المونسنيورد. بيوس قاشا
في البدء
إنها المحطة الاولى من محطات عديدة مرّت علينا من أيام الأحتلال وإلى الآن ، أرويها لكم أيها القرّاء الكرام لتعرفوا حقيقة الأمور( لوقا 4:1) دون رتوش، ولتُدركوا وتعلموا أنّ الإتّكال على رب السماء شجاعةٌ إيمانية، فهو الذي وعدنا أنه سيرسل مَن يتكلم ويجيب عنّا أمام كبار الزمن الأشرار الذين يشوّهون مسيرة الإيمان، فليكن لكم رجاء باسم
يسوع، فإنه أحبّنا حتى الموت(1كو 15: 19) وفدانا ليعلّمنا أنّ طريق السماء هو غير طريق الدنيا المزوَّرة، فأرجوكم أن تعيشوا وتثبتوا في إيمانكم ولا تخافوا ولا تشكّوا ( متى28:10) . فمسيرة حياتنا محطات املٍ ورجاء ، فإلى المحطة الأولى .
كان ذلك الصباح مشرقاً بشمسه، وعظيما بقداسته، وكبيراً بمناسبته، وكم كان هواءُه عذباً، الساعة تشير إلى العاشرة والثلث صباحاً. غادرتُ مقرّ رعيتي مار يوسف الكائنة في منطقة الكرخ ، إلى منطقة الرصافة ، حيث مقرّ الأبرشية السريانية ، للمشاركة في الإجتماع الشهري لكهنة الأبرشية ومأدبة الغداء التي أقامها المطران متي شابا متوكه (رئيس الطائفة آنذاك) بمناسبة سيامته كاهناً وأسقفاً. وكان قد فُجِّر قبل يوم بالضبط سيارة مفخخة امام مقهى شعبي قرب مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني في منطقة باب الشيخ وسط بغداد.وراح ضحيته اربعة قتلى و24 مصابا ” . إنتهى الإجتماع، وبعد المشاركة في الغداء الذي دعانا إليه سيادته _ والذي أقيم في دار إحدى العاملات في دار المطرانية حينها (الآنسة “م”)، حيث كانت تقيم في بناية خاصة تابعة للطائفة _ كانت الساعة تشير إلى الثالثة والربع عصراً بتوقيت بغداد،. ألقيتُ التحية على الحاضرين من سيادة المطران والكهنة، وشكرتُ الآنسة “م” على الدعوة، لأعود بعدها إلى رعيتي مار يوسف في المنصور. كان الوضع الأمني متأزّماً جداً في بغداد بين الإخوة الأعداء، وحرب الطائفية على أشدّها وفي أماكن متفرقة، فالضحايا الأبرياء يسقطون، وجثث ملقاة هنا وهناك، وكان القتل على الهوية ، والأسماء كانت هي الفاصل المميت، وكان للإرهاب دورٌ في عدم إستقرار الأمن في بغداد. وكوني أحد سكان منطقة الكرخ، كنتُ قد أستأجرتُ _ للعمل معي _ سائقاً ويدعى “أبو علاء” من أجل ذهابي وإيابي فهكذا كان يتطلب الأمر حينها.
ساحة التحرير
وصلتُ إلى منطقة ساحة التحرير وسط بغداد، وبعد إجتيازي إيّاها بأمتار قليلة، وأمام بناية وزارة الإعلام سابقاً، أوقفتني سيطرة شرطة لا أعلم هل هي سيطرة وهمية أم سيطرة حكومية إذ لا يوجد علامة تشير إلى أن السيطرة نقطة رسمية وحكومية وكان تعدادها ثلاثة أشخاص، شرطيَّين وضابط، يرتدون زي الشرطة وبرفقتهم سيارة زرقاء اللون بلون الشرطة العسكرية المعتاد، وبدون لوحة تعريفية مرورية، مما يعني شكاً أنها سيارة للشرطة. نظرتُ فإذا بالشارع خالٍ من المارّة تماماً. نعم، إستوقفني الشرطيان الواحد عمره لا يتجاوز (19سنة) والآخر ربما يقترب من (24سنة) ، وأشهر أحدهما سلاحه في وجهي، وفتحا بعنف باب السيارة، وفي حالة هجومية أنزلاني بسرعة غريبة من مقعدي، وما هي إلا لحظات حتى وجدتُ نفسي خارج السيارة، فيما دخل الخوف إلى قلب سائق السيارة ، حيث كانت حرب الطائفية مستعرة تماماً في العاصمة بغداد، ومن خوفه أخذ يتلعثم في الكلام، حينها أجبروه على البقاء في السيارة وعدم الكلام والحركة “يلا إركب السيارة واكعد وما تحجي شي وما تتحرك”، وأشاروا إليه مجبرين إيّاه بالبقاء في السيارة دون حركة. وأنا لم أكن أبالي بشيء ولم يكن الخوف قد ملك قلبي وحواسي، كما لم أكن أظنّ أنّ مشكلتهم معي ، كوني أولاً مسيحياً، وثانياً رجل دين، وثالثاً كنتُ مرتدي جبة رجال المعابد، كما لم أكن أحمل سلاحاً، وهذه علامة أكيدة لمسيحيتي ولدرجتي الدينية. وحتى هذه اللحظة لم أشعر بأي خوف، ولكن الحقيقة كانت غير ما كنتُ أفكر، إذ كنتُ أنا المقصود من قِبَل هؤلاء. صرخ أحدهما في وجهي وبكل شراسة وقال:”تعال إنزل حالاً هنا أنت مطلوب من الجهات الأمنية وأكو كتاب بإلقاء القبض عليك”، فقلتُ لهم:”عفواً يمكن أنتو متوهمين”، ردَّ بكل عصبية:”لا إحنا ما متوهمين”!!!.
