القاهرة في 1/3/2014
” الصوم والإنتصارات الداخلية “
من صاحب الغبطة البطريرك إبراهيم اسحق
بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك ، إلى أخوتنا المطارنة والأساقفة، وإلى أبنائنا الأعزاء القمامصة والقسوس، الرهبان والراهبات والشمامسة، وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية في مصر و بلاد المهجر .
اتوجه اليكم بهذه الرسالة مع بداية مسيرة الصوم الأربعيني المقدس. هذه المسيرة تهيئنا للدخول والاشتراك في سر آلام وموت وقيامة الرب يسوع، وصولًا إلى العنصرة، للإنطلاق مع الرسل، بقوة الروح القدس، لنكون شهودًا ليسوع القائم، شهودًا للإيمان والرجاء والمحبة، نعمل معه لبناء عالم أفضل .
” ثم سار الروح بيسوع إلى البرية ليجربه إبليس، فصام أربعين يومًا وأربعين ليلة حتى جاع، فدنا منه المجرب وقال له : إن كنتَ ابن الله … “ متى 4: 1- 11
يخبرنا القديس متى، بأن يسوع، قبل أن ينطلق للرسالة، اقتاده الروح إلى البرية، فصام أربعين يومًا، وأربعين ليلة، ليستعد لمواجهة المجرب الذي دنا منه وجربه ثلاث تجارب:
التجربة الأولى في شهوة الجسد
أمام جوع يسوع، يعرض عليه المجرب أن يحوّل الحجارة إلى خبز ويأكل، بل ويمكنه أن يُشبع الآلاف من البشر الجائعين، من خلال إستخدام قدرته كإبن الله . فيرفض يسوع معلنًا أن الله وحده هو مصدر الحياة، وأن الشبع الحقيقي يكمن في الإصغاء لكلمة الله.
التجربة الثانية في الكبرياء وتعظم المعيشه
أمام تأهب يسوع للإنطلاق للرسالة، ورغبتة في أن يجذب الجميع نحو الأب، يعرض عليه المجرب طريقًا سهلًا ومختصرًا، ذلك بأن يلقي بنفسه من على جناح الهيكل، فينال استحسان وتصفيق الجموع وهم يرون الملائكة تحمله.
فيرفض يسوع الشعبية المزيفة التي لا تغذي سوى الأنا والكبرياء. بالفعل سيجذب يسوع الجميع ولكن وهو معلق فوق الصليب .
التجربة الثالثة، في شهوة العيون
يعرض المجرب على يسوع أن يسجد له، فيترك له كل ممالك العالم. فينتهره يسوع بشدة قائلًا: “إذهب يا شيطان، للرب إلهك تسجد وإيه وحده تعبد”. إن يسوع سينتزع العالم من بين أنياب الشرير، لكن بالقضاء عليه وعلى مملكته .
أولاً : دروس مستقاة من تجارب يسوع
1- الانتصارات الداخلية
يخبرنا الوحي الإلهي بأن الروح قاد يسوع الى البرية ليجربه إبليس. وما كان ليسوع لينطلق للرسالة، دون أن يواجه المجرب وينتصر عليه. هذا المجرب موجود في داخل كلٍّ منا، فالتجربة تنطلق من داخل الإنسان، ولذا فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل ولكي نصلح العالم علينا أن نبدأ بأنفسنا. فالإنتصار الداخلي يسبق الإنتصار الخارجي، والإنتصارات الشخصية تسبق الانتصارات العامة.
2- الثقة في بنوتنا لله
حاول المجرب أن يشكك يسوع في بنوته لله، ” إن كنتَ ابن الله “، واستمر في ذلك حتى اللحظة الأخيرة في حياته العلنية، حتى تحت الصليب. لكن هذه المحاولات تتحطم على صخرة علاقة يسوع العميقة والراسخة بأبيه السماوي. إلى أي مدى نعيش الثقة في بنوتنا لله وأبوة الله لنا؟ هل نترجم هذه الثقة في واقع حياتنا اليومية، ولا سيما وسط الشدائد والصعوبات؟
3- المادي في خدمة الروحي
حاول المجرب أن يجعل يسوع يستخدم ويسخر ما هو روحي في خدمة ما هو مادي، فرفض يسوع هذا تمامًا، رفض المنطق الذي يحارب منطق الله، فكل ما هو مادي يجب أن يكون في خدمة ما هو روحي. ونحن ألا نحاول مرات كثيرة استخدام ما هو روحي، بل واستخدام الله نفسه لخدمة أهدافنا وأغراضنا المادية؟
4- بنعمة الله ينتصر الإنسان على أية خطيئة
لا توجد خطيئة في الكون، خارج نطاق هذه التجارب الثلاثة: شهوة الجسد، شهوة العين، تعظم المعيشة. وهذا ما يؤكده القديس يوحنا في رسالته الأولى (16:2). فيسوع جُرب في كل شيء مثلنا، لكنه انتصر، ومنحنا قوة الانتصار على أية تجربة أو خطيئة يمكن أن تواجهنا. فلنتذكر دائماً أنه لا توجد خطيئة أو تجربة لا يمكننا الإنتصار عليها وأن القوة تكمن في النور أما الظلمة فلا قوة لها. فهل نتجاوب مع عمل نعمة الله فينا؟
ثانيًا : كيف نحقق الإنتصارات الداخلية ؟
وضعت لنا الكنيسة، في مستهل مسيرة الصوم، إنجيل أحد الرفاع، إنجيل الصلاة والصوم والصدقة (متى 6 : 1 – 18)، وليس من سبيل لتحقيق الإنتصارات الداخلية إلّا من خلال هذه الثلاثية التي تنظم وتعمق العلاقة مع الله (من خلال حياة الصلاة) ومع الذات (من خلال الصوم)، ومع القريب ( من خلال العطاء). وخلاصة القول فإن الصلاة والصوم والصدقة تمنح نعمة انتصار الحب على الأنانية، وهذا هو معنى الإنتصار الداخلي. فكيف يتحقق هذا الانتصار؟
1- بالصوم والشبع الحقيقي
الصوم في عمق معناه هو تعبير عن موقف داخلي عميق. وليس مجرد الانقطاع أو الامتناع عن بعض المأكولات. فالامتناع عن الأكل هو اعتراف بأن الله هو شبعنا الحقيقي كما أكد يسوع للمجرب بقوله ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله.
ومن ناحية أخرى فإن الصوم تأكيد على أن الإنسان الحقيقي هو من يملك قدرة السيطرة على ذاته فلا يستعبده أكل ولا متعة لحظية رخيصة.
2- بالصلاة والامتلاء من حضور الله
الصلاة الصادقة الحقيقية، لا تصدر إلّا من قلب وديع ومتواضع، يشعر أنه خاطيء، وبحاجة دائمة لرحمة الله وحنانه، يضع كل رجائه في نعمته. الصلاة تتطلب مسيرة إفراغ للذات، كلما أفرغنا ذواتنا من ذواتنا، إمتلأنا من حضور الله، فله أن يزداد ولي أنا أن أنقص.
كم نحن في حاجة أن نعود إلى حياة الصلاة، بتواضع وقلب منسحق، حتى ندخل في علاقة عميقة مع الله.
3- بالعطاء والتحرر من حب التملك
لا تكمن قيمة الإنسان فيما يملك، بل فيما يعطي ويقدمه للآخرين. وتصل قيمة العطاء إلى ذروتها عندما يعطي الإنسان ذاته على مثال يسوع. لقد وهب الله الكون والبشرية خيرات لا حد لها، لو وُزعت بالعدل، لعاش كل البشرفي يسر ورفاهية. لكن هناك من يكدسون، وحولهم من يموتون جوعًا! البعض فاضت خزائن ملابسهم، والكثيرون يرتعشون من البرد! يقول شارل دي فوكو : ” ما هو زائد عن الحاجة هو سرقة “، نعم هو سرقة من شخص محتاج .
4- بالسعي لبناء عالم أفضل
إن المسيحي مدعو ومُرسل من أجل بناء عالم أفضل، عالم يرتقي نحو الله، عالم تسوده المحبة، في مواجهة تيارات مادية عاتية تعمل ضد إرادة الله. فلا يمكن لإنسان منهزم من ذاته، وفي ذاته، أن يحقق أية إنتصارات، أو أن يساهم في بناء عالم أفضل، أو أن يكون مسيحيًا حقيقيًا إلا اذا انتصر أولًا على ذاته وشهواته وأنانيته. فالإنتصارات الداخلية تسبق الإنتصارات الخارجية، والإنتصارات الشخصية تسبق الإنتصارات العامة.
الأخوات والاخوة الأحباء في المسيح
- الصوم فرصة للدخول في علاقة عميقة مع المسيح، مسيرة للتحرر من كل ما يستعبدنا. لذا فلنعط الأولوية لله في حياتنا، فنحيا في علاقة حقيقية معه تغذيها كلمته التي نتأملها ونجعلها غذاءنا اليومي.
- الصوم مسيرة انفتاح على الآخر والشعور به والتضامن معه. فلنتذكر أن كل ما هو لنا هو عطية مجانية من الله، وعلينا أن نشارك فيه أخوتنا المحتاجين روحيًا وماديًا.
- الصوم زمن توبة، والتوبة تعني شعورًا باطنيًا عميقًا بأن في حياتي كثيرًا من الأشياء التي يجب أن تُقتلع وتهدم لكي تبنى من جديد على أساس سليم يتوافق وحياة الإنجيل. فلنتصالح بعضنا مع بعض، مع ذواتنا ومع الله لنبدأ بداية جديدة بقلب جديد وفكر جديد وعلاقات جديدة.
- لنصلي بعضنا من أجل بعض، متحدين مع قداسة البابا فرنسيس من أجل وطننا مصر وبلاد الشرق الأوسط والعالم أجمع، طالبين السلام والامان لكل الناس والهداية لكل الضالين.
هيا معًا نتجاوب مع نعمة الله في هذا الزمن المقدس، “فإنه يقول: في وقت القبول استجبتك، وفي يوم الخلاص اغثتك. فها هو الان وقت القبول الحسن، وها هو يوم الخلاص” (2كور 2:6).
مع خالص محبتي والبركة الرسولية
+ الأنبا إبراهيم اسحق
بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك