المونسنيور بيوس قاشا
** في البدء
واقع مؤلم ، وضع قاس ، والإرادات قلقه ، فلا مستقبل بانفراج قريب ولا مجال للأمل في تصحيح ما أُدرج في الخطأ ، والطريق لازالت وعرة المسلك ، ومات الحس الوطني ومعه الحس الإيماني. كل هذه تساؤلات على طاولة الحياة واستفسارات يحملها البسطاء اليوم كما حملها بالأمس آخرون قبلهم، فهم يرسمون لمستقبلهم كما يقولون إنهم لم يعيشوا أيامهم ولم يــروا شيئاً من أعمارهم وينظرون بعيداً بعيداً عبر البحار والمحيطات وهم يحلمون كي يكونوا سراً في صفوف الهجرة أمام دعاة الرحيل دون علم من أقربائهم وكذلك بالغرباء، ويرفعون صلاة ويوقدون شموعاً ويحرقون بخوراً كي تكون التأشيرة ونيلها هذه الليلة قبل صباح غد فيحددون السفر في سواد الليل بلا وداع ولا سلام لا من الغريب ولا من الجار خوفاً من الحال وغدر الماضي وجهل الأتي فتُحمل الحقائب بأثمان وأي أثمان بعد أن بيع كل شيء، كل أرث، كل دار، فكل شيء من أجل إخلاء السبيل، من أجل الرحيل ، بل من أجل الخلاص، رافعين شعاراً “كفى تسمّراً في بيوتنا، وكفانا خوفاً على أولادنا وأموالنا، فقد ملك الإجرام وقتلنا الإرهاب ولم يبقَ لنا سبيل ، سوى الرحيل”.
** كل الخوف
مَن منا لا يقول _ وتلك حقيقة قبل إقرارها _ إننا نعيش أبشع مراحل اللاإستقرار وأضيق مراحل المصالح الشخصية والفئوية والتداخلات الفضولية والتكبرية والكبريائية والتعاليوية، والخوف كل الخوف من الحاصل ومن المصير. فالانقسامات ترصدنا، والشرذمات تنتظرنا، والاختلاف يتربع على عرش الإنسانية المتوحشة منادياً باستمرار صراع الحضارات في هدم الجسور وتركيز الجدران الفاصلة وتعميق الهوّات والحلافات فالنار لا تلتهب إلا بعد دخان بسيط وريح خفيفة… هكذا مسيرة الخلاف لا تستعير إلا عبر كلمة بسيطة وكلام حقير، فتُعلَن المصالح وتُستَكبر القلوب في عنصرية مقيتة وبتصنيف هزيل، فتموت الانتماءات وتُدفَن النظريات وتُشيَّع الحريات وتُتوَّج العزلة في بلدان الأصول وما الثمار إلا قوانين مزيفة لشعب يرى نفسه عذاباً أبدياً، بينما الحقيقة يقولها الرب يسوع المسيح في أن الشهادة هي للحق قولوا الحق والحق يحرركم ” ( يو32:8)، والحقيقة في البدء وحاضراً وإلى الأبد.
** عامل قلق
أليس التعصب شكلاً من أشكال نكران الله والإنسان معاً، حيث علامات المحبة الكائنة في قلب الإنسان، تتحول علامات للكراهية، وسمات التسامح تتحول إلى دعاوى القتل والتكفير… أليس الكراهية والحقد والإقصاء صفات الإرهاب؟. أليس الإرهاب محرَّماً؟… ألم تُعلن الكثير من التصريحات وصدرت العديد من المواقف من مسلمين ومن مسيحيين تحرّم العنف والإرهاب وتدعو إلى العيش المشترك وتقاسم الحقوق والواجبات في الوطنية بعد الإنسانية؟. أليس تكفير الآخرين وحلال قتلهم وطردهم وإهانتهم وتحقيرهم، عامل قلق لدى المسيحيين أينما حلّوا وتواجدوا، ولا يمكن أن نرتاح أو القبول بمثل هذه الشعارات المهلكة؟… أليس ذلك تشييع لحرية الإنسان ورسالته الد ينية؟. أليس الآخر أيضاً ، يؤمن برسالته ، سماوية كانت أم طبيعية؟. أيجوز أن يُفرَض عليه إيمان الأغلبية وإرادتها ومآربها فيكون بذلك صاغراً مطيعاً شاء أم أبى ؟ إنها شريعة الأقوياء ، والحقيقة تكمن في أن الدين لله والوطن للجميع، ولكل واحد دينه، في حلّه وترحاله. وما الرسالة إلا المحبة والآلفة وما ذلك إلا مسؤولية دينية ودنيوية، فبقدر ما تزداد الحياة قامة تزداد تحدياً ليس إلا.
