بمناسبة عيد الميلاد المجيد
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
بمناسبة حلول طفل السماء بيننا، يسرّني أن أرفع إلى مقامكم السامي أجمل التهاني وأقدسها في روحانيتها، طالباً لكم عمراً مديداً بنعمة ربّ السماء والأرض، ذاك الذي أشرق علينا من علوّ السماء ليزورنا نحن الجالسين في ظلال الموت وتعب الحياة. ويسرني أن أكتب إليكم أسطراً ملؤها الحقيقة والشهادة بنعمة السماء وحقيقة الحياة شاكراً تفانيكم وعطائكم من أجل شعبكم، مقدِّماً لكم الاحترام الكبير لمقامكم السامي وهذه إحدى خصالي، فأنتم إخوتي وما أنا بينكم إلا مثل الذي يخدم (لوقا 27:22). كما يسرني أن أهنئكم وأبناء وطني بتحرير أراضينا من داعش الإرهاب، ولتكن يمين الرب بركة على شعبنا ووطننا، وليحلّ السلام بعودة أهلنا إلى ديارهم شاكراً رب السماء على منحه وخيراته، طالباً إليه أن يساعدنا في احتمال آلامنا وهموم حياتنا، واسمحوا لي أن أقول؛
خوف ورعب
نقول الحقيقة وإنْ كانت مؤلمة، فاليوم نحن أمام أخطار تداهمنا من الخارج كما من الداخل، من القريبين ومن البعيدين، ولا يزال مخطط طردنا وإفراغ البلد منا يسير بأدب وتوازن وبحسب المرسوم والمطلوب، نعم إنه المخطط، إذ لا زال الخوف والرعب مسلَّطين على مسيرة حياتنا كما هو السيف على رقابنا شئنا أم أبينا، وإنْ كانت تُخمد حقيقته بين فترة وأخرى ولكن لا زلنا وسنبقى كفّاراً وأهل ذمّة شئنا أم أبينا. كما إننا نعيش أياماً قاسية وأوقات عصيبة فرضتها علينا تحديات لم تكن مسبوقة من داعش الإرهابي ومن ضياع القانون وفساد الأشخاص بألوانهم وأطيافهم وما ذلك إلا مذلّة زمان عبر زمان، ولا زالت الأغلبية والطائفية والعشائرية كما القومية تزرع بذور التعصب والمصلحة للنيل من وجودنا وحقيقة وطنيتنا “كي نُحسَب مثل غنم للذبح” (رو36:8). ومن المؤسف أن أقول، إنه زمن سيء للغاية حيث بدأنا نضيّع طريق مسيرتنا، فالضمائر قد بيعت من كبار الزمن كما من صغار الدنيا، والكراهية كما الأنانية قد أثمرتا مصلحة وطائفية، وجعلتا من هذه الضمائر آلهة مدنَّسة تجالس الكبار من أجل المناصب والكراسي، وأصبحت الضمائر البريئة مجرمة ومحكوماً عليها بالإعدام أو بالطرد أو قضاء حياتهم في السجون، بينما الضمائر الفاسدة تُنشد الحقيقة المزيفة فنسيت أن الحقيقة لا تُشترى ولا تُباع وإنما هي موهبة من رب السماء.
مرارة العيش
نعم، ربما يقول الكثيرون إنني متشاءم ولا أملك ذرة من التفاؤل، وكل واحد حُرّ فيما يقول أو يأكل أو يشرب أو يلبس، تلك حرية الإنسان، وعليّ احترامها، ولكن أقولها ليس لكي أوصَف بالمتشائم بل لكي أقول الحقيقة مجرَّدة كما حصلت وكما حلّت فينا. فما حلَّ بنا وبعراقنا وبشعبنا مؤلم للغاية، فالبؤس قد ملك على العديد من عوائلنا فأصبح الكثيرون يستعطون في الطرق والأزقة وساحات المدينة، وشوارع الحارة، في المناسبات كما في الأعياد، صباحاً وظهراً وعصراً ومساءً وحتى ليلاً من أجل جمع ثمن القوت الذي يقيته ويقيت عائلته، إنها مرارة العيش بعدد من الآهات والحسرات، ولا نعلم كيف ستكون خاتمتنا، وحتى ما ننتظر بعدَ أن أدركنا البؤسُ والفقرُ والموتُ ونحن أحياء!!!.
