للأب هاني باخوم
جروح الحياة عثرة أسقطت كثيرين في المسيرة الروحية و أخفت وجود الله أو شوهته لآخرين. بدون علم أو إدراك أوقفت العديد في الطريق. حطمت حياة آخرين، في زواجهم أو كهنوتهم أو حياتهم المكرسة وبالأحرى منعت البعض من اتخاذ طريق محدد في الحياة. هذه الجروح هي قوة دفينة تولدت في أعماق نفوسنا بسبب ظلم أو إهانة أو تعدي أو شر تلقيناه منذ الصغر أو الكبر ومازال يؤثر فينا وفي قراراتنا حتى دون ان ندرك أو نعي ذلك. هي قوة مسيطرة تكمن سيطرتها في مدى جهلنا بها وعدم رغبتنا في مواجهتها وتفقد سيطرتها علينا بالتأمل فيها على ضوء كلمة الله الشافية. هذا ما يؤكده أباء الصحراء. وهذا ما أود ان اعرضه في هذه المقالات البسيطة متبعا تفسير الراهب أنسلم جرون، الراهب البندكتيني.
نعم حديثي سيكون عن جروح حياتنا وكيفية استثمارها كقوة دفينة لا للتدمير بعد ولكن كقوة دافعة في مسيرتنا الروحية ، حيث هذه الجروح تصبح علامات مجد. نعم كجروح المسيح والتي ظلت حتى بعد القيامة وأصبحت وسيلة كي يتعرف عليه التلاميذ ويتأكدوا انه المعلم. أصبحت جروحه مصدر شفاء لنا ولجروحنا. والآن هو ممجد في السماء، عن يمين الأب ، ويحمل جروحه، وبها يتشفع لنا، يقدمها لنا كدليل على حب مجاني غافر ورحيم. نعم حيث أصبحت جروحه مصدر للخيرات الروحية والنعم المقدسة. هذا ليس تقديس للجروح ولكن إعجاب بقدرة الرب المبهرة القادرة ان تنزع من عمق الموت حياة ومن الصخرة ماء.
فما هي هذه الجروح حسب الآباء ؟
أول شيء يؤكدوا عليه الآباء، ان جرح الآخرين لنا، الوالدين، الأخوة، الأصدقاء، الأحباء والأقارب، وغيرهم ما هي إلا وسيلة كي نتعرف بها على أمراضنا العميقة وعلى الأمور التي لا أتقبلها في ذاتي أو في الآخرين. هذه الجروح وسيلة كي أتعرف على طموحاتي الدفينة والتي أسعى دائماً وبدون إدراك في أوقات كثيرة ان أحققها مهما كان الثمن . وسيلة كي أتعرف على الأوهام التي بنيتها عن حياتي أو عن الآخرين وكيف يجب ان يكونوا . الجروح هي وسيلة لإسقاطي من هذا الفردوس المزيف والوهمي الذي بنيته لنفسي كي اهرب مرات عديدة من واقع لا أود ان أراه أو أواجه.
أفكر في هذا الطفل أو الشاب والذي يصعب عليه الدراسة لأنها تؤلمه وتقيده فيهرب وراء لعبة افتراضية وهمية ساعات وساعات خلف شاشة الكمبيوتر. في العمق اللعبة تقوم بدور واحد فقط تبعده عن واقع لا يحبه. ويأتي هذا الصوت من الخلف ويقول له ” كفاية فوء بقى للمذاكرة”. هذه هي الخدمة التي من الممكن ان تقوم بها الجروح، هي صوت كي ” نعي ونستيقظ الى الواقع.
أباء الصحراء يؤكدوا على أهمية مواجهة هذه الجروح وعدم الهروب منها أو محاولة تناسيها فهي أعراض لمرض يجب معرفته والشفاء منه. وهذا ممكن، من الممكن الشفاء من هذه الأمراض النفسية العميقة، فتصبح الجروح إمكانية لإعلان قدرة الله الشافية من خلال الكلمة والأسرار المقدسة وحياة الجماعة الكنسية. كيف؟
يأتي راهب ، منذ الصغر نال الكثير من إهانات واعتداءات ، ولكنه تناسى هذا الأمر ولا يرغب في ذكره، ويقول للمعلم سيوسوس ” انا اجعل من كل شخص ومن كل حبيب عدو لي ، ارغب ان انتقم من كل إنسان وكأني أود ان ادفعه ثمن شئ لا اعرفه، كل من أحبهم بلا إدراك أتخيل أنهم أعداء لي ، وبطريقتي اكرههم في فيصبحوا أعداء بالفعل.
فيرد المعلم؛ ” لنصلي يا أخي: فقام وقال : يا رب لا نحتاج لك بعد الآن ، فسنأخذ نحن حقنا بذواتنا وسننتقم ممن فعلوا الشر فينا، وان لم نراهم سننتقم منهم في آخرين ، في كل من حولنا”. ( أقوال الاباء ١، ١٦١ اا).
وعندما سمع الراهب هذه الكلمات رأي أمامه كل الشرور التي نالها ورغبته العميقة في الانتقام من الجميع حتى ممن لا ذنب لهم. فهم ان مرضه هو رغبته ان يحل مكان الله وان ينتقم لذاته، فهم ان تلك الجروح كانت وسيلة كي يفهم مرضه، تلك الرغبة الدفينة والخطيئة العميقة ان يكون مكان الله . فركع وقال للمعلم لن أجرح بعد اليوم أخا، سامحني يا ابتي.
ما هذا الإلهام ، ما هذا الذي أراه، تلك الجراح أصبحت وسيلة في يدي الله كي يظهر للراهب مرض عميق ، قد يسبب في هلاكه. هذا ليس تواضع مزيف ، الراهب لا يترك الانتقام لأنه عيب أو حرام. الراهب يترك الانتقام لأنه رأي ان من هذه الجروح الرب قادر ان يستخرج منها خير له. الراهب يترك الانتقام لان رأي ان حياته لم تخرج من أصابع الله ولم تسقط من تحت نظره، الراهب يترك الانتقام لان رأي الرب قادر حتى على قوى الشر .
وبهذا لا اقصد ان الرب يريد جراحانا او يسمح بها او غيره فهذا ليس بموضوعي هنا. هذا أمر آخر. ولكن هنا أقول الرب قادر ان يخرج من الصليب قيامة . ومن الجروح شفاء لإمراضنا. كيف ؟
للمرة قادمة.