الأنبياء والنبوة والتنبؤ

إعداد – ناجى كامل

     الأنبياء والنبوة والتنبؤ؛ من هم الأنبياء، وما هى النبوّة، وما هو التنبؤ، وما هى الصلة بين المسيح والأنبياء، وما هي صلة الأنبياء بالمسيح، وهل كان المسيح نبياً، وهل المقصود في نبؤة موسى النبى “نبياً مثلى

وتقدم هذه الدراسة الكتابية اللاهوتية اللغوية الأنبياء بكل أنواعهم وكيفية اختيار الله لهم ودعوتهم ودورهم وعملهم ورسالتهم، كيف كان الله يدعوهم، وكيف كانوا يتسلمون الرسالة الإلهية وكيف كانوا يقومون بتوصيلها، طرق استلام الرسالة وطرق توصيلها، والأساليب التى كانوا يتبعونها وما كانوا يواجهونه ويلاقونه أثناء تأدية رسالتهم. وما هى الأقوال الإلهية والأحاديث النبوية في الكتاب المقدس وما الفرق بينهما. كما تقدم ملخص لمعظم الأنبياء وأهم أعمالهم وجوهر رسالتهم وأسفارهم، وبالتالى ملخصاً لفكر الكتاب المقدس، خاصة العهد القديم

وتقدم هذه الدراسة أيضا دراسة كتابية لغوية وافية للأنبياء والنبوة والتنبؤ في العهد الجديد، وتعطى صورة واضحة لأنبياء العهد القديم في العهد الجديد وموقف العهد الجديد منهم باعتبار أن رسالتهم هى الجزء الأول من الكتاب المقدس

كلمة نبى فى أسفار العهد القديم:

تذكر كلمة نبى للمرة الأولى فى الكتاب المقدس فى سفر التكوين (7: 20)، ويلقب بها إبراهيم أبو الآباء، والذى أعطاه هذا اللقب ووصفه بصفة النبوة هو الله على ذاته وهنا يدل اللقب (نبى) الذى أطلقه الله على إبراهيم، على الصلة الوثيقة بين الله وبين إبراهيم، الدالة التى كانت لإبراهيم عند الله،  كما تدل المرة الثانية التى يُذكر فيها لقب “نبى” فى الكتاب المقدس، على أن “النبى” هو “الذى يتكلم الله على فمه” كقول الله لموسى النبى “فالآن أذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به”(خر 12: 4) ولما تحجج موسى بأنه ثقيل الفم واللسان قال له الله “أنظر أنا جعلتك إلهاً لفرعون وهرون أخوك يكون نبيك. أنت تتكلم بكل ما أمرك. وهرون أخوك يكلم فرعون”(خر 6: 7). ويقول عاموس النبى بالروح “أن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء(1)”.

النبى إذاً هو الذى يكشف له الله أسراره التى يريد أن يعلنها للبشرية. ويؤكد ارميا النبى بالروح :

“ أن الأنبياء يقفون في حضرة الله، أو فى مجلسه السماوى، ويسمعون كلامه ومشورته الإلهية التى يريد أن يعلنها للبشرية “لأنه من وقف فى مجلس الرب ورأى وسمع كلمته. من أصغى لكلمته وسمع(2)”.

النبى إذاً هو ذلك الشخص الذى اختارته العناية الإلهية ليكون له صلة مباشرة وعلاقة قريبة جداً مع الله، يستجيب الله لوساطته، شفاعته، ويتكلم على لسانه وبفمه، ويكشف له عن أسراره ويعلن من خلاله عن إرادته للبشرية. هو الذى يوجد فى حضرة الله ويرى ويسمع كلمته ويعلنها حسب إرادته، إرادة الله.

وتبين الدراسة الدقيقة للألقاب التى أعطاها الله للأنبياء المعنى الدقيق للقب “النبى” وكلمة “نبى” والصلة الوثيقة التى كانت بين النبى وبين الله. وهناك لقبان من أهم الألقاب التى لُقب بها الأنبياء، إلى جانب كلمة “نبى”، يكشفان عن المغزى الجوهرى لمعنى وكلمة “نبى” ووظيفته ودوره والعلاقة التى كانت بينه وبين الله إلهه وسيده وربه وُمرسله.

{1} “عبد الرب”

كان العبد ملكاً لسيده وخاضعاً له ومنفذاً لإرادته، وقد لقب الأنبياء بهذا اللقب “عبد الرب”، فى الكتاب المقدس، لأنهم كانوا ملكاً لله ربهم وسيدهم ومالكهم ومُرسلهم وإلههم، وخاضعين له ومنفذين لإرادته وحاملين لرسالاته وإعلاناته الإلهية، وكانت غايتهم هى تنفيذ وإنجاز وإتمام ما يكلفهم به. فلم يعودوا ملكاً لأنفسهم بل لله الذى أختارهم له وجعلهم رسله فصاروا له. وقد وصف جميع الأنبياء ب “عبيد الرب”:

v “موسى عبد الرب” (تث 5: 24)، وقد تكررت هذه العبارة 17 مرة(4).

v “وكان بعد موسى عبد الرب أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدى قد مات … اذكروا الكلام الذى كلمكم به موسى عبد الرب قائلاً: ثم ترجعون إلى أرض ميراثكم … التى أعطاه موسى عبد الرب“(يش 1: 1،2،13،15)

وأعترف دانيال النبى فى صلاته بقوله “وما سمعنا صوت الرب إلهنا لنسلك فى شرائعه التى جعلها أمامنا عن يد عبيده الأنبياء” (دا 10: 9

v “أرسلت إليكم كل عبيدى الأنبياء مبكراً ومرسلاً قائلاً ارجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة واصلحوا أعمالكم” (إر 15: 35؛ 4: 44).

v  “كلامى وفرائضى التى أوصيت بها عبيدى الأنبياء” (زك 6: 1).

