الأسرار الكنسية للأب د. يوأنس لحظي جيد

الأسرار الكنسية

الأسرار المقدس هي مكان اللقاء بين الكنيسة والله، وهي تجلي وحضور الثالوث القدوس في قلب الكنيسة وحضور وتجلي الكنيسة في قلب الثالوث القدوس. وفي أيضا مكان لقاء الكنيسة، جماعة المؤمنين، ببعض: فالكنيسة الأرضية عندما تحتفل بالأسرار، عن طريق الخدمة الكهنوتية، وبعون الروح القدس، تتحد ببعضها وبالكنيسة السمائية المنتصرة لتمجد الله. وبالتالي يمكننا القول أن الأسرار هي الوسيلة التي من خلالها الكنيسة الأرضية تقدس ذاتها وتتذوق مُسبقا الأسرار الإلهية، هذا التذوق الذي يبدأ هنا الأرض ويكتمل في السماء.

وقد حاول الحق الكنسي عند تناوله لموضوع الأسرار الرجوع الى الفكر اللاهوتي الشرقي، دون إهمال النمو العقائدي والفكري الكاثوليكي، وكذلك دون تبني المصطلحات الغربية التي لا تناسب اللاهوت الشرقي (مثل: المادة والشكل…).

ماهي الأسرار؟

يقدم القانون 667 تعريفا رائعا للأسرار إذا يقول: “إن الأسرار المقدّسة – التي يجب على الكنيسة أن توزّعها لتقدّم سرائر المسيح تحت علامات حسّيّة – بواسطتها يقدّس ربنا يسوع المسيح البشر بقوّة الروح القدس، ليصبحوا بنوع خاص عبّادا حقيقيين لله الآب، ويضمّهم إليه وإلى الكنيسة جسدِه [السرّي]، ولذلك فعلى جميع المؤمنين، لا سيّما خدّام الأقداس، أن يعملوا جاهدين بأحكام الكنيسة في ما يخصّ الاحتفال بهذه الأسرار وقبولها بورع”.
وفي هذا التعريف يظهر الطابع الثالوثي للأسرار حيث التأكيد على أن كل سر هو تجلي للثالوث، حيث أن العبادة لكي تكون مقبولة لا يمكن أن تتم إلا بعون وبحضور وبمشاركة الثالوث، فالإنسان بدون عون الله غير قادر على عبادة الله عبادة حقيقية. فالكنيسة تدعو الله الآب ليرسل لها الروح القدس لتحي مجددا أسرار الخلاص التي تمت في الابن.
إن الأسرار ليست ابتكارا كنسيا أو اختراعا كهنوتيا إنها الكنز الذي تسلمته الكنيسة من مؤسسها يسوع المسيح، وهي مؤتمنه عليه لا كغنيمة خاصة بل كعطية وكوسيلة للتقديس وللقداسة. والمسيح هو بذاته الذي أمر كنيسته، جسده السري، بإعلان “أسرار الله” (1كو 4: 1) بتوزيعها من أجل خلاص كل البشر. وبالتالي فالكنيسة تقدم تحت العلامات الحسية نعمة الله غير المحسوسة وغير المُدركه. والتقليد الشرقي يؤكد أن كل سر هو بطبيعته تأوين وتحقيق حسي لسر الله الذي يفوق كل عقل، أي أن الله، الذي لا يمكن إدراكه، أراد من فيض محبته ان يكون مُدركا ومحسوسا ومرئيا من خلال الأسرار الكنسية، دون أن يكون محدودا فيها.
ويعود فقط للسلطة الكنسيّة العليا وحدها اعتماد أو تحديد ما يلزم لصحّتها. (ق.669) “وليس لأحد غير هذه السلطة أن يضيف على ما تقرّه أو يحذف منه أو يبدّل فيه أي شيء” (ق. 668، 2)، وذلك لأنها عبادة إلهية عامة تخص الكنيسة جمعاء، وجزء من “الوديعة الإلهيّة” (ق.669) التي أعطيت للكنيسة [يؤكد القانون الكنسي أنه “لدى الاحتفال بالأسرار المقدّسة يُعمل بدقّة بما جاء في الكتب الطقسيّة” ق.674، 2].

الأسرار والمؤمنون

إن الأسرار هي حق وواجب على جميع المؤمنين:
حق لأنه على الكنيسة أن تقدمها للمؤمنين وتحثهم على الاشتراك فيها بفاعليّة: “للمؤمنين الحق في أن ينالوا من رعاة الكنيسة المساعدات النابعة من خيراتها الروحية، لا سيّما كلمة الله والأسرار” (ق.16).
وواجب لأنه على المؤمنين السعي للارتواء منها لمقاومة التجارب وللنمو في الحياة الروحية، وفي التقدم في عيش الفضائل الإلهية. وذلك عن طريق “التمسّك بكلمة الله وولائهم لسلطان التعليم الحيّ والأصيل للكنيسة، أن يحفظوا بالتمام والكمال الإيمان الذي صانه أجدادهم وتناقلوه بأغلى ثمن، وأن يعترفوا به علنًا ويستوعبوه أكثر فأكثر بالممارسة، ويجعلوه مثمرا بأعمال المحبّة” (ق. 10).

خدّام الأسرار

يؤكد القانون الكنسي أنه يقوم بخدمة الأسرار المقدّسة، على وجه جائز الخدّام الكاثوليك، للمؤمنين الكاثوليك لا غير، ولكن في حالات الضرورة، أو إذا دعت إلى ذلك فائدة روحيّة حقيقيّة، مثلاً: عدم توّفر أماكن كاثوليكية أو خدّام كاثوليك [ق. 670 ، 2 – إن لم يكن للمسيحيّين غير الكاثوليك أماكن يحتفلون فيها بالعبادة الإلهيّة على وجه لائق، بوسع الأسقف الإيبارشي أن يسمح باستخدام أحد المباني أو المدافن أو الكنائس الكاثوليكيّة، وفقًا للشرع الخاص بكنيسته المتمتّعة بحكم ذاتي.] ، فبوسع المؤمنين الكاثوليك حضور الشعائر الدينيّة لدى المسيحيّين الآخرين، وقبول أسرار التوبة والقربان الأقدس ومسحة المرضى من خدّام غير كاثوليك، وذلك بالشروط الآتية:

1- إذا كانت الأسرار المذكورة أعلاه صحيحة في هذه الكنائس ومقبولة من السلطة الكنسية العليا (قارن ق. 671،2)

2- بعد الرجوع والعمل بما يقرّره الأسقف الإيبارشي (ق. 670، 1).

3- تجنّب خطر الضلال أو اللامبالاة (ق. 671،2).

كما يمكن للخدّام الكاثوليك أن يقوموا بخدمة الأسرار المقدّسة هذه على وجه جائز، لسائر المسيحيّين أيضًا الذين ليسوا في شركة تامّة مع الكنيسة الكاثوليكيّة، وذلك بشرط:
1- في حالة خطر الموت أو ضرورة أخرى

2- إن لم يكن بوسعهم الاتصال بخادم طائفتهم أو كنيستهم

3- أن يكونوا طلبوها من تلقاء أنفسهم.

4- أن يُبدوا إيمانا بهذه الأسرار يتّفق وإيمان الكنيسة الكاثوليكيّة ويكونوا مستعدّين لقبولها كما يجب.

5- اتبع ما يقرره الأسقف الإيبارشي أو سينودس أساقفة الكنيسة البطريركيّة أو مجلس الرؤساء الكنسيين (ق. 670، 4)

في جميع الحالات يجب مراعاة أن “أسرار المعموديّة والمسح بالميرون المقدّس والسيامة المقدّسة لا يمكن إعادتها” (ق. 672) [ق. 672 ، 2. يمكن إعادة هذه الأسرار فقط “إذا كان هناك شكّ راجح في حقيقة أو صحّة الاحتفال بها، ولم يتبدّد هذا الشك حتّى بعد تحرّ جادّ، فتـُقام خدمتها تحت شرط”]. وبالتالي فإعادة أي سر من هذه الأسرار هو هرطقة تخالف تعاليم جميع المجامع المسكونية، وتهدم الإيمان القويم، وتطعن في جسد المسيح وفي كون الأسرار الإلهية لا تقوم على صلاح الخدام الشخص بل على عمل النعمة الإلهية واعتراف السلطة الكنسية بصحتها.

الأسرار الكنسية هي: سرّ المعموديّة، سرّ التثبيت، سرّ الإفخارستيا، سرّ التوبة أو المصالحة، سرّ مسحة المرضى، سرّ الزواج، سرّ الكهنوت.

خمس حقائق روحيّة :

1- الأسرار والمسيح: إن المسيح هو الذي انشأ الأسرار، والكنيسة “تعترف بأنّ أسرار العهد الجديد قد أنشأها كلها ربُّنا يسوع المسيح” (مجمع ترنت، قوانين الأسرار) [وذلك بقوله: “ما حللته على الأرض يكون محلولاً في السماء”.. “اصنعوا هذا لذكري”.. ويقول مار يعقوب ” كل ما مرض احد فليأتي الشيوخ ويمسحوه بالزيت”.. “ما جمعه الله لا يفرقه إنسان”]. هذا لأن يسوع أتى ليضع كل حياته بقلب حياتنا، جاعلا كل حياته، بشكل خفي، داخل هذه الأسرار السبعة، أي داخل حياتنا وتأكيدا لحضوره: “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر.

2- الكنيسة الأسرار: تحتفل الكنيسة بالأسرار بفعل الروح القدس الذي يعمل فيها عبر التاريخ. ويمكننا القول أن الكنيسة تقيم الأسرار وأن الأسرار هي التي تقيم الكنيسة: “الأسرار تَصنع الكنيسة وهي تُصنَع بالكنيسة”. ومن ثمَّ، “لا كنيسة بلا أسرار ولا أسرار بلا كنيسة”.

3- الأسرار والإيمان: هما وجهان لنفس العملة، لأنه لا يوجد إيمان حقيقي بدون تعبير عنه، بدون عبادة، بدون ممارسات خارجية، بدون أعمال، بدون أسرار ولا توجد أسرار فعالة بدون إيمان. وقد ربط يسوع الأسرار والتبشير والتعليم بتأسيس وبوجود الجماعة المسيحيّة. وبالتالي فالأسرار هي تعبير المؤمن عن إيمانه فهي أيضا مكان اللقاء بين النعمة الإلهية والضعف البشري، بين القداسة الإلهية والاحتياج البشري.

4- الأسرار والخلاص: إن الهدف من الأسرار هو الخلاص، ومن ثمّ فالأسرار هي وسائل الخلاص الإلهي المجاني للبشر، ولأن الخلاص هو عمل مشترك بين نعمة الله واستجابة البشر، فلأسرار هي أيضا تعبير عن قبول عمل الروح القدس في حياة الكنيسة وحياة كل مؤمن.

5- الأسرار والحياة الأبديّة: إن الأسرار هي تحضّير للحياة الأبدية، لأنها العلامات الحسيّة التي بها يدخلنا الرب ويجعلنا نتذوق من هنا وعلى هذه الأرض عبير الحياة السمائية: “فالثالوث يدخل في حياتنا من خلالها ليدخلنا في حياته”. فمثلا: الذبيحة الإفخارستيا تجعلنا نتذوق الوليمة السماوية وتوحدنا مع عساكر الملائكة ومع الكنيسة المنتصرة، وهي نموذج لما سيكون في الحياة الأبدية: “الأسرار هي الطريق الذي نسلكه على الأرض لنقرب من الله”..

6- الأسرار والثالوث: إن الثالوث حاضر في كل الأسرار، ويمكننا القول أن الأسرار هي دخول في حياة الثالوث، في حياة الآب المحب والابن المتجسد والروح المُقدّس.

وفي النهاية، يحث القانون المؤمنين عند الاحتفال بالأسرار المقدّسة، وفي مقدّمتها القدّاس الإلهي، أن يكون اشتراكا فعالا وحقيقيا (ق. 673)، لأن نعمة الأسرار المقدسة هي هبة إلهية تُعطى لمن يطلبها بقلب صادق وباشتراك فعّال. وتكمن نعمة الأسرار في كونها وسيلة لتقديس البشر، وجعلهم “عبادا حقيقيين للآب بواسطة الروح في الابن”، في استباق أرضي للنعيم السمائي، وهي تحقيق لوعد المسيح لتلاميذه بأن يكون بينهم حتى منتهى العالم.

الأب د. يوأنس لحظي جيد