ابن الدموع (قصة)

نامت المراة ودموعها تجري من عينيها، وإذ بها ترى نفسها واقفة على قطعة من الخشب و الكآبة قد شملتها..و دموعها كيانابيع تفيض بغير توقف. رأت فتى بهي الطلعة، ترتسم الابتسامة على شفتيه، و يشع الفرح من ملامح محياه..جاء اليها وبلطف سألها:
“مالك تبكين و الغم لا بيرح قلبك؟”
لم تستطع المرأة ان تجيب من كثرة بكائها ..لكنها إذ تطلعت الى الفتى تشجعت وتعزت..عندئذ اجابته:
“يا سيدي..ولدي.. و لدي الذي من لحمي ودمي ..قد هلك!! صار فيلسوفاً عظيماً..يجالس العظماء، و يحسده الاغنياء و تتمناه كل فتاة أن تكون عروساً له..لكنه فقد نفسه و هلك.. ابني منذ صباه لم يختبر حلاوة العشرة معك، ولا ذاق دسم الكتاب المقدس..ولدي ..كيف لا ابكيه كل حياتي؟ كيف لا تتملكني الكآبة من اجله إذ حا عن نموسك؟”
عندئذ لم تستطع ان تكمل حديثها بل اجهشت بالبكاء.
تطلع اليها الفتى البهي، و في حنان أبوي اخذ يطمئنها قائلاً:
“تعزي ولا تخافي فها هو ولدك هنا..و وهو معك”
التفتت المرأة، فإذ بها تراه بجوارها واقفاً معها على الخشبة و للحال ادركت انه سيقبل الايمان.
استيقظت المراة من نومها و البهجة تملأ جوانب قلبها، فقد تأكدت إستجابة الرب لطلباتها. ضمنت يديها و ركعت تشكر الله، ثم اسرعت تبشر ابنها بما رأبت..اما هو ففي سخرية تهكم عليها قائلاً:
” اما تفهمين يا امرأة؟ انه يقصد انك ستكونين مثلي!”
صمتت الام ولم تجادله بل اسرعت بالخروج الى الكنيسة و الدموع تجري من عينيها. و هناك التقت بأبيها الاسقف، و بعد ما قبلت يده و الدموع تجري من عينيها..قالت له كعادتها :
” ابي..ارجوك ألا تنسى ابني لانه يهلك ولا يريد ان يسمع مني”
و إذ رأى الاب إرتباكها و بكاءها من اجل ابنها، اجباها في هدوء يطمئنها قائلا:
” اتريكه كما يشاء يا ابنتي فقط صلي من اجله الى الله كثيراً..إذ من المحال إقناعه بشرّه مع كونه اعظم فصحاء العالم ..لقد كنت انا يوماً من اتباع ماني ولم اكن فقط أقرأ كتبهم بل وانسخها بيدي. ولكنني اخيراً عرفت غباوتهم و تركتهم ..صلِ يا ابنتي من اجله”
لكن المراة ازدادت في البكاء وهي تصرخ :
“يا أبي ارجوك ان تصلي من اجل ابني”
عندئذ اجابها الأب الاسقف:
“ثقي يا امراة انه من المستحيل ان يهلك ابن هذه الدموع”
خرجت وقد عزمت في قلبها ألا تكف عن البكاء الى ان ترى ابنها قد عاد من ضلاله.
تعرّف ابنها الفيلسوف على صديق شاب..وتوثقت بينهما الصداقة حتى لم يكن احدهما يفارق الاخر و استطاع اجتذاب صديقه الى بدعه ماني ..الى ان مرض الصديق بعد عام واشرف على الموت فخاف اهله عليه فعمدوه..اما الفيلسوف فكان يهزأ بالعماد ..الا انه لم ينطق بكلمه حرصاً على مشاعر صديقه في ساعات مرضه ..فبدأ صديقه يشفى و إذ بالفيلسوف يسخر بالمعمودية .. حزن صديقه وانتهره بشده..
لم يفتح فاه إذ ظن ان هذا من اثار المرض منتظرا اتمام شفائه ليفاتحه بلامر ..لكن الله سمح فاتنقل الصديق
حزن جدا على صديقه..صار يجول في كل الامكان كانه يبحث عنه..اظلمت الحياة في نظره حتى كره كل شيءوصار لا يلذ له الا البكاء و التنهد المستمر ..لكن مرت الاعوام وعاد ليخضع لمديح الناس فاوعز اليه اصدقاؤه ان يسافر الى روما طلباً للمجد. حاولت امه منعه لئلا يزداد في انحرافه..لكنه اخبرها بانه سيودع صديق له مبحراً في المركب و بلليل تركها تصلي و هرب مبحرا الى رومها تاركاً اياها في دموعها.