{2} “رجل الله”:

ويدل هذا اللقب على الصلة القريبة والوثيقة جداً بين الله والنبى، فرجل الله هو وكيل الله وممثله الشخصى والمتحدث باسمه والمعلن لإرادته، فهو لقب تكريم للنبى وقد لقب به وأستخدم للإشارة إلى عدد قليل من الأنبياء الذين كانت لهم علاقة متميزة وقريبة جداً من الله وقاموا بأعمال إعجازية أو تنبأوا بنبوات عظيمة مثل موسى النبى المشرع العظيم (6مرات)(5) وإيليا النبى وغيرهم من عظماء الأنبياء:

+ “وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته” (تث 1: 33)، “الكلام الذى كلم به الرب موسى رجل الله” (يش 6: 14)، “ناموس موسى رجل الله” (2أخ16: 30) (5).

+  ووصف النبى الذى تنبأ على بيت عالى الكاهن وأعلن دينونة الله عليه ب “رجل الله”، “وجاء رجل الله إلى عالى وقال لهُ. هكذا يقول الرب” (1صم 27: 2).

ودعى صموئيل النبى أخر القضاة وأعظمهم والذى لقب ب “الرائى”(6) و”النبى(7)”، وكان رئيساً ل “جماعة من الأنبياء(8)”، والذى أعتبر كأعظم “الرائين”، وكان دائماً ما يسأل الله ويتنبأ بما سيحدث ب “رجل الله“، وقيل عنه “هوذا رجل الله فى هذه المدينة والرجل مكرّم. كما يقولهُ يصير” (1صم 6: 9-10).

ودعى داود الملك والنبى ب “رجل الله” (2أخ 14: 8، غ24: 12).

ودعى إيليا النبى الذى كلمه الله من خلال الريح وأقام ابن أرملة صرفة صيداً وأنزل نار من السماء على رسل الملك اخزيا ملك السامرة وصلى أن لا تمطر السماء فاستجاب له الله وضرب النهر بردائه فانفلق إلى نصفين وأصعده الله إلى السماء فى مركبة نارية(9) ب “رجل الله” عدة مرات، فقالت لهُ الأرملة بعد أن قام أبناها من الموت “هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الله فى فمك حق” (1مل24: 17).

+ وقيل عن أليشع النبى، تلميذ إيليا النبى، أنه “رجل الله مقدّس(10)، ودعاه الوحى بهذا اللقب “رجل الله” حوالى 35 مرة(11).

ودعت والدة شمشون “ملاك الرب” الذى بشرها بميلاد شمشون ب “رجل الله”، وذلك بسبب الأعمال الإعجازية القديرة التي قام بها والإعلان الإلهى الذى حمله إليهما، وكذلك منظره المهيب والمرهب جداً “فدخلت المرأة وكلّمت رجلها قائلة: جاء إلى ّرجل الله ومنظره كمنظر ملاك الله مرهب جداً” (قض 13)(12).

وإلى جانب لقبى “عبد الرب” و”رجل الله” هناك أيضا لقبان آخران مرادفان للقب نبى، أستخدمهما الوحى الإلهى بصورة محددة لتعريف النبى. وكان استخدامها أقدم من كلمة “نبى” ذاتها فى وسط شعب الله، وهما “الرائى” 

أ‌- “الرائى” الذى فى العبرية “رآه  roeh

وهو مشتق من الفعل العبرى “رئى – ra, a” والذى يعنى “رأى – أدرك – فهم”، وهو اللقب الأقدم للنبى، ويدل على ما كان يراه النبى من رُؤى إلهية سمائية لا يراها غيره من البشر. وقد تكرر هذا اللقب كثيراً فى أيام صموئيل النبى الذى كان أعظم الرائين”، كما استخدم كلقب لصموئيل النبى وحده سبع مرات من 12 مره وردت فيها كلمه “رائى – رأه” فى العهد القديم:

* “هلم نذهب إلى الرائى (رأه). لأن النبى اليوم كان يُدعى سابقاً الرائى (رأه)… أهُنا الرائى (رأه)؟… أين بيت الرائى (رأه)؟.. فأجاب صموئيل شاول وقال أنا الرائى (رأه).” (1صم9: 9-19).

والرائى فى مفهوم العهد القديم يعنى الذى يكشف أسرار الله ويعلنا، وقد استخدم الفعل “رأى”، “رئى – ra’ a” فى حالات عديدة للتعبير عن الجانب الرؤُوى سواء فى حالات الظهورات الإلهيه “ثيؤفانى – Theophany” أو فى الأحلام أو الرؤى.

* فدعت هاجر اسم المكان الذى ظهر لها فيه “ملاك الرب، إيل رُئى. لأنها قالت أههنا أيضاً رأيتُ بعد رؤية” (تك13: 16).

* وقال ميخا النبى بن يمله عن رؤياه السمائيه “قد رأيتُ الرب جالساً على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره” (1مل 19: 22).

* وقال أشعياء النبى عن رؤياه الإلهية” رأيتُ السيد جالساً على كرسى عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل” (1ش 1: 6).

* وقال حزقيال النبى عن رؤياه الإله ل “شبه مجد الرب”. “السموات انفتحت فرأيت رؤى الله… رأيت مثل منظر…” (حز1: 1،27).

* وقال دانيال النبى “فرأيت فى الرؤيا… ورأيت فى الرؤيا… فرفعت عينى ورأيتُ… وكان لما رأيتُ أنا دانيال الرؤيا” (دا 2: 8-7-15)(13).

