اعدها باهر رضا دويدة – مراسل الموقع من الاقصر
بقلم الاستاذ الفى شند رئيس تحرير مجلة الصلاح الطائفية بمناسبة الإحتفال باليوبيل الماسي لجمعية الصعيد للتربية والتنمية ، سيرة حياة المؤسس الاب هنرى عيروط بعنوان ” الكاهن الثائر ضد الفقر والظلم ”
ولد هنري حبيب عيروط بالقاهرة في 20 مايو 1907 في عائلة نزحت من سوريا إلي مصر عام 1818 . كان والده حبيب عيروط مهندساً معمارياً ذائع الصيت والشهرة . فاختاره البارون ” إمبان ” ضمن فريق المهندسين البلجيكيين لبناء مصر الجديدة . كان والده يُريد له أن يصبح مهندساً معمارياً . فاهتم بتعليمه أفضل تعليم متاح في عصره ، فالتحق بمدرسة العائلة المقدسة للآباء اليسوعيين الجزويت . لكنه أراد أن يكرس حياته لخدمة الفقراء ، وتعليم أبناء الفلاحين . ففي ذات يوم خلال العطلة الصيفية اصطحبه والده معه إلي أحد المواقع التي يشرف عليها فرأي رئيس العمال يضرب عاملاً يعمل ببطء تحت لهيب الشمس الحارقة ، ولمس بؤس العمال الوافدين من الصعيد للعمل في مجال البناء والتشييد . ومنذ ذلك الحين لفت نظره معاناة الفلاحين وبؤس حياتهم . زار الصعيد في رحلة اعتادت المدارس تنظيمها للطلاب قبل التخرج وعلي أثرها قرر العمل علي تحسين أحوال أهالي الصعيد ورفع شأن الطبقات الفقيرة . وهو في الثانية عشرة من عمره قرر أن يصير راهبا يسوعياً إلا أن رغبته قوبلت بالرفض من والديه . ولما ضاقت به السبل في إقناع والديه وإثنائهما عن رفضهما اضطر وهو في التاسعة عشر من عمره إلي الهروب ليلاً والإختباء عند الآباء اليسوعيون وبمعاونتهم تمكن من استخراج جواز سفر وسافر إلي فرنسا سراً علي متن سفينة بضائع متخفياً في ثوب كاهن حتي لا يقع في أيدي البوليس الذي كان يبحث عنه ليسلمه لوالده . وفي مدينة مولان بدأ تعلم مباديء الرهبنة ثم انتقل إلي مدينة ليون لاستكمال دراسته . بعد مرور عامين من إقامته بفرنسا عقب تقديم النذور الرهبانية الأولي كتب إلي والديه في 3 يونيو 1928 يقول : ” الوالدان العزيزان ….لقد حدث ما حدث . ومنذ هذا اليوم أصبحت فعلاً وإلي الأبد عضواً في الرهبنة اليسوعية ، لقد تحقق ما كنت أصبو إليه منذ سبع سنوات ….وتخطيت من أجله الصعاب .” استغرقت دراسته الدينية والعلمية 15 عاماً ، توّجت بالحصول علي الدكتوراه في علم الاجتماع عن الفلاحين من جامعة ليون الفرنسية ثم نشرها في باريس عام 1938 وقام بكتابة مقدمتها البروفيسور ” أندريه أليكس ” رئيس جامعة ليون ، وصدرت منها طبعتان باللغة الفرنسية وطبعتان باللغة الإنجليزية وطبعة بالروسية والعبرية وطبعتان بالعربية قام بترجمة إحداهما الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بجامعة الأزهر عام 1942 . ويعتبر بحثه المذكور أول دراسة علمية عن الفلاح والزراعة المصرية من خلال رصد واقعي لأحوال الفلاحين المصريين ، مستخدماً مسائل البحث المتنوعة : الاتصال المباشر ، الحوارات ، المستندات والمعلومات الموثقة ومرجعاً علمياً كلاسيكياً في الدراسات الاجتماعية حول الفلاح المصري .
عاد الأب عيروط عام 1940 إلي مصر يملؤه حماس الشباب لخدمة الكنيسة والوطن والعمل علي تحرير الفلاح من الفقر والجهل والمرض من خلال تطبيق دراسته العلمية .
وبعد قيام الحرب العالمية وتوقف التمويل الخارجي لأجل تعليم التلاميذ الفقراء فى المدارس التي أسسها الآباء الفرنسيسكان والآباء اليسوعيين، دعت الحاجة إلى تأسيس جمعية أهلية لإدارة أمور تلك المدارس والاعتماد على التبرعات المحلية لأهل الخير ووجوب معاونة أهل المدينة لأهل القرية.
ولم يجد الأنبا مرقس خزام بطريرك الأقباط الكاثوليك وقتئذ أفضل من صديقه الأب هنري عيروط اليسوعي للقيام بهذه المهمة ، وذلك لاعتبارات عديدة .
أولها، انشغال الأب عيروط بقضايا الفلاح المصري منذ بدء دعوته الرهبانية، فمنذ اليوم الأول بدأ مسيرته الرهبانية ضد رغبة والده المهندس المعماري،قرّر العمل على رفع شأن الطّبقات الفقيرة في مصر، لا سيّما في منطقة الصّعيد، واعتبر رسالته هي تحرير الفلاحين من البؤس والجهل .
ورأى بفطنة الراهب اليسوعي وأسلوبه أن الوعظ من فوق المنابر لن يغير واقع الفلاحين ومجد الله الأعظم وهو الشعار الذي ترفعه الرهبنة اليسوعية في كل ما تقوم به؛ بل رأى أن يفعل شيئًا من أجل طبقة تؤلّف ثلاثة أرباع المصريين.
وبفطنة الراهب اليسوعي والنهج الذي تتبعه الرهبنة اليسوعية، رأى أن النجاح يقتضي الدراسة والفحص والتعمق في حياة الفلاحين. ألم يجلس معلمه أغناطيوس دي ليولا قبل بدء رسالته وهو في سن الأربعين على مقعد الدرس في “السوربون” لأجل العمل الرسولي. فأمعن خلال تنشئته الكهنوتية دراسته في الخارج في تاريخ الفلاح والتعمق في قضاياه الخاصة، ولقد ذكر الأب عيروط في مقدّمة بحثه الأكاديمي الذي اقتبس منه كتاب “الفلاح عاداته وتقاليده” عن الصعوبات التي واجهته فقال: “ونودّ أن نقول للقارئ، إنّنا اعتمدنا في هذا البحث على ما لاحظناه وحققناه بأنفسنا. وقد استغرق منّا البحث والاستقصاء سنين عديدة، كانت فيها المُشاهدة والتحرّي عدتنا، فنحن من مصر، ونعيش بين أهلها عيش المواطنين. وقد امتدت مشاهداتنا وملاحظتنا طوال السنين في مختلف أنحاء الريف؛ حيث لم ننقطع عن المشافهة والمحادثة والبحث والاستقصاء والطواف في أنحاء البلاد ومخالطة الطبقات حبًا في الكشف والاستطلاع حتّى جاء بحثنا نتيجة الملاحظة والتأمّل الطويلين… لقد جاء هذا البحث وليد المشاهدة والتحقيق”. وفي كتاب “الفلاحون” الذي يعد مرجعاً أساسياًّ في الدراسات عن الفلاح المصري كتب فصلاً عن حالة الفلاح بعنوان “بؤس الفلاح” قال فيه:”يتمثّل بؤس الفلاح في صورتين، الأولى بؤسه المادّيّ وحرمانه من مقوّمات حياته الجسميّة، فهو فقيرٌ لا يكاد يجد القوت والملبس والمسكن. أمّا الصورة الأخرى لبؤسه، فهي معنويّة تتمثل في حرمانه من التعليم، وجهله وذلته وهوانه على نفسه وعلى غيره، حتّى أصبح دون المستوى الإنسانيّ من هذه الناحية….. أيُّ ظلمٍ أفدح، وأيُّ وضعٍ أنكى من وضع الفلاح؟ لقد حُرم من نعمة التثقيف والترقية، والتربية والتعليم، ثم عوقب من ولاة أموره الّذين تجب عليهم المسارعة إلى انتشاله مما هو فيه… تلك المآسي من فقر وجوع وجهل ومرض، من أسبابها التفكّك والتمزّق وانقطاع الصلة بين البلاد، فبين الوجه البحريّ والقبليّ قطيعةٌ وتباعد، ومثل ذلك بين العاصمة وسائر البلاد، الأمر إذن متعلّق بإذكاء الشعور الإنسانيّ في نفس هذا الجمهور الشهيد ورفع الروح المعنويّة لأفراده وجماعاته، وهذا واجب المثقفين من أبنائه، هذه الرسالة السامية، هي رسالة المعلمين ورجال الدين هم قبل غيرهم وهم الذين تدعوهم طبيعة عملهم إلى الاندماج والاختلاط بطبقات الأهالي وكل من يسهّل هذه الرسالة ويساعد على أدائها، يؤدي للوطن أنبل وأقدس واجب إنسانيّ”.
