أجرى الحوار: مايكل فيكتور
لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السماوات وقت”...وعد من الكتاب المقدس كنت أردده وأنا في طريقي لدير راهبات قلب يسوع المصريات بمصر الجديدة حيث يقيم هناك قديس الكنيسة القبطية الكاثوليكية غبطة الأنبا أنطونيوس نجيب بطريرك الأقباط الكاثوليك الفخري وكاردينال الكنيسة الجامعة.. شريط الذكريات يعود بي إلي قداس رأس السنة – لعام 2012 – بعد انتهاء الصلاة بلحظات تعرض غبطته لجلطة بالمخ.. وتمر الشهور والأيام ونحن نتردد علي غبطته للاطمئنان علي صحته.. وفي كل لقاء كنان نسعي لنسجل تاريخ هذا الرجل العظيم في بطاركة الكنيسة الكاثوليكية, إلي أن كانت مشيئة الله .. كانت في انتظارنا ببهو الدير الأخت أغابي الراهبة الساهرة لخدمة الأنبا أنطونيوس، ورافقتنا حتي غرفته الخاصة.. كان غبطته جالسا بملابسه الكهنوتية السوداء البسيطة.. قبل أن نبدأ الحديث، أحضرت الأخت أغابي أيقونة العذراء – وشاح البطريرك – لغبطته ليعلقها علي صدره، ولكنه رفض، ولم يكن الموقف غريبا فنحن نعرف عنه تواضعه الشديد، وحرصه علي أن يظهر دائما بصورة الكاهن.. ومنذ اختير – عام 2006 – بطريركا للأقباط الكاثوليك وغبطته علي درجة عالية من السمو الروحي وممارسة العمل الرسولي.. وكما عرفناه طوال سنوات حبريته يعمل في صمت ولا يحب الدعاية في شخصه، كما أنه يشير برأيه في أي موضوع بهدوء وحكمة، وشعاره ”نعمل الحق بالمحبة”.
.. ومن عمق قلبه الفياض بالمحبة ظل غبطة الأنبا أنطونيوس يتحدث لنا لساعات، وفرضت بساطته وإنسانيته العالية نفسها علي الحوار الذي تحمل السطور القادمة نصه..
■ عن النشأة قال غبطته:
●● ولدت باسم أنطون بالمنيا في 18 مارس 1935، من والدين كاثوليكيين، لدي 3 أخوة و3 أخوات، بدأت دراستي في مدرسة الراهبات الفرنسيسكانية ببني سويف ثم التحقق بالإكليريكية الصغري بالفجالة، وعندما نقل المعهد إلي طنطا أكملت الدراسة بكلية القديس لويس للآباء الأفريكان حتي الثانوية العامة، ثم قمت بدراسات دينية فدرست لاهوت في المعادي لمدة عام وثلاث سنوات لاهوت بالجامعة الأوربانية بروما، وبعدها عدت إلي مصر لتأدية الخدمة العسكرية عام 1959، ثم تمت سيامتي كاهنا باسم الأب أنطون في 30 أكتوبر عام 1960 وخدمت راعيا لكنيسة ملكة السلام بالفكرية حتي أغسطس 1961، ثم سافرت إلي روما وحصلت علي بكالوريوس اللاهوت من الجامعة الأوربانية ودبلوم علم الاجتماع الديني وليسانس الكتاب المقدس من معهد الكتاب المقدس، وفي 1964 عدت إلي مصر وتم انتخابي أسقفا لإيبارشية المنيا وتمت السيامة الأسقفية في كاتدرائية المنيا يوم 9 سبتمبر 1977 باسم الأنبا أنطونيوس
■ محطة الخدمة ■
■ عند مرحلة الأسقفية توقفنا لنسأل غبطته ماذا تمثل لك هذه المرحلة التي استمرت نحو 25 سنة؟
●● الأسقفية في حياتي كانت مرحلة الخدمة.. والحقيقة جاء انتخابي أسقفا للمنيا بعد الأنبا إسحق غطاس وهو شخصية متفتحة واستطاع في وقته أن يقوم بمبادرات بناءة وعمل علي إدخال المفاهيم والتعاليم بالإيبارشية حيث جاءت خدمته بعد المجمع الفاتيكاني الثاني فوضع نيافته أساسا كبيرا استطعت من بعده أن أبني عليه ثلاثة أشياء أعتبرها عمل الرب داخل هذه الإيبارشية.
عن هذه الثلاثة قال غبطته:
●● أولا الفصل بين الخدمة الاجتماعية وبين الرعية، فالخدمة الاجتماعية بالروح المسيحية هي خدمة للجميع وليست لأبناء الطائفة فقط، بدأت بعمل أماكن للخدمة بكل قرية تقريبا، ثم أقمنا مباني خدمية مستقلة عن مكان الرعية تكون تابعة للكنيسة ولكن لها مسئول ومدير متخصص وليس الراعي، وتكون كل القرارات بمشاركة الكهنة.
●● ثانيا أقمنا مبادرات اجتماعية ومؤتمرات سنوية فيها حياة ومشاركة روحية كنسية فهي فرصة لمقابلة الكهنة مع الشباب.. والحقيقة في بداية هذا النشاط استعنا بالهيئة الإنجيلية وساعدتنا كثيرا حتي تم تكوين مجموعات وأنشأنا مكاتب للأنشطة.
●● ثالثا التعليم والثقافة.. فبدأنا لأول مرة إنشاء مدارس بالصعيد, ووصل عددها بالمنيا حاليا 9 مداس وهي الإيبارشية الوحيدة التي تضم مدارس.
■ محطة مثلثة الالتزام ■
■ يسجل تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية أنه عقب استقالة غبطة البطريرك الكاردينال الأنبا اسطفانوس الثاني لتقدمه في السن انتخب السينودس البطريركي غبطتكم خلفا له في30 مارس 2006
■ كيف تقرأ غبطتكم محطة البطريركية في حياتكم؟
●● في الواقع بطريرك الأقباط الكاثوليك مهمة مثلثة الالتزام، فهو بطريرك الأقباط الكاثوليك, وفي ذات الوقت هو رئيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك بمصر، وأيضا هو عضو في مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك – وكلها لها التزامات واجتماعات وتوثيق للأعمال – وهذه المهام الثلاثة تجعله في وظيفة رابعة بارتباطه مع الفاتيكان بصفاته الثلاثية، والبطريرك يعين عضوا بالمجالس الفاتيكانية، وقد كنت عضوا في مجلس المهاجرين وهذا مجلس يشمل 13 قطاعا، ويعقد مؤتمرا وأكثر كل عام.
■ تعدد مهام البطريرك ألا تجعله يهتم بجانب علي حساب الآخر؟
●● هذا ما قلته بالفعل بعد انتخابي بطريركا في أول اجتماع للمجمع المقدس، وعرضت عليهم انتخاب أسقفا لمساعدتي يتولي شئون الكنائس بالقاهرة والدلتا والإسكندرية، ورشحت لهذا نيافة الأنبا يوحنا قلتة فهو نائبا للبطريرك منذ عام 1986, ولكنه اعتذر إذ رأي أن الرسالة التي يقوم بها في الخدمة بالقاهرة و بالمحافل الخارجية الخاصة بالحوار الإسلامي – المسيحي مسئولية كبيرة وأمانة سيحاسب عليها أمام الله، لذلك تم انتخاب نائبا آخر هو الأنبا بطرس فهيم مطران المنيا حاليا، وحددت المهام لكل مطرانا و هذا التنظيم ساعدني كثيرا.
■ خلال حبريتكم.. ما الإيجابيات التي تذكرونها؟
●● مشاركة العلمانيين من أكثر الأشياء التي كانت تسعدني, فقد أسست بالبطريركية نشاط الرابطات وكانت مبادرة رائعة اشترك فيها العلمانيون، وكنت أسعد جدا عندما أراهم مجتمعين لخدمة الكنيسة، وأيضا ترابط الكهنة كان يسعدني جدا وكثيرا ما كنت أشجع علي ذلك وكنت ألمس ذلك بنفسي فارتباط الكهنة بالبطريرك كان فعلا ارتباطا أبويا وبنويا.
■ محطة خدمة بابا الفاتيكان ■
■ هل كانت مفاجأة لغبطتكم أن تمنح درجة الكاردينالية بعد 4 سنوات من البطريركية؟
●● لم أكن أتصور أن أصبح حتي أسقفا أو بطريركا أو كاردينالا، وكنت أشعر دائما أن الله خصني برسالة التعليم ورسالة الكتاب المقدس, وكنت سعيد بهذه الرسالة جدا.. ولكن اختيار الله كان لكل محطة في حياتي.. وأمام اختيار الله كنت أصمت وكنت أشعر بأهمية كل محطة أمام الله.
والكاردينالية جاءت بالتزامن مع سينودس الشرق الأوسط, فكنت المقرر لهذا السينودس بتكليف من قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر – بابا الفاتيكان الفخرى – ، وهو دور محوري في أي سينودس بالفاتيكان.. وأذكر أننا في استراحة اجتماع للسينودس طلب مني أمين سر الفاتيكان أن يجلس معي.. وأخبرني خلال جلستنا أن قداسة البابا سيعلن عن اختيار كرادلة جدد، فقلت له أعرف ذلك.. وواصل حديثه لخيربني أن قداسة البابا يفكر أن أكون من ضمن هؤلاء الكرادلة.. أبديت له دهشتي وقلت له: “أنا لم يمر علي خدمتي البطريركية سوي 4 سنوات.. حقيقي أن سلفي سيدنا اسطفانوس الأول واسطفانوس الثاني نالوا الكاردينالية لكن بعد 15 و 18 عام من خدمتهم, وهناك من أقدم مني يستحق ذلك”، وأكدت له أني لا أستحق هذا, ولكنه أكد لي أن قداسة البابا يري غير ذلك وهي دعوة من الله.. وبعد يومين تم الإعلان.. ويومها كنت أشعر بالفعل أنها بداية رسالة مكملة للخدمة الكنسية والإنسانية في الشركة مع قداسة البابا ومجلس الكرادلة، ولم أشعر بأي فخر أو فرح خاص، وتسلمت الكاردينالية بقبول الله كما تسلمت الأسقفية والبطريركية، فدائما قبول إرادة الله يعطينا سلام داخلي.
بعد الكاردينالية تم تعييني في مجمع الكنائس الشرقية.. وانشغلت كثيرا بالمهام الجديدة حتي إني لم أكن أمكث في مصر إلا لفترات قليلة، ولم أضع خلال هذه الفترة برنامجي العملي، وكان الله هو الذي يرتب ويخطط وكان أكثر ما يشغلني الأوضاع الصعبة التي يعيشها الأقباط، وكنت أشعر أن من واجبي أن أرسل صوت المسيحيين بمصر إلي المؤسسات والهيئات الأوربية وكنت أتحدث معهم دائما بالحق كشعاري ”نعمل الحق بالمحبة”.
■ ماذا كنت تعرض عليهم.. وماذا كان الهدف؟
●● كنت دائما أتحدث عن الوضع الإنساني غير المبني علي المساواة في الحقوق والواجبات، والاعتداءات المستمرة علي الكنائس والأقباط دون اتخاذ إجراءات قانونية.. وكان هدفي المطالبة بتدخل مزدوج.. الأول الصلاة من أجل الكنيسة فلا شيء يغير القلوب والنفوس ألا عمل الله.. والتدخل الثاني هو مساعدة الكنيسة في رسالة التثبيت والإيمان وتقوية روح الخدمة والعطاء.
■ في محطة الكاردينالية كانت مشاركة غبطتكم في انتخاب بابا الفاتيكان.. كيف مضت هذه المهمة؟!
●● الحقيقة المشاركة كانت لتاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية، فمن أولي واجبات الكاردينال المشاركة في انتخاب البابا الجديد، مادامت صحته تسمح بهذا، ولظروفي الصحية رتب لي الفاتيكان كل الإمكانيات من أطباء وممرضين ومرافقين، وكان يرافقني أثناء جلسات الانتخاب المونسيور خالد من مجمع الكنائس الشرقية.. نشكر الله أن كل شيء تم بسلام وهدوء وباختيار الروح القدس.. فبالتأكيد كان اختيار البابا فرنسيس دون مناقشة هو عمل الله لكنيسته.. في الجلسة الأولي المغلقة لم يتحدد الأمر، وفي الثانية، وفي الثالثة، أما في الجلسة الرابعة بدأ يتفق الكرادلة على شخصية البابا فرنسيس وفي الجلسة الخامسة تخطي البابا عدد الأصوات.
■ محطة عناية الله ■
الحديث عن عمل الله عاد بنا إلي رحلة غبطة الأنبا أنطونيوس مع المرض.. عن هذه الرحلة قال: بكل المقاييس كانت عناية الله ترافقني.. كنت أترأس قداس ليلة رأس السنة بكنيسة شبرا الخيمة، وبعد انتهاء الصلاة استقليت السيارة عائدا إلي مقري وبترتيب الله كان لأول مرة يرافق البطريرك أحد إذ كانت سكرتيرتة الرئيسة العامة لراهبات قلب يسوع المصريات تحضر الصلاة الاحتفالية معى.. ولاحظت أنني لا أواصل الحديث معها, وأدركت أنني ذهبت في غيبوبة، فطلبت من السائق أن يتوجه مباشرة إلي المستشفي، وعرفت بعد ذلك أنهم توجهوا إلي مستشفي الحياة بمصر الجديدة، ودخلت العناية المركز وكان التشخيص الطبي جلطة في المخ، وبعد نصف ساعة من العلاج الدوائي المذيب للجلطة بدأت أتكلم، ولكن بعد ربع ساعة عدت مرة ثانية لأتكلم.. وتوقفت يدي ورجلي عن الحركة.. وكشف رسم المخ أن هناك جلطة بالفص الأيسر للمخ وبالتالي تم التأثير علي أطراف جسدي الأخري – اليمين – بعد 4 أيام بالعناية خرجت لأواصل عمل علاج طبيعي وحتي يومنا هذا.. وخلال رحلة مرضي سافرت إلي الولايات المتحدة الأمريكية لدي أشقائي حيث يعمل ابن شقيقتي أستاذا بمستشفي أوماها، وهناك قام الأطباء بمتابعة كاملة للحالة من جديد وأجمعوا علي ذات التشخيص والعلاج.
