عفواً ومغفرة ياإلهي… أنا إلهُكَ

عفواً ومغفرة ياإلهي… أنا إلهُكَ

المونسنيور د. بيوس قاشا

في البدء:

            الحقيقة إننا نعيش في مجتمع مجنون _ وخاصة في مجتمعنا _ يدفعنا إلى حافة الانفجار، ومن النادر أن تجد إنساناً وسط هذا الصخب والجنون لا يشكو من التوتر والقلق والتوجس على المستقبل، يشكو الإكتئاب والحزن والناس وسوء معاملتهم وحبهم لأنانيتهم المهلكة ، وعصبيتهم المقيتة ، وكبريائهم القاتلة، وطائفيتهم المميتة ،ومحسوبيتهم المصلحية ،ومحاصصتهم الطائفية، ومناصبهم المسروقة ، ومراكزهم المباعة ، كما ويشعر البشر بأنهم تائهين لا أهداف لهم، وإنْ وُجدَتْ فهي متناقضة مبعثرة، ولم تعد هناك لذّة في العمل أو منفعة في الحياة… إنها سلسلة متصلة من الضيق والغضب والضغط والانفعال وأخيراً الموت .

عالم مجنون

إنسان العصر الحديث إنسان قلق ومتوتر، والبشر عامة ونحن المسيحيين خاصة نتخبط اليوم أمام مآسي عديدة لم يكن لنا فيها لا ناقة ولا جمل وإنما قادونا مثل الخراف خضوعاً وخنوعاً هنا في وطننا وفي أنحاء عديدة من شرقنا المعذَّب وأنحاء أخرى من هذا العالم البائس حيث الظلم والألم واليأس والمستقبل المجهول لنا ولأجيالنا ولأحفادنا، ولا نعلم أين صوب مسيرتنا وإلى أين نحن نتجه.وأمام ما يحصل يجعلنا أن نحمل أفكاراً ملؤها الخوف والجبن والضعف والتعاسة بسبب انتشار الشر وانعكاساته على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والعائلية والطائفية في فوضى عارمة وشغبٍ وحروبٍ تكفيرية وديموغرافية، وظلمٍ وقمعِ الآخر البرئ في تدمير الإنسان الآخر المختلف. وكما يقال “يدنا على قلبنا” وبالتعبير الشعبي” إيدنا على قلبنا” مما سيحلّ بالمسكونة وبالمسيحية، فالكثير منا يعيش بلا هدف واضح، يرقص مع الأغنية ويولول مع العدّادين ولا يعلم ماذا يصنع وأين محلّه من الإعراب في مجال وجوده وحقيقة ترابه… إنه صراع نفسي ، فإذا سألتَه: لماذا ترقص أو تولول؟، يجيبك: هذه هي الحياة، وإنْ كان الهدف الوجودي قد ضاع .

أين نحن

ما نحتاج إليه أن نقف أو نتوقف ونتأمل وننظر بعيداً عن المحاصصة والطائفية المقيتة، فالرب يسوع لم يقل “إذهبوا إلى القرية الفلانية” بل قال:”إذهبوا إلى العالم كله وأعلنوا بشارة الإنجيل” (مر15:16). فالزمن ليس لصالحنا، وهو يدعونا أن نرى أين نحن منه، ولا نقتل طموحنا، فالفيلسوف “توماس كارليل” يقول:”ليس علينا أن نتطلع إلى هدف يلوح لنا باهتاً من بعيد، وإنما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عمل واضح بيِّنٍ”. وإنْ كنا نفكر في بقعة أو غنيمة لعل وعسى تكون حصتنا من وعود الساسة المصلحيين، وكبار الزمن الفاسدين، فصعب علينا فمَن يحمينا ومَن يحترمنا، أقولها: ألم يتركوننا لوحدنا نتقاسم الألم والهجرة والرحيل بسبب داعش واخواته وهم على بساط الحرير نائمين؟، ألم يسرق داعش أموالنا وأحرق بيوتنا ونهب أمتعتنا وهم يعلنون إنهم في حمايتنا ؟، ألم يكن بإمكانهم الوقوف معنا قبل أن يجلسوا على موائد عشائهم؟، يكفي إننا افترشنا الحدائق والشوارع تائهين ولا أحد يبالي بنا، فالمصلحةُ كانت الحقيقةَ ولكن قوتنا وشجاعتنا واحتمالنا وصبرنا بالمسيح الحي، وثباتنا على قوة إيماننا بعماذنا، جعلتنا نحمل الرجاء رغم المصائب التي حلّت بنا ، ونحن نستعطي وجودنا ، ولقمة عيشنا ، بعد أن كنا نملأ الدنيا فرحاً وخبزاً وصلاةً.

