همام سرحان – القاهرة
لا يُجادل أحد في المكانة الكبيرة التي تحتلّها مؤسستا “الأزهر الشريف” و”الفاتيكان”، في قلوب وعقول مسلمي ومسيحيي العالم، حيث تُـعتبران المرجعية الدِّينية لقُـرابة ثلاث مليارات مواطن يعيشون معا على ظهر الكرة الأرضية.
وفيما تمتّعت العلاقة بين هاتين المؤسستين بدرجة عالية من الثقة والإحترام والتعاون المتبادل في العشريات الأخيرة، شهِدت حالة من التوتّر، منذ تولّي البابا السابق للفاتيكان بنديكتوس السادس عشر، بعد أن ربط في إحدى خطاباته في عام 2006 بين الإسلام والعُنف، وهو ما أثار استِياء مؤسسة الأزهر حينهاز وفي عام 2011، قرّر الأزهر تجميد العلاقات بينه وبين الفاتيكان، بعد تصريحات للبابا حول حادِثة كنيسة القديسين بالإسكندرية، والتي طالب فيها بحماية المسيحيين في مصر، وهو ما اعتبره شيخ الأزهر د. أحمد الطيب تدخّلا في الشؤون المصرية.
وبعد مرور 100 يوم على تولّي البابا الجديد “جورج ماريو أنطونيو بيركوليو” للفاتيكان، الملقّب بفرانسيس، يتطلع كثيرون في العالميْن الإسلامي والمسيحي، إلى خُطوات جريئة لإعادة المِياه إلى مجاريها وتصحيح الصورة وعودة العلاقات القوية بين المؤسستيْن الدينيتين، الأكبر في العالم، والعمل على رأبِ الصّدع الذي أصاب هذه العلاقة التي لطالما اتّسمت بالتعاون والحِرص على الإخاء.
ممثل رسمي لمصر في حفل التنصيب
في هذا السياق، شارك د. صابر عرب، وزير الثقافة المصري السابق، في حفل تنصيب البابا الجديد، ممثِّلا رسميا عن مصر. وعقِب عودته إلى القاهرة، التقى شيخ الأزهر وعرض عليه رُؤيته لمُستقبل العلاقة بين الأزهر والفاتيكان، فأكّد الطيب له على أهمية الاحترام المتبادَل بين مختلف الطوائف، موضحا له أن سبب تعليق الأزهر للحوار مع الفاتيكان، هو “الهجوم المتكرِّر من البابا المستقيل على الإسلام ونبيِّه”، مؤكدا على أهميّة نشْـر ثقافة التسامُح والمودّة بين مختلف الطوائف، لكي يتعايَش الجميع في جوٍّ من السلام والأمان.
وكان الدكتور أحمد الطيب، قد صرّح في 31 مايو 2011، خلال لقائه وفداً إيطالياً برئاسة الأب فيتوريويناري والدكتورة باولا بيتزو والدكتور أندريا ترانتيني، بأن الأزهر هو أعظم مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، وهو الذى يمثِّل أهل السُنة والجماعة في العالم الإسلامي، فهو قلب الأمّة النابض وضميرها الحي، مُعلناً أنه لا يمكن أن تعود العلاقات مع الفاتيكان إلى مجاريها بدون اعتذار رسمي للإسلام والمسلمين.
وأشار الطيب آنذاك، إلى أن تجميد الحوار مع الفاتيكان، لا يعنى عدم الحوار والتعايُش السِّلمي مع الكاثوليك في العالم، ولابد من التفريق بين المستوى الرسمي، والذي يرأسه البابا الحالي، والذي بدر منه كلام يُسيء للإسلام والمسلمين، وبين الجماهير الكاثوليكية، والتي نعمل على تقوية أصول المودّة والتعايش السِّلمي بينهم.
على صعيد آخر، أوضح محمود عزب، مستشار شيخ الأزهر لشؤون الحوار، أن “تجميد الحوار مع الفاتيكان إلى أجل غير مسمّى، جاء بسبب إساءة البابا إلى الإسلام، وتعامُله بغيْر حيادِية مع ما يتعرّض له المسلمون في بعض الدول، كالعراق وأفغانستان، وما يتعرّضون له من أعمال عُنف تُـزهِـق أرواحهم”.
