مقال الداعية : لخالد منتصر … جريدة الوطن الصادرة بتاريخ 2 اغسطس 2013
أكبر وأضخم بيزنس فى مصر، هو بيزنس الدين والذى تفوق على بيزنس السلاح والأدوية والعقارات، تفوقت مضاربات الفتوى على مضاربات البورصة، وانتصرت سمسرة الطائفية على سمسرة الأراضى، وتجاوزت أسعار الدعوة أسعار العقارات، اقتحم الشاعر والسيناريست د. مدحت العدل عالم هؤلاء الدعاة الصناع الأساسيين لهذا المناخ المسموم الذى عشناه وما زلنا نعيشه، مناخ وزمن التفتيش فى الضمائر والنوايا والذى صارت فيه الوصاية قانوناً والقمع أسلوباً والتكفير ألف باء الحياة، نسج مدحت العدل خيوط هذا العالم بمهارة واستغله لرسم جدارية ضخمة للوطن الذى كاد يفقد هويته المصرية لصالح الوافد الوهابى البدوى وتتحلل خيوط «الدى إن إيه» التى يحملها فى أعماقه منذ فجر التاريخ والتى رسم بها شفرة الضمير فى الكون كله لتحل محلها شفرة جينية أخرى من كروموسومات غليظة الحس جافة الوجدان غبية المشاعر خاملة العقل جلفة السلوك، استطاع مسلسل «الداعية» بدون مباشرة مبتعداً عن الخطابية أن يرصد ملامح هذا العالم، الداعية الذى لا يعرف إلا قشور الدين والذى يتعامل مع علوم الدين ونصوصه على أنها مجرد نمرة سيؤديها أمام الكاميرا مستغلاً بعض البهارات الساخنة لاعباً على وتر جهل البسطاء وإحباطاتهم وكبتهم، يسبح هذا الداعية بمهارة ويركب قارباً من ذهب مضبوطاً على بوصلة الزبائن وهو قارب الإعلام الذى يؤجج منافسة نجوم الدعاة حتى يحصل على إعلانات أكثر تداعب غريزة الكسل العقلى وتؤجج جذوة نار الكراهية، يخرج المسلسل إلى دائرة أكبر وهى دائرة التأسلم السياسى الذى يلعب هذه اللعبة الشيطانية ويديرها بمهارة على عدة مستويات، منها المستوى السياسى والإعلامى بإشعال الصراع بين دعاة الفضائيات ومنها المستوى الاقتصادى بتجنيد أبناء العشوائيات وإشعال المنافسة بينهم حتى تتسنى لهم السيادة ويتم التسلط، ولا ينسى قلم الشاعر مدحت العدل أن ينقل عدوى شاعريته لكاميرا المخرج الشاب محمد جمال العدل، فيرسم بالضوء والكادر قصة تغير الداعية القاسى التاجر إلى عاشق رومانسى لعازفة الكمان والتى أطلت علينا علاقتهما بالتدريج وبمنتهى النعومة والمنطقية، وأيضاً فى رسم ملامح الأويمجى البسيط عاشق الفن البوهيمى الذى لا يستخدم الدين سلماً وهدفاً ولكنه بالفطرة والحس الشعبى البسيط يترجمه إلى ضمير ويفهم مفرداته الواضحة والتى لا تحتاج لشفرة الكهنة ربما أفضل من كل دعاة الفضائيات، خلفية تلك الجدارية الدرامية هى أحداث الثورة التى صنعتها دماء الشباب وتضحيات الناس فى الشوارع وأجهضتها نخاسة التيارات التى تاجرت بالدين ونزق مراهقى الثورات ولؤم وخسة سماسرتها الآكلين على كل الموائد، ذكاء مدحت العدل كان فى استخدامه لأحداث الثورة كخلفية أحداث وليست كحدث رئيسى لأن تناول الحدث الطازج فى الدراما لا بد أن يكون بميزان الذهب لأن نظارة الدراما عندما تراه ستراه محدباً جداً أو مقعراً جداً ولن تراه بالأمانة والتجرد والوضوح والدقة الكافية التى لن تتوفر إلا إذا تحول الحدث إلى تاريخ، قضايا أخرى مهمة لمسها المسلسل بذكاء ونعومة وفن مثل قضية الصراع الوهمى بين الفن والدين ورؤية التأسلم السياسى للمرأة التى دوماً تستفز تبلد أتباعه الذهنى والتهاب شهوتهم الجائعة والتى لا تعرف إدماج الجنس فى الحب، بل الجنس عندهم كالماء المالح يقود دوماً إلى المزيد من العطش، ناقش أيضاً الغيرة المهنية المدمرة الناتجة عن الضعف الإنسانى للداعية الهش النرجسى، مسلسل يستحق المشاهدة والتأمل والتتويج على رأس قائمة لوحة الشرف الدرامى لهذا العام، أبدع الممثلون جميعاً ولكن هانى سلامة كان يحتاج إلى المزيد من التدريب على نطق اللغة العربية فى الشعر والنصوص الدينية، لأنها مفاتيح الداعية فى التأثير والكاريزما، ويستحق الفنان أحمد راتب الأوسكار على هذا الأداء الجميل الممتع الفاهم لكل أبعاد الدور وتحية خاصة إلى صفاء الطوخى التى تزداد تألقاً بأدائها البسيط السهل الممتنع، كانت الموسيقى التصويرية تجسيداً بالنغم واللحن والإيقاع لجدارية الدراما الملونة وأبدع الموسيقار عمر خيرت فى ترجمة تلك الأحاسيس المتناقضة المركبة بعبقريته المعهودة ورادار حسه الفنى الرفيع، تحية إلى كل صناع مسلسل «الداعية» الذى لم يكن مسلسلاً لمناسبة، ولكنه كان المسلسل المناسب فى التوقيت المناسب، مسلسل يرفع الوعى ويرتقى بالوجدان ويعيد إلينا الثقة فى الدراما المصرية ويشجعنا على استكمال حلم بناء الوطن الذى تأخر كثيراً والذى كان يستحق أفضل من تلك المتاهة الإخوانية السوداء.