“مُحَدِّقينَ إِلى مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يسوعَ الَّذي، في سَبيلِ الفَرَحِ المَعْروضِ علَيه، تَحَمَّلَ الصَّليبَ مُستَخِفًّا بِالعار، ثُمَّ جَلَسَ عن يَمينِ عَرْشِ الله.” عب١٢: ٢
فى هذا الزمن الفصحى المقدس والذى يرتكز حوله الإيمان بل هو صلب الإيمان كله وجوهره نقف بقلوب متواضعة مملوءة بالرجاء لنتأمل فى هذا الحدث العظيم الذى غير التاريخ وحول مسار البشرية فأصبح لنا بالإيمان رجاء القيامة والحياة الأبدية.
فصح العهد القديم: يكاد أن يكون حدث الخروج من أرض مصر فى التاريخ المقدس هو الحدث الأساسى والمؤسس وشهادة ميلاد شعب يحيا بالإيمان، كان بداية الوعى الروحى والإيمانى لشعب يعبد الإله الحقيقى وهو فى أرض العبودية فانتبه إلى حقيقة رائعة وهى أن العبادة الحقيقية لا تستقيم مع حياة العبودية والمذلة “فقالَ الرَّبّ: ((إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه، فنزَلتُ لأَنقِذَه مِن أَيدي المِصرِيِّين وأُصعِدَه مِن هذه الأَرضِ إِلى أَرضٍ طَيِّبةٍ واسِعة، إِلى أَرضٍ تَدُر لَبَناً حَليباً وعَسَلاً” خر ٣: ٧-٨ فكانت دعوة موسى للخروج من أرض العبودية فى رحلة إلى أرض الميعاد حيث يعبد الله فى حرية وسلام دعوة مقبولة بالإيمان، وانطلق الشعب معه بعد صعوبات كثيرة من أرض مصر إلى أرض الميعاد عابرين الصحراء الجرداء ومخترقين البحر وليس لديهم سوى الإيمان بإله ابائهم وكان تدشين هذه الرحلة بواسطة الحمل الفصحى ودمة الذى يحمى آكلى الحمل فى البيوت التى مسحت قوائم ابوابها به، “بِالإِيمانِ أَقامَ الفِصْحَ ورَشَّ الدَّم، لئَلاَّ يَمَسَّ المُبيدُ أَبْكارَ بَني إِسرائيل. بِالإِيمانِ جازوا البَحْرَ الأَحمَرَ كأَنَّه بَرّ، في حِينِ أَنَّ المِصرِيِّينَ حاوَلوا العُبورَ فغَرِقوا.” عب١١: ٢٨-٢٩. لقد مروا بصعوبات وتحديات عديدة للإيمان جعلت الكثيرين يتمنون العودة للعبودية المصحوبة بالأمن والطعام فى مصر وآخرين يتخلون عن عبادة إله آبائهم الذى أخرجهم من أرض مصر و يلجأون لعبادة العجل الذهبى! وضلالات وخطايا كثيرة جعلت الرحلة تستغرق أربعين سنة بدلاً من بضعة أسابيع، لقد كان فصح العهد القديم هو بداية الإدراك الروحى أن الإنسان المؤمن مدعو لرحلة تحرر من العبودية ليعبد الله فى وطن آخر يستمتع فيه بكمال الحرية وهو لن ينطلق إلا إذا آمن بقوة الذبيحة الفصحية التى قُدمت عنه واحتمى بدمائها وسلك بالإيمان أثناء الرحلة وثبت فى التجارب وأطاع الوصايا، لكن خبرة المؤمنين خلال قرون العهد القديم كشفت ضعف الطبيعة البشرية المريع وأن كل الشريعة والأنبياء والذبائح غير كافية لإرضاء الله والحياة معه فى اتحاد كامل، يبدو أن كل هذا كان إعدادا وظلاً لشىئاً مستقبلياً يعده الله لن يتضح إلا حين يتم.
فصح المسيح: تجسد يسوع وولد من المرأة وعاش أبسط أشكال الحياة كعامل فقير ما بين اليهود فى إلتزام دينى عميق مختبراً كل الآلام وصعوبات الحياة البشرية ومشاركاً فيها، تعمد على يد يوحنا المعمد مثل سائر التائبين وانطلق إلى البرية بقوة الروح القدس ليحيا أربعين يوما فى إتحاد كامل مع الله بالصوم والصلاة والتجرد الكامل مصلحاً ضلال الشعب أربعين سنة فى البرية منتصرا على التجارب التى سقطوا فيها بل وسقط فيها كل إنسان كما تجاوزها أيضاً فى سائر حياته الأرضية.