** تنوعّنا تحدٍّ
تنوّعنا نعمة سماوية، والتاريخ شاهد لحضارة المسيحيين في عيشهم مع إخوتهم الأسلام ، وما كانت المسيحية إلا ديانة السلام والمحبة، فهكذا حملها المسيح يسوع إلى سالكي طرق الحياة، فلا عِداء ولا ظلم ولا كراهية في مسيرة الدنيا، وعوض ذلك محبة ومسامحة وغفران… مبادئ سامية يدعو إليها مؤمنو الأديان من أجل التلاقي والعيش المشترك، وما ذلك إلا موقف يشهد لفهمنا لهبة الحياة وثمار الحوار وعطيته. فتنوعنا هذا ما هو إلا تحدٍّ دائم، والحوار والعيش المشترك ما هما إلا جناحا هذا التحدي… إنه رسالة خيار، فهو يدعو أهل الكتب السماوية أن يتقاسموا الحقوق بمسؤولية إنسانية دون تكفير طرف صغير لإرضاء الأغلبية، ولا فرض وصاية أو حكم ارتداد شخص ينادي بإيمان يراد أن يحياه ولا أن يُفرض عليه. فحرية الإنسان في حرية إيمانه وليس في وصاية يقرّها المخلوق بدستوره الخاص، وليس بأمر من جبل حوريب كليم الله، وهذا ما يجب أن يكون خارطة طريق لمسيرة حياة شرعاً وقانوناً، وما ذلك إلا رسالة الخالق الرحمن الرحيم والباري العظيم.
** الإرشاد الرسولي
والإرشاد الرسولي رسالة سماوية حملها إلينا البابا بندكتس السادس عشر، حمله إلى مسيحيي الشرق بأسره، يقول الإرشاد الرسولي:”يشعر المسيحيون بنوع خاص ولكونهم يجدون أنفسهم غالباً في موقف دقيق بشيء من الإحباط وفقدان بعض الأمل بسبب النتائج السلبية لتلك الصراعات ولحالات الغموض، ويشعرون غالباً بالمهانة، ويعلمون بفعل خبرتهم أنهم ضحايا محتَمَلة لأي اضطرابات قد تقع ومن الأهمية إذاً أن يفهم القادة السياسيون والمسؤولون الدينيون هذه الحقيقة ويعملوا على تفادي السياسات والاستراتيجيات الساعية إلى تفضيل جماعة بعينها لقيام شرق أوسط أحادي اللون، لا يعكس بأي شيء واقعه الإنساني والتاريخي الغني (31).
لا تخافوا من أحد ولا تضطربوا بل قدسوا المسيح في قلوبكم وكرّموه رباً وكونوا في كل حين مستعدين للرد على كل مَن يطلب منكم دليلاً على الرجاء الذي فيكم (1بط 15:13) (36). بينما يقرر كاثوليك من أبناء الشرق الأوسط إما بسبب الحاجة والتعب أو اليأس اتخاذ الخيار المأسوي بترك أرض أجدادهم وعائلتهم وجماعتهم المؤمنة، فإن آخرين وبالعكس ممتلئين بالرجاء يتمسكون بالبقاء في بلدهم وفي جماعتهم. إني أشجعهم على ترسيخ هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان (35).
