بقلم: الأب سمير خليل اليسوعي
مدخل إلى التراث العربي المسيحي (1)
إعداد وتنسيق /الأب انطونيوس مقار إبراهيم
راعي الأقباط الكاثوليك في لبنان
إخوتي الأحباء أود في بدء الأمر أن أقول أنه تم الحديث مع الأب سمير خليل ([2]) مدير ومؤسس مركز التراث العربي المسيح في لبنان على أن أقوم بجمع بعض ما كتبه الأب سمير خليل في المجلات المسيحية ونذكر منها مجله صديق الكاهن ومجلة الصلاح ورسالة الكنيسة في مصر ومجلة المنارة التابعة لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة ومجله المسرة التابعة لجمعية المرسلين البولسيين للروم الكاثوليك وغيره من المجلات والمحاضرات في اماكن عديدة فاستجاب الاب سمير لهذا الطلب وها نحن في طور نشر هذا الكنز الثمين في كتاب ضخم يجمع من نستطيع عن نحن جمعه. لفائدة الكثيرين المتشوقين لمعرفة هذا التراث الذي اغنى العالم بأسره.
كما أود من جهة اخرى أن نضع هذا الجمع على موقع كنيستنا التي تفخر بأن منها أباء ساهموا بشكلٍ أو بأخر في إثراء الشرق بالتراث العربي المسيحي.
سوف نقوم بنشره تعاباً على عدة أجزاء تحت عنوان خصائص التراث العربي المسيحي
الجزء الاول مدخل عام
الاب انطونيوس مقار ابراهيم
أريد اليوم أن أقّدم لكم مجرد مدخلٍ إلى التراث العربي المسيحي القديم، لأعطيَ فكرةً وجيزةً عن محتوى هذا التراث، وعن سعته وأهميته في دراستنا الحضارية والدينية، أي في بناء الحضارة العربية، وفي بناء الفكر المسيحي في الشرق الاوسط. وقبل أن أبدأ الشرح، أريد أن أوضح معنى العنوان : التُّراثِ العرَبيِّ المسيحيِّ : قد يشمَئِزُّ البعضُ أَو يستغربُ هذا العنوانَ، وقد يستحسِنُه البعضُ. لماذا « تراثٌ مسيحيٌّ عربيٌّ » ؟ لماذا لا نقولُ : التُّراثُ المسيحيُّ، فقط ؟ نوّد هنا أن نبيَّن مفهوم التراث العربي المسيحيَّ والذي نعني به كلَّ ما كُتب على يدِ مسيحيٍّ، سَواءً كان ذلك من التُّراثِ الدِّينيِّ، أَوِ التُّراثِ الفلسفيِّ، أَوِ الأَدبيِّ، أَوِ العلميِّ. أَيْ إنَّ الموضوعَ لا ينحصِرُ في اللاَّهوتِ، أَوِ الدِّياناتِ، وإنَّمَا يشمُلُ جميعَ أَلوانِ الإنتاجِ الفكريِّ، من فلسفةٍ، وطبٍّ، وهندسةٍ، وإلى آخرِه. كما نوَّد التركيز على الفِكرِ الدِّينيِّ الرُّوحيِّ. وعندما أقول “التراث العربي”، أقصد به كلَّ ما كُتب باللغة العربية. سواء كان ذلك موضوعاً أصلاً باللغة العربية، أو مترجماً إليها من لغات أخرى. وذلك بصرف النظر عن أصل المؤلَّف أو المترجم، إذ قد يكون روميّاً أو سريانيّاً أو قبطيّاً ألخ.. فإنَّ جُزءًا لا يستهانُ بهِ من التُّراثِ العربيِّ المسيحيِّ القديمِ، قد تُرجِمَ في المرحلةِ الأُولى من اليونانيَّةِ أَوِ اللُّغاتِ الأُخرى إلى العربيَّة ؛ إلاَّ أَنَّ اهتمامِي الأَسَاسِيَّ سيكونُ بالتُّراثِ المسيحيِّ المكتوبِ أَصلاً باللُّغةِ العربيَّةِ، التُّراثُ العربيُّ المسيحيُّ ؛ وأُحددُ الزَّمنَ بقولي التُّراثُ القديمُ، قد تُرجم ( في المرحلة الاولى) من اليونانية، أو السريانيّة أو القبطيّة، إلى العربية .
