أوقات الشِدّة، هي أوقات خلاص

أوقات الشِدّة، هي أوقات خلاص

الاب انطونيوس مقار ابراهيم

راعي الاقباط الكاثوليك في لبنان

كان خبر تفجير الكنيسة البطرسية في الكاتدرائية المرقسيّة في العباسية بالقاهرة مخيفًا ومرعبًا، صعبًا وقاسيًا لِما حصده من أرواحٍ صارت في لحظات أرواحَ شهداء سبّحوا الله على الأرض بتسبحة الغلبة والخلاص ” قدّوس، قدّوس، قدوس، ربّ الصباؤوت، السماء والأرض مملؤتان من مجدك المقدس”.

ومن ثمّ بدأ قسم صلاة مسيرة الخلاص وهو عبارة عن ثلاث قطع تتمحور القطعة الأولى منها حول إظهار عمل الله في الخلق ” قدّوس، قدّوس، قدّوس أنت أيّها الرّبّ إلهنا الذي خلَقَنا وجبلَنا ووضعَنا في فردوس النعيم ” وتتمحور القطعة الثانية حول تجسُّد الله الكلمة وفدائه للإنسان “تسجد وتأنّس وصار إنسانَا وعلَمنا طريق الخلاص ….. ” وتتمحور القطعة الثالثة حول قيامة المسيح وصعوده الى السماء ” قام من بين الأموات وصعد الى السموات وجلس عن يمين الآب وحدّد يومًا ليدينَ الأحياء والأموات، ويعطي كلّ واحدٍ كحسب أعماله”.

من بعد الانتهاء من صلاة مسيرة الخلاص، تبدأ صلاة تقديس القرابين واستدعاء الرّوح القدس. بين صلاة مسيرة الخلاص وصلاة التقديس، نال جزءٌ كبير من المؤمنين نعمة الشهادة الدّمويّة نتيجة التّفجير الإرهابيّ الغاشم الذي قام به شابٌ يُقال إنّه في كليّة العلوم وعمره 22 عامًا فمن المفترض أن يكون متعلِّمًا ولكنّه، للأسف، لم يعرف عن العلم شيئًا. لقد جاء الشابّ “محمد شفيق محمد مصطفى ” الى الكنيسة متخفّيًا كاذبًا في عشيّة الانفجار مساء السبت والمؤمنون يرفعون التسبيح والتمجيد للعذراء مريم في شهر ” كيهك “من شهور السنة القبطية ويوازي في السنة الميلاديّة شهر ديسمبر، جاء وبيديه شنطة سوداء وتقابل مع أحد الخدّام في الكنيسة سائلاً عن برنامج الصلاة وقال ” أنا شاب مسلم وأريد بعض الكتب عن الدين المسيحيّ ومعرفة بعض الصلوات، وعندما قال له الشّمّاس لا توجد مكتبات فاتحة في مثل هذا الوقت، استفسر عن الوقت الذي يمكنه أن ياتي فيه في اليوم التالي أيّ يوم الأحد وقال له الخادم تعال غدًا عند السّاعة العاشرة صباحاً.

لربّما تأجّل الانفجار إلى اليوم التالي حتى يُكشفَ عن خلايا الترهيب والتخريب والدّمار لكلّ الوطن. فتحيّة إليكم أيّها الشهداء وقد انضممتم إلى الشّهداء الأوائل أبطال الإيمان ولا سيّما الأربعين شهيد “شيوخ شهيت “الذين رووا الأرض الجافّة بدمائهم لأجل نموّ بذرة الإيمان. كشهداء كنيسة نجع حمّادي وشهداء كنيسة القدّيسين في الاسكندريّة والشّهداء الواحد والعشرين في ليبيا، فدمائكم جميعًا، أيّها الشهداء، غاليةٌ وثمنية وستأتي بثمارٍ كثيرةٍ لإعلان المحبّة والغفران والتسامح وغرسِ الإيمان في نفوسٍ بحاجةٍ ملحّةٍ الى العودة إلى حضنِ الله وإلى حضن الإنسانيّة. تحيّةً لكم أينما كنتم يا أحبّاء الله أنتم وغيركم ممّن سُفك دمهم وأيًّا كان السبب الذي لأجله تمّ ذلك ” هؤلاء هم الآتين من الضيق الشديد وغسلوا حللهم وبيضوها بدم الحمل “.

