المونسنيور بيوس قاشا
من كتابنا المقدس
بعدما تنامى فساد البشرية، وبعد أن اعتبر الإنسان أنه يشبه الله (تك 5:3)، تكاثر العنف بحيث ندم الله أنه خلق البشر، والناس ما ندموا. وبما أن الخطيئة تحمل الموت، كادت البشرية تفنى لولا رحمة الله التي وجدت باراً في شخص نوح ز فالفصل السادس من سفر التكوين يقول ما نصه (5):”رأى الرب أن مساوئ الناس كثرت على الأرض وأنهم يتصورون الشر في قلوبهم ويتهيئون له نهاراً وليلاً، فندم الرب أنه صنع الإنسان على الأرض، وتأسف قلبه، فقال الرب: أمحو الإنسان الذي خلقت عن وجه الأرض هو والبهائم لأني ندمتُ أني صنعتهم. أما نوح فنال رضى الرب (13). فقال الله لنوح: جاءت نهاية كل البشر، فالأرض امتلأت عنفاً على أيديهم، وها أنا أهلكهم مع الأرض. فاصنع لكَ سفينة من خشب السرو واجعلها غرفاً واطلِها من داخل ومن خارج بالقار. واجعل نافذة للسفينة، واجعل باب السفينة من جانبها. ها أنا آتٍ بطوفان مياه على الأرض لأزيل كل جسد فيه نسمة حياة تحت السماء، كل ما في الأرض يهلك، ولكني أقيم عهدي معك. فتدخل السفينة أنتَ وبنوك… لأني رأيتُ أنكَ وحدكَ صالح في هذا الجيل… سأمحو كل كائن صنعتُه عن وجه الأرض… وعمل نوح بكل ما أوصاه به الله (23) ومحا الله كل حي كان على وجه الأرض.
المسيحي الحقيقي
بعد هذا الفصل المقدس أقول: عُرف عن المسيحية في شرقنا وعند عرباننا وبدون جدل بأنهم حاملو ثقافة الحياة وحضارة الزمن عبر كرامة الإنسان وقبول الآخر في الحرية والعيش المتبادَل، إضافة إلى حمل قيم الحداثة وسبل التاريخ التي كانت ولا زالت وستبقى شاهدة على الحضارة المسيحية التي طبعت مسيرة وهويات أبناء العرب وغيرهم في الشرق الأوسط. هذه المفاهيم تتجسد في المسيحي الحقيقي لأنها تنطلق من المحبة التي أوصاه المسيح الحي بها، يعيش المحبة وسط الجماعة والتي فيها يرى وجه الله في كل إنسان، من أي دين كان وإلى أية قومية ينتمي وفي أي وضع كان من مسيرة الحياة… هو خليقة الله الواحد الأحد، وهو يحمل مجد الله والعمل على حمده وتسبحته، وهذا ما يدعوه أن يتعامل مع الناس، كل الناس، دون تمييز وليس فقط مع الناس الذين يحبهم أو يتّكل عليهم، وهم خاصته ليكونوا له ولكلمته سنداً، ولعكازته وعصاه قوةً ودرعاً حصيناً وسداً مانعاً لغاياته من أجل تأكيد حقائقه وإنْ كانت …. فرسالة المحبة هي نكران الذات، وهي تحول تعامل المسيحي مع الناس _ كل الناس، أياً كانوا _ إلى تعامل مع الله خالق الناس، فقد قال ربنا يسوع:”أحبوا الجميع حتى الأعداء” (متى 44:5)، ولم يقل “أحبوا مَن يحبكم أو أحبوا أصدقائكم”، وفي ذلك يصدق القول:”إنْ أحببتم مَن يحبكم فأي أجر لكم” (متى 46:5).
المسيحي وأرضه
انطلاقاً من هذه المسيرة المُحِبَّة، تدعو الضرورة المسيحي إلى أن يكون علامة مغفرة، لأن المغفرة ما هي إلا تنقية القلب من الكراهية والحقد والانتقام، من روح التهميش واللامبالاة والأنانية، للعمل من أجل أن تكون الحقيقة هي العليا وليس مصالح البشر والدنيا والعولمة المزيفة التي تُدَكتِرُ وتستعبد كل إنسان كي يكون عبداً وعبداً مطيعاً وليس أن يواصل مسيرته كي تجعله إنساناً مخلوقاً سامياً، وما هذه إلا رؤية إيمانية إذا ما كان المسيحي وفياً لمسيحيته وعُرف بهذه القيم. فإذا ما تجسدت هذه فيه لا يخاف قوة الصعاب ومظالم الناس، ولا ينال منه اليأس، بل يستمر في مقاومة الظلم والعنف على أي وجه كان، ويقوم بعمله ورسالته حسب ما دعاه الله إليهما.
