بتصريح خاص من نيافة المعاون البطريركي الانبا يوحنا قلته
1 – تعلمنا من الفلسفة والعلوم الطبيعية وقوانين الكون ، أن ل…كل معلول علة أو قل بأسلوب أيسر لكل حدث سببه ، فلا شيء يأتي من فراغ ، ولا حدث من غير مقدمات ، حتى في الظواهر الاجتماعية والدينية لا تقوم حركة تغيير أو نهضة أو محاولة الإصلاح إلا ثمرة لإرهاصات وتفاعلات لا تظهر على السطح لكنها تدفع إليها دفعاً .
“داعش” وتفسيرها دولة إسلامية في العراق والشام لا أقارنها بحركة النازية والهتلرية لأن الأسباب والدوافع مختلفة وإن كانت التصرفات والسلوك أمور متشابهة إلى حد كبير ، فسماتها العنف ، والقتل والحرق وإسقاط كل القيم الإنسانية ، والاختلاف بينها أي النازية انطلقت من فكرة تمايز جنس من البشر وهو الجنس الآري عن باقي شعوب الأرض ، أنها حركة عنصرية أقرب إلى الإلحاد وإسقاط الأديان ، أما داعش فهي حركة تنطلق من “فكرة دينية إسلامية” فكرة إعادة الخلافة الإسلامية والسيادة على الشعوب كافة والاستعلاء بالدين ، فلا دين عند الله إلا الإسلام ولا شريعة صالحة للدنيا إلا شريعة القرآن والسنة ، هذه الفكرة ليست جديدة على المجتمع الإسلامي ، ولم يخترعها أصحاب داعش ، بل هي فكرة متغلغلة في نسيج التراث العربي وأرى أن أقرب الحركات الإسلامية التي سبقت داعش ونادت بما تنادي به هي حركة القرامطة التي زلزلت المجتمع الإسلامي وأشعلت ثورة دموية صاخبة واعتدت على حرمة الكعبة والحجر الأسود والحجاج ، وعانت منها الشعوب الإسلامية والغربية معاناة شديدة مرة وطال أمدها أكثر من قرن من الزمان ، ودعاها المستشرق الفرنسي العالم “لويس ماسينيون” الشيوعية العربية كما كتب في الموسوعة الإسلامية .
داعش إذاً حركة وليدة تفاعلات تاريخية في الماضي وثمرة مخاض عسير في الحاضر تمر به البلدان الإسلامية وحلم من أحلام اليقظة عند شباب داعش .
* * * * *
2 – عقدة صمود المسيحية وثبات الكنائس على إيمانها من جهة يؤرق أهل داعش ويتوهمون أنهم قادرون على إنهاء الوجود المسيحي أولاً في البلدان الإسلامية وبخاصة البلدان العربية ، متناسين أن هذا الوطن هو وطن العرب المسيحيين قبل الإسلام ومع الإسلام وبعد الإسلام ، بل كان الحكام المسلمون في أحيان كثيرة حماة للكنائس والأديرة ، كما ظل المسلمون الذين وفدوا من الغرب أو من الشرق في علاقات إنسانية طبيعية مع من دخل الإسلام من أهل البلاد أو مع من تمسك بعقيدته وكانت أعظم شهادة نبيلة سامية حضارية بقاء المسيحيين العرب في ديارهم ، وأقوى دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تكن حضارة إبادة أو حرق برغم قسوة وجنون بعض الحكام .
ومن جهة أخرى ظلت عقدة شموخ النظام الكنسي عبر أكثر من ألفي سنة وصلابة إيمان الشعوب المسيحية أمام موجات التطور التاريخي الكاسح نتيجة ظهور دين جديد حتى أن أديباً مثل الأستاذ فريد أبو حديد صاحب كتاب فتح العرب لمصر ، يكتب في ذهول وإعجاب عن تمسك هؤلاء المسيحيين بدينهم واتصال إيمانهم عبر عصور القسوة والاضطهاد وذل الجزية والهزيمة ، عند داعش في رؤيتي هاجس يقلق أتباعها قلقاً شديد وهو نظام الكنائس الثابت منذ ألفي سنة ، فالباباوية الكاثوليكية عبرت موجات النازية ، والإلحاد ، والشيوعية ، والمادية دون أن يهتز نظامها بل وبهرت العالم بعظمة رؤسائها من الباباوات العظام الذين يتبادلون السلطة في يسر ، دون صراع ، فيأتي بابا ألماني حيناً ويترك المنصب بإرادته الحرة ، يأتي بعده بابا برازيلي ، وكان قبل بابا بولندي وإيطالي وهكذا ، هذه الخلافة المسيحية المتسلسلة في روحانية وفي تواضع وزهد وتجرد تثير إعجاب داعش ، وفي الوقت ذاته غيظهم وحقدهم . ويحلمون في الخلافة الإسلامية على هذا النمط الحضاري الراقي ، يعتقد أهل داعش أن المسيحيين من أهل الكفر ، وأنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ، وبدلاً أن يقرأوا تاريخ المسيحية ويتعمقوا في سيرة شهدائها وقديسيها وسرها الروحي ، وإيمانهم الصلب ، وبدلاً من التأمل في ملايين المرسلين إلى أنحاء العالم لا يحملون مدفعاً أو بندقية بل يحملون الحب والعلم والإنسانية بدلاً من التأمل والبحث عن سر المسيحية وسر ثبات كنائسها حتى آخر الأحداث حين رفض شهداء العراق كل إغراء ليسلموا من الموت نظير نطق الشهادة وهكذا فعل شهداء ليبيا ورآهم العالم كافة وهم راكعون قهراً ويقدمون على الشهادة يرفعون الصلاة دون أن تهتز لهم شعرة بعد أيام من المعاناة ومحاولة إغرائهم بالوعود إذ هم نطقوا الشهادة وأنكروا إيمانهم .
“داعش” في ظني أفرغت عقولها من طاقة التفكير وباتت وحوشاً كاسرة تقتل وتذبح وتغتصب وتحطم الآثار والتاريخ ، داعش خرجت عن “سمات الإنسانية” فهي لا ترى في المسيحي إلا كافراً ولا في المسلم المختلف معها إلا زنديقاً يستحق القتل والسحق .
“داعش” ليست حركة وليدة الصدفة بل هي ثمرة أمور نشير إلى بعض منها :
1 = ما زخر به العالم الإسلامي من ثقافة خلال قرنين من الزمان ، ثقافة النقل لا العقل ، ثقافة عصور الحرب والغزو ، واحتقار الإنسان الآخر ، إن الثقافة العربية والإسلامية في أشد الحاجة إلى التجديد ليست مهمة الحاكم وحده بل مهمة النخبة والعلماء والإعلام والأسرة والنادي ، على العالم العربي والإسلامي أن يدرك الحقيقة العظمى ، أن العالم لم يخضع لدين واحد في أي مرحلة من مراحل التاريخ ، ولم يسلم أي دين من الانقسام والبدع والهرطقات وتعدد المذاهب والملل ، متى يستيقظ العقل العربي ليدرك أن التنوع والتعددية سنة من سنن الكون وهل لسنن الخالق تبديل ؟
2 = الثروة الطائلة التي هبطت على العالم العربي أفقدته توازنه الإنساني وسيطرت عليه روح الاستيعلاء واحتقار الأمم ، وكان أولى به أن يشكر الله على هذه الثروة وأن يسعى لتنمية مجتمعاته ، فكيف يعقل الإنسان أن أغنى منطقة في العالم ثراء ومالاً وعقولاً هي من أفقر مناطق العالم وأكثرها بؤساً وشقاء وأمية وجهلاً ما قيمة المال إن لم ينفع العقل قبل الجسد ، ينبغي فلاحة الأرض قبل فلاحة الغيب .
3 = غياب رؤية عربية للتعامل مع الدول الكبرى حتى أصبحنا لعبة في أيديهم ، كما أصبح شباب متطرف طائش جهول يقود مصير الأمم فكثرت من حولنا المؤامرات ، وشغلنا بالمجتمع الاستهلاكي ، بهرتنا الرفاهية الغربية ، نسينا أن قوتنا في وحدتنا ، وأن خبرتنا مع الدول الكبرى خبرة مريرة حزينة ، منذ عصر النهضة في الغرب أي منذ القرن الخامس عشر الميلادي ، ينطلق الغرب إلى العلوم والمكتشفات والإبداع وصنع الأسلحة وامتلاك القوة واكتشاف مزيد من أسرار الكون والطبيعة والعالم العربي لايزال يبحث هل يدخل الحمام بالرجل اليمنى أو اليسرى ، هل الحجاب فريضة ؟ هل المسلم وحده مقبول عند الله ووحده يدخل الجنة ؟ تهمنا هذه القضايا أكثر مما تهمنا قضايا الذين يسكنون القبور ، والعاطلين عن العمل ، والذي ينجب خمسين طفلاً ، هذه كلها أمور أثمرت ما يسمى “بداعش”
4 = بأي سلاح يحارب العرب بعضهم البعض ، بسلاح من الغرب ، ألا ندرك هذا ، نشتم الغرب ونلجأ إليه ، نسب حضارته ونستمتع بها ، نكفره ونؤمن بعلومه وتجاربه ، نتهمه بالخلاعة والإباحية ونحن نشرع زواج المسيار ونبيح تجارة الدعارة كما في تركيا ، أي عالم هذا الذي يسمى بالعالم العربي ، وأي تشويه أصاب الثقافة الإسلامية هذا كله في نظري أمر ولد داعش .
د. الأنبا يوحنا قلته