بعض التأملات حول حبرية البابا فرنسيس، الإصلاحات التي تم تطبيقها، والأعمال المختلفة الجاري تنفيذها وحالة علم السياسة الطبيعية.
أندريا تورنيلي
مدينة الفاتيكان
نقلها إلى العربية سامح حنا المدانات – المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام، الأردن
في الثالث عشر من شهر آذار الجاري يدخلُ البابا فرنسيس السنة الرابعة لتوليه منصبه كحبر أعظم. وسوف يحتفل بالذكرى السنوية الثالثة لانتخابه بالتزامن مع سنة اليوبيل التي تسير فعالياتها على قدم وساق، وهذا هو الوقت حيث تقوم فيه الكنيسة بإظهار الجانب الرحيم لله الى العالم، وهي سنة مقدسة استثنائية مع قليل من “الأحداث” وكثير من الأسرار المقدسة. وتتزامن الذكرى الثالثة تقريباً مع نشر الإرشاد الرسولي حول العائلة -والذي من المتوقع نشره بعد عيد الفصح مباشرة- بعد نهاية اجتماع السينودسين. وكان أحد العناصر الجديدة التي جاء بها قداسته منذ توليه السُدة البابوية، التغيير في أساليب عمل سينودس الأساقفة ومحاولة إشراك الكنائس المحلية، الرعايا وجميع الجماعات في عملية تفكير مشتركة، وذلك نظراً للاستجابات المختلفة من مختلف الأبرشيات، إلا أنها لم تكُ ناجحة دائماً. وسنعرف في غضون بضعة أيام، ما فعله البابا فرنسيس بمقررات السينودس.
كنيسة تتقدم إلى الأمام
في مقابلة نُشرت على هذا الموقع، قبل سنة واحدة بالتمام من انتخابه حبراً أعظم، حين كان تشكيل لجنة الكرادلة الجديدة يلوح في الأفق، أعاد بيرجوليو إلى الأذهان، حينما كان يومها كاردينالاً، ومشيراً إلى المؤتمر الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية في أباريسيدا في عام 2007 قائلاً: “إن جميع الأنشطة العادية للكنيسة تجري في ضوء الرسالة المناطة بهاً”. وأضاف: “هذا يعني أن هناك ضغط شديد بين المركز والأطراف، بين الرعية والمنطقة. نحن بحاجة إلى الخروج من أنفسنا وأن نتوجه إلى الضواحي. نحن بحاجة إلى تجنب مرض الكنيسة الروحي التي انطوت على نفسها في عالمها الخاص: فعندما تصبح الكنيسة بهذا الشكل، فإنها تنتهي بالمرض. صحيحٌ أنه يترتب على الخروج إلى الشارع مخاطر حدوث الحوادث، كما هو الحال مع أي رجل أو امرأة عاديين. ولكن إذا بقيت الكنيسة منغلقة على نفسها، فسينتهي بها الأمر إلى الهرم والشيخوخة. وإذا كان عليَّ الاختيارُ بين الكنيسة المجروحة التي تخرج إلى الشوارع والكنيسة المتراجعة والمريضة فإنني بالتأكيد سأخذ الاختيار الأول”. واسترسل بيرجوليو شارحاً: “نحن نسعى إلى التواصل مع الأسَر التي لا تشارك في الرعية”، “فبدلاً من أن نكون مجرد كنيسة ترحب وتستقبل، فإننا نحاول أن نكون الكنيسة التي تخرج عن ذاتها وتذهب إلى لقاء الرجال والنساء الذين لا يشاركون في حياة الرعية، ولا يعرفون الكثير عن ذلك، وغير مكترثين بها. نقوم بتنظيم بعثات في الساحات العامة حيث عادة ما يجتمع كثير من الناس: نحن نصلي، ونحتفل بالقداس الالهي، ونمنح سر المعمودية الذي نقوم به بعد تحضير وجيز. هذا هو أسلوب الرعايا والأبرشية نفسها. بالإضافة إلى ذلك، نحاول أيضاً التواصل مع الأفراد البعيدين، بواسطة الوسائل الرقمية، والإنترنت والرسائل القصيرة”.
قوة اللطف والرقة
وكرر الكاردينال الكلمات التي اقتبسها أمام زملائه الكرادلة قبل الاجتماع السري لانتخاب البابا والتي تظهر أيضاً في وثيقة “فرح الانجيل” والتي تمثل خارطة الطريق لحبرية البابا فرنسيس. وفي قلب حبريته يكمنُ “الارتداد الرعوي” وشهادة الكنيسة المنطبعة في قلبها “خلاص النفوس”، وتُظهر وجه الله الرحيم والمرَّحِب. وفي رسالته إلى أساقفة البرازيل التي ألقاها في شهر تموز 2013، قال قداسة البابا: “العناية الرعوية” ليست إلا ممارسة لأمومة الكنيسة. فهي تَلدُ، تُرضِع، تمنح النمو، وتُصحِح، تُغذي وتقود باليد.. لذلك فنحن بحاجة إلى كنيسة قادرة على إعادة اكتشاف رحم الكنيسة الأم الرحومة. بدون الرحمة يكون لدينا فرصة ضئيلة في الوقت الحاضر لنصبح جزءاً من عالم الأشخاص “المجروحين الذين يحتاجون إلى فهمهم، مسامحتهم ومحبتهم”. ويتلخصُ تعليم البابا فرنسيس في الفقرة التالية الموجودة في أحدِ أهَمِّ الخطابات التي ألقاها خلال زيارته إلى المكسيك في شهر شباط المنصرم، وبعبارة أخرى كلمته إلى الأساقفة في البلاد الذين تجمعوا في العاصمة الاتحادية: “فوق كل شيء، فإن العذراء السمراء (اسم آخر لسيدة غوادالوبي، وهو مستوحاً من سماتها المختلطة) تعلمنا أن القوة الوحيدة القادرة على الانتصار على قلوب الرجال والنساء هي حنان الله. هذا ما يثلج الصدور ويجتذب، إنه ما يذل ويقهر، ويفتح ويطلق العنان، ليست قوة المعدات أو قوة القانون، وإنما الضعف القادر على كل شيء للحب الإلهي، والقوة التي لا تُقَاَوَم لحنانه، والضمان غير القابل في تغيير رحمته“.
العمل الجاري تنفيذه
مضت ثلاث سنوات من حبرية البابا فرنسيس ولا تزال هناك أمور تعتبر ما زالت تحت التنفيذ: في حين أن إصلاح النظام المالي والاقتصادي للكرسي الرسولي قد دخل بالفعل مرحلة التنفيذ، إلا أن عملية إصلاح الكوريا الرومانية تبدو بشكل عام أبطأ من ذلك بكثير. بينما إعادة تنظيم وسائل الإعلام في الفاتيكان، ما زالت في مراحلها المبكرة. ويبدو جلياً من كلمات البابا أن إصلاح القلوب، “الارتداد الرعوي”، هو شرط ضروري لإجراء الإصلاحات الهيكلية التي يجب أن تتم بشكل صحيح. وهناك خطر -في الفاتيكان، كما هو الحال في الكنائس المحلية- من بعض الكلمات الرئيسية، أو الشعارات (مثل كلمة “الاطراف” فهي في الوقت الراهن كلمة مبهمة) برزت في الخلاط مثل المكونات، التي تُستعمل للحصول على نفس الخلطة في كل مرة، ولكن مع اختلافٍ طفيفٍ في الطعم. وفي الحقيقة فإن شهادة البابا وتعليمه يطرحان أمام الجميع -أعضاء الكوريا، الأساقفة، الكهنة وسائر الرهبان والراهبات، وكذلك العلمانيين من سائر الطبقات- عمقاً إنجيلياً مختلفاً كلياً. بدونه، حتى عمليات الإصلاح، تجازفُ في اتباع نماذج تشبه الأعمال، وبالتالي تتورط في الشكليات التي لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الكنيسة التي تختلف عن كل تلك الأمور المتعددة الجنسيات.
الجغرافيا السياسية بدون الجغرافيا السياسية
على الساحة الدولية، تسير حبرية البابا فرنسيس على خطى أسلافه، مع تركيز الجهود في بناء الجسور مع أي شخص يظهر حتى وميض رغبة لإستعداده للدخول في حوار. وقد لفت البابا الانظار إلى أن العالم يتجه بسرعة نحو حرب عالمية ثالثة يتم خوضها بشكل “مجزأ”. ولكن يبدو أن هذه الأجزاء اضحت تنمو أكبر وأكبر. فمن محاولات عدم عزل بوتين، إلى حواره مع رؤساء الدول والزعماء الدينيين المسلمين، إلى زياراته لكوبا والولايات المتحدة وكوريا، وسريلانكا والفلبين، ناهيك عن الأهمية المركزية المعطاة للحركة المسكونية. فقد تحدث البابا فرنسيس عن “مسكونية الدم” التي توحد المسيحيين من مختلف الكنائس. فقد تعانق مع البطريرك المسكوني للقسطنطينية برثلماوس وتمكن من تحقيق الحلم الذي لم يحققه أسلافه المباشرين، في لقاء بطريرك موسكو وعموم روسيا للمرة الأولى. إن الوحدة المسيحية ليست فقط مهمة في حياة الكنائس ولكنها أيضاً مؤشر مهم على السلام في العالم.
الأصغر
إن تعليم البابا فرنسيس، زياراته الرسولية، وكلماته طرحت التساؤلات حول نموذج التنمية الحالي. وقد سلَّط البابا الضوء مجدداً على فصول العقيدة الاجتماعية المنسية للكنيسة، والتي تساعدنا على تفسير الفترة الحرجة التي نمر بها. وقد أوضح في رسالته العامة “كُنْ مُسَبَحَاً” حول حماية الخليقة، أن حماية البيئة من أجل الأجيال القادمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً في حل مشاكل الفقر الخطيرة التي تؤثر على جزء كبير من سكان العالم. لقد تمت مهاجمة وانتقاد الكلمات التي كتبها البابا في رسالته “فرح الانجيل” وبعد ذلك في رسالته “كُنْ مُسَبَحَاً“ حول “الاقتصاد الذي يقتل”، من قبل أولئك الذين يدَّعون أن النظام الاقتصادي الحالي هو أفضل نظام ممكن، وذلك من منظور من ينادون “برفع القيود” و”بالسوق الحرة” والتي في نهاية المطاف ليست في الحقيقة ليبرالية على الإطلاق. وجذبت كلماتُ البابا الغير مريحة هذه انتباه الناس إلى الوضع المأساوي للتخلف وعواقب الحرب الوخيمة، هذا بالاضافة الى المصالح الاقتصادية الخفية التي تكمنُ وراءَها.