نياحة غبطة البطريرك الكاردينال الأنبا اسطفانوس الثانى
كاتدرائية السيدة العذراء – مدينة نصر – 23 / 1 / 2009
” جاهدتُ الجهادَ الحسن ، وأتممتُ شوطى ، وحافظتُ على الإيمان .
والآن ينتظرنى إكليلُ البر ، الذى سيكافئنى به الربُ الديّانُ العادل ”
( 2 تيموثاوس 4 : 7 – 8 ) .
الأباء المطارنة الأجلاء ،
الإخوة الكهنة والرهبان والشمامسة الأحباء ،
الأخوات الراهبات الفاضلات ، إخوتى وأخواتى الأعزاء .
احتفلنا بسر موت وقيامة الرب يسوع فى القداس الإلهى ، وأصغينا إلى كلمة الله ، المليئة بالعزاء والرجاء . واستمعنا إلى كلمات القدّيس بولس الرسول ، التى قالها فى الفترة الأخيرة من حياته ، ملخـّصا بها مسيرة حياته الحافلة ، ومعلنا رجاءَه الوطيد فى لقاء الرب المجيد : ” جاهدتُ الجهادَ الحسن ، وأتممتُ شوطى ، وحافظتُ على الإيمان . والآن ينتظرنى إكليلُ البر ، الذى سيكافئنى به الربُ الديّانُ العادل ” .
إننا نجتمع الآن لنودع راعينا الجليل ، غبطة البطريرك الكاردينال الأنبا اسطفانوس الثانى ، ونعيدَ إلى الرب الوديعة التى أضاء بها كنيستنا 89 سنة. نريد أولا أن نشكر الله لأنه اعطانا هذا الراعى الصالح الأمين ، نشكر الله من أجل شخص غبطته ، ومن أجل صفاته ، ومن أجل أعماله ، ومن أجل المحبة التى زرعها فى كل قلب تعامل معه . نشكر الله من أجل السنين الطويلة التى قاد فيها كنيستنا وطائفتنا . كان يجول يعمل الخير ، على مثال معلمنا الإلهى . كان للجميع أبا ومرشدا مُحبّا ومحبوبا . سوف نحفظ له فى ذاكرة قلبنا الكثيرَ من الكلمات والنصائحَ والأحاديث ، ومن مواقف صمت بليغ ، ستبقى كلها تراثا روحيا يضىء لنا الطريق ، ويحوّل حزننا إلى عزاء وسلام .
إننى لا أجد خيرا من كلمات بولس الرسول لألخـّص بها الحياة الحافلة التى عاشها غبطته وأغنى بها الكنيسة .
” جاهدتُ الجهادَ الحسن ، وأتممتُ شوطى وحافظتُ على الإيمان ” … بدأت هذه المسيرة فى 16 يناير 1920 ، يومَ ميلاد غبطته فى قرية الشيخ زين الدين ، بمركز طهطا – محافظة سوهاج . والتحق بالاكليريكية الصغرى بالقاهرة سنة 1929 ، وتابع دراساته الابتدائية والثانوية بمدرسة العائلة المقدّسة للآباء اليسوعيين بالفجالة ، حتى سنة 1938 . ثم أرسله الرؤساء إلى كلية الإيمان بروما، حيث حصل على ليسانس الفلسفة واللاهوت . ونال السيامة الكهنوتية فى روما فى 25 مارس 1944 ، باسم الأب اندراوس غطاس .
ولما عاد إلى مصر ، تعيّن مدرّسا للفلسفة واللاهوت العقائدى فى الاكليريكية الكبرى بطهطا ، ثم بطنطا حيث كان لى مدرّسا ومرشدا ووالدا ، واستمرّت علاقتنا الوثيقة منذ هذا الوقت . وفى عام 1952، انضم إلى رهبانية الآباء اللعازيين ، والتحق بدير الابتداء فى باريس . ثم خدم ستَ سنوات فى لبنان. وبعدها تعيّن مدبّرا ثم رئيسا لدير الآباء اللعازريين بالاسكندرية .
وفى 8 مايو 1967 ، انتخبه السينودس البطريركى للأقباط الكاثوليك مطرانا لإيبارشية طيبة- الأقصر ، ونال السيامة الأسقفية فى 9 يونيو 1967 ، فى دير الأباء اللعازريين بالاسكندرية . وتمّ تجليسه فى كاتدرائية طهطا فى 16 يونيو … وفى 24 فبراير 1984 ، عيّنه الكرسى الرسولى مديرا رسوليا للبطريركية ، نظرا لاعتلال صحة غبطة البطريرك الكاردينال الأنبا اسطفانوس الأول ، الذى قدّم استقالته فى 19 ابريل 1986 . فانتخب السينودس البطريركى الأنبا أندراوس غطاس بطريركا ، واتخذ اسم الأنبا اسطفانوس الثانى ، وتمّ تنصيبه فى 12 / 7 / 1986 … وفى 21 فبراير 2001 منحة قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثانى رتبة الكاردينالية … وتخلى عن إدارة البطريركية فى مارس 2006 نظرا لظروفه الصحية .
وعن مسيرته الطويلة ، يقول غبطته فى وصيته الروحية : ” ساعدنى الله فى كل حقبات حياتى بنعم جزيلة .. سعيتُ قدرَ استطاعتى أن أحبَ الجميع وأخدمَ الجميع ، دون تفرقة ، مطارنة ً وكهنة ورهبانا وراهبات وأفرادَ الشعب . وإن كان صدر منى عفوا كلمة ٌ ، أو أسأت إلى احد منهم ، فأطلبُ الصفح منه ، وكلُ مَن ظنَّ فيَّ سوءا أو تكلم فى حقـّى ، أصفح لهم جميعا ” .
يضيق الوقت للكلام عن صفات وأعمال غبطته . وقد حدّد هو نفسه فى شعاره الأسقفى والبطريركى برنامجَ حياته ، فى كلمات ثلاث : الطيبة والحكمة والتدبير . وقد كان أمينا للغاية لهذا البرنامج الروحى والرعائى … كان غبطته صبورا وطويل الأناة . لا يَغضب ولا يحتدّ ، شفوقا ورفيقا . لا يحبُ أن يزعَلَ أحدٌ منه . يحاول إرضاءَ الجميع . يصمت أمام الإساءة ، يصفح ويعفو عن المخطىء . يسارع إلى تقديم الخدمة المطلوبة ، دون مراعاة للوقت أو التعب . يبادر إلى السؤال عن القريب والبعيد ، فى كل أنحاء مصر وفى الخارج . يشارك فى كل المناسبات ، ولا يتأخر عن تلبية دعوة . يفرح مع الفرحين ويتألم مع المتألمين . يشجّع كل عمل بَنـّاء ، ويساند كل مجموعة ونشاط ومؤسسة ورهبانية. يرشد ويوجّه إلى السلوك الصحيح والحلول الحكيمة . يغذى النفوس بالعظات الروحية العميقة والبسيطة . يَكسب القلوب بطيبته وتواضعه . كان فى مصر مُحِبّا للجميع ومحبوبا من الجميع. أما فى الخارج ، فقد أدهشنى حقا عدد الذين يسألون عن غبطته معبّبرين عن ارتباطهم به بكل تقدير ومودّة ومحبة .
مدرّسا وراهبا ومطرانا وبطريركا ، عاش غبطته بأمانة المثالَ الكهنوتى والرهبانى . عمل بدعوة المسيح : ” إذا أردتَ ان تكون كاملا ، فاذهب وبِع ما تملكه ، ووزّع ثمنه على الفقراء ، فيكونُ لك كنزٌ فى السماوات ، وتعالَ اتبعنى ” ( متى 19 : 21 ) … فلنسمع ما كتبه غبطته بهذا الصدد فى وصيته الروحية : ” وُلِدتُ فقيرا وعشت فقيرا وسوف أموت فقيرا ، زاهدا العالمَ وما فيه لخير الفقراء . وأصرّح بأن كل ما لى أو أمتلكه أو مكتوب باسمى ، ليس لى بل للبطريركية ” … عاش زاهدا ، متجرّدا ، مكتفيا بالقليل ، مقتديا بالقديس بولس الرسول القائل : ” تعلـّمت أن اقنعَ بما أنا عليه ، فأنا أعرف ان أعيش فى الضيقة، كما أعرف أن أعيش فى السِعة ” ( فيلبى 4 : 11 – 12 ) .
أما عن إنجازاته فهى عديدة جدا ، سَواءُ فى إيبارشية طيبة – سوهاج والأقصر ، أو فى الإيبارشية البطريركية . ويكفى أن نذكر منها مطرانية سوهاج، ومطرانية الأقصر . وكذلك ما تمّ فى عهده وبتشجيع منه ، وأهمُّها كاتدرائية وبطريركية الاسكندرية ، ودارُ القديس اسطفانوس بالمعادى ، وهذه الكاتدرائية التى نحن فيها الآن … ولا ننسى السينودس الاسكندرى الثانى ، لتعميق الإيمان وتجديد الحياة فى كنيستنا القبطية الكاثوليكية . وكذلك تشجيعُه إنشاء رهبنة تأملية نسكية ، فى دير البشارة بكنجى مريوط .
ولا أستطيع أن أغفل ناحية هامة فى حياة غبطته ، الا وهى تقواه . كانت حياته مدرسة َ صلاة وتقوى . كان مواظبا بكل انتظام على حياة الصلاة : صلواتِ الساعات ، القداس الإلهى والشكر ، قراءةِ الكتاب المقدّس ، القراءاتِ الروحية ، وسير القدّيسين . كما تميّز بحب خاص لسيدتنا مريم العذراء ، كان أمينا على صلاة المسبحة ، وعلى الصلوات المريمية الأخرى . كما كان مرشدا عاما لجمعيات جنود مريم طوال فترة وجوده فى لبنان ، ثم بالاسكندرية .
وكان غبطته لا يتأخر فى تلبية أية دعوة لإقامة المراسيم الدينية . فكم وكم من القداديس الاحتفالية فى كل المناسبات . وكم وكم من السيامات الأسقفية والكهنوتية، ومن المناولات الاحتفالية ، واليوبيلات ، والنذور الدائمة والمؤقـّتة ، ولبس الثوب الرهبانى ، والزواجات ، والجنازات والأربعين والسنة . لم يكن يمنعه عن ذلك لا المسافات ولا أتعاب السفر ، من مرسى مطروح إلى أسوان . وكثيرا ما كان يقيم احتفالين فى نفس اليوم ، وربما فى مدينتين مختلفتين . وذلك حتى اليوم الأخير قبل مرضه النهائى . وحتى عندما كان لا يقيم بنفسه المراسيم ، كان لا يتأخر أبدا عن المشاركة فيها بحضوره وصلواته . ونحن واثقون أنه من اليوم يواصل الصلاة من أجلنا ، وهو فى شركة المجد مع المسيح القائم من بين الأموات .
نعم ، يا أبانا البار ، من حقـّك أن تهتف مع بولس الرسول ” جاهدتُ الجهادَ الحسن ، وأتممتُ شوطى ، وحافظتُ على الإيمان . والآن ينتظرنى إكليلُ البر ، الذى سيكافئُنى به الربُ الديّانُ العادل ” … كان هذا إيمانـَك الوثيق ، وكان هذا رجاءَك الوطيد . فكتبت فى وصيّتك الروحية : ” إنى مستعد أن أترك هذا العالم وكلَ ما فيه ، لألتقىَ بربى وإلهى ، طالبا منه تعالى الصفحَ عن كل ما صدر منى ، من ذنوب أو خطايا أو هفوات مهما كانت ، واثقا فى رحمة الله الواسعة ، وحنانِه الذى لا يُحَدّ . وإنى أطلب إلى العذراء مريم أن تقبَلنى بجوار ابنها الإلهى، لكى أنعمَ به مدى الأبدية . آمين “. وها هو قد انتقل يوم عيد نياحة السيدة العذراء.
يا أبانا البار ، نعدك أن نعملَ بوصية الكتاب المقدّس القائلة : ” أذكروا مرشديكم الذين خاطبوكم بكلام الله ، واعتبروا بحياتهم وموتهم ، واقتدوا بإيمانهم ” ( عبرانيين 13 : 7 ) … إننا نرافقك بالصلاة والحب والوفاء ، إلى عرش رب القيامة والمجد . نبتهل إليه أن يمنحك الراحة الأبدية ، مع الأبرار والقدّيسين ، ومع كل من سبقوك إلى الأمجاد السمائية … ليتقبّلك الرب يسوع مع الرسل الأطهار . لتتقبّلك أمنا العذراء مريم البتول . ليتقبّلك شفيعك القدّيس اسطفانوس أولُ الشهداء ، والقدّيس منصور دى بول ، الذى اخترتَ أن تكونَ له تلميذا ، واقتديت بتقواه وتجرّده وحبّه للفقراء ، واحتفلنا أمس بعيده … اذكرنا لدى عرش المسيح . له المجد ، الآن وإلى الأبد . آمين .