** الحق وكل الحق
ما يخيفنا، التطرف الديني، والخطاب التحريضي، والعودة إلى الأصولية، والتهديدات المميتة في عيش الإيمان، وما تلك إلا ذرائع ووسائط لتدمير الآخرين بألوهية بشرية وبأوامر مدمِّرة لعلاقات بين المؤمنين ودياناتهم، فذلك اعتداء على الأديان ورموزها وإقفال لأبواب الحوار، وطريقة لتقوية تيار التطرف، وتسويق طروحات لتعميق الصوت الطائفي، فتكون التفرقة والتباعد، فلا يمكن أمام هذه كلها أن نناشد المسيحيين أبناء كنائسنا أن يستمروا في العطاء عبر دورهم الحضاري والإيماني، فالضغوطات أصبحت أكثر من طاقتهم ومعاناتهم النفسية قبل الإيمانية من الإعلانات والنداءات التدميرية واستمرارها دون رادع أو حساب، وهذه كلها علامات أضرّت بالمسيحيين، فهي تهديدات لمسيرة إيمانية، وبها يشعر المسيحيون بنكران وجودهم… ومن المؤسف… وكأن لهم الحق وكل الحق.
** لنقف بثبات
مع ما يحصل ، ما المانع أن يمارس كل فرد دوره بأمانة، كيف نقف نحن كمعلمين مكتوفي الأيدي، مطرقي الرأس، ننتظر دوماً أن تأتينا قرارات على أطباق جاهزة لا تتناسب وأذواقنا ولا تتناسب مع حواسنا ونلتهمها ونصمت فنصاب بعسر الهضم والقرحة والنفاخ أو نملأ بطوننا فننام ولا يُسمَع إلا شخيرنا ويضيع صوت الحقيقة وإعلانها لأن صاحبها قد أضاعها بدنياه… لماذا لا نمدّ أيادينا، ولا نحرر عقولنا، ولا نطلق ألسنتنا، لنحاول، لنقف بثبات، لنرصّ الصفوف ونحاكي الأديان والمؤمنين ونحاورها من أجل كلمة شجاعة وإيمان محب وروح تسامح وعطاء بلا حدود في خدمة أبوية، أخوية، وحرية مسؤولة دون استعباد، أو مذلّة أو تتابع، فنُرحَم لأننا فقراء الوجود وغير مبالين بحقنا في ذلك، ولنعلم أن الحوار رسالة سامية فيها يزول الغمام وتتضح المعالم، فالحوار منطقي ، مرجعه الأديان ، وحقيقته الأوطان ، وحامله الإنسان ولا شيء غير، فهو الغاية والرسالة، الوسيلة والسبيل، الحضارة والثقافة، لأن الأديان لا تدعو إلا إلى الخلق الحسن وعكسه يكون الجهل فجوة، وحوار الجاهلين ما هو إلا إنذار بكوارث تفوق مخاطرها الزلازل والبراكين… إن ذلك دعوة لنا كي نستأصل ما يؤلمنا من أصوله وليس من وجوهه، وبذلك نكون في السراط المستقيم وحقيقة الحياة في العيش والحوار.
** البابا فرنسيس
وهاهو البابا فرنسيس، بابا الرحمة والفقراء، وكليم الحقيقة يعلن على الملأ حقيقة الشهادة فيقول:”إن زمن الشهداء لم ينتهِ، وإن لدى الكنيسة شهداء تفوق أعدادهم أعداد الشهداء في القرون الأولى من تاريخها. وفي الكنيسة أعداد كبيرة من الرجال والنساء الذين يتعرضون للوشاية ويُضطَهَدون وتقتلهم الكراهية ليسوع، فمنهم مَن قُتل لأنه كان يعلّم المبادئ المسيحية، ومنهم من قُتل لأنه كان يحمل الصليب، وفي عدد كبير من البلدان كانوا ضحايا الوشاية وتعرضوا للاضطهاد وهم إخوتنا وأخواتنا الذين يتألمون في زمن الشهداء”.