ولم يتوقف اهتمامه على القرية المصرية فقط، بل اهتم بوضع الفقراء في وسط وجنوب أفريقيا فسافر إلى هذه البلاد للخدمة هناك لتطوير القري الأفريقية، ونشر خبرته في هذا المجال في كتاب صدر باللغة الفرنسية بعنوان (Liaisons Africaines) نشرته أسرته في كتاب صدر بعد وفاته عام 1975 يتضمن ملخصاً وتقريراً عن زياراته لهذه البلاد.
ثانيها، توفر الخبرة التربوية في التعليم عند الأب عيروط بصفته تلميذ ومربى يسوعي وهي خبرة ثمينة فى مجال التربية والتعليم تتعدى الخمسة قرون. ولوقوف القارئ على مضمون تلك التربية يمكننا القول إن التعليم عند اليسوعيين لا يقتصر على مُجرد “تعلم محتوى الكتاب” بل يتجاوز ذلك ليشمل تكوين الشخص وكل الشخص بكافة جوانبه: العقل، القلب، البدن الروح. وهكذا، ينمو الطُلاب ويصبحون أفراداً ناضجين وقادرين على المُساهمة بما لديهم من مواهب ومهارات لخير بلادهم وأخواتهم في الإنسانية، إذ يصبحون “رجالاً ونساء من أجل الآخرين”.
وهي تتميز بخمس “سمات”:
1- السعي إلى الجودة: تحرص المؤسسات اليسوعية على الجودة، فتحقيق الامتياز من الأمور الأساسية ومن ثَمَ يُوضع مقياس عالي المستوى لأداء كل من الطُلاب والمُدرسين، مما يُساعدهم أن يحرصوا أشد الحرص على الوصول إلى الامتياز في الناحية الأكاديمية.
2- دراسة العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية: تُولي المؤسسات اليسوعية اهتماماً كبيراً لدراسة كل من العلوم الإنسانية والطبيعية ويتم توجيه الطُلاب بحيث يُصبحون قادرين علي كل من التفكير والتعبير الشفهي والكتابي بحيث يعرفون شيئاً عن التاريخ، والأدب، والفن من ناحية ويتمتعون بفهم عميق للرياضيات والعلوم من ناحية أخرى. ويهدف اليسوعيون بذلك إلي إعداد أفراد قادرين على العيش بل على الدخول إلى مجال العمل أيضاً.
3-الأخلاق والقيم: تؤكد التربية اليسوعية المسائل الخُلُقية والقيمية بحيث تُشكل مصدر قوة لها وتُمكنها من تقديم نموذج خير للطلاب ولذلك، تُعتبر قيم الأسرة، والنزاهة الشخصية، والأخلاقيات العملية من الأمور الجوهرية.
4- الخبرة الدينية: للخبرات الدينية أهمية خاصة وجوهرية في التربية اليسوعية. وهي تندمج في العملية التعليمية بحيث تُتاح للطالب الفرصة أن ينمو في كل من المعرفة والإيمان، وفي كل من التعلم والعقيدة .
5-تربية مُرتكزة على الشخص: وأخيراً، تتمثل الخاصية الخامسة للتربية اليسوعية أنها ترتكز على الشخص فمهما كان حجم المؤسسة يبقي الفرد علي قدر كبير من الأهمية وهو يتمتع بأكبر قدر مُمكن من الاهتمام الشخصي بالفرد هو أنّ كل شخص له فرادته وخصوصيته ومن حقه أن يحظى بالاهتمام الكافي.
