بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته * هذا المقال نشر في مجلة الصلاح الرعوية العدد 6،7 لسن 2015
1 – لا أظن أن بين القديسين على مر تاريخ المسيحية ، وجد قديس “غبي أو جاهل” فالقداسة هي عبقرية الروح والقديس هو الذي اكتشف أن الحياة الروحية وممارسة التقوى عن صدق وعمق إنما هو الطريق الأعظم للوصول إلى الله وإلى معنى سري التجسد والفداء والاتحاد بالقدوس الأبدي ، وليس من غبي أو جاهل في قدرته تحقيق ذلك .
أقول هذا لأكمل حديثي في مقال العدد الماضي عن الثقافة المسيحية ، أقول أن المسيحية في نقطة انطلاقها هي ثقافة وعلم ، ليست طقوساً وفروضاً مظهرية أن تؤمن بالله “أخلى ذاته ، آخذاً صورة إنسان ، وأشبه الإنسان في كل شيء” كما خلق باراً نقياً ما خلا الخطايا التي هي دخيلة وغريبة على الإنسان ، أن نؤمن بذلك معناه أن تفكر في معنى عظمة الله ، وقداسته وتواضعه ، ثم تتأمل لأكثر وأعمق في محبته الفائقة للإنسان ، إن الحب ثقافة ، فأنت لا تحب من تجهله ، فالحب معرفة واختبار وممارسة وليس أمراً نظرياً أو فلسفياً أو عاطفياً عابراً ، أن تكون مسيحياً معناه أن تتخطى القوانين الطبيعية بل والمنطقية ، أن تحاول الدخول في آفاق روحية ، إلهية ، أو قل هي محاولة اختراق العالم الروحي أو الغيبي ، فالإنسان على محدوديته ، وسجنه في الجسد ، وعالم المادة ، وقوانين الطبيعة المادية ، الإنسان كائن أسمى وأعظم من هذا الكون المادي كله ، يستطيع أن يتخطى عالمه وأن تنطلق روحه إلى “عالمها الأصلي ” فهي النفخة الإلهية الخالدة .
لا يمكن أن يكون مسيحياً من يظن أنه خلق حزمة من الغرائز ، تنتهي حياته عند حافة قبر الظلمات وكأنه حيوان أو طير أو كوكب يهوى إلى العدم ، المسيحي هو قبل كل شيء مفكر ، متأمل ، باحث دوماً عن أسرار ما وراء الطبيعة شاء أم أبى فكلمة “التجسد” ترغمه على التساؤل كيف يتجسد الله الكلمة ؟ ولماذا يتجسد ، أو لماذا حصل الفداء بصورته الحادة الموجعة كما رواه التاريخ ، وكما صورته السينما ، أنه لأمر مثير يطرح على الإنسان أسئلة دائمة ، هل هذا أمر ممكن ؟
* * * * *
2 – وأزعم أن الغالبية المطلقة من البشر لا تعطي اهتماماً كبيراً لما وراء الطبيعة ، ومعنى الحياة الروحية ، معنى القداسة ، معنى تجسد “الله الكلمة” معنى الألم وموت المسيح ، ومعنى قيامته ، وما مصير الإنسان ؟ ولأن هذه الأمور لا تهم كثيراً إنسان الحضارة المندفعة المتدفقة التي تقدم للإنسان ألوان الترف والرفاهية فلماذا يتعب الإنسان نفسه ويفكر أو يتأمل أو يحاول اختراق معنى الحب الإلهي للإنسان ، أنه يكتفي بأموره المادية ، ويكتفي ببعض المعلومات التي وصلت إلى عقله وآمن بها واعتقد في صدقها واعتبرها من ثوابت الأمور ومن العقائد الإيمانية التي قد يقدم حياته فداء لها .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نعرف أن بحر العلوم لا حدود له ، وأعماقه بعيدة إلى حد مجهول ، يعرف الإنسان ذلك وينسى أن بحر علوم الروح أيضاً لا حدود لها ، ولا قاع له ، يقول أهل العلم والفلك والفضاء أنك لو طرت في طائرة أسرع من الصوت مائتي سنة متصلة لن تصل إلى شاطئ للفضاء ، أمر يسكب الحيرة والاحساس بالضعف في أعماق الإنسان ، وهكذا علم الروح ، أو قل علوم الإيمان ، أو قل ببساطة شديدة العلاقة بين الله وبين الإنسان ، ومن أعجب الأمور أن جميع أهل الفكر من الفلاسفة والمتصوفة يقولون بأن الله أقرب إلينا من حبل الوريد ، بل ملكوت الله في داخلكم ، بل إن لله سكناً في كيان الإنسان ، وهذه النفخة الإلهية التي جعلت من الطين بشراً وأمدته بالحياة والحرية والعقل والإرادة نفخة لم تنفصل عن نافخها بل هي قائمة فيه وتملأ كيان الإنسان ، وهذا سبب سعادة الإنسان إن أدرك هذه الحقيقية ، وسبب تعاسته إن أهمل هذه الحقيقة وعاش وكأنها ليست حقيقة وقد يعيش الإنسان مائة سنة وأكثر وهو لا يدري أن لله سكنا في كيانه وأن صلة الخالق به لم تنقطع حتى ولو رفض الإنسان الله ، فالله لا يمكن أن يرفض نفخته وأن يرفض الإنسان .
