المونسنيور د. بيوس قاشا
نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى
حكمة ومحبة ورسالة… وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. وأمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات من ” والخلائق تسبح بحمده” أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.
كنا نقول أيام زمان “هذا رأسٌ من خشب” عندما نشير إلى صبي قليل المهارة والذكاء. وعندما يريد المربّي معاقبة أحد الطلاب عن شطط اقترفه، فإنه يستخدم فلقةً خشبية منقوعةً بالماء! ودكاكين الحطّابين عادةً ليست رائعة الجمال، فنحن نشتري الحطب لحرقه، وجلاّد المقصلة يستخدم خشبة عريضة ضخمة تحمل شفرة كبيرة من حديد لقطع رأس المحكوم عليه بالإعدام، وآلهة الوثن القديمة المصنوعة من الخشب كانت تدعى أصناماً باطلة .إذا كان الخشب يلعب أدواراً كذا سيئة وحقيرة في حياة الناس، فلماذا إذن يا سيدي ، يا يسوعي، أردتَ أن يكون صليبكَ مصنوعاً من الخشب؟!، ولكنك تعرف جوهـر كينونة الخشب أكثر منا جميعاً. لقد اشتغلتَ به عندما كنتَ يافعاً تعمل نجاراً مع يوسف، في إحدى دكاكين الناصرة (متى23:2)، وكنتَ تعلم كيف تنشره وتصقله وهو جاف متجنّباً مواقع التقلّصات والعقد، وكنتَ تعلم أيضاً أنكَ سوف تموت ممدوداً على صليب من خشب .ومنذ أنْ غُرِسَ الصليب فوق قمة جبل الجلجلة، أصبح الخشب مسيحياً. اصبح ملكك، ” بعد أن كُتب عليه عنوانكَ”، (مرقس 26:15) . في كل جمعة آلام من كل سنة، بينما يكون بيت القربان فارغاً مفتوحاً على مصراعيه، لا أحد يتردد في الركوع أمامه وذلك تكريماً للصليب الخشبي المنتصب فوقه.
يا سيدي، إن مذابحكَ أغلبها مصنوعة من الخشب. ومن خلال مشبّك من خشب ــ كرسي الاعتراف ــ ينال المؤمنون بعد الاعتراف الغفران عن خطاياهم .باستطاعتي أن أصنع منضدة خشبية أو باباً من خشب، ولكنك أنتَ يا سيدي أعطيتَني الخشب جاهزاً مشاركاً في الخلاص ، مثلما أعطيتَني ضياء الشمس مشاركا في جمال الحياة .أنتَ الذي تجعله ينبت بين الأدغال وفي الحقول والغابات وعلى قمم الجبال، وإليكَ تخضع مملكة النبات ابتداءً من حبة الخردل حتى شجرة البلوط الهرمة، وتلك الألواح الطويلة العملاقة المعدَّة للتقطيع مثل قطيع الماشية الذي ينتظر دوره للذبح.
لماذا التفتيش بعيداً في النظريات الصعبة؟ بينما لا تلزمني سوى نظرة عابرة على باب كنيسة ما، أو على مقعد في كنيسة، أو على مركع في الكنيسة أستند إليه لكي أصلّي.إني أفكر في يوم جمعة الموتى حيث ألوف من الأضرحة المصفوفة تحمل جميعها أنواعاً من الصلبان الخشبية، وأتذكر شهداءَكَ الذين ماتوا من أجل الإيمان تحت لهيب من الحطب، وأتذكر الذين لا يملكون وتداً يسندون به رأسهم في ساعاتهم الأخيرة! وأنت واحد منهم ” فابن الانسان ليس له مكان يسند اليه رأسه ” ( متى 20:8) . أفكر في جميع الأكواخ الخشبية المتصدّعة التي لا تكاد تحمي ساكنيها من الزمهرير والمطر،وساكنيها الذين يموتون فقراء ، وبجميع التوابيت التي هي آخر مسكن للإنسان ، غنيا كان أو فقيراً ! وعِبرَه تعلمتُ أن الغنى ليس في خشب التابوت ، إنما في الراقد في التابوت ، وفي هذا يحملُ خشب التابوت، صفة الحقيقة الامينة، وهذا يا سيدي ما حصل معكَ. يعلّمنا الخشب ألاّ نحطّ من قيمته رغم ضيق مداركنا، فهو يرافقنا ،ومثل ملاك الحارس، يستمر يحذّرنا وينبّهنا بأنكَ لستَ بعيداً عنا، ويُعدّنا من أجل لقائكَ الأكيد، فحِملُه رسالة السماء ، وحقيقة ايمانية . نعم سوف أتجول بكل احترام خلال جميع مخلوقاتكَ يا سيدي، ولكي أستمـر في صلاتي، يكفيني أن أفتح عيني وأنظر الأشياء على حقيقتهـا، عندئذٍ حتماً سوف أراكَ فيها،معلقاً من أجلنا ، أنتَ الكلمة المتجسد، مخلّص البشر، النجّار الناصري (متى23:2)، المصلوب فوق خشبة، وسيرافقنا طوال المسيرة ،وسوف أكتشف بصمات الألوهية من أصغر نُشارة في دكّان نجّار، احتفظَ بها مثل ذخيرة من بقايا القديسين.نعم لخلاصي