان في خدمة الدين ، وأزعم أنها معركة هذا القرن على أرضنا العربية ، هل يعود الإنسان عبداً للطقوس وفتاوي الجهلة والمستبدين أم يتحرر من قيود العصور المظلمة ، أني متفائل جداً في أن المسيح سيأخذ بيد الإنسانية برغم التضحيات لتكون أسرة الله على الأرض .
د. الأنبا يوحنا قلته