وعندما أقول ” التراث القديم “، أعني الفترة التي تمتدّ من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر الميلادي .
لا يعني ذلك، أَنَّ قَبْلَ القرنِ الثَّامنِ لا يُوجدُ تراثٌ مسيحيٌّ عربيٌّ ؛ وسنتكلمُ عن ذلك فيما بعدُ، أَقصِدُ الترُّاثَ العربيَّ المسيحيَّ في الجاهليَّةِ. إلاَّ أَنَّ الفكرَ اللاَّهوتيَّ والفلسفيَّ والعلميَّ، ترعرعَ ابتداءًا من القرنِ الثَّامنِ.
جهلنا بتراثنا العربي المسيحي
السؤّال الأوّل الذي يخطر على بالنا هو : هل سمعتم شيئاً عن التراث العربي المسيحي ؟ أو هل درستم شيئاً من اللاهوت العربي المسيحي، أو الفقه العربي المسيحي، أو الروحانية العربيّة المسيحيّة ؟ إن التراث العربي المسيحي يكاد يكون مجهولاً تماماً في الفئات جميعها، الدينية والعلمانية عند المسيحيين أو المسلمين من العرب، شرقاً أوغرباً .
ولكي نجيب على هذا السؤال يقول لنا الأب سمير خليل اليسوعي عن كيفية إكتشافه لمادة التُّراثِ العربيِّ المسيحيِّ
« ذهبتُ مرةً إلى مدينةِ « مُنْشِنْ» لأَجمعَ مراجعَ عن الإمامِ أَبي حامِدِ الغزالِي، وعن كتابِهِ « إحياءُ علومِ الدِّينِ ». وبينما كنتُ في المكتبةِ أَتصفَّحُ الكتبَ في رُكنِ الشَّرقيَّاتِ، إذا بِراهبٍ أَلمانِيٍّ يسأَلُنِي عن مجالِ أَبحاثِي، فَأَخبرْتُهُ عنهَا، فسأَلَنِي : « لماذا أَنتمُ المسيحيِّينَ (يون) العربُ تهتمُّونَ بالتُّراثِ الإسلاميِّ وتُهملُونَ تراثَكُمُ المسيحيَّ العربيَّ ؟» وكرَّرَ عليَّ هذا السؤالَ مرارًا، فَسأَلْتُهُ للتَّخَلُّصِ منه : « وما هو هذا التُّراثُ؟ لقد درسْتُ طوالَ حياتي في مِصْرَ ولم أَسمعْ قطُّ عن وجودِ تراثٍ عربيٍّ مسيحيٍّ».
فَأَتَانِي بكتابٍ ضخمٍ يشتَمِلُ على أَكثرِ من 2400 صفحةٍ(2). مكتوبٍ باللُّغةِ الأَلمانيَّةِ عنوانُهُ « تاريخُ التُّراثِ العربيِّ المسيحيِّ » وهذا الكتابُ جردٌ لِلْمُصنَّفاتِ العربيَّةِ الدِّينيَّةِ ليس إلاَّ ؛ يشتَمِلُ على عناوينِ المؤلَّفاتِ وأَسماءِ الْمُؤَلِّفِينَ، وجردٌ لِلْمخطوطاتِ والمطبوعاتِ، ولا تُوجدُ فيه فقَرةٌ من مؤَلَّفاتِهِمْ. حَدثَ ذلك في شهرِ آبَ سنةَ 1962، وكان هذا الحادثُ الحافزُ الَّذي دفعَني على دراسةِ هذا التُّراثِ، ومن هذا اليومِ وجَّهتُ دِراساتِي نَحْوَ التُّراثِ العربيِّ المسيحيِّ.