كرامة شعبكم
أحبائي؛ أرجو أن تدركوا أن مصيركم واحد، فهيئوا قلوبكم ليس بروح التعصب والأنانية المصلحية، ولا تعملوا على ربح مساحات في الاختلاف والخلاف، في العزلة والقومية البائسة، من أجل قطعة في قرى وأرض وسهل، وكل واحد منكم ما يطيب له، فيكون الجسد فريسة لكم قبل أن تكونوا حرّاساً له ولأصحابه ولشعبكم، فأنتم أؤتمنتم على بقاء شعبنا وليس على تقسيمه غنيمة بينكم وبين أحزابكم وقومياتكم وطائفياتكم وحتى عشائركم والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ولا أعلم إنْ كنا قد تعلّمنا الدرس المفيد أم لا. ففي فرقتكم هذه ذقنا المرارة، وجاءنا الدمار ليقودنا إلى الموت أو الضياع أو إلى الرحيل لأن انقساماتكم أكبر وأعمق من حبكم لشعبكم والتضحية من أجله، وأسأل مَن منكم ينام جائعاً أو أي واحد منكم يسأل عن حاجة البؤساء الذين جعلتموهم تجارة لمآربكم تربحونها ربما بفضّتكم أو بقليل منها وبذلك تضيع كرامة شعبكم، كي يبقوا دوماً مستعطين، فكرامة الحياة أثمن من بياناتكم ومؤتمراتكم إذا كنتم لا تُنصفون محبتكم وكرامة شعبكم.
صوت الحقيقة
نعم، يقول مار بولس في رسالته “كل سلطة هي من الله” (روم1:13-7) لأن ليس سلطة إلا من الله فليست للتسلط بل للخدمة على مثال ربنا يسوع (يو1:13-16)، لذلك أدعوكم إلى إفراغ عقيدتكم الطائفية والعشائرية والقومية من محتوياتها ومن تعصبها، وتُميتوا أنانية أحزابكم، فخراف شعبكم قد إلتهمتها الذئاب لأنها رأتكم نائمين ومأجورين ولا يهمكم أمر الخراف (يو1:10) فهي لا تتبعكم لأنها لا تعرف صوتكم (يو4:10) بل تسمع أصواتاً. فآذان الخِراف لا يمكن أن تسمع أكثر من صوت واحد، فكيف وأنتم تعلنون أصواتاً عشرة أو أكثر، وكيف ستستطيع الخراف أن تفهم وتدرك أين هو صوت الحقيقة من هذه الأصوات، لذلك أقول، مسؤوليتكم هي أمام الله مسؤولية واحدة وليس مسؤولية أحزابٍ عديدة وحركات مختلفة وهيئات متشعبة، واعلموا أيضاً أن قضيتكم واحدة ما هي إلا وجود شعبكم وحقيقة قراكم ومدنكم بل أكثر من ذلك وطنكم… إنها رسالتكم السامية، فاحملوها في قلوبكم قبل أن تكون على أفواهكم، فإنني من أجلكم أحمل هموم الحياة والضياع ومسيرة مؤلمة لمستقبل مجهول، وكم أتمنى أن أتفاءل ولكن روح التشاؤم يرفرف فوق مسيرتي وما ذلك إلا شهادة لحقيقة نعيشها معكم إنْ كنتم لا تُخلصون لشعبكم وتنقذونه ليس بكلمة أفواهكم ولا بسبب مصالحكم أو بيد منفردة وحيدة بل بشجاعتكم وإيمانكم بمسيحكم الحي وبكلمتكم الواحدة من أجل هدف واحد، فمستقبل شعبكم كما مستقبلكم رهنٌ بوحدتكم وبقراركم الواحد الموحَّد، وفي تراصّ صفوفكم، فلا تجعلوا أنفسكم تجارة أو سلعة يبيعونكم فيها المصلحيون كعملاء ويشترون ضمائركم ويقتلون كلمتكم وينزعون وجوهكم ويجنون ثمار إيمانكم وربما السبب سببكم. واعلموا جيداً أن السبيل إلى وحدة الكلمة هو تضامنكم قلبياً وليس صورياً كي تعودوا لتحمّل مسؤولياتكم في إعادة البناء والعمران، وما ذلك إلا مهمتكم التاريخية في إثبات شعبكم بركائزه الوطنية والمسيحية قبل العشائرية والطائفية والقومية ليس إلا!.