كُثر هم المستاؤون ممّا حدث ويحدث من تشريد وتهجير وسلب ونهب وقتل وذبح وحرق وتفجير وإعدام فهذا حقيقة زمن شدّةٍ وزمنُ ضيقٍ وزمن خوف ولكن هو أيضًا زمن تفكير حول المستقبل فكثيرًا ما نتساءل: هل يكون هذا مصيرنا؟ أإلى هذا الحدّ وصلت بنا الأمور؟ نحن في خطر الغرق في الشعور بالإحباط وواقعنا مليء بالشدائد والصعوبات والاضهادات والعواصف. لكن، دعونا نعود إلى كلمة الله، كلمة الرّوح والحياة، كلمة الرّجاء. يشدّد الإنجيل دائمًا وأبدًا على ضرورة الثبات فيقول الرب يسوع في إنجيل يوحنا اثبتوا فيَّ وأنا فيكم” ويتابع أيضاً قائلاً أنا الكرمة وانتم الأغضان . إن ثبتم فيّ تكن لكم حياة أبديّة. ويتحدّث الإنجيل أيضًا عن العلامات والكوارث وألم المخاض وتُهيئ هذه كلّها لمجيء المسيح ابن الإنسان في مجده ومعه ملائكةُ الله ليدينَ الأحياءَ والأمواتَ ويعطيَ كلّ واحدٍ حسب أعماله عندما يجلس على كرسي مجده ويفرز الخراف عن الجداء ويدعو من على يمنيه لِـ”يرثوا الملك المعدَّ لكم منذ إنشاء العالم” وأمّا من هم عن شماله فيقول لهم ” اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النّار الأبديّة المعدّة لإبليس وجنوده”. كذلك جاء في نبؤة دانيال 12: 1-3 في ذلك الزَّمان: يَقومُ ميكائيلُ الرَّئيسُ العَظيم، القائِمُ لِبَني شَعبِك، وَيَكونُ وَقتُ ضِيقٍ لم يَكُنْ، مُنذُ كانَتْ أُمَّةٌ إِلى ذلك الزَّمان. وفي ذلك الزَّمان، يَنْجُو شَعبُك، كُلُّ مَن يوجَدُ مَكْتوبًا في الكِتاب. وَكَثيرونَ مِنَ الرَّاقِدينَ في تُرابِ الأَرض، يَستَيقِظون: بَعضُهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيّ. ويُضيءُ العُقَلاءُ كَضِياءِ الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيرينَ أَبْرارًا، كالكَواكِبِ إِلى الدَّهرِ والأَبَد. 

ويُعلن لنا إنجيل مرقس 24: 13-32 أنّ الملائكة يأتون ليجمعوا المختارين… من أقصى الأرض إلى أقصى السماء. “وفي تلكَ الأَيَّامِ بَعدَ هذهِ الشِّدَّة، تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعزَعُ القُوَّاتُ في السَّموات. وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال. وحينَئذٍ يُرسِلُ مَلائكَتَه ويَجمَعُ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَقْصى الأَرضِ إِلى أَقْصى السَّماء. مِنَ التِّينَةِ خُذوا العِبرَة: فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب. وكذلكَ أَنتُم إِذا رأَيتُم هذهِ الأُمورَ تَحدُث، فَاعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ قَريبٌ على الأَبواب. الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ هذا الجيل حتَّى تَحُدثَ هذه الأُمورُ كُلُّها. السَّماءُ والأَرضُ تزولانِ وكَلامي لن يزول. وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب

هذه حقيقة كتابيّة وإيمانٌ بما قيل ومع ذلك يجب علينا أن ندخل صميمَ هذا الإيمان وأن يكون لنا رجاء في المسيح يسوع وأن نتفاءلَ دائماً ونثقَ في ذواتنا وفي المسيح ربّنا بأنّنا معه نجتازُ هذه الامور كلَّها كما يجتاز الذهب النار ويُصفّى فيها. علينا أن نسعى جاهدين إلى أن نعبر من هذه المحن والشدائد، مرحلةِ تدمير الإنسانِ وكرامته، الى مرحلةِ إعادةِ بناء الإنسان وترميم كرامته، لنبنيَ عالمًا أفضل لحياةٍ أفضلَ في المسيح يسوع القائل ” قد أتيتُ لتكونَ لهمُ الحياةُ والحياةُ الأفضل”.

نحن مدعوّون الى أن نرفع ذواتِنا الى الله مقدّمين له قلبًا خاشعًا متواضعًا مسنحقًا فالقلبُ المتواضعُ لا يرذله. لا نكتفينّ في صلاتِنا بما تردّده شفاهُنا إنَما لِنَغُص إلى العمق فيجدّدَ اللهُ قلبَنا على الدَوام بروحه القدّوس ولنقُلْ له: “هذا قلبُنا يا ربّ اجعلْهُ قطعةً من قلبكَ وهبْنا الثباتَ في كلمتْكَ وأعطِنا أنْ نثمرَ ثمرًا يرضيكَ وألْهِمْنا دائمًا أن نعملَ بحسبِ مشيئتِكَ وأنء نسعى إلى حياةِ القداسةِ كي نبقى في حبٍّ دائمٍ للبشرِ كلِّهم ونظلَّ متّحدينَ معكَ ومتواضعينَ أمامكَ لكَ المجدُ الدائمُ إلى الأبد، آمين.