أقولها: هؤلاء هم المسيحيون، شهداء بالأمس واليوم وإلى الأبد، عملاً بقول الرسول بولس:”هو هو بالأمس واليوم وإلى الأبد” (عبر 8:13) ، وإيمانا بما قاله قداسة البابا فرنسيس ، اقول ، لا يجوز أبداً إفراغ البلد من حضورنا مهما كان المخطط قاسياً بحقنا ومهما كان المخطط علامة إفراغ، المهم أن لا تسكت أفواهنا عن قول الحقيقة، فكلنا نتحمل مسؤولية إفراغ البلد من أصلائه واستئصال أصوله، فالرب يقول:”أعداء الإنسان أهل بيته” (متى36:10). فوجودي في بلدي علامة رجاء رغم عمق الألم وضباب الكراهية. ولنعلم أن بقاءنا ثابتين في بلداننا شهادة للمسيح الحي بيننا.حيث تجسد ما احتمله المسيح يسوع (كو 14:3)،
** شتاء دموي
هذه فقرات يسيرة من مراحل الحياة الشاهدة على واقع المسيرة المؤلمة، فما يحصل في ساحات حياتنا وربوع بلداننا من الربيع العربي وغيره من الأصوليات القاتلة ما هي إلا شتاء دموي وصقيع مميت بمصالح معروفة ومعلَنة وإنْ لم تكن على الشفاه فهي في حسبان القلوب والبيوت وبمخطط واحد لا غيره وهي كفى بقاءنا في أرضنا، علينا أن ندفع فاتورة حسابنا كي يمرّروا ما في بالهم وما في نظرهم وعقيدتهم بدلاً من أن أن يسجدوا للذي أرادنا هنا خليقة محبة ومسالمة، وعلامة وئام، وبسبب حبنا له حملنا حضارتنا فأعطينا خدمتنا للجميع وبيوت الشفاء لكبار السن والمعوقين، وزرعنا ثقافتنا في قلوب الطفولة والشباب، ورفعنا من قيمة النصف الآخر البشري عملاً بأن نكون رسل السلام والخير والرحمة، طاعة للكنيسة التي أحببناها وأحبتّنا فأحببنا وأخرى وأخرى.
أقولها وبكل شجاعة وإيمان وشهادة الحياة… إن الواقع الذي نحياه _ كما قلتُ في مقالات سابقة _ مهما كان قاسياً فنحن لا نجد في الآخر عدواً بل أخاً نعانقه ونغفر له ولا ننتظر من ألآخر إلا مد اليد لتصافح بسلام وليس لتصرعه وتهدده بالرحيل بعيداً وبعيداً جداً، فنكون بذلك سلعة تُباع وتُشترى في أسواق التجارة مقابل شحنة بترول تجري في أنابيب لتُحيي بشراً وتُميت شعوباً.
** في الختام
أمام كل هذا إنني واثق أن الرب لن يتركنا هكذا قال البابا فرنسيس ، ” بل إنه باقٍ معنا ومن سماء مجده يقصدنا ويقودنا ويشفع بنا ” ، فالمسيح لن يغيب عنا وهو قريب من كل واحد منا ، فنحن لسنا ابداً وحيدين في حياتنا فالمسيح الرب القائم ، محامي لنا يدافع عنّا ، .. كما انّ الزمن اليوم يدعونا ان نكون ، ونكون بكل بشجاعة وبملئ الشهادة ولا ان يُقال عنا ، كانوا هنا ، بل أن نكون صوت الحقيقة نعلنها من على المنابر والدساتير والقوانين والحقوق والواجبات ، لأن الاصالة في ارضنا والامانة لايماننا تدعونا ان نبقى لوطننا شهداء ولايماننا شهود وفي هذا كله سننشد الحياة بكرامة الكلمة ومهما كان طريق الالم مخططا لنا لن يكون اقسى من درب الام المسيح والدعوة واحدة والكلمة واحدة اننا سنبقى اوفياء وأمناء وأصلاء وما هذه الا بلادنا وما هذا الا ترابنا .. ومهما سالت دماؤنا ودموعنا وطالت ايامنا واسودت ليالينا فالحقيقة واحدة نحن لسنا الا شهود وما وجودنا الا طعم الشهادة والدم ، وسيبقى وسنبقى للبلد علامات وئام وليس خصام ، وما وجودنا الا ضمانة لشعوب اوطاننا فلا يمكن يقول البابا فرنسيس” ان نجد شرقا اوسطيا بلا مسيحيين ” .. من هنا نقول لا يمكن أن نكون عدواً لأخر مهما قاسينا الألم وحملنا الصليب بل أخاً واخاً نحبه حتى النهاية فمعلمنا يسوع المسيح اوصانا أن نحب إذ قال ” احبوا بعضكم بعضاً ” ( يو12:15) ، وقال أيضاً ، أحبوا اعداءكم ” ( متى 44:5) نعم نعم .. نعم وآمين .