وأضاف عزب، أن القرار “يأتي على خلفية استمرار بابا الفاتيكان في الإدِّعاء أن غيْر المسلمين يُعانون اضْطِهاداً في الدول الإسلامية بالشرق الأوسط، وهو ما يُخالِف الحقيقة”، واعتبر أن هذه المواقف تُمثل “تدخّلاً في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية، لا تقبله”، مشيراً إلى أن “مصر سبق لها أن أعلنت رفْض التدخّل في شؤون المسلمين والأقباط وغيرهم على أرضها”.
سبب تجميد العلاقات.. حقيقي أم فهم خاطئ؟
البابا السابق -وطبقا لما تم تداوله من تصريحات إعلامية وبيانات رسمية- دعا أكثر من مرّة إلى حماية مسيحيي الشرق الأوسط وطالب الإتحاد الأوروبي باتِّخاذ موقف موحّد في هذا الشأن، كما وردت الإشارة إلى أن دعوة الفاتيكان لحماية مسيحيي الشرق، قد جاءت بعد الإعتداءين اللذين وقعا بفارق شهرين فقط، واستهدف أولهما كنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة بوسط بغداد، بينما استهدف الثاني كنيسة القديسين في الإسكندرية.
وفي محاولة منه لتوضيح الحقيقة بُعيد اندلاع الأزمة، أعرب مدير المكتب الصحفي للكنيسة الكاثوليكية بمصر، الأب رفيق جريش، عن أسفه لقرار الأزهر بتجميد العلاقة مع الفاتيكان، وقال: “إن الكنيسة الكاثوليكية، ويُمثِّلها في مصر الكاردينال انطونيوس، أوضحت أكثر من مرّة حقيقة تصريحات البابا بنديكتوس السادس عشر، ونتحدّى أن يكون قد صدر من بابا الفاتيكان أي تصريحات مُسيئة للإسلام أو أنه قد قال إن “مسيحيي الشرق الأوسط يتعرّضون للإضطهاد”، كما يَـدّعي البعض.
وأضاف جريش في تصريحاته آنذاك: “نحن نستغرِب مثل هذا القرار، لأننا ذهبنا بصُحبَة بطريرك الرّوم الكاثوليك إلى د. محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف (وقتها) في زيارة رسمية، ومعنا النص الإنجليزي وترجمته بالعربية لخُطَب البابا بنديكتوس السادس عشر، وأوضحنا له أن قناة الجزيرة الفضائية حاولت الوقيعة بين الكنيسة الكاثوليكية ومصر، وبخاصة الأزهر. فالبابا لم يشِر قطّ إلى تدخل في الشؤون المسيحية لمسيحيي الشرق الأوسط، وكل ما قاله نصَاً: “أطلب من الحكومات أن تحمي مسيحيي الشرق الأوسط ومواطنيها بشكل عام من الإرهاب”.
وفي معرض التوضيح، أكّـد الأب رفيق جريش إلى أن “هذه الجُملة صاغتها فضائية الجزيرة على أساس أن البابا يطلُب من الحكومات الأخرى حماية مسيحيي الشرق، وهذا ليس مقصده. فهو يطلب من الحكومات المحلية ذلك ويبدو أن هذا أغضَب هذه الحكومات”.
وأضاف الأب رفيق أن “وفداً برئاسة المطرانين يوحنا قلتة وبطرس فهيم، معاونا الكاردينال انطونيوس نجيب، بطريرك الأقباط الكاثوليك والأب رفيق جريش، ذهبنا إلى شيخ الأزهر وأوضحنا له حقيقة تصريحات بابا الفاتيكان، وأن الجزيرة تحاول دقّ أسفين بيننا، ولكن فضيلته طالبنا بتحسين الصورة وأن ننقل للفاتيكان مطلَباً بأن تكون تصريحاته أكثر مُرونة، واتّفقنا على أن يُصدر الأزهر بياناً بهذا الإجتماع، ولكن هذا لم يحدُث، ثم فوجِئنا ببيان مجمّع البحوث الإسلامية، الذي أعلن فيه الأزهر تجميد الحوار مع الفاتيكان”.