النبى :

هو اللقب الأكثر استخداماً فى الكتاب المقدس كله، سواء فى العهد القديم فى العهد الجديد، فقد تكرر أكثر من 430 مره، منها حوالى 290 مره فى العهد القديم وأكثر من 140 مره فى العهد الجديد. وفيما يلى أهم الآيات التى وردت فيها كلمة نبى والتى توضح معنى الكلمة والدور الذى كان يقوم به والرسالة التى كان يحملها والخدمة التى كان يخدمها.

+ “أن كان منكم نبىّ للرب فبالرؤيا استعلنُ له فى الحلم أكلمه” (عدد 16: 12).

+”فسأل شاول من الرب فلم يجبه الرب لا بالأحلام.

فقال شاول الرب فارقنى ولم يعد يجيبنى لا بالأنبياء ولا بالأحلام” (1صم 6: 28،15).

+ “وأشهدت عليهم بروحك عن يد أنبيائك” (نح30: 9).

+”الكلام الذى أرسلهُ رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين” (زك 12: 7).

+”وكلمتُ الأنبياء وكّثرت الرُؤى وبيد الأنبياء مثلت أمثالاً” (هو 10: 12).

+”أن السيد الرب لا يصنع أمراً إلاّ وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء” (عا7: 3).

+ “النبى الذى معهُ حلم فليقصّ حلماً والذى معه كلمتى فليتكلم بكلمتى بالحق” (أر 28: 23)

+كلام الرب الذى تلكم به عن يد أرميا النبى.. فصارت كلمة الرب إلى أرميا النبى قائلة” (أر 2: 37،6).

+ “هكذا قال الرب.. لتسمعوا لكلام عبيدى الأنبياء الذين أرسلتهم أنا إليكم.. وكان لما فرغ ارميا من التكلم بكل ما أوصاه الرب أن يكلم الشعب به … فكلم أرميا كل الرؤساء وكل الشعب قائلاً. الرب أرسلنى لأتنبأ على هذا البيت وعلى هذه المدينة بكل الكلام الذى سمعتوه … فقالت الرؤساء وكل الشعب … إنما كلمنا باسم الرب إلهنا … وقد كان رجل أيضا يتنبأ باسم الرب أوريا بن شمعيا … فتنبأ على هذه المدينة وعلى هذه الأرض بكل كلام أرميا” (أر5: 26-20

3} “الأنبياء والنبوة والتنبؤ”:

تكرر استخدام الفعل العبرى “نبأ  Naba أى “تنبأ” حوالى 117 مرة، منها 24 مرة بمعنى “أعلن أو كشف نبياً”. وقد ظهر للمرة الأولى فى سفر العدد: “فنزل الرب فى سحابة وتكلم معهُ (مع موسى النبى) وأخذ من الروح التى عليه وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ. فلما حلت عليهم الروح تنبأوا ولكنهم لم يزيدوا.

بمعنى ان الله تكلم وأعلن عن ذاته وإرادته ومشورته الأزلية فى الأنبياء وبواسطتهم. ولذلك فقد استخدم الوحى الإلهى الفعل بمعنى إعلان رسالة الله، وإعلان وكشف ما سيقع وما سيكون فى المستقبل، ما سيحدث من أحداث فى مستقبل الأيام، والترنم والترتيل والتسبيح بالمزامير والأناشيد والتسابيح الدينية الروحية الموحى بها، مسوقين ومحمولين ومرفوعين ومقودين بالروح القدس “لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين (محمولين) من الروح القدس(20)”، وكما قال داود النبى وهو يرنم ويسبح الله، بالروح “روح الرب تكلم بى وكلمته على لسانى

التنبؤ أو كشف ما سيكون وما سيحدث وما سيقع من أحداث فى مستقبل الأيام، إعلان ما سيكون فى المستقبل، يخص الله وحده ولا يخص سواه، فهو وحده غير المحدود فى المكان والزمان والقدرة والعلم والمعرفة، الموجود فى كل مكان وكل زمان والقادر على كل شئ والعالم بكل شئ، كلى الوجود والقدرة والمعرفة، ويستحيل على الإنسان المحدود فى كل شئ، الوجود والقدرة والمعرفة، أن يتنبأ أو يتكهن أو يخمن بما سيكون فى مستقبل الأيام، فهذا سر خاص بالله وحده، الذى يقول عن الوحى الإلهى: “هو يكشف الاعماق والأسرار.

ويؤكد الوحى فى سفر أرميا على أن “التنبؤ” وكشف ما سيكون فى المستقبل هو الذى يؤكد حقيقة النبى ويبرهن على صدق رسالته وأنه مُرسل من الله حقاً: “النبى الذى تنبأ بالسلام فعند حصول كلمة النبى (تتم نبوءته) عُرف ذلك النبى ان الرب قد أرسله(26)”، أو كما جاء فى الترجمة العربية الجديدة “فعندما تتم نبوءته. يعرف أن الرب أرسله حقاً”.

ويقول السيد المسيح عن إعلانه لما سيكون فى المستقبل، ما سيحدث بعد صلبه وموته بالجسد وقيامته من الموت وإرساله الروح القدس، وما سيحدث للكنيسة عبر العصور، وما سيحدث عند مجيئه الثانى والدينونة:

* “ها أنا قد سبقت وأخبرتكم” (متى 25: 24).

* “أقول لكم الآن قبل أن يكون (يحدث) حتى متى كان (حدث) تؤمنون أنى أنا هو” (يو 19: 13).

* “وقلت لكم الآن قبل أن يكون (يحدث) حتى متى كان (حدث) تؤمنون” (يو 29: 14).

* “لكنى كلمتكم بهذا حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أنى قلته لكم” (يو 4: 16).

كما أكد السيد المسيح ورسله فى العهد الجديد على هذه الحقيقة، حقيقة “التنبؤ” وإعلان ما سيكون فى المستقبل على فم أنبياء الله القديسون وبلسانهم بقيادة الروح القدس “لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان إنما تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس”، وقد ركزوا بصفة خاصة على ما سبق وتنبأ به أنبياء العهد القديم عن السيد المسيح:

“فقال (يسوع) لهما (تلميذى عمواس) أيُّها الغبيان والبطيئا القلوب فى الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياءُ. أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم أبتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به (ما جاء عنه) فى جميع الكتب” (لو 25: 24-27).

* “أقام لنا (الله) قرن خلاص فى بيت داود فتاهُ. كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر” (لو 80: 1).

* “وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائهُ أن يتألم المسيح قد تّممهُ هكذا. فتوبوا وارجعوا لتٌمحى خطاياكم لكى تأتى أوقات الفرج من وجه الربّ. ويُرسل يسوع المسيح المبشّر به لكم من قبل والذى ينبغى أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شئ التى تلكم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر” (أع 18: 3-21).

* “وجميع الأنبياء أيضا من صموئيل فما بعده جميع الذين تلكموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام” (أع24: 3).

* “إنجيل الله الذى سبق فوعد به بأنبيائه فى الكتب المقدسة” (رو 1: 1،2).

* ويكرر القديس متى كثيراً عبارات “لكى يتم ما قيل بالأنبياء(27)”، “لكى يتم ما قيل بالنبى(28)”، “لكى يتم ما قيل بأرمياء النبى(29)”، “لكى يتم ما قيل بأشعياء(30)”، “لكى يتم ما قيل بالنبى القائل(31)”… الخ، كعبارات مقدمة للنبؤات أو التنبؤات التى تمت فى شخص السيد المسيح والأحداث المرتبطة به وبتجسده الإلهى.

والنبؤات أو التنبؤات فى الكتاب المقدس كثيرة جداً، وكانت تشكل أكثر من نصف رسالات الأنبياء المدونة فى أسفارهم المقدس، ومن ثم فهذه التنبؤات أو النبؤات المستقبلية لا تشكل مجرد آيات قليلة أو أعداد قليلة فى بحر الكتاب المقدس الواسع وإنما تشكل وتكون 27% من آياته (أعداده) ككل وتشكل حوالى 60% من آيات أسفار الأنبياء وأعدادها.

2} الأنبياء وإعلان رسالة الله:

تعنى كلمة نبؤة فى الهد القديم بالدرجة الأولى الدعوة، دعوة النبى ليكون نبياً، حمل رسالة الله وإعلاناته الإلهية للبشرية، وتعنى أيضا النبؤة بما سيكون فى المستقبل، كما تعنى النبؤة المكتوبة

الأنبياء يتكلمون بأسم الله وينطقون بكلامه:

مما سبق يتضح لنا أن “النبى” هو الذى يتكلم الله بلسانه وينطق بفمه، هو الذى ينطق بكلام الله ويتكلم بأسمه ونيابة عنه، وكيل الله وممثله ورسوله الذى يحمل رسالته وإعلاناته ويتكلم باسمه ونيابة عنه وينطق بكلامه. هو واسطة ووسيط الإعلان الإلهى، بين الله والناس ” “. أى أن النبى هو “فم الله” الذى يتكلم بلسان الله، الله يضع الكلام فى فمه ويكون مع فمه فيتكلم بكلام الله، كما قال الله لموسى أيضاً “أذهب وأنا أكون مع فمك وأعُلمك ما تتكلم به(56)”

* وقول زكريا والد يوحنا المعمدان بالروح ” تكلم (الله) بفم أنبيائه القديسين(62)”، وقول القديس بطرس الرسول بالروح “وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه(63)”، وأيضاً “تكلم الله عنها بفم جميع أنبيائه(64)”.

لذلك كان الأنبياء فى العهد القديم دائماً يضعون فى مقدمة أسفارهم العبارات التالية الدالة على أن ما دونوه بالروح هو كلمة الله التى أعلنت بواسطتهم:

+ “كلام أرميا.. الذى كانت كلمة الرب إليه.. فكانت كلمة الرب إلى قائلاً.. ثم صارت كلمة الرب إلى قائلاً..” (أر 1: 1،2،4،11).

+ “رؤيا أشعياء بن أموص التى رآها.. أسمعى أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم” (1ش 1: 1،2).

+ “صار كلام الرب إلى حزقيال الكاهن ابن بوزى.. وكانت عليه هناك يد الرب” (حز 3: 1).

+ “قول الرب الذى صار إلى هوشع” (هو 1: 1).

+ “قول الرب الذى صار إلى يوئيل.. أسمعوا هذا أيها الشيوخ وأصغوا يا جميع سكان الأرض” (يؤ 1: 1،2).

نفس الطريقة والأسلوب الذى أختار الله بهما الأنبياء، المذكورين أعلاه أختار أيضا الآباء البطاركة والقضاة والقادة وبقية الأنبياء.

كان الجميع مختارين بحسب قصد الله الأزلى ومشورته الإلهية وعلمه السابق دون توقع من المدعوين للخدمة أو من غيرهم، وفيما يلى نذكر فى إيجاز دعوة جميع مختارى الله الذين ورد ذكرهم فى العهد القديم:

* فى دعوة الله لنوح يقول الكتاب “فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي. لأن الأرض أمتلأت ظلماً منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. أصنع لك فلكاً من خشب جفُر.. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء.. ولكن أقيم عهدى معك(49)”.

* وفى دعوة إبراهيم يقول “وقال الرب لآبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التى أريك. فأجعلك أمةً عظيمة وأباركك وأعظم إسمك. وتكون بركة… وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض فذهب أبرام كما قال لهُ الربُ”(50)

* وعندما أراد إسحق الذهاب إلى مصر بسبب الجوع “ظهر لهُ الرب وقال لا تنزل إلى مصر… تغرب فى هذه الأرض (كنعان). فأكون معك وأباركك… وأفى بالقسم الذى أقسمتُ لإبراهيم أبيك. وأكثر نسلك كنجوم السماء… وتتبارك فى نسلك جميع أمم الأرض”(51).

* وفى بيت إيل ظهر الله فى حلم ليعقوب ووعده بنفس الوعد الذى وعد به إبراهيم وإسحق، وأضاف “أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق… وها أنا معك وأحفظك حيثما تذهب وأردك إلى هذه الأرض. لأنى لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به”(52).

* وكشف الرب ليوسف فى أحلامه ما سيكون عليه فى المستقبل من سيادة على أخوته، حيث رأى نفسه مع أخوته “حازمون حُزماً فى الحقل” وأن حزم أخوته سجدت لحزمته، كما حلم أن الشمس والقمر واحد عشر كوكباً ساجدة لُه. فقال لهُ أخوتهُ “ألعلك تملك علينا ملكاً أم تتسلط”، وقال لهُ أبوه “هل نأتى أنا وأمك وأخوتك لنسجد لك إلى الأرض”(53).

* وكان اختيار هارون وبنيه للكهنوت اختياراً إلهياً من الله مباشرة، قال الله لموسى النبى “وقرب إليك هرون أخاك وبينه من بين بنى إسرائيل ليكهن لى”(54)، وكما جاء فى سفر أخبار الأيام” وأُفرز هرون لتقديسه قدس أقداس هو وبنوهُ إلى الأبد ليوقد أمام الربُ ويخدمهُ ويبارك أسمه إلى الأبد”(55)

دور الأنبياء وطبيعة رسالتهم

الأنبياء كما بينا، فى الفصل الأول، هم رجال الله وعبيده وحاملوا كلمته والمتحدون باسمه، فم الله ولسانه الناطق، الذين حملوا رسالته وإعلاناته إلى البشرية؛ الواسطة التى تكلم بها، والوسطاء الذين تكلم من خلالهم، فقد تكلم بفمهم ونطق على لسانهم. لم يكونوا مجرد حكماء أو ناصحين أو رجال دين أو قادة روحيين، بل رجال الروح. كانوا مختارين من الله حتى قبل أن يصوروا فى بطون أمهاتهم ويوجدوا فى الأرحام، ومدعوين أساساً للنبوة والمناداة بكلمة الله وإبلاغ رسالة الله وإعلاناته الإلهية للبشرية، شفوياً أو كتابة، أولاً شفوياً، وأحياناً شفوياً وكتابة، شفوياً مع بعض الأجزاء المكتوبة مثل لوحى الحج اللذين كتب الله عليها الوصايا العشر(1)، ومثل ما كان يمليه أرميا النبى على تلميذه باروخ من رسائل وأسفار تحوى رسائل إلى الذين كانوا فى السبى أو نبوات على الشعوب(2). ثانياً: كتابة ما يختاره الروح من هذه الإعلانات فى أسفار تحفظ فى أيام الأنبياء ومعاصريهم وتبقى للأجيال التالية(3) كقول القديس بولس بالروح ” كل ما سبق فكُتب كُتب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما فى الكتب يكون لنا رجاء(4)”.

1- دور الأنبياء وعملهم:

كان هناك أنبياء رئيسيون متفرغون تماماً للعمل النبوّى وإبلاغ رسالة الله وحمل إعلاناته مثل موسى وصموئيل وإيليا وإليشع وأرمياء وحزقيال وعاموس، وبقية الأنبياء الرئيسيين، المتفرغين أو المكرسين تماماً وكان هناك أنبياء متفرغون لخدمة بيت الله وعملهم هو التسبيح والترنيم وإنشاد الترانيم والأناشيد الروحية الإلهية والمزامير الموحى بها بالروح القدس، فى خيمة الإجتماع ثم فى الهيكل، مثل آساف وهيمان ويدثون(5) وكان هناك أنبياء البلاط أو المستشارون الروحيون الذين كان الله يستخدمهم فى نصح وإرشاد وتوجيه الملوك، وكانوا يعملون فى بلاط داود الملك وسليمان الحكيم(6) وما بعدهما. وكان هناك أشخاص لهم موهبة النبوّة وقد تكلم الله على فمهم وبلسانهم، ولكنهم كانوا غير متفرغين للعمل النبوى مثل داود الملك وسليمان الحكيم ودانيال رئيس الوزراء، وذلك إلى جانب الآباء البطاركة إبراهيم وإسحق ويعقوب ومن قبلهم أخنوخ ونوح.

1- الآباء البطاركة:

تعامل الله مع الآباء البطاركة من آدم إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب إلى جانب موسى وإيليا النبيين مباشرة وتكلم معهم من خلال الظهورات الإلهية المتنوعة والمختلفة(7)، وكان كلامه معهم يختص، بصفة خاصة، بمستقبلهم هم شخصياً ومستقبل نسلهم من بعدهم، وبالتالى مستقبل البشرية كلها. لم يحملوا رسائل مباشرة لمن كانوا حولهم، وإنما كانوا هم مثالاً ونموذجاً لكل الأجيال القادمة وحملوا المواعيد الإلهية لكل الأمم فى الأجيال التالية.