مرة اخرى
قبل أيام خاطبكم داعش الإرهابي مرة أخرى بقوله البائس “تهديد جديد من داعش للمسيحيين، يتوعد فيه بتحويل احتفالات العيد إلى بكاء وعويل”، أيجوز أن نبقى ضحية للقاصي والداني، للإرهاب والإجرام، للقتل والتكفير، للذمة ودفع الجزية، لحرف النون والنصراني… إنها ثقافة الموت كما هي ثقافة العبودية. فهل لا يدعوكم إيمانكم عبر كلام المسيح الحي أن تحملوا رسالة كنيستكم المقدسة وتصدّوا هكذا تصريحات بائسة وتقفوا موقف التضامن في شجاعة الإيمان من الأصول الداعشية والأفكار الإرهابية والتفسيرات المتطرفة والخطب القاتلة والمميتة فما ذلك إلا من الشيطان، بل من الشيطان الأسود ــ وما أكثر الشياطين هذا الزمان ــ فهو يريد حرق مخطوطات ماضيكم وأوراق حاضركم وأصالة عقيدتكم. فنحن، أقولها، أمام حروب دينية وعقائدية، وكل يدافع عن إلهه بحلال الذي يشاؤه، لأنهم أرادونا أن نكون بائسين ويائسين وخائفين، بل هكذا وجدوا أنفسهم ووجدونا حملاناً تحت الطلب ومتى يشاؤون، ومن المؤسف من الهاربين. لذا أرجو أن تعلموا أنّ كنائسكم ومعابدكم وتربتكم تناديكم، فاصغوا إلى آهات مؤمنيكم وحسرات أمهاتنا وأمهاتكم وبكاء أطفالكم وأطفالنا، وكونوا أنتم قادة صالحين ورعاة متفانين، يعلنون المسيح وإنجيله، وقِفُوا في وجه الفاسدين وإنْ كانوا من أقربائكم أو من أحبّتكم أو سبباً لمصالحكم، وأقولها إعلموا أن وجودكم على المحكّ إذا ما خنتم الأمانة التي أُعطيت لكم من ربكم كما من شعبكم ليس إلا!!!.
تجارب وقنابل
أمام ما يحصل أقف اليوم متعجباً وأتمعّن جيداً بما يدور في محيط وطني من ربح كبار زمننا وهم يتصارعون بينهم وأبناء شعبي ضحية لهم. وأقول مَن سيقودنا إلى الخلاص وإلى إدراك الحقيقة؟، فالعذاب قد ملك على مسيرة أيامنا ولم نربح شيئاً من حروب دارت في ديارنا، فمَن سيعيننا في حمل صليبنا، هل نرسل في طلب سمعان قيرواني آخر؟، والموت قد ملك على نفوسنا كما المرض الخبيث حصد نصف رجالنا ونسائنا بسبب هزيمتنا، كما لا زلنا نعاني من الحروب التي شُنّت علينا، فأصبحنا تجارب لقنابلهم وساحة لمعاركهم، وما ذلك إلا شهادة أمينة لحقيقتنا. لذا فالزمن يدعونا أن لا نلهوا بضياع وقتنا وانشغالنا بأمور كبريائنا وحماية فاسدينا وشهداء زور يشهدون على خيانتهم لوصية الرب التي أوصانا بها قبل أن يحملها إلينا موسى نبي العبرانيين (خر21:19)… فهل شهادتنا هي أصالة إيماننا؟.
الخاتمة
نعم، أقول خاتماً، كونوا مخلصين بضمائركم، وحكماء في تسيير أموركم، وأوفياء في عيش وحدتكم. وقولوا كلمتكم الواحدة والموحَّدة، فالتاريخ لا يرحم الذين يعبدون بشراً أو يبيعون ويشترون مصلحة لأن الغاية هي أن نكون لساكن السماء وليس لعبيد الدنيا والجاه. فأمانتكم لشعبكم هي إخلاصكم لمسيرتكم الإيمانية والمسيحية، فربّ السماء كان وفياً وأميناً لنا إذ أرسل ابنه من أجلنا ليخلّصنا… إنها حقيقة الحياة… إنه الكلمة التي تجسدت بيننا ليعلّمنا أنْ “قولوا الحق والحق يحرركم” (يو32:8). فليحفظكم الرب القدير، متمنياً لكم سنة مباركة وكل عام وأنتم بخير وشعبنا قد عاد إلى أرضه من أجل وطنه وإيمانه ودمتم… نعم وآمين.