فإذن ليست رسالة المسيحي أو مهمته الدخول في صراع مع أبناء حارته أو مجتمعه أو زقاق عمله، وفي نفس الوقت لا يُطلَب منه أن يكون خانعاً أمام المظالم وعبداً سيئاً أمام محبي المصالح الضيقة وإرادتهم في الأنانية المظلمة، كما لا يحق للمسيحي أن يعيش على هامش حقائق الحياة في مجتمعه، مدّعياً أنه لا يملك أرضه، وإن أرضه هي لغيره فيبتعد عن تحمل المسؤولية والأمانة. بينما المسيحي الحقيقي هو مَن يعرف جيداً أنه مهما استُبعد عن أرضه ووطنه فهو جزء من هذه الأرض، وإن عليه أن يكون مشاركاً في المسؤوليات ومواجهاً للتحديات، وما ذلك إلا دعوة الإرشاد الرسولي “شركة وشهادة” في أن يكون شاهداً لمسيحه ومشاركاً الجميع بمسيحيته.
نعم لا يحق، بل لا يجوز للمسيحي أن يعيش إيمانه على طرق الحياة. صحيح أن عددنا يتضاءل وسيستمر في هذه المسيرة المتعبة ما دامت الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ، وما دام لا أحد يفكر في الحلول الناجمة لثبات الإنسان في أرضه، وما دام أصحاب القرار يعملون مخططهم وإنْ كان في تدمير الآخر وبالخصوص المسيحي الكاثوليكي المنفتح والمسيحي المشرقي المتمسك بعقيدته حتى الموت. فالظروف التاريخية المعقدة التي عشناها ولا زلنا نعيشها وإنْ بصور متعددة واتجاهات مختلفة وعبر تحديات هائلة وكثيرة لا مناص منها كما لا خلاص لنا إذ كل واحد يريد أن ينمو وأن يصبح أكبر وأقوى من غيره، وكل جماعة تريد أن تكون أكبر وأقوى من غيرها… وما هذا إلا سبيل الضياع.
إيماننا… وفرنسيس البابا
أطلّ علينا في الثالث عشر من آذار الماضي البابا فرنسيس بعطية من الروح القدس ليسير بالكنيسة إلى روح الشهادة والمحبة، رغم زمن الألم والمآسي، فهو يقول: أمام المشاكل وآلام الحياة ينتابنا الشك ، ويرافقنا حتى آخر رمق من مسيرة حياتنا. لننظر إلى يسوع لا إلى مشاكل العالم، لأن فيه خشبة خلاصنا”. فعندما غادر يسوع أرض شقائنا حذّر تلاميذه من حزن الفراق والقنوط إذ قال:”إذا لم أذهب لن يأتيكم الروح المعزي”، الذي يثبّت التلاميذ بعد حلوله، وبه حملوا حياتهم شهادة للمسيح.
إن بولس الرسول يعلّمنا أن الإيمان الحقيقي يتعرّض دائماً للاضطهاد، ولا يوجد مسيحيون مؤمنون ولا يُضطَهَدون، فالإيمان يترافق دائماً بالاضطهاد “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهَدون” (2تيمو 11:3-12).
صحيح إننا نعيش في مجتمع مجنون يدفعنا إلى حالة الانفجار، ومن النادر أن نجد إنساناً وسط هذا الصخب والجنون لا يشكو التوتر والقلق أو لا يهاجمه الاكتئاب والاختناق. أو ليست حياته سلسلة متصلة من الضيق والغضب والضغط والانفعال، فإننا حينما نشكو الاكتئاب والحزن والناس سوء معاملتهم ونشعر إننا تائهين لا هدف لنا _ وإنْ وجدت فهي متناقضة، مبعثرة _ فذلك ما يجعلنا أن نشعر باليأس والإحباط وحتى درجة غياب الدنيا ونهاية الكون… أمام كل هذه لا نملك في حياتنا غير هذه اللحظة التي نعيشها، فقيمة الحياة في أن نحياها، في أن نحيا كل يوم وكل ساعة وكأنها كل حياتنا.
الحقيقة يقولها التاريخ
نقولها من عمق إيماننا أن سيدة النجاة أيقونة نحملها في رقابنا كما نحياها في قلوبنا. فالسيدة هي لكل الناس وليس لبعض سواء كانوا أمراء في الدنيا أو وزراء الزمن أو عاطفي العبادة وروّاد الهياكل والمعابد، وما حلّ بالكنيسة وضحاياها أزاد قدسيتها إلى درجة الامتياز، والذين كانوا شهوداً للحقيقة وأرادهم الرب أن يكونوا شاهدين، فقد عاينوا كل ذلك بترتيب. فهم يعملون بخفية وليس علناً من أجل إعلان الحقيقة وليس المتاجرة بحدثها ،كما هو شأن الكثيرين لم يكونوا حينها ، كما قد ترتفع الأصوات هنا وهناك إنهم كانوا كذا وكذا وما إلى ذلك، فما ذلك إلا أصوات في أثير الفضاء وقلوباً تحب ذاتها ولا تشهد لحقيقة الذين كانوا كي يكونوا هم في الصفوف المتقدمة عملاً لأمير الزمان، بينما الذين رأوا وسمعوا وعاينوا وكتبوا وأعلنوا، هم أنفسهم الذين قالوا أن المحبة تشمل حتى الأشرار، فاللقاء مع الرب لا يكون إلا بالغفران، وهاهو لص اليمين ينل النعمة “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 43:23)، وهاهو قائد المئة يقر بحقيقة الحدث “في الحقيقة كان هذا الانسان باراً” ( لو47:23 ). فحدث سيدة النجاة مؤلم إلى درجة الموت ولكنه حدث يجددنا إلى درجة القيامة في الروح وليس بزينة الدنيا وبهرجتها ومصالحها وغاياتها، ومهما عملنا من أجل هذا ، في أن نكون ، فالحقيقة لا يقولها إلا التاريخ ومعه الشهود الذين أرادهم الرب أن يكونوا ليعلنوا الحقائق الواقعة وليس الحقائق الماورائية… فحتى اليوم لا زال المسيحيون يقدمون أنفسهم شهادة للحقيقة، وكما كانوا في الأوائل هكذا هو الحدث اليوم وبملء الحرية لا قسراً، لأن الإيمان علامة فارقة في مسيرة المسيحية. فحينما يُطلَب منهم إنكار إيمانهم وجحده كانوا يرفعون أصواتهم “لن نخاف الموت” حتى لو نالوا قبل الاستشهاد قسطاً من العذابات وضرباً مبرحاً مع الاستجوابات كي يجحدوا إيمانهم، كان كل مرة يرتفع صوتهم “نحن مُلْكٌ للرب”، وإذا ما ثبت المسيحي في إيمانه غير مستسلم لرغبات الملك والجلادين كان يلقي حتفه بقطع رأسه وأحياناً بصلبه أو احراقه بالنار أو عذابه بربطه بالسلاسل وما إلى ذلك من وسائل مخيفة ومريعة ومميتة، أما مَن كان يجحد إيمانه ويرتدّ فكان يُخلى سبيله ويعود إلى سكناه، والتاريخ للحقيقة شاهد وليس فقط حكايات الزمن.
الأحياء شهداء
نعم، إن المسيحيين الأبرياء الذين يقعون ضحايا في أماكن عدة، في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، ليسوا أقل من شهداء كما هو الحال في كنيسة سيدة النجاة، فما جرى في أثناء احتجاز الرهائن في الكنيسة، ماذا كان الحديث وماذا كانت الأوامر الصادرة من الانتحاريين بحقهم، هل إنكار لإيمانهم وجحده؟، هل إقرار بإيمان غيره؟، هل ثبت بعضهم أم أنكر بعضهم؟، كل ما نعرفه وجلّ ما ندركه وما رأيناه وما سمعناه مترقبين الموقف المؤلم، كل هذا وذاك كان في علم الله وفي علم بعض الرائيين الذين كُتب لهم النجاة، فتصفهم مع حقيقة الواقع. من المؤكد أن الأزمة وأطنابها، والعملية وثقلها، جعلتنا في الداخل كما الذين كانوا في الخارج في مأزق حقيقي وفي شهادة للإيمان، وكل ذلك أيضاً في علم الله عبر الحقيقة والعاطفة والحادثة والمأساة.