 الأنبياء الرئيسيون (المستقلون):

كان الأنبياء، دائماً وسيظلون، هم الأعلى مكانة من كل البشر، سواء الملوك أو الرؤساء أو الكهنة أو المصلحين.. الخ فهم رجال الله وعبيده وفمه الناطق والمنادون برسالته وحاملوا إعلاناته للبشرية، وكانت مكانتهم مستمدة من الله مباشرة باعتبارهم أنبياءه ورسله ووسطاءه والناطقين بكلامه، فقد تكلم معهم وكشف لهم أسراره ووضع كلامه فى أفواههم ونطق بلسانهم، فكان كلامهم هو كلام الله ودعوتهم هى دعوة الله الذى كشف من خلالهم عن ذاته وإرادته وأعلن عن شرائعه ونواميسه ووصاياه، وأبلغ من خلالهم عن وعوده ودينونته وتحذيراته وويلاته وبركاته وهباته وعطاياه وخلاصه الأبدى. وكان لابد للشعب أن يسمع لكلامهم الذى هو كلام الله “ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به (النبى) باسمى أنا أطالبه(18)”، “ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبى تُباد من الشعب(19)”.

كان الأنبياء هم الذين يمسحون المختارين للمُلك والكهنوت بالدهن المقدس فيصيروا ملوكاً وكهنة، وكان الأنبياء الرئيسيون مثل موسى وصموئيل وإيليا وإليشع وأشعياء وإرمياء وحزقيال، متفرغين تماماً للعمل النبوى وخدمة الله والمناداة بكلامه وإعلان رسالته، وكانوا مستقلين تماماً عن السلطات المدنية والكهنوتية، عن الملوك والكهنة، بالرغم من أن بعضهم كان فى الأصل كاهناً مثل أرمياء وحزقيال.

– الأنبياء الأثنا عشر:

الأنبياء الأثنا عشر المعروفون بالأنبياء الصغار هم من الأنبياء الرئيسيين، وقد وصفوا بالصغار لا لصغر درجتهم أو مكانتهم ولكن لصغر حج أسفارهم التى أعلنها الله لهم كرؤى أو وصى وقد دونوها بوحى الروح القدس. وكانت رسالتهم مثيلة برسالة الأنبياء المذكورين أعلاه، خاصة أشعياء وأرمياء وحزقيال. فقد كانت رسالة هوشع ويوئيل وعاموس وميخا وحبقوق وصفنيا مثيلة برسالة أشعياء وأرمياء وكانت رؤى زكريا مثيلة برؤى حزقيال وسفر الرؤيا فى العهد الجديد، وكانت نبوات ناحوم على نينوى ونبوات عوبيديا على آدوم شبيهة بنبوات أشعياء وأرمياء وحزقيال على البلاد والأمم. أما رسالة يونان النبى فكانت موجهة إلى شعب نينوى. وكانت رسالة حجى النبى هى حث العائدين من السبى على بناء بيت الرب، ورسالة ملاخى النبى هى إعلان محبة الله وتوبيخ الكهنة والشعب، فى أواخر مراحل نبوة بنى إسرائيل، بسبب فسادهم، والتنبؤ بمجيء المسيح والملاك الذى سيأتى سابقاً له ليعد الطريق أمامه والذى سيأتى بروح إيليا وقوته(168)، وقال عنهم يشوع بن سيراخ “بارك الله ذكرى الأنبياء الأثنى عشر أيضا، وجعل عظامهم تنهض من القبر لأنهم شجعوا بنى يعقوب وخلعوهم بما كان لهم من رجاء راسخ” (سيراخ10: 49).

 الأنبياء هم فم الله ولسانه الناطق الذى تكلم من خلالهم وبفمهم وعلى لسانهم وبواسطتهم، بروحه القدوس:

* ” كما تكلم الله بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر” (لو 70: 1).

* “كان ينبغى أن يتم هذا المكتوب الذى سبق الروح القدس فقال له بفم داود عن يهوذا” (أع16: 1).

* “وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح قد تتمه هكذا” (18: 3).

* “أزمنة رد كل شيئ التى تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه” (أع 25: 4).

* “حسنا كلم الروح القدس آباءنا بأشعياء النبى” (أع 5: 28).

* “الله بعدما كلم آباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة” (عب 1: 1).

وقد تكررت عبارات “لكي يتم ما قيل من الرب النبى القائل(11)”، “لكى يتم ما قيل بالأنبياء(12)”، “لكى يتم ما قيل بأشعياء النبى(13)”، “حينئذ تم ما قيل بأرمياء النبى(14)”، “فكان هذا كلهُ لكى يتم ما قيل النبى القائل(15)”، “أما قرأتم ما قيل لكم من قبل إله القائل(16)”، “لكى يتم ما قيل بالنبى(17)”، “ما قيل لها من قبل الرب(18)”، “كما قيل أن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم(19)” 14 مرة، وكلها تعنى ما قيل من الله “ما قيل لكن من قبل الله”، “ما قيل من الرب” بواسطة الأنبياء أو بفم الأنبياء وعلى لسانهم.

3- أنبياء العهد القديم والسيد المسيح:

شهد السيد المسيح وتلاميذه لكل أنبياء العهد القديم وكل أسفارهم وكل نبوّاتهم وما سبقوا أن تنبأوا به ودونوه عن السيد المسيح، كما بينا فى الفقرتين أعلاه، كما أكد السيد المسيح وتلاميذه أيضا على ثلاث حقائق جوهرية متعلقة بهؤلاء الأنبياء:

(1) حتمية إتمام كل ما سبق وتنبأ به هؤلاء الأنبياء سواء عن المسيح أو عن الأمم.

(2) أن هؤلاء الأنبياء جميعاً أشتهوا أن يروا المسيح “الحق أقول لكم لأن أنبياء وأبراراً كثيرين أشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعوا ولم يسمعون(51)”.