وكان هذا الحادثُ أَيضاً قد أَوضَحَ جهْلَنَا بتُراثِنَا، فاكتشفْتُ عندئذٍ، أَنِّي تربَيْتُ في مدرسةٍ مسيحيَّةٍ، وعِشتُ في بلدٍ حافلٍ بالمسيحيِّينَ النَّاطقينَ باللُّغةِ العربيَّةِ، ولم أَسمعْ إطلاقًا ذِكرًا لمؤلفٍ عربيٍّ مسيحيٍّ طوالَ دِراستي، وكأَنَّ العروبَةَ تُضاهي الإسلامَ.
ومن الغريب، بل ومن المحزن، أنّ كليات اللاهوت في الشرق الاوسط لا تُعني بهذا التراث الديني العربي، رغم غزارته. فإنّ جميع معاهدنا اللاهوتية، الارثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، في مِصْرَ أَوْ في لُبنانَ أَوْ في العِراقَ أَوْ في فِلسطينَ يجهلونَ هذا التُّراثَ كما أنها تدرسّ لاهوتاً مقتبساً من كتبٍ غربيةٍ مترجمةٍ إلى العربية ( من اليونانية، أو الانجليزية، أو الفرنسية، أو الإيطالية، أو الألمانية ) وكأَنَّ المسيحيَّةَ تُضاهي الفِكْرَ الغربيَّ ،وكأنّ المسيحيين العرب لم يُساهموا في الفكر اللاهوتي، ولم يضعوا فيه كتباً ما. وهكذا يُصير المثِّقفُ المسيحي العربي غريباً في وطنه العربي!
اللُّغةُ العربيَّةُ وارتباطُهَا بالتُّراثِ المسيحيِّ
كثيراً ما استعملتُ لفظَ عربيٍّ كمرادفٍ للفظِ مسيحيٍّ ؛ وقد يتساءَلُ بعضُنَا : « هل يصُحُّ لنا أَن نقولَ إنَّنَا مسيحيُّونَ عربُ؟ ». إنِّي أَستعملُ لفظةَ عربيٍّ كصفةٍ، خصوصًا عندما أَتحدَّثُ عنِ التُّراثِ المسيحيِّ العربيِّ. فهذا التُّراثُ كُتبَ باللُّغةِ العربيَّةِ، فلا بُدَّ أَنْ أُسمِّيَهُ تُراثًا عربيًّا، كما أَنَّ التُّراثَ المكتوبَ باللُّغةِ الفرنسيَّةِ وإنْ كان مؤلِّفُ هذا الكتابِ أَوْ ذاكَ لُبنانيٌّ أَوْ مِصْرِيٌّ أَوْ إفْريقِيٌّ يدخلُ في التُّراثِ الفرنسيِّ، كذلك كلُّ تراثٍ، كلُّ كتابٍ، كلُّ مؤَلَّفٍ كُتبَ باللُّغةِ العربيَّةِ يدخلُ في نطاقِ التٌّراثِ العربيِّ. بل إنِّي أَستعْمِلُ كلمةَ عربيٍّ للأَشخاصِ أَيضًا، فالعربيُّ ليسَ المسلِمُ، وإنَّمَا هو في الواقعِ النَّاطقُ باللُّغةِ العربيَّةِ. وإنِّي عالِمٌ أَنَّ طَوائِفَنَا، إنْ كانتْ طائفةُ القُبطِيِّ أَوِ الطَّوائفِ الأُخرى كثيرًا ما تَرفُضُ هذا التَّعبيرَ، أَرجُو أَنْ نقبَلَهُ ببساطةٍ وبلا تعقُّدٍ، وسأُوَضِّحُ هدفي بعد قليلٍ، وهو إحياءُ تُراثِنَا الشَّامِلِ إنْ كان التُّراثُ السُّريانيُّ، أَوِ القُبطيُّ، أَوِ اليونانيُّ، أَوْ إنْ كان التُّراثُ العربيُّ. وأُريدُ أَنْ أُؤَكِّدَ هذا الْمَعنى بأَنْ أَستشهِدَ بحديثٍ نَبَوِيٍّ ؛
قالَ محمدٌ عندما سأَلَهُ بعضُ الصَّحابةِ : « ما هي العربيَّةُ؟ » وكانَ يقصِدُ أَيضًا مَنْ هو العربيُّ؟.