ومن ثَمَ فقد ظل هدف التربية اليسوعية من القرن السادس عشر ثابتاً لم يتغير، ألا وهو تكوين أفراد يُحدثون تغييراً إيجابياً في العالم .
بهذا النهج التربوي سارت مدارس جمعية الصعيد المتواضعة في مبانيها وإمكانياتها ومدرسيها وكانت بمثابة القلب النابض كما وصفها الأب هنري عيروط الذي يضخ الدماء لحياة القرية. وهو ما تميزت به مدارس جمعية الصعيد حتى اليوم . ويدفع الأغنياء والفقراء على التكالب عليها رغم تحولها للأسف إلى مدارس خاصة بمصروفات بدءاً من العام 2002 .
ثالثها: توفر سمات شخصية فريدة في ذلك القائد قلما تتجمع في شخص واحد، تتمثل فى الانفتاح على المجتمع والآخرين وهو أيضا الراهب المتعبد المنعزل الدير. وكان الأب هنري منفتحاً علي الجميع من كل الأديان والطوائف فلا غرابة أن تجد يهودياً كقطان باشا يشغل مكانة عضو في مجلس إدارة الجمعية بل أنه ولإيمانه الشديد بدور المرأة في القيادة وبعدما ترك رئاسة الجمعية بناء على قرار من رؤسائه في الرهبنة العام 1963 – بغرض التجديد الروحي الرهباني وهو نهج متبع فى الحياة الرهبانية – تولت المسئولية السيدة سميرة مجلي وجاني عجوري وكانتا ذراعه الفاعل في العمل التنموي وجاء بعدهن السيدة سيمون تاجر وفيفيان عزيز وماجدة جبرائيل التي أطلق اسمها على مدرسة الجمعية بقرية النخيلة .
أسس الأب عيروط في عام 1957 اللجنة المسيحية المشتركة الريفية لدراسة أوضاع الريف ومشكلاته وكانت اللجنة تنظم مؤتمراً سنوياً في صعيد مصر ويعود إليه الفضل في تأسيس جمعية كاريتاس مصر بعدما فوضه الفاتيكان أثناء حرب يونيو 1967 توصيل الإغاثة للمهجرين من مدن القناة وأسس مع الراحل وليم قسيس الحركة الكشفية المصرية ” وادي النيل ” لتربية روح الالتزام والاعتماد علي النفس والارتباط بمصر وعدم الهجرة والعمل علي خدمتها وتنميتها . وأسس مركز لمساعدة العاطلين عن العمل وقام مع السيدة ماري كحيل وآخرون بتأسيس جماعة ” الإخاء الديني ” للتقارب والحوار الإسلامي المسيحي وكان عضواً في عدد من الهيئات الاجتماعية والعلمية كالجمعية المصرية للدراسات الاجتماعية ولجنة السياحة الدينية بوزارة السياحة وعضواً في المجمع العلمي المصري . بناء علي طلب الأب عيروط …. …… في أعقاب حرب يونيو 67 كلفته الحكومة المصرية بالاتصال بالفاتيكان من أجل التدخل لإنقاذ الجنود المصريين المفقودين في سيناء وسافر علي رأي وفد ضم عدداً من الشخصيات المصرية الكاثوليكية لكن لم يُكتب النجاح بسبب تعنت الجانب الإسرائيلي . وفي أواخر مارس 1969 سافر للولايات المتحدة الأمريكية ليحاضر في معهد دراسات الشرق الأوسط والأدنى بجامعة كولومبيا وتوفي أثناء وجوده هناك إثر نوبة قلبية وهو يتأهب لصلاة القداس الإلهي وبعد وفاته منحته الدولة وسام الجمهورية من الطبقة الأولي في يوليو 1969 تقديراً لجهوده الوطنية …..
يتضح من سيرة الأب عيروط أن دور الكاهن الروحي لا ينفصل عن دوره الاجتماعي وإذا كان محظوراً علي الكاهن وفقاً للقانون الكنسي رقم 285 و 287 ممارسة العمل السياسي أو التجاري وألا يكون عضواً في حكومة أو برلمان أو رئيساً لنقابة وغيرها ..إلا انه مطلوب منه الدفاع عن كرامة الإنسان وحقوقه وحريته ، والتضامن مع الفقراء والمهمشين والضعفاء ….