وبعد أن حلّ ما حلّ، ما أراه شخصياً مؤلماً (أرجو المعذرة عن الرأي) أن يكونوا في ديارهم ولا يغادروا جحيم العراق، ليس خوفاً من الدنيا ورجالها بل إيماناً وشهادةً لحقيقة الكنائس التي جعلتنا شهوداً وشهداء للذي نتعشى معه في وليمة الأحد المقدسة، وشهادةً للدماء التي سُكِبَت. وما الرجاء إلا هذا كي يكونوا شهداء، ولكن ومع الأسف رحلوا وكأن الموقف المؤلم والكارثي الذي حلّ كان دعوة لهم من دول يدّعون الإنسانية وينسون الأبرياء الأحياء الذين لا زالوا يعيشون في جحيم الحياة، هؤلاء هم الشهداء وليسوا من أقرباء وأهالي الشهداء الذين رحلوا ولم يبقَ من ذكراهم إلا القليل.
إنني مؤمن أن ما حصل معنا وما حلّ فينا وراءه مشيئة إلهية ليقول لنا كلمة من أجل الخلاص، ويقرأ لنا صفحة في مسيرة الشهادة، ويعلّمنا أن المسيح لم يأتِ إلى القيامة إلا عبر الألم، وبقدر ما كان الحب عظيماً بقدر ذلك كان الألم قاسياً، عند ذاك أدركنا أن القيامة أعطت معنىً لألمنا، كما أن معنى الألم بحدث القيامة حصل… وهذا هو عمق إيماننا وحقيقة ديانتنا.
فلم نكن بحاجة إلى مغادرة أرضنا وحقيقة واقعنا إن لم يكن هناك مخططات خفية ورسوماً سرية وخرائط مخيفة تُرسَم لنا وتخطط لتنفيذها، ونحن لها علامات وبولات وكما يشاءون وليس كما تشاء كنيستنا أو مسيحنا أو إيماننا.
الإرشاد الرسولي
وكم أثني اليوم على رؤسائنا الروحيين وبطاركتنا المغبوطين ومنهم الكاردينال بشارة الراعي ويوسف يونان وفؤاد طوال وساكو وابراهيم اسحق ، عبر رسائلهم التي بها يحثوننا على التمسك بإيماننا وبأرضنا، وهذا ديدن الإرشاد الرسولي الذي أُعطي لكنائسنا المشرقية قبل أن يكون كتاباً لكنائس الغرب وملفاً سينودسياً. لقد وُضع الإرشاد بإلهام إلهي وأصبح لنا وثيقة بعد توقيعها تقودنا إلى العيش في الحقيقة والشهادة لمسيرة الإيمان والشركة مع المتشابهين والمختلفين والمتضادين لنا، ولكن ويا للأسف أقولها حملناه في قلوبنا وشرحناه وأذعنا خبره، ولما حلّ يوم الأربعين نسيناه ووُضع حتى الساعة على رفوف المكتبات وفي قاعات اللقاء لا يعمل شيئاً سوى أنه من منتسبي الموجودات ليس إلا!.
فالإرشاد يدعونا إلى أن ندرك أنه ليست الأمكنة التي تقدس الإنسان بل الإنسان بحضوره وسط الجماعة _ مع المؤمنين الرافعين قلوبهم ودعواتهم وصلواتهم _ يجعل المكان مقدساً وذي معنى وحاملاً للرسالة، وكما يقول البابا فرنسيس:”إن الكنيسة ليست لبطرس بل للمسيح، وبطرس يمجد المسيح في الكنيسة”… وهذا ما يجعلنا أن نقول أن الله الذي أحبنا هو إله بشر لا إله حجر، فقد قال ربنا يسوع للسامرية:”ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب” (يو21:4). فالرب يسكن قلوباً مُحبة تحمل صفة الشركة والشهادة، وهذه ليست علامات من صنع الإنسان.