* * * * *
3 – تأمل كيف ينمو جسد الإنسان ، كيف يكبر ، ويشيخ ، ما الذي يقويه وما الذي يضعفه ؟ عفواً أيها الإنسان جسدك ليس قطعة من اللحم ، بل هو كيان رائع معجزة إلهية له كل الاحترام والتقدير ، هذا الجسد في حاجة إلى العناية والرعاية ، وأول هذه الأمور هو التنسيق بين الكيان الروحي وبين الكيان الجسدي ، ومن التعاليم الرائعة التي تعلمناها من الإنجيل ، الكتاب الصغير نسبياً ما قاله المسيح “كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب” وكل بيت وكل إنسان ينقسم على ذاته مصيره الدمار ، وأزعم أن الإنسان خطيئته العظمى أن يحيا منقسماً على ذاته ، عالمه الروحي مهمل ، لا يأخذ من جهده إلا القليل وعالمه الجسدي عالم طاغٍ مسيطر ولك أن تنظر إلى سطح الكرة الأرضية ، ستجد بشراً يصلون ويصومون ويعلنون إيماناً يظنون أنه “الحق المطلق” أنهم يمتلكون كما يظنون الحق والنور والأرض والجنة ويملكون الله ، أي سذاجة وبلاهة القول بأن إنساناً يمتلك الله ، ويمتلك الحق المطلق ، ويفهم ما الدنيا وما الآخرة ، ولو تأمل الإنسان لأدرك أننا لا نعلم إلا القليل جداً ، جداً ، جداً ، إن القديسين والزهاد والمتصوفين والذين يرفضون عالم المتع والترف حتى تظنهم مجانين هؤلاء هم الذين لمسوا شاطئ الحقيقة ورأوا بأرواحهم عن بعد معنى الحياة الروحية ، وإن كان الجسد له نظام وقوانين في نموه وصحته وقوته ، هكذا الروح لها نموها وصحتها وقوتها ، ويمكن أن نوجز وسائل نمو الروح في بعض من الأمور : الثقافة – الممارسة – التأمل .
* * * * *
أ – أما الثقافة الروحية فأمر لا غنى عنه ، إن العالم يصدر وفق بعض الإحصاء أكثر من مائة كتاب يومياً عن “المسيح” وبعضهم يقول بل ألف كتاب يومياً ، أضف إلى ذلك الكتب التي تصدر ، والمجلات التي تنشر ، والإعلام الذي يصخب صباحاً ومساءاً ، ذلك كله يذكر البشر “بالمسيح” فشخص المسيح لم يكن أسطورة ، أو وهماً ، أو حدوته أو حدثاً تاريخياً مضى ، لا ، لا ، شخص المسيح “هو القائم من الموت” هو القيامة والحياة ، هو الحي الدائم ، هو الله الكلمة ، فكيف أمضي حياتي دون التعرف عليه ، بل كأنه لم يوجد ، سئل طلبة في إحدى المدارس الأوروبية هذا السؤال : ماذا تعرف عن عيد قيامة المسيح ؟! فكانت الإجابة : لا نعلم عن ذلك شيئاً !! والمدرسة علمانية في بلد مسيحي ، فما بالك بمن لا يؤمن بالمسيحية بل ويعتبرها ديانة محرفة .
وإذا ذكرت الكاهن أطرح سؤالي : ما ثقافتك عن المسيح ؟؟ ولن أطرح أسئلة أخرى ، إن الثقافة هي الغذاء للروح وللعقل وللضمير ، والثقافة في أهم عنصر لها هي الثقافة الذاتية “تثقيف نفسي بنفسي” باستخدام كل وسائل التعلم والقراءة والاستمتاع .
* * * * *
ب – الممارسة : أصحاب رياضة كمال الأجسام ، يضعون لأنفسهم نظاماً في الطعام والشراب والسلوك العام ، فالجسد كيان له حقوقه وقوانينه إن شئنا له الكمال ؟ هذا القول ينطبق تماماً على كيان الروح ، الروح له أو لها ( في القاموس الروح مذكر أو مؤنث ) قوانينها ، ما هي التمارين الروحية التي يتبعها الإنسان وأن أقمنا الصلاة ، أو أتبعنا شرع الصوم .. الخ كيف يتم ذلك ، إن الجسد يحتاج إلى تمارين للحفاظ عليه اختصر وأقول الروح أيضاً يحتاج إلى تمارين للتقوية
ج – التأمل : التفكر ، إن أمامنا كتباً مفتوحة لا تحتاج إلا للنظر فيها ، فالطبيعة كتاب مفتوح ، والتاريخ كتاب مفتوح ، وخبرات الكثيرين كتاب مفتوح ، من ذا الذي يفكر ويتأمل في ذلك كله ، إن الثقافة المسيحية شرط لأن أكون مسيحياً وليس كاهناً ، فالكاهن عليه أن يتعمق كل يوم في معنى المسيحية ، الله الكلمة ظهر في الجسد .
د . الأنبا يوحنا قلته