قال : « ليسَتِ العربيَّةُ بأَحدِكُمْ من أَبٍ ولا أُمٍ وإنَّما هي اللِّسَانُ، فمَنْ تكلَّمَ بالعربيَّةِ فهو عربيٌّ ». ويتَّضِحُ كُلَّ الوضوحِ من خلالِ هذا الحديثِ، أَنَّ الموضوعَ ليسَ بموضوعٍ دينيٍّ، ولا بموضوعِ أَصلِ الشَّخصِ، وإنَّما هو موضوعٌ لُغوِيٌّ مَحْضُ .
إطارُ الفِكرِ العربيِّ المسيحيِّ
أَخيرًا، في نهاية هذه المقدِّمةِ، نُريدُ أَنْ أَضَعَ إطَارَ الفِكرِ العربيِّ المسيحيِّ كافة النواحي الجغرافية والثقافية والعقائدية
1. من النَّاحية الجغرافيَّة
نستطيعُ أَنْ نحدِّدَ هذا الإطارَ، بأَنْ نَقولَ إنَّهُ يَشمُلُ العالَمَ العربيَّ المسيحيَّ مِنَ الشَّرقِ الأَوسطِ إلى إسبَانِيَا ؛ ويَشمُلُ أَسَاسًا سُورِيَا، والعراقَ، وما بينَ النَّهْرَيْنِ، جُزْءًا من إيرانَ وتُركِيَا، لُبنانَ، مِصْرَ، ولفترةٍ مُعيَّنَةٍ إسبانِيَا، وفيما بعدُ انطلاقًا من القرنِ السَّابِعَ عَشَرَ يَشمُلُ أَيْضًا التُّراثَ الأُورُوبِيَّ المكتوبَ باللُّغةِ العربيَّةِ على الرُّهبانِ.
2. من النَّاحية الثَّقافيَّة
فقد تلاحَمَتْ في هذه الرِّقعةِ من الأَرض ثقافاتٌ عديدةٌ قديمةٌ، منها اليونانيَّةُ ومنها السُّريانيَّةُ ومنها القُبطيَّةُ ومنها اللاَّتينيَّةُ، وابتداءًا من القرنِ الثَّامنِ عشَرَ الأَرمنِيَّةُ أَيضًا ؛ وتَشتَمِلُ الثَّقافةَ السُّريانيَّةَ على فروعِهَا الثَّلاثةِ المارونيَّةِ والسُّريانيَّةِ والكِلْدانيَّةِ أَوِ الأَشُوريَّةِ.
3. من النَّاحية العقائديَّة
فإنَّ هذا التُّراثَ يَنبعُ من كنائسَ مُختلفةٍ تَنتَمي إلى مذاهِبَ وعقائِدَ مُختلفَةٍ.
وهنا علينا أَنْ نُميِّزَ ما بينَ ثلاثِ عقائِدٍ أَوْ مذاهِبٍ :
أَوَّلاً: الْمَلَكِيُّونَ أَوِ الْمَلَكِيَّةُ، وهُمْ ما نُسمِّيهِ اليومَ بِالرُّومِ الأُرْثوذُوكْسِ أَوِ الرُّومِ الكَاثُولِيكِ، وهم يؤْمِنُونَ بأُقنُومٍ واحِدٍ وطبيعَتَيْنِ في المسيحِ ؛ وينتَمُونَ أَيضًا إلى ما نُسمِّيهِ الْمَلَكِيَّةَ جَمِيعَ الطَّوائِفِ الكاثُوليكِيَّةِ، هذه هذه الطَّوائِفُ الْمَلَكِيَّةُ، تَرجَعُ مذهَبِيًّا عقائِديًّا إلى مجمعِ خَلْقِيدُونْيَةَ وتعتَرِفُ بِهِ.
ثانيًا: اليَعاقِبَةُ، وهم يُؤمِنُونَ بِأُقنومٍ واحِدٍ، وبطبيعةٍ واحدةٍ في المسيحِ. واليعاقبةُ وهم ما نُسمِّيهِ السُّريانَ والأَقباطَ والأَرْمنَ.