ماذا نريد

أقولها إننا كثيراً لا نعرف ما نحن فيه، بل كلنا أصبحنا اليوم بلا هدف واضح وهذا ما يظهر أن ذلك أحد صراعاتنا النفسية والتي قد لا نلاحظها أحياناً. إننا لا نعرف بالضبط ماذا نريد، وقد نتهرب من الإجابة، لذا علينا أن نعرف أين نحن مما يحصل في البلاد، ولندرك جيداً أننا لسنا أدوات فتنة ولسنا في وطن غريب بل في وطننا وإنْ خسرنا ثقتنا بوكلائنا وبرؤسائنا ولم تكن بالمستوى المطلوب، فمنذ الاحتلال عام 2003 ولحد اليوم، تصريحات مطمئنة، بيانات قواعدية، كلمات ترحيبية، زيارات تفقدية ، وعود بائسة ، وعبارات للأصلاء، ولكن كل ذلك كلام في كلام، ولا نملك ما يجب أن يكون ،اذ لا شيء في ايدينا وإذا وجدناه سرقناه ، وجعلناه من حلالنا ، وتلك مشكلة كبارنا ،فنحن كنا ولا زلنا ضحية القانون والدستور والبرلمان، وضحية الطائفية والمحاصصة، وضحية عنف وحسابات سياسية وضحية فساد حمله كبار الدنيا والزمن الذين اقاموهم مسلطين علينا وهم من اصولهم فاسدون، فقد عُرِفوا في زمن النظام واليوم أصبحوا حملاناً وديعة ليس إلا .

هويتنا سلاحنا

لندرك جيداً أن هويتنا تتخطى مشرقيتنا، فهي هوية تتّسع وسع الكلمة حيث تشمل الجميع، وهي سلاح نعتزّ به ومختلف عن باقي الأسلحة. فنحن مسيحيون ولكننا لسنا مسيحيين من أجل ذواتنا بل من أجل العالم،والمسيحي ليس مسيحياً بالهوية بل بعيش حياة العماذ، والنور ليس نوراً لذاته كما إن المسيح لم يكن لذاته( يوحنا 12:8). لقد كان واضحاً في كلامه “اذهبوا وتلمذوا كل الأمم” (متى19:28) فأنتم شهود لي، شهود الحق وليس الخضوع والخنوع أمام قياصرة المال والفساد من مكونات مختلفة وشهود القتل والانتقام بل أنتم شهود للملكوت، وليس كلمات غانية لعظماء مزيّفين ، ولكبار فاسدين، ولأناس طائفيين ، لأننا اخترنا هويتنا مع رسالتنا فعرفنا مصيرنا إذ أن الهوية تكشف الرسالة، والرسالة تبقى هوية، وهويتنا ليست شهادة نحملها، بل نحملها من الغائب إلى الحاضر. إنْ صعدنا إلى السماء وجدناه وحتى إلى الجحيم (اف 8:4) فهو هناك لأن المسيح دخل جحيم بشريتنا فأنار ظلمته”( افسس 8:4).. هذه هي رسالتنا أن نقول حقيقة هويتنا في وجه الأقوياء، فنحن أبرياء، وسبب خطيئتنا ، هم ، كبار الزمن ، وسرّاق المناصب، ومنافقو المسيرة، كان أنْ أصبحنا ما نحن عليه بلا كلمة ولا وجود بل مسيَّرين وخاضعين وأكيداً خانعين، وهذه نتيجة حبّنا لمصالحنا وأنانياتنا وكبريائنا ودفاعنا عن الفاسدين الذين نحسبهم قديسين كي نُعطى ما لا يملكون، لتبرير محبتنا واحترامنا، وما هم في الحقيقة إلا أناس يحتاجون الى قانون العدل والسؤال إنهم ضالمون بل اكثر من ذلك إنهم ذئاب الزمن.