لحقته امه الى روما ..وهناك بدأ يدرس الكتاب المقدس لكن لأجل الفصاحة لا للتمتع بالشركة مع الرب..وقد اعجب برسائل بولس الرسول فانكب على دراساتها. وفي احدى الايام بينما كان جالساً يتسامر مع صديق إذ بأحد المؤمنين الحقيقين يدعى “بنتيسيان” يدخل عليهما ..ولما جلس بينمهما وقعت انظاره على كتاب موضوع على طاولة اللعب امامهما فتناوله ظاناً انه احد كتب الفصاحة فإذ به كتاب رسائل بولس الرسول. التفت الى الفيلسوف وقد ارتسمت على ملامحه علامات العجب..ثم قال مبتسماً:
” ما احسن هذا الامر الجديد..اعندكم كتاب مقدس”
اجابه:
” لا تتعجب من هذا..فانني من مدة لم يكن لي ما يشغلني غير مطالعة هذه الاسفار المقدسة”
ثم اخذ بنتيسيان يجاذبهما اطراف الحديث عن امر القديس انطونيوس القبطي و قد طال الحديث عنه و اختتم حديثه قائلا:
“انني كنت في مدينة ترافيرى انا وثلاثة اخرين..خرجنا للتنزه واقتربنا الى اسوار المدينة حيث انفردت انا وزميلي عن الاثنين الاخرين..اما هما سارا حتى التقيا بخيمة فيها بعض المنتسكين..ولما دخلا الخيمة وجدا كتابا عن حياة انطونيوس فتناوله احدهما و جلس يقرأ فيه، فاندهش مما جاء فيه والتهب قلبه وعزم ان يقتدي به..اذ ازداد قلبه احتراقاً بمحبة الله و ازدرائه للزمنيات ..واخيرا قال لصديقه:” لقد انتهى الامر اما من جهتي فقد قطعت كل حبال الآمال في العالم الزائل و قد عزمت ان احيا لله..وسأبدا الان هنا في هذا المكان بما عزمت”
اجابه صديقه: ” انا اشاركك عزمك”
ثم اكمل بنتيسيان حديثه قائلاً:
” اما انا و زميلي فاخذنا نفتش عليهما حتى وجدناهما في تلك الخيمة ..ولما رأيناهما اخذنا نبكى على انفسنا و طلبنا صلواتهما و رجعنا الى القصر وكان قلبنا ملتصقاً بالتراب”
بينما كان بنتيسيان يتلكم بهذا ..اخذ قلب الفيلسوف يتمزق..إذ ارتسمت في مخيلته حياته الماضية.. طأطأ رأسه وتنهد تنهدات مريرة..وبدأ يستعرض نتانة سيرته امام عينيه و اذ يقول في داخله
ايها الرجل الفصيح لقد جال صيتك في العالم،
وتاق الكل ان يسمع كلماتك..
لكن انطونيوس الامي قد غلبك في حياة العفة والطهارة ..
ربي ماذا قدمت في حياتي غير الدنس و الشر؟
انني لا اذكر طفولتي ..لكنها بالتاكيد مملوءه شروراً اما صباي ..فمرتسم امام عيني..كنت ابكي عشيقة ماتت حبا بمعشوفها ، ولم أكن انتحب نفسي التى اهلكتها بعدم حبي لك يا عريس نفسي!
كنت اهتم كيف ارضي معلمي ولا اهتك كيف ارضيك..
كنت اكذب في لعبي مع اصدقائي ..
إذ اريد ان اكون غالبا ولن اقبل قط ان اكون مغلوباً ..
اما وقد انتقلت الى سن الشباب فانه لم يكن يحلو لي إلا ان اكون عاشقاً و معشوقاً..
لكل حب حدود ولكل شهوة نهاية ..
اما انا فلم اكن اهرف للهوى حد إذ كان الدخان المتصاعد من براكين شهوات جسدي يعمي عيني ..
وفي هذا كله كانت امي..
امي التقية كانت تكلمني و صوتها على ما اظن هو صدى صوتك..
كانت تلح بشدة علي لتمنعني..
اما انا فما كنت اعيرها اهتماماً ..ولا اكترث بأقوالها ..
آه يا ربي! كم من شرور ارتكبتها ..حتى في المعابد المكرسة لخدمتك..اسرعت الى الكتاب المقدس لكنني نقدته نقداً خبيثاً ..
اغلقت على نفسي بابك يا الهي بفساد حياتي ..
إذ تجاسرت وبحثت بكبرياء عنك يا من لا يعرفك الا المتواضعين
في وسط دوامة الافكار هذه تطلع “اغسطينوس” الى صديقه و صرخ في وجهه :
” وماذا نعمل نحن؟ ما هذا الذي نسمعه؟ ايستيقظ الجهل الاميين و يسرعون الى اختطاف ملكوت السموات و نحن معشر العلماء الحكماء نتمرغ في وحل النجاسة و الدنس؟ ولماذا نخجل من اللحاق بهم؟ هل لانهم سبقونا ؟ افما نخجل بلأولى لعدم اقتدائنا بهم؟!
نطق بتلك الكلمات ثم اندفع لا شعورياً الة بستان مجاور لمنزله..خرج صديقه يقتفى آثاره فإذ به يجده مرتمي على جذع شجرة تين و هو يصرخ قائلاً :
عاصفة شديدة..دافع عني!
وانت يا رب فحتى متى؟! الى متى يا رب؟! اتغضب الى الابد؟ لا تذكر علينا ذنوب الاوليين، فإنني أشعر انني قد استعبدت لها..
الى متى؟! الى متى؟ أإلى الغد؟ ولماذا لا يكون الآن؟ لماذا لا تكون هذه الساعة حداً فاصلاً لنجساتي؟
لقد كنت قبلاً اناديك يا رب اعطني الوداعة و العفة لكن ليس الان
كنت اخاف ان تستجيب طلبتي فلا اعود اتمتع باللذة ..
كنت احب مجالسة الاشرار لا الجلوس معك ..
احببت كتب الفلاسفة ولم اكن اتوق الى كتابك والآن إن قلت لك توبني غداً فلتسمح ان اتوب الان”
وبينما هو يبكى سمع صوت طفل يردد “خذ واقرأ”
قام وأخذ معه صديقه و فتح رسائل بولس الرسول فإذ به يجد القول ” قد تناهى الليل و تقارب النهار فلنخلع اعمال الظلمة و نلبس اسلحة النور ..” رو 12:13
اخذ يردد القول ثم قام مع صديقه يبشران الام التى عاشت باكية ما يقرب عشرين عاماً لاجل تلك الساعة
ارتمت الام على عنق ابنها تذكر تلك الكلمات التى قالها لها الفتى في الرؤيا “تعزي ولا تخافي فها هو ولدك هنا و هو معك”
نعم لقد طال الزمن لكن مواعيدك تبقى ثابتة في اوانها..لقد اتت اللحظة التى طالما ترقبتها انا وترقبتها السماء لتفرح بذاك الذي كان ضالاً فوجد وميتاً فعاش
في عام 387م عاد اغسطينوس الى ميلان ثم سافر مع والدته و اخيه وابنه وصديقه الى اوستيا منتظرين العودة الى بلادهم ..وهناك كان موضوع تأملاتهم هو ملكوت الله وانتظار مجيء الرب الثاني وبينما كانت قلوبهم ترتفع في السماويات اذ بلام تختم حديثها بقولها لاغسطينوس :
” يا ابني لا يسعدني شيئاً ما في هذه الحياة بعد . ماذا لي بعد افعل؟ فإنني ابغض الزمنيات و انني اعتقد ان الله قد امد من حياتي هنا لسبب واحد وهو ان اراك قبل ان اموت مؤمناً مخلصاً..ومسيحياً بالحق..و هوذا الله الغني قد ابقاني حتى رأيتك خادمه الامين المحتقر للزمنيات..فما هي رسالتي بعد؟ لماذا ابقى؟”
وبعد خمسة ايام من قولها هذا مرضت بحمى شديدة واذ افاقت وجدت ولديها في حزن عميق فقالت لهما :
” اينما مت ادفنا والدتكما”
اجباها ابنها تافيخوس : لا تقولي هذا يا امي”
نظرت اليه و في عتاب وجهت الحديث الى اغسطينوس :
” انظر يا اغسطينوس ماذا يقول اخوك ..يا بني لا تهتما ابداً بامر جسدي، بل ادفناه حيثما يكون، فان هذا ليس بذي اهميه عندي لكني اسالكما أمراً واحداً و هو اينما كنتما اذكرا والدتكما على مذبح الله”
واذ نطقت بهذا اغمضت القديسة مونيكا عينيها ورفعت قلبها الى الله مصلية و اسلمت روحها الطاهرة
حاول اغسطينوس ألا يبكى لأجل الفراق الجسدي لكن دموعه تفجرت من عينيه بغير ارادته و هو يقول :
” الا يجب ان اسلم نفسي للدموع ساعة واحدة من اجل تلك التى كانت من اجلي تعوّم فراشها كل يوم بالدموع ساعات؟”

منقول عن كتيب ابن الدموع للقمص تادرس يعقوب