منع التجول
نعم، أُمرتُ بمغادرة مقعد السيارة. أنزلاني خارج المركبة، ومدّ أحد الشرطيين يديه في جَيْب الجبّة الأمامية وأخرج للحال _ ودون إذن _ بطاقتي الشخصية (هوية الأحوال) وجهاز الموبايل ومفاتيح الكنيسة وقال لي مرة أخرى:”إنتَ أكو عليك إلقاء قبض”، قلتُ له:”على ماذا؟ وشنو المشكلة أو الجريمة اللي عملتها”، فقال:”إحنا ما نعرف هسة راح ناخذك للضابط مالنا ونشوف بعدين”. وبدأ يفتش ويقلّب في الموبايل عن الأسماء الموجودة وأرقام الهواتف، ثم قادني إلى ضابط كان جالساً في مقدمة سيارة شوفرليت زرقاء اللون أيضاً خلف العمارة (كما قلت عمارة وزارة الإعلام سابقاً) التي أوقفوني بجانبها، لا أعلم هل هو ضابط أم لا، لا أعلم، لأنه كان مرتدياً زيّاً نصفه الأعلى يدلّ على أنه زيّ الشرطة والقسم الأسفل بنطلون جينس بلون خاكي، وسيارته هذه كانت تبعد عن مكان توقيفي حوالي عشرين متراً.
في هذه الأثناء طرق بابَ مخيّلتي قولُ الرب يسوع:”لا تخافوا، أنا معكم” (متى 20:28)، “الروح هو الذي يتكلم عنكم” (متى20:10 و مرقس 11:13)، فشعرتُ في داخلي أن قلبي قد إمتلأ شجاعة إيمانية، وأية شجاعة!. ولما قادوني إلى الضابط لم أشعر بأية حركة فيها علامات الخوف. وسألني كعَلامة إستجواب عن إسمي بعد أنْ إطّلع على بطاقتي الشخصية التي سلّمها إليه الشرطي، وقال لي:”إنتَ شسمك واشعندك إنت هنا لي هسة”، فأجبتُه:”إسمي هو شخصيتي وهويتي، وأنا رجل دين مسيحي، واسمي مكتوب عندك بالبطاقة الشخصية اللي موجودة بين إيديك”، فأجابني:”وين تعمل؟ وشنو شغلك؟ وليش إنت هْنَا؟ ما تعرف أكو منع التجول بهالمنطقة!!”، فقلتُ له:”لا ما أعرف أكو منع التجول وبعدين كنت بواجب خاص بالكنيسة وهذا شي يخصني”، فقال:”إنت ما تعرف شكنسويت”، ثم أعاد السؤال بطريقة أخرى:”شنو الجريمة اللي سويته حتى يكون عليك أمر إلقاء القبض؟”، أجبتُه:”أنا ما عملت أي جريمة وإنت توجّه تهمة عليّ هذا ما مقبول منك وهذا إدّعاء باطل وغير صحيح ورّيني أمر إلقاء القبض أنا ما عندي شي أنا رجل دين مسيحي لا أقول إلا الحق وما ممكن أقول كلمة كذب وهاي كلها من شيمة مسيحيتي وإيماني”، وواصلتُ الحديث وقلتُ له:”أترجاك إعطيني هويتي الشخصية حتى أرجع للكنيسة قبل ما تبدي الدني تظلّم وأروح أعبر إلى منطقة الكرخ وتعرف اليوم عدنا عيد القديسة السيدة مريم العذراء، مريم أمّ عيسى اللي القرآن الكريم يبجّلها ويقدّسها واليوم عدنا صلوات لتكريمها” (وفعلاً كان ذاك النهار يوم الخميس، عيد الحبل بلا دنس، 8 كانون الأول 2005).
أمَرَ الضابط
بعد هذه الاثناء، عاد الشرطي إلى حيث صديقه الآخر بأمر من الضابط قائلاً له:”أتركنا وَحدْنا روح إنت لشغلك”. تركنا لوحدنا، وبقينا أنا والضابط، حينها أحسستُ بحركة شجاعة في داخلي تدفعني ولم أشعر بشيء إلا بحرارة الشجاعة تلتهب بي دون أن أعرف لماذا. مددتُ يدي لأصافحه، وقلتُ له:”أنت هوني بوحدك وأكيد تعبان وعطشان”، أجابني:”لا أنا مو تعبان ولا عطشان”، فقلت له:”العفو”، وفي حركة غير مرسومة مددتُ يدي إلى جيبي فوجدتُ فيه قطعتين من جكليت الماكنتوش _ وهما اللتان حفظتهما من دعوة الغداء التي أقامها سيادة المطران متوكا إذ كنت آملاً أن أقدمهما لساعور الكنيسة المدعو “ف” فأخرجتُ واحدة وقدمتها له احتراماً، وأعطيتُه إياها وقلتُ له:”الله يساعدك وأكّلك ليش ما تحلّي ثمّك أنتَ هوني بوحدك والوضع مو زين وأكيد إنت شوية تعبان”، وللحال تغيرت ملامح وجهه وأخذته “الصفنة”، وفي حركة رياضية إستطعتُ أنْ أعطيه “الجكليت” وأسحب من يده بطاقتي الشخصية بحركة لا أعلم كيف قمتُ بها، فصرخ في وجهي وقال:”إنت وين رايح”، قلت له:”أروح أشوف السايق مالتي”، وبسرعة تركتُه عائداً إلى حيث ينتظرني السائق ولا أعلم ما حصل له بعد أن تركته لأكون أمام الضابط، الذي لم يستطيع متابعتي ربما خوفاً من مرور دوريات الحكومة آنذاك، أقولها وأنا شاكٌّ في ذلك.
موبايل واسماء
وقصدتُ الشرطيين، فقال لي أحدهما:”شنو طلعت بريء ماكو أمر إلقاء القبض عليك”، قلت له:”لا ماكو أنا رجل دين مسيحي ما عندي شي”، وطلبتُ من الذي بيده الموبايل أن يعطيني إيّاه، فوجدته لا زال يقلّب بلائحة الأسماء الموجودة في الجهاز، فقلتُ له بكل هدوء:”هذا الجهاز ما يفيدك، لو يفيدك كان إنطيتونو إلك هدية، هو جهاز قديم وما بينو شي إلا أرقام خاصة برجال الدين والكنيسة”، فقال لي:”ما يهم ما أعطيلك هو إلا أشوف الأسماء والأرقام، ولازم تدفع مبلغ من المال”، وأضاف:”يعني شكد تكدر تدفع؟”، فقلتُ له:”ما عندي ولا فلس بجيبي، حتى اليوم أنا ناسي محفظتي وفلوسي بالكنيسة”، ونظرت هنا وهناك وفي داخلي غليان وأقول “يا رب ماهذه اللعبة وما هذا الإتهام وما هذه الرشوة”، نظرت وكان الشارع خالٍ من البشر، من الرايح والجاي، فقلت له:”يا أخي يا سيدنا يا محترم إذا إنت جوعان خليني أروح أجيبلك شي اللي أشوفو فرد لفة حتى تاكل واللي راح أجيبو هو بركة بس أظن ماكو واحد مفَتِّح”، فأجاب:”لا أنا أريد فلوس”، قلت له:”أنا ما عندي فلوس ما تشوفني لابس ملابس الفقراء هاي اللي يسمّوها جبة مال رجال الدين هذا يعني أنا مُلْك الناس والفقراء”، ثم سألتُه راجياً:”أرجوك أعطيني جهاز الموبايل خلّيني أروح لكنيستي والوقت هسّة متأخر”، فقال لي:”شلون أخلّيك تروح وإنت ما أنطيت شي؟”، قلتُ له:”عندي جكليت ماكنتوش بجيبي وهذا جكليت مشهور وطيب”، وأخرجت الجكليت من جيبي، وقدمتها له فأخذها واستطعتُ أن أمدّ يدي الأخرى وأصافحه، ثم أخذتُ جهاز الموبايل بسرعة غريبة وصديقه الشرطي الآخر لا زال ينظر إلينا، وانذهل، وحالاً، وفي لحظات صعدتُ السيارة، والسائق لا زال جالساً أمام المقود لا يستطيع الحركة أو الوقوف أمام الشرطي بسبب الخوف الذي كان يملأ قلبه والأمر الذي فُرِض عليه وأُلزِم به، وبقي ساكتاً صامتاً متفرجاً على ما يحصل، ومن المؤكد أنّ الشرطي قال في نفسه بأنه لا يمكن أن يربح مني شيئاً لذلك لم يبالي بشيء حينما صعدتُ السيارة.