غابة ادغال

إننا اليوم نقف أمام أخطار تداهمنا من الخارج كما في الداخل، وإننا نعيش أياماً قاسية ، وأوقات عصيبة فرضتها علينا تحديات لم تكن وغير مسبوقة، ووفرت فرصة للمتطرفين وذوي النزاعات الطائفية والأنانية ومن كافة الألوان والأطياف فشنّوا علينا حربهم البغيضة التي كرّست الطائفية وزرعت بذور الحقد والكراهية والتعصب فكان دخول داعش الإجرامي إلى بغديدا الحبيبة وقرى ومدن سهل نينوى تدنيساً لأرضنا،وإجراماً بحقنا ،بعد أن جعلوا منها غابة أدغال إذ لم يبقَ للإنسانية وجود، وللحضارة تاريخ، وبات الخطر مضاعَفاً من خلال تهجير مبرمج وعبر فرض الشريعة والتعاليم الأصولية كي نكون أهل ذمّة ودافعي جزية، وحُسبنا من الذين عليهم التكفير والقتل، ونسوا أو تناسوا ما نحن إلا أحرار ، وأبناء أحرار، عكس ما هم عليه، ولكن لا حيلة لدنيانا، فقد زيّفوا التاريخ ، وباعوا الأسماء ، وغيّروا المناصب والكراسي ، وهدموا الحضارة في ماضيها ، كما في حاضرها، وأصبحنا ــ شئنا أم أبينا ــ عبيداً مرة لهؤلاء ، وأخرى لأولئك ونحن لهم شاكرون وممجدون ، وبئس شعوب تزيف تاريخاً وتقتل أصلاء وتقول ما نحن إلا أمناء في حمايتكم.

دولار الزمن

هذه الأمور وأخرى في مسيرة الألم والوجود والتي قادتنا إلى المجهول، يؤلمني أن أقول إننا لم ندرك جيداً _ نحن بالذات _ وجودَنا ، فسارعنا الخطى وراء الفاسدين لنحصل منهم على دولار الزمن، وأجلسناهم في مقدمة الأبرياء البسطاء ، في المحافل أو في مؤتمرات أو في المعابد ،كي نقدم لهم الشكر المصلحي والطائفي، فيكونوا لنا عوناً وما هم إلا قادة عميان. هذه المسيرة المؤلمة تقودني إلى أن أقول نتيجة ما أعيشه وأراه أن إله السماء لا ينفعني بشيء فأنا إله الدنيا وعلى الإله أن يكون في طاعتي وسماع أوامري، فكل واحد منا هو إله لذاته، يؤلّه مَن يشاء ومتى ما يشاء ومن أجل مَن يشاء، وهذه هي شريعة اليوم، وكما يقول المزمّر ” قال الجاهل في قلبه ” ليس إله ” فَسَدوا ورجسوا بافعالهم وليس من يعمل صلاحاً” (مز 1:14) فمَن منا إذا ما سمع نصيحة في بيت عبادة حملها إلى عائلته وأولاده ، وعلّمهم إياها ليكونوا في مسيرة المسيحية والشهادة الإيمانية، لا أظن!!!، عكس ما شهد التاريخ بالامس إذ إن آباءنا وأجدادنا كانوا يحملون كلمة الحق في أفواههم ومسيرة الصدق بأقدامهم ، ووفاء الأمانة بأياديهم، أما اليوم فقد تغير الموقف والهدف واستُبدل بمواقف تجعلنا أن نكون آلهة لهذا الزمن العولّمي المزيف، فالحقيقة يجب أن تقال وهو أنه لا يمكن أن نقوم بعمل إلا متى ما نشاء وحسب ما نشاء وننسى أن هناك معبد الرب يدعونا إلى أن نكون للإله الحي، لإله السماء وليس لإله الدنيا والزمن وربما لا توافقوني على هذه المسيرة ولكن ذلك ما أراه حقيقةً. ومسيرة الحياة أكبر وأجلّ برهان لما يحصل اليوم لعالمنا، وفي هذا يقول ربنا “تعرفون الحق والحق يحرركم” (يو32:8).ولنعرف جيداً يا أحبائي إننا نعيش لحظتنا هذه، فالماضي قد انتهى ولا نملك أن نستعيده، والمستقبل لا نعلم منه هل ستتمّ جملتنا التي نقولها أم لا! إذ ليس من السهل إذا كنا لا نخوض معركة طويلة وملزمة تدور بين إلهي المزيَّف وإله السماء الحقيقي إله يسوع المسيح الرب . وما حصل لنا ما كان إلا تجربة قاسية وربما ذلك كان من إله السماء ليقول لنا:”لا تؤلّهوا أنفسكم، وكفاكم تقدّسون الفاسدين وتقرّبون شهود الزور وتُفسدون ضمائر الأبرياء ، كما تشاؤون ، وتعاملون معارضيكم بخباثة المسيرة لغنائم مصلحية كي تدوم مصالحكم ومناصبكم وحملاتكم، ولكي يقول الناس عنكم كل جيد وصالح وما ذلك إلا تزييف الحقيقة وتأليه الذات بينما يقول ربنا:” ولا تدعوا أحداً على الأرض يا أبانا لأن لكم أباً واحداً هو الآب السماوي” (متى8:23).

ختاماً…

            نعم، نحن في زمنٍ فاسد، ونكتب تاريخاً مزيَّفاً، ونعيش حياةً صاخبة، ونظلم أبرياء لأنهم قالوا كلمة الحق كي نُفسد حياتهم في زورٍ وبهتانٍ وقضاءٍ مرتشٍ، وهكذا يحلو لنا كي نكون في صفوف المؤتمرات الأولى فنبيع القداسة بالفساد، والبرارة بالدنس، والوفاء بالحقد والكراهية، والأمانة بحبّ الذات، والعدالة بالكذب والوجوه،والكفاءة بالمصلحة، وفي ذلك كله ما نحن إلا آلهة لدنيانا ولزمننا وللمحيطين بنا والذين سلبوا إرادتنا ، وسرقوا عقولنا ، بكذبهم وغشّهم، ويحسبون أنفسهم في ذلك إنهم أبرياء، صدّيقون، مخلصون، أمناء، والحقيقة عكس ذلك بالتمام والكمال.

            نعم ، إن المسيح الرب يدعونا إلى أنْ نحمل حقيقة البشارة والشهادة الأمينة لحقيقة الحياة والوفاء الأكيد لحقيقة عماذنا، فلتتوحد كلمتنا قبل توحيد مصالحنا ولتتفق قلوبنا قبل تكاتف أيادينا ، والحقيقة إما نحن في الوجود أو في الرحيل أو نحن مطيعون ، خانعون بل أبكميون ولا يجوز ان نقول كلمة من أجل حريتنا وحقوقنا وهنا تكمن الحقيقة كي نعرف من نحن واين سنكون لنحيا سر عماذنا بصعودنا إلى الجبل من أجل حقيقة صلاتنا، فندرك حقيقة الاله المزّيف ونعبد الاله الحقيقي في يسوع المسيح الرب ، وختاماً ، عفواً يا إلهي فأنا عبدُكَ ومسبحّك ولستُ إلهَك، فاقبلْ يارب إعتذاري وإعترافي بك.فأنت إلهي وليس لي غيرك اثق به إلا أنت . نعم وآمين.