بالإضافة إلى ترؤسه للكنيسة الكاثوليكية، يتولى البابا أيضا قيادة دولة هي اليوم بدون أراض (الفاتيكان) وتسيير شبكة دبلوماسية واسعة يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر، ما يُشكل “استمرارية استثنائية”، بحسب أغستينو برافاسيني، الأستاذ الفخري بجامعة لوزان السويسرية. […]
مستقبل العلاقة بين المؤسستين
في تعليقه على الموضوع، قال الأنبا د. يوحنا قلتة، نائب البطريرك الكاثوليك في مصر، إن مستقبل العلاقة مع الكنسية الأوروبية الكاثوليكية وتعاونها مع الدول الإسلامية العربية، سيكون أكثر تفاؤلا وأكثر إيجابية في الفترة القادمة، خاصة أن البابا الجديد قادِم من خلفية تعامَل فيها مع الفقراء والمساكين، ومجتمع أمريكا الجنوبية، هو مجتمع متديِّن ويقترِب من بلاد الشرق.
وفي تصريح خاص لـ swissinfo.ch، أوضح الأنبا د. يوحنا قلتة، أن “الظروف التي يمُر بها العالم اليوم، وكل ما يحدُث في العالم من أحداث، تثبت أن العالم يمضي للأمام ولا يتوقّف، كما أنه لا يرحَم المقصِّرين، وعليه، فإنه يجب أن يتضامَن المسلمون والمسيحيون في العالم كلّه معا”، مشيرا إلى أن البابا الجديد للفاتيكان قد أكّد في خطاب التولّي، على “أهمية تضامُن الدينيْن الأكبر في العالم، الإسلام والمسيحية، لإنقاذ البشرية جمعاء”.
وأضاف أن المشكلة تعود إلى أن البابا (السابق) بندكتوس السادس عشر، قادِم من خلفية لاهوتية بحْتة، مهتمّة بتعاليم الدّين المسيحي الصحيحة والدراسات الدينية، وكان لا يعطي اهتماما للعلاقات الدبلوماسية بين الشرق والغرب، ومن ثَـم، جاءت التصريحات التي أغضبت الأزهر وأحدثت نوعا من القطيعة بينه وبين الفاتيكان، خاصة مع التصريحات الأخيرة التي ذكرها البابا بندكتوس السادس عشر بعد أحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية، والتي فُهِـم منها بالخطإ أنه يدعو الغرب للتدخّل لحماية المسيحيين بمصر، نظرا لما يتعرّض له من عنف، الأمر الذي لم يقبله الأزهر واعتبره تدخّلا في الشؤون المصرية.
وأشار قلتة أنه يعتقد أن بوادِر انفراجة هذه الأزمة لاحت في الأفُـق، بعد تهنِئة الأزهر للبابا الجديد فرانسيس بتولي المنصب، بالإضافة إلى زيارة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وهي مفيدة على كِلا الجانبين لدعم العلاقات بين الكنيستين الكاثوليكية الغربية والشرقية المصرية، بالإضافة إلى إمكانية أن يفتح البابا تواضرس الثاني إشكالية الأزهر ويسعى لحلها وإعادة العلاقات بين الأزهر والفاتيكان.
وكانت مصادر كنسية قد أكّدت أن البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية والبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، بحَثا خلال اللقاء الذي جمع بينهما في روما، إعادة العلاقات بين الفاتيكان والأزهر الشريف، وأشارت إلى أن “البابا تواضروس ألمح لبابا الفاتيكان، في اجتماع مغلق، إلى إمكانية عودة العلاقات لطبيعتها مع مؤسسة الأزهر الشريف بعد فترة توتّرات دامت 7 سنوات”، مؤكّدة أن “البابا تواضروس أكد في اجتماعه مع البابا فرانسيس أن مؤسسة الأزهر تحظى بحبّ الأقباط والمسلمين في مصر، وأن عودة العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية، متمثلة في رأسها بابا الفاتيكان، والأزهر أمر ضروري”.
رسالة “الطيب” إلى الفاتيكان
على الجانب الآخر، قال مصطفى زهران، الباحث المتخصّص في ملف العلاقة بين المسلمين والأقباط: “لاشك أن الأزهر الشريف، تحت قيادة الشيخ الدكتور أحمد الطيب، الصوفي الطريقة والأزهري المشرب، يُحاول أن يكون له دور جاد وحازم، وبصْمَة واضحة المعالِم في قضايا المسلمين، تليق بهذه المنارة العلمية الشامخة، الضاربة جذورها في الأرض منذ قرون مضَت”.
وأضاف زهران، في تصريح خاص لـ swissinfo.ch، أن “هذا الأمر الذي ألقى بظلاله على المشهديْن السياسي والمجتمعي، ليس في مصر وحسب، وإنما خارجها أيضا. فلم تكن دعوات الأزهر لوقْف المدّ الشيعي والنفوذ الفارسي في المنطقة، بعيدا عن رُؤية الطيب الخارجية للقضايا الشائكة للأمة الإسلامية، من المحيط والخليج. فهو يحاول أن يقدم نفسه كحامي حِـمى أهل السُنة والجماعة تحت الرّداء والعباءة الأزهرية، لذلك، ليس من الغريب أو العجيب أن يكون حاسما حازما إزاء الفاتيكان منذ تصريحاته المستفِـزّة التي أطلقها البابا السابق بنديكتوس السادس عشر، عقب أحداث كنيسة القديسين وربطه بين الإسلام والعنف. والتأكيد في أكثر من محفل عن تعرض المسيحيين في الشرق للإضْطِهاد من قِبل المسلمين، مما رآه الطيب تعزيزاً للفِتنة وتأجيجا لها بشكل مُتوال ومتصاعِد”.
وتابع مصطفى زهران: “ولا يمكن فصل التّبشير بالنّصرانية في دول إفريقيا والمنطقة العربية، عن نشر التشيع، فكلها أدوات تنال من الأزهر، باعتباره الراعي الأكبر وحامي الإسلام في العالم، بدون أسوار تحدّه أو أجدار تفصله عن غيْره. إضافة إلى النَّيْل من رموز الإسلام الأصيلة على شاكلة الرسوم المُسيئة للرسول محمد صلوات الله عليه وسلم . فضلا عن ادِّعاءات حُرية الفِكر التي دائما ما تطال القرآن الكريم والفِكر الإسلامي وشخوص الإسلام والنَّيْـل من قُدسِيتهم لدى ملايين المسلمين في المشرق والمغرب. ولم يكن للفاتيكان أي ردٍّ مُطَمْئِـن أو مُستَنير إزاء مِثل هذه القضايا”.
ويستطرد الباحث المصري قائلا: “يُحاول الشيخ الطيب أن يرسل رسالة إلى الفاتيكان، القِبلة الكُبرى لملايين المسيحيين في الغرب، ومحاولات التبعية الروحية والتضامن النوعي من مسيحيي الشرق، خاصة بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها البطريرك القبطي الجديد فور تسلمه مقاليد البطريركية تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، خلفا للأنبا شنودة. مفاد هذه الرسالة أن الأزهر الآن لم يعُد كما كان في العقود الثلاثة الماضية، مُتوارِيا عن الحجْب وعن قضايا المسلمين، بل استردّ قوّته ولابدّ أن يُحسَب له الآن ألف حساب. تتجه الرسالة مباشرة للبابا الجديد “فرانسيس” .
وكان من المُنتظر وبعد فترة توتّر دامت بين الأزهر والفاتيكان ما يقارب من سبعة أعوام في عهد البابا بنديكتوس السادس عشر أن يسعى البابا الجديد في رأب الصَّدع وأن يمدّ يده إلى الأزهر من جديد ويطوي صفحة الماضي، إلا أنه، وعلى الرغم من زيارة البابا تواضروس الثاني للفاتيكان، لم تظهر بعدُ أي ملامِح تُـذكر لعوْدة العلاقات مرّة أخرى.
الكرة الآن في ملعب الفاتيكان وليس لدى الأزهر، فما ينتظره الإمام الأكبر هو “مرحلة جديدة من العلاقات تُبنَى على الإحترام المتبادَل بين الرّسالات السماوية، وحُسن نية من جانب الفاتيكان”، على حد قول الباحث مصطفى زهران. ومن الواضح اليوم أن عودة العلاقات إلى سالف عهدها أضحت “مرهُونة بذلك”.