وبعد عشرة شهور شعرت أمام الله أنني لن أقدر أن أكمل رئاسة الكنيسة لأنه مازال هناك تأثير في التركيز والكلام، فكتبت استقالتي النهائية لقداسة بابا الفاتيكان.. وكنت بعد أسبوع قضيته بالمستشفي لم أجد مبرر لأترك الكنيسة يوما واحدا آخر دون من يدبرها، وطلبت مدبر للبطريركية، وعرض الأمر علي الفاتيكان؛ وأرسلنا لهم القانون الكنسي – 130 – الذي ينص علي إذا أعيق الكرسي البطريركي لأي سبب كان، يصبح حكم الكنيسة في يد الأسقف الإيبارشي الأقدم في الرسامة الأسقفية داخل حدود منطقة الكنيسة نفسها.. وبالفعل اجتمع المجمع المقدس وتم تعيين نيافة الأنبا كيرلس وليم مدبرا وفقا للقانون وبموافقة جميع الآباء المطارنة.
والحقيقة هذه الفترة كانت رائعة وكان دائما سيدنا كيرلس يزورني ويطلعني علي الكثير من الأمور, وكانت حقا محطة تدبير الله عن طريق التنظيم الكنسي.
وبعد 10 شهور كان واضحا أنني لن أقدر أن أكمل عمل البطريرك, فكتبت تخليا في شهر أكتوبر 2012 لقداسة البابا وحتي ديسمبر لم يحدد الموقف من قبل الفاتيكان، وفي ذلك الوقت كان اجتماع المجمع المقدس للآباء المطارنة فاتصلت بسفير الفاتيكان لأخبره عن ضرورة هذا الأمر خاصة أن الآباء عليهم أن يبحثوا ذلك في اجتماعهم حتي لا نترك الكنيسة أكثر من ذلك، وفي اليوم التالي اتصل بي الكاردينال ساندري رئيس مجمع الكنائس الشرقية بروما وأخبرني أنه رفع الأمر لقداسة البابا وهو موافق طالما أنها رغبتي أمام الله ولخدمة المسيح والكنيسة.
وأرسلت علي الفور رد الفاتيكان للآباء المطارنة وعقدوا سينودس آخر لبحث الترتيبات القانونية لانتخاب البطريرك الجديد، وفي يناير 2013 اختير غبطة الأنبا إبراهيم إسحق ليتولي البطريركية.
■ كيف تقضي غبطتكم الأيام بعد التخلي عن البطريركية؟
●● في الصلاة والاطلاع علي الأخبار الكنسية المحلية و العالمية، وأسعد جدا بزيارات مباركة فزارني قداسة البابا تواضروس الثاني، غبطة البطريرك فؤاد الطوال، غبطة الكاردينال سندري رئيس مجمع الكنائس الشرقية بروما، غبطة الكاردينال ماربشارة الراعي بطريرك الموارنة، غبطة البطريرك غريغوريس الثالث لحام بطريرك أنطاكية للروم الكاثوليك، كل هذه الزيارات منطبعة في قلبي وفي نفس الوقت تشجعني كثيرا.
■ ما شعور غبطتكم بزيارة قداسة البابا تواضروس لكم؟
●● كان إحساس بالفرح والبركة والمشاركة أتذكر أن قداسة البابا تواضروس عندما حدد موعد زيارته أخبروه أن الآباء المطارنة مجتمعين بالسنودس ولكن قداسته قال: ”قولوا لسيدنا أنا عايز أزوره هو بس”. فقداسته بحق متواضع ومحب جدا، يومها حضر معي اللقاء نيافة الأنبا بطرس فهيم و القمص باسيلي الوكيل العام والأم مارى عايدة بطرس، و مجموعة كبير من الآباء الكهنة والعلمانيين والأربعين راهبة بالدير هنا و كان يوما لا أنساه، فكانت بركة كبيرة والصلاة التي قالها قداسة البابا تاركة في قلبي تأثير وحضور مازال تاركا أثرا كبيرا بالدير.
—
—