“الشَّعبُ المُقيمُ في الظُّلْمَة أَبصَرَ نُوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه أَشرَقَ عليهمِ النُّور.” متى٤: ١٦ صاحبت النعمة كل خطوات يسوع فعلّم وعرّف بالآب الأزلى ومنح الغفران والشفاء والرجاء والفرح ونزع الخوف، منح الراحة للمتعبين ورد الخطاة وثبت التائبين وارتقى بكل الفضائل إلى الذروة كما رفع العقول والقلوب إلى الآب، رفع من شأن الحياة البشرية وقدس الزواج والعائلة وبارك الطفولة وأعاد الكرامة للبسطاء، حول العبيد ابناء وأعطى رجاء الحياة الأبدية والمشاركة فى الطبيعة الإلهية، …. لكن كل ذلك كان مرهوناً بقبوله للآلام…
فعندما جاءت الساعة تقدم يسوع بثبات ليقدم ذاته بالكامل ذبيحة بلا عيب لطاعة الآب، حملاً فصحياً حقيقيا وليس رمزياً كالذى إعتاد اليهود تقديمه كل عام منذ الخروج من أرض مصر، وكانت التجربة العظمى والأخيرة له على الأرض، فآدم الجديد لكى يتمم الفصح الحقيقى لابد أن يعبر بهذا الجسد البشرى المحكوم عليه بالموت منذ آدم القديم إلى الحياة الإلهية المجيدة، لابد لهذا الجسد البشرى الطاهر والقلب الذى ينبض بالحب الإلهى أن يظل على هذه المحبة والعطاء الكامل فلا تهتز مع كل هذه الإهانات والجلد الرهيب والأشواك الحادة بالرأس والخشبة الثقيلة والمسامير الملتهبة كجمر النار فى أطرافه والأوجاع التى لا ينطق بها على الصليب ولا الخيانة والإنكار من الأحباء أو الجحود والقسوة البشعة من المحيطين، لقد أغرقنا المخلص فى عصارة شرورنا كلها فلم تهتز محبته ورحمته ومات غافراً ملتمسا لنا العذر دون أن ينشغل بآلامه عن البائس المعلق جواره أو شؤون أمه والتلميذ الذى كان يحبه، مات مُسلماً روحه بين يدى الآب فجاز كجبار فى الموت وكانت ذبيحته كاملة ومقبولة من الآب فرفعت اللعنة عن الأرض وانشق الحجاب بين الأرض والسماء وسكب الله فيضان نعمه وغفرانه من أجله وأقامه فى اليوم الثالث وأجلسه عن يمينه، صار المسيح المتأنس جالسا فى قلب الثالوث القدوس معطياً كل الكرامة لبشريتنا الضعيفة والرجاء فى الحياة للأبد معه لكل من يؤمن به. “ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله، ولكِنَّهم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع، ذاكَ الَّذي جَعلَه اللهُ كَفَّارةً في دَمِه بِالإِيمان ليُظهِرَ بِرَّه، بإِغْضائِه عنِ الخَطايا الماضِيَةِ في حِلمِه تَعالى.” رو ٣: ٢٣-٢٥
عُلق المسيح على الصليب بين الأرض والسماء فهو أمام الآب الإنسان الكامل، آدم الجديد، الكاهن الأعظم والذبيحة الوحيدة المقبولة، بإستحقاقاته ينال كل من يؤمن به الغفران والحياة الأبدية، وهو للبشر صورة الآب الأزلى ورحمته التى لا يستطيع أحد أن يدركها إلا بالتأمل فى الصليب الذى به تم فصح المسيح.
فصحنا: إن مسيرتنا وعبورنا الذى نحياه اليوم نحن المؤمنين ما هو إلا سريان فى نهر فصح المسيح العظيم، فبالإيمان بالمسيح وعمله الفصحى ننال روحه القدوس ونصير أبناء لله وكل أنشطتنا البشرية والحياتية وقراراتنا تصبح ضمن فصحه الممتد والمستمر الذى يضم الآن جسده السرى فى كل مكان على الأرض، فالمسيح يولد فينا ويحيا من جديد ويتمم عمله ورسالته من خلالنا ويقدس كل أعمالنا فيما عدا الخطيئة ويضمها إلى فصحه بل ويتألم ويقوم أيضا فى أجسادنا ويعبر بنا عبر حياتنا البشرية إلى حيث هو قائم فى بيت الآب. “وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله. فإِذا كُنَّا أَبْناءَ الله فنَحنُ وَرَثة: وَرَثَةُ اللهِ وشُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا.” رو ٨: ١٦-١٧
فلنجدد إيماننا عالمين أنه بفصح المسيح صار كل جهد أو تضحية أو ألم فى عملنا اليومى أو نضالنا لخير الإنسان أو لأجل أسرنا أو إخوتنا أو الكنيسة أو بلادنا وما أكثره فى هذه الأيام فى السر أو العلن يتلقاه المسيح القائم من بين الأموات بيديه الإلهيتين ليقدسه ويحوله إلى جزء من عمله الفصحى الشامل لخلاص العالم كما يحول الخبز صنع أيدينا إلى جسده الطاهر فى سر الإفخارستيا، لذا فلنحسن الإشتراك فى عمله الإلهى قابلين لسر الألم والموت والقيامة فى حياتنا التى صارت بالإيمان ملكاً للقائم من بين الأموات. “ومِن أَجْلِهِم جَميعًا ماتَ، كَيلا يَحْيا الأَحياءُ مِن بَعدُ لأَنْفُسِهِم، بل لِلَّذي ماتَ وقامَ مِن أَجْلِهِ.” ٢كور٥: ١٥
المسيح قام …. بالحقيقة قام
اللجنة الأسقفية للعلمانيين و الأنشطة الرسولية