بقلم: الأب جورج بيروتي
تعريف الليتورجيا من حيث موضوعها
تضاربت الآراء حول موضوع العلم الليتورجي وأهميته ومدى منفعته وضرورة انتشاره بين أفراد الشعب وبالأولى بين أفراد الإكليروس إلى أن تركز الجدال حول مفهوم الليتورجيا ذاتها.
قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، خلقت رسالة البابا بيوس الثاني عشر حول الليتورجيا MEDIATOR DEI مرحلة جديدة في البحث إذ وضعت حداً لمحاولات كثيرة وفتحت باباً لمباحثات جديدة تكللت أكثر نتائجها في نصوص القرار الصادر عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بشأن الليتورجيا المقدسة – وهي الوثيقة الأولى التي أصدرها المجمع.
واستقر الرأي أخيراً على اعتبار الليتورجيا هي: مجموعة العبادات الرسمية التي تقوم بها الكنيسة بواجب التدين بحسب أصول وتعاليم يسوع رأس الكنيسة.
أما العبادات الفردية التي يقوم بها واحد أو أكثر من المؤمنين بدافع فوري، عفوي، من صلوات خاصة، وتسابيح وتساعيات الخ… فلا تدخل فيها.
لأن الليتورجيا تتضمن أعمال العبادة التي تحويها الأسرار الكنسية السبعة وعلى رأسها سر القربان المقدس في رتبة القداس الإلهي ( الإفخارستيا). ثم أعمال العبادة المتضمنة تقديس الشعب كله على مدار السنة الطقسية بإقامة الأعياد السيدية والمريمية وغيرها.
أما تعريفها من حيث لفظها
فهي كلمة يونانية الأصل مركبة من لفظين:
لايتون = شعب، شعبي، جمهوري.
ايرغون= وظيفة، مهمة، خدمة
فتدل إذن اللفظة على عمل جمهوري ذي صبغة رسمية لمصلحة الجمهور كله.
فالليتورجيا هي مجموع الرموز والكلمات والحركات التي تعبّر بها الكنيسة بالاتحاد مع المسيح رأسها، عن العبادة الواجبة لله.
أو مجموعة الأشياء والألفاظ والإشارات والأعمال المنتظمة لدى الجماعة الدينية بغية تأمين العبادة المشتركة بين الباطن والخارج معاً.
ولـقد حـلل القديس أوغسطينوس (+430) مفهوم الإشارة أو الدلالة إذ قال: “الدلالة شيء محسوس إذا ما عرفته هداك إلى معرفة شيء آخر كنت تجهله”.
أما الليتورجيا بمعناها العلمي أو العلم الليتورجي فقد شاء المحدثون الباحثون أن يطلقوا عليها اسماً خاصاً فدعوها علم لاهوت الأسرار theologie sacramentelle لأن الأسرار هي أخص أعمال العبادة الجمهورية وأهمها وغيرهم دعاها: علم الليتورجيا الرعوية la liturgie pastorale.
ويستخلص مما تقدم أن لمفهوم الإشارات والدلائل السرية والرموز التي تصدر النعمة المشار إليها، لها أهمية رئيسية في علم الليتورجيا، لأن الليتورجيا نفسها ليست سوى “دلالات فعّالة”
فالليتورجيا تشكل اعترافاً واضحاً بالإيمان يدركه جميع المؤمنين فيمنع عنهم الضلال، ومن هنا برز القول المأثور: “قاعدة الإيمان من الطقوس وبالعكس – أو شريعة الصلاة هي شريعة الإيمان” أي يعرف الإيمان من طريقة الصلاة.
نجد أيضاً في الليتورجيا دروساً أدبية وخلقية تذكرنا أيضاً بواجباتنا الدينية والاجتماعية.
وللطقوس البيعية بـعد كنسي واجتماعـي، كرابطة اجتماعية تقرّب المؤمنين بعضهم من بعض فتجمعهم في كنيسة واحدة يجلسون على مقاعد واحدة ويتناولون قرباناً واحداً تحت رعاية راع واحد.