ثَالثًا: النَّساطِرَةُ، وهم يقولونَ بِأُقنُومَيْنِ وطبيعَتَيْنِ، وهمُ الأَشُوريُّونَ أَصلاً، والْكِلدَانُ الْمتفرِّعُونَ منهم.
وينبغي أَنْ نُشيرَ إلى أَنَّ هذه التَّسمْيَاتِ مَلَكِيَّةٌ، يَعقوبيَّةٌ، نَسطُوريَّةٌ، مرفوضَةٌ اليومَ من جميعِ الطَّوائفِ ؛ إلاَّ أَنَّها هي الَّتي نَجِدُهَا في التُّراثِ العربيِّ المسيحيِّ القديمِ ؛ بل إنَّ المؤَلِّفِينَ أَنفُسُهُمْ، كانُوا يُسمُّونَ كنيسَتَهُمْ بهذِهِ الأَلْفاظِ. ويتَّضِحُ من خلالِ هذه التَّعابِيرِ، تَأْثِيرُ التَّعبيرِ الفلسفِيِّ على المفهومِ المسيحيِّ.
فالأُقنومُ يعني الشَّخصيَّةَ، والطبيعةُ مذهبٌ فلسفيٌّ، ومع تطوُّرِ مفهومِ الطَّبيعةِ وتطوُّرِ مفهومِ الأُقنومِ خلال القرنِ الخامسِ اختلَفَتِ الكنَائِسُ بعضُهَا عن بعضٍ وتَأَلَّفَتِ المذاهِبُ.
ومن الناحية كنائِسيًّا، فتمركزَتِ الكنيسةُ القُبطيَّةُ في مِصْرَ، وهي أَكبرُ الكنائِسِ الشَّرقيَّةِ عددًا وأَهميَّةً في العصورِ الوسطَى. وتمَركزَتِ الكنيسَةُ الأَشُوريَّةُ الكِلدانيَّةُ في العراقِ مع السُّريانِ والْمَلَكِيِّينَ.
أَمَّا في سُورِيَا فقدِ انتشَرَ السُّريانُ والْمَلَكِيَّةُ، وكان لُبنانُ مقرَّ الكنيسةِ المارونيَّةِ ؛ فنرى من هنا، أَنَّ الفِكرَ العربيَّ المسيحيَّ، فكرٌ مسكونيٌّ يشمُلُ جميعَ الطَّوائِفِ، جميعَ المذاهِبِ، الثَّقافاتِ الْمُختلِفَةِ.
هدفُ البحثِ
ما الهدفُ إذًا من هذا البحثِ ؟
إنَّ الهدفَ الأَساسيَّ من دراسةِ مثلَ هذا الموضوعِ، هدفٌ علميٌّ، دينيٌّ، أَعني التَّعريفَ بوجهٍ مجهولٍ من تُراثنا العربيِّ ومن حضارتِنَا العربيَّةِ.
ثمَّ إنِّي أَرمِي من وراءِ ذلك إلى هدفٍ أَبعدَ ؛ إلى توحيدِ الفِكرِ بينَ المسيحيِّينَ. فسنرَى فيما بعدُ، أَنَّ الطَّوائفَ المسيحيَّةَ اشتَرَكَتْ في بناءِ هذا الفكرِ اللاَّهوتيِّ العربيِّ، بلِ اقْتُبِسَتْ بعضُها منْ بعضِ النُّصوصِ والأَفكارِ والمفاهيمِ.
ثمَّ إنِّي أَرمي أَيضًا إلى هدفٍ أَبعدَ، وهو توحيدُ الفِكرِ بينَ المسيحيِّينَ والمسلمينَ بإظْهارِ العواملِ الحضاريَّةِ المشتركةِ بين كافَّةِ العربِ، مسيحيِّينَ كانُوا أَم مسلمينَ.
وكما قلتُ أُؤَكِّدُ لفظَ العربِ، آملاً أَنْ نَعتزَّ جميعًا مسلمينَ ومسيحيِّينَ بعروبَتِنَا كما نَعتزُّ بِمِصريَّتِنَا وبلُبنانِيَتِنَا وبقوميَّاتِنَا المختلفَةِ داخلَ الوطنِ العربيِّ.
وَأخيرًا، أَتمنَّى أَنْ نَأْخُذَ في دراسةِ تُراثِنَا العربيِّ بأَجمَعِهِ : ما هو مشتركٌ بينَ جميعِ العربِ من أَدَبٍ وتاريخٍ وفلسفةٍ وعلومٍ وهَلُمَّ جَرًّا ؛ وما هو خاصٌ بفئةٍ من الفئاتِ من إسلامياتٍ ومسيحيَّاتٍ ويهوديَّاتٍ.
وأَمَلي أَنَّ من خلالِ دراسةِ هذا التُّراثِ المشتركِ، نتوصَّلُ إلى تقارُبٍ بينَنَا جميعًا اعتمادًا على الحضارةِ والثَّقافةِ. ويا حبَّذا، لو تنافَسَ أَبناءُ الوطنِ العربيِّ على معرفةٍ مُتبَادَلةٍ، فيدرُسُ المسيحيُّ التُّراثَ المسيحيَّ والإسلاميَّ من قُرآنٍ وتفاسيرٍ وسيرةٍ وحديثٍ وإلى آخِرِهِ، ويدرسُ المسلمُ التُّراثَ الإسلاميَّ والمسيحيَّ من إنجيلٍ وتفاسيرٍ وشخصيَّةِ المسيحِ، كيف فُهِمَتْ، والعقائدُ كيف شُرِحَتْ وإلى آخرهِ.
إذْ إنِّي مِمَّنْ يؤْمِنُوا بأَنَّ الحوَارَ بينَ الأَديانِ في عالَمِنَا العربيِّ، لا بُدَّ لهُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ على الصَّعيدِ الاِجتماعيِّ والثَّقافِيِّ والحضاريِّ والرُّوحيِّ، قبل أَنْ يَتِمَّ على الصَّعيدِ الدِّينِيِّ العقائديِّ.
(1)–محاحرة ألقاها الأب سمير خليل، أستاذ الدراسات العربية المسيحية في المعهد البابوي الشرقي بروما، وذلك بكلية اللاهوت للشرق الادني، يوم الخميس 29/1/1981. وهذا المقال ما هو إلاّ الجزء الأول من المحاضرة، أما الجزء الثاني (عن مضمون هذا التراث)، فسينشر في عددٍ أخر، إن شاء الله .
[2] ولد الاب سمير خليل في القاهرة سنة 1938 وأتم دراسته الثانوية فيها. في عام 1955 دخل إلى الدير في فرنسا بعد أن حصل على شهادة الثانوية في القاهرة. واصل دراسته الجامعية في الفلسفة والإسلاميات إلى أن حصل على درجة الدكتوراه في الاسلاميات في عام 1965. تابع دراستة اللاهوتية في كل من فرنسا وهولندا بين العام 1965و العام 1969. ثم عاد إلى مصر لمزوالة تعليم اللاهوت في كلية العلوم الانسانية واللاهوتية التابعة للأقباط الكاثوليك الواقعة في المعادي جنوب القاهرة. وثم في بيروت أيضاً في جامعة القديس يوسف التابعة للأباء اليسوعيين. غادر إلى روما في العام 1975 للتدريس في المعهد الشرقيحتى سنة 1986 ومن بعدها عاد ليستقر في لبنان. في العام 1992 أسس مركز التراث العربي المسيحي للتوثيق والبحث والنشر. وبدأ يتنقل بين روما والقاهرة وطوكيو وباريس وواشنطن وغيرها من مدن وعواصم العالم لإلقاء المحاضرات. حقق الأب سمير العديد من المخطوطات في مادة التراث العربي المسيحي وكتب الكثير من المقالات والابحاث في هذا المجال .
(2) Gerg Graf , Geschihte der christlichen arabischen Literatur , coll ‘Studi e Testi ’ 118, 132,146 ,147 , 172, (Citta del vaticano, 1944 , 1974 , 1949 , 1951 , 1953) .