ساعة الفرج
وإذ أقفلتُ الباب، ما كان من السائق (أبو علاء) إلا أن قاد السيارة بسرعة جنونية كالبرق، نظرتُ إليه فوجدتُه يرتجف من الخوف ووجهه أصفر، وقد بانت عليه ملامح الفزع، فقلتُ له:” إنها ساعة الفرج ، روح بسرعة، يلا سوق بسرعة ولا تخاف أبو علاء، المسيح الحي راح يخلّصنا، أكو الله يحمينا وشفت شلون حمانا”، ولم تكن إلا دقائق حتى وجدنا نفسينا عابِرَين جسر السنك الذي يربط منطقة الرصافة بالكرخ من جانب ساحة الوثبة ومنطقة السنك والجانب الآخر وزارة الإعلام في الصالحية، فاطمئنّ السائق كونه عبر إلى منطقته، ولاحت علامات السكينة على محيّاه، وهدأت أعصابه الخائفة. أما أنا فقد أخذتني (الصفنة) وقلت في نفسي:”عظيم هو الرب، نعم الروح يتكلم فينا وهذا ما شفتونو فعلاً… شكراً إلك يا رب، وشكراً للقديسة مريم اللي حَمِتْنا”، حينها قلتُ للسائق (أبو علاء):” تعرف يا أبو (أبا) علاء إحنا الناس الأبرياء ما نخاف أن نكون صادقين لأن نعرف أنّو ربنا راح يحمينا، وإنتَ شفتْ عيسى الحي شلون جا وخلصنا”، فرددتُ مرة أخرى “شكراً لك يا رب”.
صلاة الصليب
من بعد هذه الحادثة قمتُ بتأليف صلاة أسميتُها “صلاة الصليب المقدس”، وكان ذلك صباح الاثنين 12 كانون الأول 2005 وأنا في كنيسة مار كوركيس بالغدير إذ كنتُ أعمل كقاضي بداءة في المحاكم الكنسية الموحَّدة. كتابتها كانت عبر تلقين وحديث بجهاز الموبايل مع سكرتيرة الكنيسة _ ولتأليفها حَدَثٌ سنرويه لاحقاً بمشيئة الرب _ والتي لا زلتُ أتلوها كما نتلوها كل يوم أحد مع أبناء الرعية وبعد نهاية القداس الإلهي أي بعد البركة الختامية، وكان للحدث “حقيقة الإيمان” أنْ لا تخافوا” (متى 20:28).
نعم، هذه محطة من محطات زمن الرجاء التي عشتُ مراحلها ومسيرتها المؤلمة، حيث كنتُ الكاهن الوحيد في منطقة الكرخ الذي لم يغادر بغداد بسبب الحصار والحروب التي مرّت، فكان الرب حافظي وكانت العذراء حاميتي، وسأطلب من ربّ السماء نعمةً كي أواصل الحديث عمّا حصل عبر حلقات ” محطات في مسيرة الرجاء”.
الخاتمة
وبعد حوالي نصف ساعة من الحدث، أُدرج الخبر من على أحد المواقع الألكترونية، وقرأه أحد الأساقفة الأجلاء (م. و) واتصل بي وقال:”أبونا أرجوك بلكي تطلب من مسؤول الموقع أن يلغي الخبر لحساسية الأيام والزمن”، فكان أنْ إتصلتُ بمدير الموقع وبعد جهد جهيد إستطعت أن أكلّمَه عبر الموبايل وطلبتُ منه راجياً أن يرفع الخبر من على أسطر صفحات الموقع، فأُخفي الخبر الألكتروني وهذا ما حصل… ربما هناك مَن لا يأخذ الحكاية على منظر الجدّ، أو ربما هناك مَن يستهزء قائلاً كيف أنّ قطعة من الماكنتوش كان لها دور في مسيرة الخلاص التي حصلت. لذا أقول عزيزي القارئ: الحقيقة تُقال مهما كان الحدث ، هل تعلم يا اخي ،أن ما هو مستطاع عند الله هو غير مستطاع عند البشر (لو27:18 ومر27:10)، لذا فمن الناصرة كان شيء صالحٌ (يو46:1)، كما أن ربّنا بإمكانه أن يقيم من الحجر أولاداً لإبراهيم (متى9:3)… هذا هو إيماني في حقيقة ما رويتُه لكم.إنه محطة من محطات الرجاء .. نعم وآمين.
(كُتب هذا الحدث في يوم الخميس، الثامن من كانون الأول عام 2005، عيد العذراء المحبول بها بلا دنس، الساعة الثامنة والربع ليلاً، وعلى ضوء الفانوس بسبب إنقطاع التيار الكهربائي).