(3) أن المسيح نفسه بالرغم من أنه جاء بمفهوم روحى سماوى لكلمة الله فى العهد الجديد، وتمم كل ما سبق أن تنبأ به عنه الأنبياء ودونوه فى أسفار العهد القديم بالروح القدس، وبالرغم من أنه أبطل كل الشرائح الطقسية التى كانت ترمز إليه وتنتهى عنده وبمجيئه مثل الذبائح وطقوس تقديمها التى كانت تتم فى خيمة الاجتماع ثم فى الهيكل بعد ذلك، إلا أنه لم يلغى كلمة الله فى العهد القديم أو ينقضها، إنما جاء ليكملها “لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل(52)”، ويتمم كل ما سبق أن كتب عنه “لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير(53)”، ولذلك فقد كانت أسفار العهد القديم هى كتاب الكنيسة المسيحية المقدس الأول إلى جانب تعليم السيد المسيح وما يتكلم به الروح القدس على أفواه التلاميذ والرسل وأنبياء المسيحية، لذا يقول القديس بولس بالروح “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية(54)”، ويعبر عن إيمانه بالقول الموحى به أنه كان “مؤمناً بكل ما هو مكتوب فى الناموس والأنبياء(55)”، ويقول القديس بطرس بالروح “لتذكروا الأقوال التى قالها سابقاً الأنبياء القديسون ووصيتنا نحن الرسل وصية الرب والمخلص(56

4- الأنبياء الذين وجدوا وقت ميلاد المسيح “أنبياء وما قبل المسيحية:

يذكر الإنجيل للقديس لوقا كل من زكريا الكاهن وزوجته أليصابات وسمعان الشيخ وحنة بنت فنوئيل كأربعة أنبياء أمتلأوا من الروح القدس وتنبأوا عن المسيح، وتنبأ زكريا عن المسيح وعن نبوة يوحنا المعمدان. يقول الكتاب أنه بعد أن بشر ملاك الرب زكريا بأن زوجته ستحبل وتلد أبناً وهى فى شيخوختها ظل صامتاً إلى أن ولدت، ثم يقول “وامتلأ زكريا أباه من الروح القدس وتنبأ قائلاً”. وتكلم عن الفداء الذى سبق أن وعد به الله “بفم أنبيائه القديسين” عن مجيء المسيح، كما تنبأ عن كون يوحنا نبياً للرب “وأنت أيها الصبى نبى العلى تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه(60)”. ولما دخلت العذراء مريم على أليصابات بعد بشارة الملاك لها بالحبل بالمسيح وأيضا بحبل أليصابات، يقول الكتاب “فلما سمعت أليصابات سلام مريم أرتكض الجنين بابتهاج فى بطنها وامتلأت أليصابات من الروح القدس”، وتكلمت عن حبل العذراء بالمسيح “الرب” وقالت “مباركة أنت فى النساء ومباركة هى ثمرة بطنك. فمن أين لى هذا أن تأتى أم ربى إلى(61)”.

عند ختان الطفل يسوع فى اليوم الثامن فى الهيكل “كان (هناك) رجل فى أورشليم أسمه سمعان. وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه.وكان قد أوصى إليه بالروح القدس أنه لن يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل” وحمل الطفل “على ذراعيه وبارك الله وقال الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيينى قد أبصرتا خلاصك الذى أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل(62)”، وفى نفس الوقت كانت هناك امرأة بارة وتقية ومسنة دعاها الكتاب ب “نبية”، “نبية حنة بنت فنوئيل”، هى أيضا “وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه (المسيح) مع جميع المنتظرين فداء فى أورشليم(63)”.

5- يوحنا المعمدان:

دعى يوحنا المعمدان منذ ميلاده بالنبى كقول أبيه “وأنت أيها الصبى نبى العلى تدعى”. وكان العهد القديم قد أعلن أن نبياً سيسبق المسيح الآتى ليعد طرقه وقد وصف فى سفر أشعياء ب “صوت صارخ فى البرية أعدوا طريق الرب(64)”، وفى سفر ملاخى بقوله “هأنذا أرسل ملاكى فيهيئ الطريق أمامى(65)”، و”هأنذا أرسل إليكم إيليا النبى قبل مجيء يوم الرب(66)”.

وعندما بشر الملاك زكريا أباه بولادته قال له أنه سيتقدم أمام الرب “بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكى يهيئ للرب شعباً مستعداً(67)”، وقال عنه السيد المسيح أنه ليس مجرد نبى عادى، بل وأفضل من نبى وأعظم مواليد النساء وأنه هو نفسه إيليا الذى أعلن عنه الروح القدس بفم ملاخى النبى لأنه جاء بروح إيليا وفكره وأسلوبه وحتى طريقة لبسه. “ماذا خرجتم لتنظروا. إنساناً لابساً ثياباً ناعمة … أنبياً نعم أقول لكم وأفضل من نبىّ. فإن هذا هو الذى كتب عنه ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكى الذى يُهيئّ طريقك قدامك. الحق أقول لكم لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان … جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا.

وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى(68)”. وبعد التجلى وظهور كل من موسى وإيليا مع المسيح أمام التلاميذ على جبل التجلى، سأل التلاميذ السيد قائلين “لماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغى أن يأتى أولاً. فأجاب يسوع وقال لهم أن إيليا يأتى أولاً ويرد كل شئ. ولكنى أقول لكم أن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا … حينئذ فهم التلاميذ أنه قال عن يوحنا المعمدان(69)”.

أ- كان يوحنا المعمدان آخر ممثل لأنبياء العهد القديم ومكملاً لسلسلتهم حسب قول السيد المسيح “لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا(70)”، “كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا(71)”. وقد تنبأ مثلهم عن المسيح “يأتى بعدى من هو أقوى منى الذى لستُ آهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار(72)”.

كان الفرق بينه وبينهم هو أنهم تنبأوا عن المسيح قبل مجيئه بأزمنة وقرون، أما هو فقد وجد فى أيامه وجاء ليعد الطريق أمامه ويشهد له “كان إنسان مُرسل من الله اسمه يوحنا. هذا جاء للشهادة ليشهد للنور لكى يؤمن الكل بواسطته. لم يكن هو النور بل ليشهد للنور(73)”، وقال عن نفسه ما سبق أن أنبأ به عنه أشعياء النبى “صوت صارخ فى البرية قوموا طريق الرب كما قال أشعياء النبى(74)”. كما قال أيضا “لست أنا المسيح بل أنى مُرسل أمامه(75)”، وقد عرف عند الشعب أنه نبى “لأن يوحنا كان عند الجميع مثل نبى(76)”، و”بالحقيقة نبى(77)”، و”واثقون بأن يوحنا نبى(78)”، وكان هيرودس الملك، كما يقول الكتاب “أنه رجل بارّ وقديس وكان يحفظهُ(79)”.

ب– كان أسلوب يوحنا المعمدان وطريقة دعوته وتوصيله لكلمة الله مثل أنبياء العهد القديم؛ يقول الكتاب “كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا فى البرية فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا(80)”. وواجه هيرودس الملك بخطيئته قائلاً “لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك(81)”، وذلك بنفس الأسلوب الذى واجه به صموئيل النبى شاول الملك(82)، وناثان النبى عندما واجه داود الملك(83)، وكذلك إيليا عندما واجه اخآب الملك(84)، وكان اسلوبه حاداً ونارياً مثل إيليا النبى فقد جاء بأسلوبه وروحه وقوته وحتى فى طريقة ملابسه، فقد كان إيليا “رجل أشعر متنطق بمنطقة من جلد على حقويه(85)”، وكان رداء يوحنا المعمدان من “وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه(86)”.

ج- وكما أضطهد بنو إسرائيل الأنبياء وقتلوا بعضهم، كما قال السيد المسيح “جلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً(87)”، وأيضا “لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون فى مجامعكم(88)”، “إذ تشهدون وترضون بأعمال آبائكم لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم(89)”، وقال القديس استيفانوس فى مجمع لليهود “أى الأنبياء لم يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيئ البار(90)”،وقال بولس الرسول “قتلوا الرب يسوع وأنبيائهم واضطهدونا نحن(91)”، هكذا أيضا قتلوا يوحنا المعمدان عندما قطع هيرودس الملك رأسه إرضاء لهيروديا امرأة أخيه التى تزوجها بعد أن قتل زوجها(92).

هل كان المسيح نبيا؟

فقد مارس السيد المسيح عمل النبى ووظيفة النبوّة والتنبؤ، وقام بكثير من الأعمال التى قام بها الأنبياء ولكن بسلطان إلهى نابع من كونه الإله المتجسد وكلمة الله الآتى من السماء، فلم يقل مثل الأنبياء “هكذا يقول / أو قال الرب” وإنما أستخدم أقواله الإلهية، فقد كرر عبارة “الحق أقول لكم” 62 مرة، وعبارة “الحق الحق أقول لكم” 25 مرة، وعبارة “وأنا أقول لكم” 6مرات، وعبارة “وأمّا أنا فأقول لكم” 6مرات أيضا وذلك فى المقارنة مع ما “قيل” فى شريعة موسى فى القديم(143). كان كلامه نابع من ذاته “أنا” وقوله هو الحق لأنه هو ذاته الحق. وكان يرى رُؤى كقوله “رأيت الشيطان ساقطاً من السماء مثل البرق(144)”، وكشف بالتفصيل عن ملكوت الله الوشيك الحدوث(145)، وشرح بالتفصيل دمار أورشليم والهيكل القادم(146)، بل وبكى على أورشليم لما كانت ستلاقيه وستعانيه وقت حصارها ودمارها(147)، وتكلم عن مجيئه الثانى والدينونة بالتفصيل(148)، بل وشرح الأحداث التى ستسبق المجيء الثانى بصورة تفصيلية دقيقة لا كمجرد نبوّات أو تنبؤات، كما يتصور البعض، وإنما باعتباره كلى العلم والمعرفة، العالم بكل شئ الذى وصف كل ما سيحدث بقة مذهلة، وذلك بناءً على معرفته السابقة وعلمه السابق وتدبيره للأحداث.. وحتى عندما سأله تلاميذه عن ذلك سألوه بصيغة العالم بكل شئ والذى يعرف ما سيحدث بالتفصيل كمعرفة نابعة من ذاته “قل لنا متى يكون هذا وما هى العلامة عندما يتم جميع هذا(149أ)”. كان سؤال لصاحب الأمر، وكانت الإجابة من صاحب الأمر كما نادى بالتوبة وقام بأعمال رمزية مثل دخوله الأنتصارى لأورشليم وتطهير الهيكل ولعن شجرة التين، هاجم العباد الشكلية مثل أنبياء العهد القديم ويوحنا المعمدان. ولكن كان كلامه بسلطان إلهى وكانت أعماله بسلطان إلهى نابع من ذاته كقوله “دفع إلى كل سلطان فى السماء وعلى الأرض(149ب)”، “فبهتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان(150)”، وكان يغفر الخطايا بسلطان إلهى نابع من ذاته(151)، “فتحيروا كلهم من كلامه حتى سألوا بعضهم بعضاً قائلين ما هذا التعليم الجديد لأنه بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه(152)”، وأعطى تلاميذه ورسله “سلطاناً” ليدوسوا “الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شئ(153)”، بل وكان له “سلطاناً على كل جسد ليعطى حياة أبدية(154)”، وهو جالس الآن “فى السماويات. فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة … وأخضع كل شئ تحت قديمه(155)”.