منطلقُ سؤالِك نابع، بحسب تصوّري، من فهم ٍ خاطئ لمعنى ” العالم” في السؤال! هنا، لا يمكننا أن نفصل بين لاهوت البدايات عن لاهوت النهايات. أي: الخلق ونهايات العالم. فالموضوعٌ والقضية واحدة. كيف؟ لنرى بعض التوضيحات الضروريّة:
لكي ندرسَ لاهوت الخلق، علينا أن ندرس: الخلق ونهاية العالم، البداية والنهاية، الشروع والتكميل. بمعنى: مراحل تدبير الخلاص. فإنّ أيّ تفكير ٍ لاهوتيّ، لا بدّ وان يصطدم بمشكلة التسلسل الزمنيّ، لأن الله خارج الزمن في كيانه. زمنه إذن يبدأ وينتهي في نفس الوقت. فالله لا زمن له، وهو نبع دائم، حضوره لا ينضبْ، وخالقٌ في كلّ لحظة. وعندما يُقال في الكتاب المقدس كلمة ” في البدء “، هذا يعني دائمًا: اليوم، الآن.
معنى الخلق هو الإكتمال. وهذا توضيحٌ شديد الأهميّة لئلا نقع في تناقض التوتّر بين ” الوجود والتحوّل”، ” الهويّة العميقة والملء”، ” عالم الواقع أو عالم الله أو المثال”. اللاهوت المسيحيّ والكتابيّ الذي يربطُ بين عملَ الله الخالق في البداية وتدخّله في الوجود والإكتمال هو ربطٌ مُحكَم. وهذا سوف يجعلنا نعيد النظر في مسألة الواقع، لكي نتجنّب الوقوع في تجربة إعتباره غريبًا عنّا، أو مجرّد حقلا استعمله لاستكشاف حريّتي، أو كمجرّد ورقة أكتبُ عليها أفكاري وتاريخي. إذن، الخلقُ هو الإكتمال والنهاية. وكل إكتمالٌ ونهاية هي خلقٌ .
النهاية، مكتوبةٌ في قلب الخليقة كوشم ٍ لا يزول. ما سيحدث في الآخر هو الذي سبّب الخلق ودفع له. المخلوق ليس فقط موضوعًا للوصف والتقطيع والتحليل. المخلوق شاهد للتاريخ وللحركة للمستقبل. إذن، لا يجبُ أن نقعَ في مفهوم أحاديّ للإسكاتولوجيّة (علم النهايات): أي أن نفهمها كنقطتي بداية ونهاية فقط. (كأن أرسمُ على ورقة من نقطة على اليمين خطّا مستقيمًا إلى نقطة أخرى على اليسار وأعتبرُ أنني رسمتُ نقطة بداية ونقطة نهاية وإنتهى الأمر!). النهايات ليست ما نحقّقه من منجزات، ولا مجرد نقل نموذجيّا للكمال الأوّل وليست تطبيقـًا لمبدأ أخلاقيّ معيّن مهمّته رفع شأن الفرد أو المجتمع. لفهم النهايات المسيحيّة، يتطلّب إعترافـــــًا ببادرة هجمت علينا، ” كشف الله وظهوره بيننا”، الأولوية لله، هذه الأولويّة هي إستمرارٌ في التاريخ حتى نهاية العالم.
لا بدّ من الإقرار بأنّ البشريّة تعيشُ في إنتظار مجيء ابن الله في مجده، حالة ً لا يزالُ يغلب علينا طابع الألم والمعاناة والظلم. فملكوتا لله وإن كان حاضرًا سريّا في الكنيسة التي هي ” نواه وبدء هذا الملكوت على الأرض” (المجمع الفاتيكانيّ الثاني 672)، يبقى منحصرًا في أبعاده التاريخيّة في ” الزمن الحاضر الموسوم بسمة الضيق وامتحان الشرّ”. لجأ الكثيرون مع تقدّم العصور، إلى عبارة “نهاية العالم” في حديثهم عن مجيء المسيح الثاني ما يستدعي الخوف وتصوّر الكوارث المرافقة لهذا الحدث من زلازل وعواصف وإبادات وزوال ٍ، متأثّرين ببعض الصور التي أعطاها المسيح، يقرأونها على حرفيّتها وكأنها وصفٌ علميّ لا صورة رمزيّة كما في قوله: وعلى الأثر، بعدَ ضيق تلك الأيّام، تُظلم الشمس، ويَحبِسُ القمرُ ضوءه، وتتساقك الكواكب …..” متى 24 :29. إلا أن عبارة ” نهاية العالم ” تناقض الإيمان المسيحيّ، الحريّ بنا إستعمال العبارة الأدقّ والأصحّ ” نهايةَ عالم ٍ” لأن الحياة لن تصلُ يومًا على العدم، بل تبلغ غايتها ويتحقق رجاء البشر، إذ” في المسيح، يجدُ تاريخُ الإنسان والخليقة الخلاصَ والنهاية السامية”.
أ. فوغتلي، بما له من علم ٍ واسع، في عمله الضخم العهد الجديد ومستقبل العالم”، حاولَ أن يبيّن أنّ العهد الجديد لا يعلّم أيّ شيء بالنسبة إل هذا المستقبل: ” لا يمكن أن نُثبِتَ أو نستشفّ في أيّ من النصوص المتعلّقة بالموضوع أيّة نيّة في تقديم يُنبئ بمصير الكون في المستقبل… كما لا يمكن أن نُــــبرهِنَ عن أنّ يسوع نفسَه أو المسيحيّة الآولى في تبشيرها بالإيمان قد تكلّما عن نتيجة ٍ مستقبليّة لحدث المسيح من شأنها تغيير حالة الكون.. العهد الجديد يمتنع عن أيّ تصريح ٍ عقائديّ حول الناحية الكونيّة الصرف”. المادة (كالذرة، والجزيئات، والعضو … ) لا يمكنُ أن تصلَ بحدّ ذاتها إلى الإكتمال. فكما أنه لا معنى لها ولا هدف إلاّ كعنصر خاصّ في فعل الحريّة الإنسانيّ، فإنها لا تكتمل أبدًا إلا بكونها العنصرَ الذي يجعلُ هذا الفعل واقعا.
إذن، يعطينا الكاردينال جوزيف راتسنجر في كتابه الشهير ” مدخلٌ إلى الإيمان المسيحيّ بعض نقاط توضيح : ” كلمة عالم في تعبير ” نهاية العالم” لا تعني بنية الكيان الطبيعيّة، بل العالم الإنسانيّ. إذن، فالتعبير يعني، بصورة مباشرة أنّ هذا النوع من العالم، عالم الإنسان، سيصل إلى نهاية ٍ يحتّمها الله ويحقّقها. لا يمكننا إذن، بحسب هذا الكلام، أن نفصلَ العالم والتاريخ والكون عن الإنسان! فالعالم والتاريخ يسيران سويّا جنبًا إلى جنبْ مع الإنسان. فلا نستطيع تصوّر وجودًا إنسانيّا بدون العالم، ولا العكس.