الغاية من الليتورجيا وأهميتها في مسيرة خلاصنا
أن الغاية الأولية من مجموعة الصلوات وأعمال العبادة التي وضعها السيد المسيح بمنزلة أسرار لبيعته أو وضـعتها الكنيسة في متناول النفوس المؤمنة هي تمجيد الله بتقديس نفوسنا، وطقوس البيعة تحقق هذا الغرض بما يجري فيها من تسبيح لله ومن أناشيد وبسملات وتمجيدات وتضرعات.
أما تقديس نفوس المؤمنين فهو الغاية المباشرة بالنسبة للبشر، لكنها بمرتبة ثانوية تحدث من حيث يتم تمجيد الله في قديسيه.
ثم أن رتب الطقوس لها قوة تدفع بالنفس المؤمنة إلى التأمل بالأمور الروحية فتساعدها على الصعود نحو الإلهيات تدريجياً.
بعد أن تمّم السيد المسيح عمل فدائنا في سر الفصح الذي تناول آلامه وموته وقيامته وصعوده المجيد، لم يرسل المسيح رسله ليبشروا بالإنجيل كل خليقة، وحسب بل ليمارسوا عمل الخلاص الذي أعلنوا عنه بالذبيحة والأسرار ضمن الحياة الليتورجية. مثلاً في الاحتفال الليتورجي بالعماد المقدس، ندخل في سر فصح المسيح، نموت معه وندفن معه، على حسب قول بولس الرسول: “إننا وقد اعتمدنا في يسوع المسيح إنما اعتمدنا في موته فدفنا معه بالمعمودية لنموت فنحيا حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب (روم6/4) ونقبل روح التبني الذي به ندعو أبّا أيها الآب (روم8/45).
وفي أعمال الرسل نرى أن الذين قبلوا كلام بطرس الرسول في يوم العنصرة، اعتمدوا وهؤلاء كانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة في كسر الخبز والصلوات وهم يسبحون الله. (أعمال 2/41-47)
عمل الخلاص يتواصل في الليتورجيا
في التاريخ، في ملْ الزمن اتخذ الكلمة جسداً من مريم البتول وأقام بين البشر وأعلن بشارة الملكوت وأحب كنيسته ببذل نفسه ذبيحة سامية على الصليب – وبعد أن دخل مقدس السماء وجلس عن يمين الآب، لا يزال يشفع في البشر، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين: “وأما هذا الذي يبقى للأبد فله كهنوت لا يــزول، وهـو قادر على أن يخلص الذين يتقربون به إلى الله خلاصاً تاماً لأنه حيّ باق ليشفع لهم”.(عب 7/24-25).
وهاهي الكنيسة عروسته وجسده، تسير في الزمان والمكان، في شركة دائمة مع السماء، متجهة نحو الأفراح الأبدية… وبالليتورجيا المقدسة – العبادة الروحية – تحتفل الكنيسة بواسطة الروح القدس بسر خلاصنا، الخلاص النابع من فصح الرب، إذ في سر الطقوس يقرّب المسيح القائم من بين الأموات ذاته يجعلنا مشابهين له بموهبة من روحه. بحيث تصبح حياتنا هي المسيح، على حد قول بولس الرسول: “ليمجد المسيح دائماً في جسدي كما يمجد اليوم، سواء عشت أو مت. فالحياة عندي هي المسيح، والموت غنم”. (في1/21).
حضور المسيح في الليتورجيا
بواسطة الأسرار والليتورجيا يتواصل تجسد ابن الله في الكنيسة فيطال كل إنسان في الزمان والمكان. إنه يقيم دائماً في كنيسته ولا سيما في الأعمال الطقسية. فهو حاضر في ذبيحة القداس سواء في شخص خادم السر – ومن قدّم نفسه قدماً على الصليب، يقدّم نفسه اليوم بواسطة الكهنة أو على الأخص تحت أعراض الأفخارستيا، وهو حاضر بقوته في الأسرار بحيث إذا عمّد أحد الناس، يكون هو من يعمّد، وهو حاضر في كلامه، لأنه هو من يتكلم عندما تتلى في الكنيسة الأسفار المقدسة، وهو حاضر أخيراً في الكنيسة عندما تتعالى فيها الصلوات والأناشيد وقد وعد بقوله: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون هناك فيما بينهم” (متى18/20).
الليتورجيا الأرضية احتفال مسبّق (استباق) لليتورجيا السماوية
في عيش الأسرار منذ الآن تربط الليتورجيا الأرض بالسماء ومن ثم بالليتورجا الإلهية الكاملة المحتفل بها هـنالك. لأننا إذ نحتفـل بالليتورجيـا الأرضية نشترك بالـذوق مسبَّقاً في تلك الليتورجيا السماوية. فليتورجيا الأرض تدخلنا في ليتورجيا السماء.
المسيح حاضر في الليتورجيا وهو الوسيط بين المساء والأرض. وهكذا ليتورجيا الأسرار هي واسطة بين الأرض والسماء وتدخلنا في الحياة الأبدية تدخلنا في الحياة الإلهية – الليتورجيا الإلهية الكاملة.
وتبقى الليتورجيا صلاة الكنيسة وصلاة شعب الله، وصلاة شعب الله جارية في الكنيسة منذ أقدم الأجيال، وكل جيل كان يكفيها وفقاً لحاجاته. ولكنها أهملت أحياناً، عندما تعذّر فهمهما على الشعب، فأخذ يستعيض عنها بصلوات فردية، بعضها صالح وبعضها بائخ. ونتج عن ذلك انحراف، متأت عن إهمال صلاة شعب الجماعية. وكان لابد من إحياء هذه الصلاة الليتورجية من جديد إرواء لعطش النفوس، وعملاً بتوصيات المجمع الفاتيكاني الثاني.
السنة الليتورجية
كل يوم تبني الليتورجيا المؤمنين وتجعل منهم هيكلاً للرب مسكناً لله في الروح (أفسس 2/21-22) “به يحكم كل بناء ويرتفع ليكون هيكلاً مقدساً في الرب، وبه أنتم أيضاً تبنون معاً لتصيروا مسكناً لله في الروح”.
لذلك فأجمل صلاة لنا هي التي تشترك في صلاة الكنيسة بحسب الدورة الطقسية المبنية على حياة المخلص.
وتدور السنة الطقسية حول أهم مراحل التدبير الخلاصي وترتكز على الأعياد الأساسية في السنة:
1- الميلاد مع ما يسبقه من زمن البشارة والمجيء.
2- الغطاس أي عماد الرب وبدء التبشير – الظهور الإلهي.
3- الصوم أي زمن التبشير والتأمل في تعاليم الرب.
4- الآلام الموت والقيامة والصعود.
5- العنصرة، بدء انتشار الكنيسة عروس الروح القدس.
6- ارتفاع الصليب أي انتصار المسيح أخيراً في مجيئه الثاني.
وتبدأ السنة الطقسية في الأحد الأول من تشرين الثاني وتسير أسبوعاً أسبوعاً حتى الأخير.
خاتمة: الطقس فن مقدس في خدمة المسيح وعبادة الله
لا عجب إذا قلنا أن الطقس – الليتورجيا – فن مقدس من نوع رفيع لا مجال في للارتجال بل يتطلب التروي وحسن الأداء. وكما أن المسـيح لم يعمل حركة وإلا كانت غنية في صفائها وصدقها، كذلك نحن الذين اعتمدوا بالمسيح قد لبسنا وقمنا بعلامة طقسية أو عمل ليتورجي ضمن جدران بيت الله، علينا أن نخدم المسيح بحسن الأداء لنتقدس به ويتمجد هو فينا في مسيرتنا المتواصلة نحو الليتورجيا الكاملة في السماء.
عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب