المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
إننا في ظروف صعبة من الحياة، وإزاء تخلّي بعض المؤمنين عن التمسك بإيمانهم وطقوسهم ، بأمانتهم ووفائهم ، بمسيحهم وكنيستهم، وتسللهم الى ما يسمى بكنائس او جمعيات او معابد ، وفدت الى ارضنا بالامس القريب ، وحتى اليوم ، ولا زالت . لذا نتساءل مثل إيليا: إنْ كان الله قد نبذ شعبه، إنْ كان الرب قد نسي كنيسته الاصيلة في عمق المشرق المعذب ، ما هذه الاوجاع ، لماذا نُضطهد ، حتى ما قتل الأبرياء ، في هذا كله نشعر أيضاً مثل النبي إيليا بالوحدة والغربة في وسط شعبنا، ونتعجب أشد العجب من خيارات أبناء جيلنا ومن تهاملهم وتخلّيهم عن أسس الإيمان الصحيح، وانجرافهم وراء أصنام جديدة ، وتعاليم جديدة ، وجمعيات جديدة ، شكلاً ولوناً وحجماً وغاية … ويعود السؤال نفسه مرة أخرى إلى أذهاننا: هل نبذ الله شعبه؟… أين أصبحت أمّنا الكنيسة المقدسة؟ هل ضيّعنا الطريق التي توصلنا إلى أبوابها؟ هل ايمان ابنائنا واجدادنا كان ايمانا صوريا … أين هو المعيار الحقيقي للإيمان؟ للعبادة؟ وأي إيمان هو الصحيح ؟ وهل طقوس كنائسنا سندٌ لايماننا ، ام اصبحت طقوسنا حركاتٍ بالية لا يابه بها احد … أين نحن، وأين هي كنيسة اليوم ،بل كنيسة الغد، بل كنسيتنا الآن؟.
شعب الله
من المؤكد ان ملامحَ الكنيسة الأولى بدأت مع مخلّع كفرناحوم، حيث الجماهير المحتشدة والأربعة الذين حملوا الُمقعَد إلى حيث يسوع…نعم هنا ظهرت ملامحُ أبناء الله في اجتماعهم في بيت لسماع كلام الله، وبيت الله يعني كنيستنا، كما هي خيمة العهد القديم… فالكنيسة، قبل كل شيء، هي شعب الله، وهي الحظيرة والرعية التي فيها وبها يَعمل المسيح القائم ، وهي ككل كائن حي ، تولد بالعماذ وتتغذى بالقربان، فتنمو وتتوحد. وهي مقدسة، وقداستها تقوم في المسيح القدوس لانه اساس قداستها ، . وهي جامعة كما أرادها المسيح بالذات، أي لا يحدّها زمان أو مكان، وهي لكل إنسان،فهي ليست مسجلة باسم شخص مهما كان بل هي خاصة المسيح ، وتنتشر في كل الأقطار كما دعاها المسيح ان تذهب ” اذهبوا الى العالم كله” ( متى 19:28) فيها يتابع المؤمن خبرتَه الإيمانية التي بدأت بالعماذ، وتتوضح معالمُها يوماً بعد يوم من خلال قراءة أحداث حياتنا على ضوء خبرة يسوع لاسيما خبرة الموت والقيامة. والكنيسة تحمل طابعاً شمولياً، فهي الوحدة والقداسة والرسالة. فهي تسعى إلى تقديس الناس لتقربهم من الله بما تضع في متناولهم من وسائل وخصوصاً الأسرار المقدسة. ففي ذلك تعني الكنيسة المقدسة الفصل والتكريس. ففي سفر الخروج، عندما اقترب موسى من أرض تجلّى فيها الله، سمع صوت الله يقول له:”لا تدنُ إلى هنا. اخلع نعليكَ من رجليكَ، فإن الموضع الذي أنت فيه قائم أرض مقدسة” (خر 5:3)… هكذا حضور الله يوجب علاقة جديدة.
ايمان وبشرى
لقد شبّه الرب يسوع ملكوت الله بشبكة أُلقيت في البحر ، فجمعت من كل جنس. والكنيسة تجمع جميع أنواع الناس ، ومن بينهم خطأة يشعرون بما أحدثته الخطيئة في داخلهم من تمزق. وهي تقدم _ على مثال مؤسسها السيد المسيح _ ما يحتاجون إليه من غفران لينهضوا من كبوتهم، فهي تحتاج إلى تقديس ذاتها في شخص المنتمي إليها، “لأجلهم أقدس ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين بالحق (يو19:17). كما ان الكنيسة شاهدة لرسالة الإيمان والبشرى، وشهيدة من أجل أبنائها في تقديسهم… إذن هي مدعوة لأن تنطلق في رسالتها إلى العالم كله من الجليل، المكان الذي يرمز إلى الشمولية والخطيئة، لان العالم يحتاجه اليوم وكل يوم ومن المؤسف هناك من ينصب نفسه داعية ، في أنه اكتشف طريقا جديدة بل مسيحا جديدا قائلا: كفاكم بعبادات وطقوس بالية بل ميتة فلا غير المسيح حسب قول مار بولس إلى تلميذه ” لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ” (1تيمو 5:2) فيجد نفسه مصلحا بل اكثر من ذلك، يترك كنيسته الاصيلة ويعود يقول ان كل الكنائس هي واحدة .
الكنيسة وبلدي
واليوم تشعُر الكنيسة في بلدي بأنها وحيدة وحائرة ومضطهدة وشهيدة ، كأنها على متن سفينة سريعة العطب، تتسرب إليها المياه من كل جانب،فهناك من يتركها دون ان يعرف لماذا ، متأملا انه لا يجوز البقاء فيها وهناك من يدرك وهناك من لا يدرك أنها لن تثبت إلا عبر الصلاة في الإيمان والمحبة لكي تنتصر على كل المحن والصعوبات، وأيمانها الوحيد والأخير هو أن الله أصبح في يسوع وبصورة نهائية عمانوئيل “الله معنا”، الذي يقودها لتشرح وتعلّم أبناءها كأمّ ومعلّمة، تشرح لهم كلمة الله وتحفظ لنا وديعة الإيمان، وتتابع تنشئة الأمم كي يصبحوا رسلاً يتبعون طريق المعلم ليشهدوا حتى أقاصي الأرض.اذن عطاء كنيستنا يعني قوة إيماننا، فإذا كانت كنيستنا خائرة أحياناً في نقل البشرى إلى العالم، فما ذلك إلا دليل على ضعف محبتها للرب، وعدم تجاوبها مع الروح القدس الحال فيها. لذلك يترتب علينا كمؤمنين أن نعي القدرة الكامنة فينا. قدرة الروح القدس الذي حلّ على الكنيسة يوم العَنصرة وما زال يحلّ على المؤمنين في المعمودية. هذا الروح، متى دُعينا وأَصغينا لحركاته، يجددنا ويقوينا، وما من تجديد ممكن في الكنيسة أو في حياة المؤمنين إلا من فعل الروح القدس.
كنيستنا وهوانا
اليوم كثيراً من الأحيان نبيع كنيستنا بسبب هوى هوانا، ومصلحة من مصالحنا، وبسبب أشخاص يعملون لكبريائنا ، ومن اجل ارازقنا خضراء كانت ام حمراء أم صفراء ، أو حجز بطاقة سفر الى أرض الله الواسعة ، لأننا نؤمن أن الخلاص بنا وليس بغيرنا ، او بعيش رغيد وهذا لا يعني إلا إدراكنا الناقص لإيمان آبائنا وأجدادنا الذي استلمناه وورثناه من جرن العماد وفي كنيستنا الجامعة .. نعم، ربما ذلك صحيح حينما نقول: أن كنيسة اليوم بحاجة إلى عَنصرة جديدة تهب على العالم، عالم الباطن، عالم الضمير والروح والقلب من أجل تجديده ونفض الغبار عنه.وهذا لا يعني ان اجعل نفسي مُصلِحا لها ولرجالها ، لذا يطيب لي ان اتساءل ماذا تعني الكنيسة التي لا تحتفل بعشاء الرب القائم؟.ماذا تعني الكنيسة التي تشتري أناساً بزاد الدنيا الزائل؟.ماذا تعني الكنيسة التي لا تؤمن بالأسرار وبسلطة الأولوية البابوية والرسولية والولاية الكهنوتية؟.ماذا تعني الكنيسة التي لا تحمل أولادها الخطأة إلى كرسي الاعتراف – وان كنّا اليوم قد استبعدناه عن ضمائرنا – أمام مَن خوّلته ليربط ويحلّ بسلطان مؤسسها يسوع الفادي؟.انني ارى اننا نحن لسنا اليوم بحاجة إلى كنيسة تجمعنا فقط يوم الأحد وان كان ذلك عملا بوصية الرب ” قدس يوم الرب” ( ) وتقديسنا هو كسر الخبز وكاس الخلاص .ما يجعلنا ان ننظر بكل عمق نحن اليوم بحاجة إلى كنيسة تحيا وتعيش إيماننا، وترشدنا إلى طريق الحياة في رسالة المسيح الخلاصية.نحن بحاجة إلى كنيسة تحتفل بعشاء الرب وليس باجتماع لاكل الخبز ، ورجالها يربطون ويحلون وكانهم اولياء الله عليها ، وتدفع بأبنائها إلى تبشير كل إنسان، والحقيقة لا ولاية لهم ولا كهنوت، وهل تلك دعوة مقدسة؟ ان امنا الكنيسة هي التي تعلّمنا دائماً في أن نقول:”ماران آثا” تعال أيها الرب يسوع. لأنه معها ومعنا حتى نهاية العالم “ها أنا معكم طوال الأيام حتى نهاية العالم” (متى 20:28 ) ، فهو معنا منذ البداية وحتى النهاية، معنا يرافقنا لنكون معاً جماعة الكنيسة، جماعة الملكوت.
الكنيسة والروح
نعم، خاف الرسل عندما اختبروا غياب الرب، ووبّخهم ربنا على ذلك (لوقا 36:24) وخافوا من عاقبة تنكّرهم له، ولكنهم خافوا أكثر عندما تراءى لهم بعد قيامته، في ذلك كلنا أسرى الخوف، ولكن المسيح الذي أحب كنيسته وأسسها لتنطلق في مسيرة الخلاص، حرّرها من الخوف بكل أنواعه… وهذا النداء كان لهم دور الشهادة للرسل الذين حملوا الكنيسة عبر إعلانهم البشرى السارة. لا نيأس ولا نفقد الأمل، بل لنتسلّح بالتوبة والصلاة مبتعدين عن كل ممارسة دنيوية، وواضعين حياتنا في يدي الله حتى يأتي ملكوته.
نفخة وسلطان
بعد مرور حوالي ألفي سنة على حدث القيامة لا يزال الرب يضرب لكنيسته موعداً ليلتقيها، فيجدد لها عطية السلام ونفخة الروح القدس وسلطان مغفرة الخطايا، ويعطيها ذاته جسداً ودماً كي يغذيها ويرسلها ملحاً للأرض ونوراً للعالم.فهلاّ وجدت الكنيسة في ذلك رجاءً وعزاءً في مواجهة تقاعس الكثيرين من أبنائها، وحصناً وملجأً في مواجهة هجمات المشككين والمضطهدين؟… فكنيسة اليوم ما زالت تتجدد وتعيش بقوة الروح القدس وإرادة الرب في وصية المحبة ، ففتور الكنيسة في نقل البشرى دليل على ضعف محبتنا، وعدم تجاوبنا للروح القدس. لذا يترتب علينا أن نعي القدرة الكامنة فينا، قدرة الروح القدس الذي حلّ على الكنيسة مازال يحلّ على المؤمنين في المعمودية، هو يجددنا ويقوينا، وما من تجديد ممكن في الكنيسة أو في حياة المؤمنين ولو توفرت له جميع العناصر البشرية إلا هو من فعل الروح القدس.
الختام
اليوم يدعونا المسيح، وكل واحد باسمه، لنكون حاملي رسالته الخلاصية الى عوائلنا ثم إلى العالم كله. اختارنا المسيح لنكون كبطرس ومتى ويوحنا، وليس كيهوّذا الذي خانه ونحن نخونه بتقاعسنا عن تأدية واجبنا، ولهونا بامور الدنيا المزيفة ،فنقضي اقدس اوقاتنا في اللهو واللعب وكأنّ الرب لا يرانا فنشهد حقيقة أنفسنا غشاً ورياءً كي نكون للكبار عبيدا، وما ذلك إلا مصالحنا ، وعن تقاعسنا في احترام اساقفتنا القديسين وكهنتنا الغيارى ، إننا في ذلك نخون المسيح ونسلّمه إلى الموت من جديد… ولنسأل أنفسنا ، هل نحن اليوم نفتح له آذاننا والقلوب، أم أن صخب هذا العالم ووسائله الصارخة تمنعنا من رؤية ما يريده الروح القدس، وسماع ما يأمر به.فما ينقصنا أحياناً شجاعة لكي نكون أمناء لله،وليس الى اصحابنا ومصالحنا فلا نهوى الا ما نهوى وليس لنا الا هم وهنّ ، لاسيما عندما نقف موقف الدفاع عن إيماننا… ولنسأل أيضاً أنفسنا:أين نحن من المسيح؟… أين نحن من كلمته حينما يقول لنا في بولس الرسول ” وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»”( غلاطية 8:1)! “؟… أين نحن من كنيسته؟.مَن هو المسيح بالنسبة لنا؟. كما يقول مار بولس ” أفأستعطف الآن الناس أم الله؟ أم أطلب أن أرضي الناس؟ فلو كنت بعد أرضي الناس، لم أكن عبدا للمسيح ” ( غلاطية 1:10).ولنعلم إن يسوع حاضر بيننا ، ليساعدنا على عيش هذه الساعات الصعبة ، من مسيرة زمننا فلا نخاف مادام الرب معنا فمن علينا ، وليدرك الجميع وبالاخص الذين يكتشفون طريقا جديدة انّ أمنا الكنيسة تقول في طقسها السرياني ما نصه ” ان جاء احد وبشركم بخلاف ما بشرناكم فليكن محروما من البيعة فقد ظهرت تعاليم مختلفة من كل جانب وطوبى لمن بتعليم الله يبدا ويكمل ” . نعم وامين