من هنا أقول: أن الإرشاد يدعونا لا أن نغادر بلداننا أو مدننا حيث عبر المحيطات وطيب الإقامة وهدوء السكن وكأننا حينما نأتمن على وجودنا فقد جعلنا الله يخضع لهذا الائتمان، وننسى أن في تلك الليلة تُطلَب نفسنا (لو20:12)… فهل نحن (أغبياء )، والذي أعددنه لِمَن يكون. من خلال ذلك بإمكاننا أن نقول: إن الكنيسة لا تواصل المسيرة بدماء الشهداء وحسب بل أيضاً بحبات العرق التي تتصبب من جبهة المؤمن وهو يصلّي ويتأمل ويسجد ويركع ويشعل الشموع ويقرأ الكتاب المقدس ويحياه، ويقدم الذبيحة ويتعشى مع الرب، وما ذلك إلا نسمة حية تسري في عروق المؤمن لتكون سنابل تغذي الأحياء للسائرين في دروب الزمن ويعلنون بشارة الحب إلى البعيدين عن عشاء الرب ودعوته بدلاً من الذين يعتذرون عن حضور وتلبية الدعوة (لو18:14)… فالشهادة نهاية للشهداء ، وللأحياء شهادة دائمة.
من دون شك نحن المسيحيون ضحية ويا للأسف، فعندما تنشب حرب أو أزمة عنف يسأل المسيحيون سؤالهم: حتى ما نحن ضحايا هذه الشرور التي ما هي إلا تدمير وهلاك؟… إنه يُعتدى عليهم من دون سبب كما ولأنهم شعوب مسالمة بين سكان منطقة الشرق الأوسط، فهم لا يتعاطون السياسة وحتى الشؤون السياسية وإنْ كان لابدّ فهو من أجل الخير والحقيقة والعدالة. ومع هذا، مع أي حرب أو أزمة يُصار إلى الاعتداء عليهم، ومن غير المفهوم لماذا يُساء إليهم، وهذه المسيرة معمول بها منذ قرون ولحد اليوم، وفي ذلك خوف كبير من أن يضعف الوجود المسيحي عندها تكون الخسارة كبيرة لأولئك الذين كانوا مواطنون أصليون بعمر أكثر من ألفي سنة، هكذا يقول البطريرك الراعي، فمواطنيتهم هي حمايتهم، وحضارتهم هي سبيلهم والتي طبعت شرقنا الأوسط.
ليس خوفاً
أمام هذه المحطات نستوقف أفكارنا ونثبّت أقدامنا وننظر بعيون الإيمان ونصمت كي نسمع صوت الرب وصداه يعمل في مسامعنا، أليس كل هذا دعوة كي نصنع لنا سفينة ونطليها من الداخل بحقيقة الإيمان وليس بزيف العاطفة، ومن خارجها بروح المسيحية الشاهدة وليس بحكم الدنيا الزائل، ونجعل فيها نافذة نطلّ منها على الحدث في أن الله أحبنا وبشرنا بالمخلص، وباباً يكون لنا دليلاً نحو المسيح القائم في السماء حيث الأبدية، ندخلها وكلنا ثقة بالمسيح ربنا الذي شجعنا ولا يزال بقوله:”لا تخافوا أنا معكم” ( 31:10)!!… فمهما رقصت الجماهير وغنّت لأمراء الدنيا والزمن، ومهما جاءت العولمة بالعلم والتقنية المزيفة، فلا نيأس حتى لو ملكت الدنيا على حديث الناس، وتعامل أبناء الناس مع أبناء الله بأنانية الحياة. فما يهمنا هو أن نحافظ على إيماننا لننقله إلى أجيالنا. فصعودنا إلى السفينة ليس خوفاً من الآتي بل أن نكون لله وسط هذا العالم الهائج، في أن نكون هياكل تحمل الراحلين من دروب الزمن المتعَبَة والمفتشين عن المسيح قائلين:”أين هو المولود، فقد رأينا نجمه” ( متى2:2). الذين يريدون أن يكونوا من المدعوين الغرباء الآتين من المشارق والمغارب، لذا فصعودنا إلى السفينة كي نصطحبهم ونكون لهم صوتاً ودليلاً… صعودنا هو أن نجعل بذرة الإيمان طاهرة نقية من شوائب العولمة المزيفة التي غزت حتى أحلامنا وأفكارنا وخططنا، فغيّرت بوصَلَتَنا وأحوالنا، ووسْوَسَت في أفكارنا، وزعزعت ثقتنا، وأعلمتنا أن كل شيء باقٍ لا يزول وإنْ كان دنيوياً، بينما ربنا يسوع يقول:”اعملوا للطعام الباقي، للحياة الأبدية” (يو27:6 ).
لنصعد السفينة
نعم، لنصعد إلى السفينة، وما ذلك إلا دعوة محبة وحقيقة وإيمان، وشهادة أكيدة لخلاص الله… نصعد ونحمل معنا إنجيلنا وخبزتينا وخمرنا وسمكاتنا الثلاث وإرشادنا، وجرة السامرية من ماء الحياة وحبات الوردية وجبل الصلاة وجلباب سيدتنا مريم، وحمامة نهر الأردن وسعف أوشعنا وترتيلة “آمين،واقرار القائد بالحقيقة، وزوّادة الخلاص” فالرب آتٍ”… هذه كلها ترافقنا في الصعود. فالدنيا اليوم تعلّمنا أن نحلّل ما حرمته السماء علينا، وتجعله واقعاً لمسيرة إيماننا، فتلك غرائب تبثّ سموماً من أجل هجرتنا وترك أوطاننا. وماذا يعني لو بقينا في أرضنا شهوداً وشهداء، آيات وعلامات، سمات وحياة… أليست الشهادة أثمن من الرحيل من أجل لقمة الحياة في لفّة الهمبركر وعلبة البيبسي، والوقوف ساعات أمام ساحة الدولار في دوائر الإقامة الغربية.
لا نتأخر أيها الأخوة، فالزمن علامات، ولسكان السماء نداءات، قالوها ولا زالوا يرددونها في أن نكون للرب “أين نذهب يا رب وكلام الحياة الأبدية عندك”، (يو68:6).. والبابا فرنسيس جاءنا مبشِّراً بذلك… فلنصعد السفينة ليس من أجل خلاصنا بل من أجل إيمان طاهر من كل شائبة كبريائية وأنانية، كي لا نحمل غايات تُباع وتُشترى بروح المال والقرابة والصداقة والطائفة والعشيرة وحتى القومية، وروح الديانة المزيَّفة التي تعلن نفسها قبل إلهها، والغيرة القاتلة كصوت بوق يُثرثر ويميت الآخرين وهم أحياء.
لنفهم ما يقوله الروح لكنائسنا، بل لنا أيضاً، أقول: إن الرسل لم يفتشوا عن الشهادة في تعليمهم بل أرادوا طاعة المعلّم في أن يوصلوا الحقيقة، حقيقة البشارة إلى العالم كله “أذهبوا وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” ( 20:28)، “أذهبوا” قالها ولم يقل لهم “ستقتلون”، بل قال “أذهبوا”، فكانت فضيلة الطاعة والبشارة، ثم كانت الشهادة حباً متوَّجاً.
إنه آتٍ
نعم، إنه آتٍ ، فلا نتأخر ، لنصعد السفينة لعلّ العريس يأتي ويجدنا بعدُ في أزقة الدنيا نجول ونطوف، نتعشى ونتمشى، نغني ونرقص، نقهقه وننمنم، في الخفاء أو في العلن حينذاك لا يجدنا… فلنصعد إلى السفينة ولا نخف وإنْ كان المسيح نائماً فهو معنا بروحه وخلاصه، بجسده وقيامته… نعم نعم إنه زمن يدعونا كي نصعد السفينة… إنها سفينة الله… سفينة كنيستنا… نعم، هذا هو ايماني ورجائي ولا احمل اطلاقاً علامة شؤم في هذا المقال بل هو الحقيقة فما علينا الا ان نلبي الدعوة والحقيقة واقعة لا محالة ان المسيح آتٍ منتصرا لا كما هو مخططنا بل كما هو عّلمنا قائلا ” ارفعوا رؤوسكم فان خلاصكم قد دنا : (لو28:21) إنني به آمنتُ وعرفته حقيقة انه المسيح ابن الله الحي ،(16:16) نعم هذا رجائي وفيه خلاصي وهذا اقراري فالحقيقة ان المسيح هو الحقيقة ، وستعلنُ لاحقا، وسيُكتشف يهوذا وان كان تلميذا للرب يسوع فبولس الرسول يقول فليكن محروماً ، وان كان ملاكا من السماء فقد ظهرت تعاليم بشرية مزيّفة ، من أجل غايات وأنانيات ، فالحقيقة لا تدفنها الانانيات والثرثارون الدنيويون ، والمصالح حاملة للغيرة والتعالي ، بل بالتواضع والصمت والسكون ، بل بحقيقة القيامة وإعلانها في عيشها ليس إلا ، فالمسيح الرب هو هو أمس واليوم والى الابد ، إنه آتٍ ، وهذا كله علامة لنا، كي نصعد السفينة . آمين وآمين.