الأنجلة الجديدة ومسيحيو الشرق الأوسط

الأنجلة الجديدة ومسيحيو الشرق الأوسط

بقلم الأب الدكتور نجيب بعقليني

روما, 19 فبراير 2014 (زينيت)

1- لماذا ولمَن الأنجلة الجديدة؟

عقد أساقفة الكاثوليك في العالم مع قداسة البابا بنِديكتوس السادس عشر في العام 2011 مجمعًا خاصًا من أجل كنائس الكاثوليك في الشرق الأوسط. وقد قدّموا للمسيحيين الإرشاد الرسولي بعنوان:” الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، شركة وشهادة” (14- 9- 2012). أين نحن من هذا الإرشاد؟ ماذا فعلنا لتطبيقه؟ هل ساعدَنا على بدء مرحلة جديدة ومتجددة، أم بقي مجرّد أفكار ومقترحات؟ زار البابا لبنان ليقدّم لنا الإرشاد، ومعه حمل لنا روح الأنجلة الجديدة من خلال مشاركته لنا الإيمان والرجاء والمحبّة. أراد أن يكرّس وجودنا ودورنا في هذه المنطقة. ذكّرنا برسالتنا الفريدة والبالغة الأهميّة للشرق. فالإرشاد لم يغمرنا كفاية، لذا كان لا بدّ للأنجلة الجديدة كي تُعيد إحياء روح الإرشاد الرسولي، فتؤكّد على أهمية التعلّق بالإيمان من أجل تخطّي أكبر عدد من الصعوبات والتحدّيات بتحقيق ما وعدنا به السيّد المسيح. أعلن البابا بنديكتوس السادس عشر سنة الإيمان، فهل تعمّقنا بإيماننا وعشنا بحسب تعاليم السيّد المسيح أم كان حدثًا عابراً؟ “الويل لي إن كنتُ لا أبشّر” ( 1 كور 9: 16).

الأنجلة هي نقل[1] الإيمان والحياة المسيحيّة من خلال نقل الكتب المقدّسة وعيشها وتطبيقها، وبخاصة الكتاب المقدّس، لأنّها تعرّف بيسوع المسيح وتتحدّث عنه وعن تعاليمه ووصاياه وعجائبه. فهي، أي الأنجلة أو التبشير معرفة يسوع المسيح واللقاء به. إنّ وسائل الأنجلة هي: الكرازة، والتعليم، والليتورجيا، والحياة الأسرارية، والشهادة، والهدف منها التربية على الإيمان كي نغدو أبناء لله، من خلال الالتزام بكلام السيّد المسيح والانتماء إلى جسد المسيح السرّي.

الأنجلة الجديدة هي التذكير بإعادة قراءة الإنجيل بالعمق وذلك بنهجٍ جديد وأساليب متطوّرة تعبّر عن حماس رسولي، والطرائق الجديدة التي يجب أن تستعملها الكنيسة في فهم وعيش الإنجيل ونشره، ممّا يُسهم في تدعيم مواجهة التغيرات الجذريّة في العالم والتحديات العديدة والكبيرة.

تقوم الأنجلة الجديدة على العمل الروحي العميق والمستمر ببثّ الإيمان والتقوى والمحبّة والغفران ضمن الجماعات المسيحيّة من أجل السير نحو القداسة. من هنا كان لا بدّ للجماعات المسيحيّة، من خلال الكنائس، أن تتّحد فيما بينها شاهدة للإيمان والرجاء والمحبّة من خلال أعمال الرحمة وعيش الإنجيل وتطبيقه لمواجهة التحديات التي تفرضها العولمة ومتطلّبات الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بوجه الإيمان المسيحي. “دعوة لروح الله كي يقود المسيحيين المشرقيين إلى توطيد الشركة أكثر فيما بينهم”، “وكي تكون المحبّة التي يعيشون عضدًا منيعًا لأمانة الجميع وإيمانهم”[2].

يقوم دور الكنيسة مع سائر الجماعات المسيحيّة، على العودة إلى الجذور والينابيع أي العودة المطلقة إلى السيّد المسيح وتعاليمه واللقاء به، من خلال الإيمان “المُعاش” والمتجسّد في إيجاد الحلول للصعوبات وفهم الواقع من خلال استلهام الروح القدس الذي يهبه السيّد المسيح للجماعات المسيحيّة، من أجل إعلان الإنجيل بطرق متنوّعة وأساليب متجدّدة، من شأنها أن تلبّي حاجات المؤمنين وتُرضي تساؤلاتهم، كما تخاطب متطلّبات العصر والثقافات المتنوعة. من هنا لا بدّ من عيش الشركة والشهادة. ” تعطي الشركة الشهادة قوّة وتناغمًا وتتطلّب توبة دائمة. في هذا تكمل الشركة والتي بدورها توطد الشهادة. فلا توجد شهادة بدون شركة: إنّ الشهادة الوحيدة والحقيقية هي حياة الشركة”[3].

الأنجلة الجديدة التي تحتاجها كنائس الشرق الأوسط، اليوم أكثر من أي وقت مضى، هي إعادة الجرأة عند المسيحيين على عدم التراجع في خياراتهم حول عيش الإنجيل، والعمل على البحث بطريقة إيجابية عن كلّ السبل للانفتاح على الله من خلال حوار معه واللقاء به شخصيًّا ونقل خبراتهم الإيمانيّة واختيارهم للحياة المسيحيّة التي تحمل الرجاء والفرح إلى شركائهم في الأوطان لا سيّما الذين لا يشاطرونهم الإيمان والعقيدة. إنّ مسيحيي الشرق الأوسط يحملون رسالة الشهادة. “تغذّي الشركة والشهادة للمسيح وتثبتان أصالة الأعمال الأخرى للعبادة الإلهيّة وممارسة التقوى في التدين الشعبي. الرسوخ في الحياة الروحية ينمّي المحبّة ويدفع باتّجاه الشهادة. المسيحي قبل كلّ شيء شاهد. والشهادة لا تتطلّب فقط تنشئة مسيحيّة ملائمة لفهم حقائق الإيمان. بل تنشد أيضًا حياة متوافقة مع هذا الإيمان نفسه للردّ على متطلبات أناس زمننا”[4].

 يؤكّد مسيحيو الشرق الأوسط قناعتهم بالأنجلة الجديدة التي تعزّز مواقفهم الجريئة والقدرة على مواكبة التحوّلات الجديدة على جميع المستويات، لا سيّما العلمنة شبه الملحدة التي تقود بعض المؤمنين إلى التفلّت من كلّ القواعد الروحيّة والأخلاقيّة. من هنا لا بدّ للأنجلة الجديدة أن تساعد على إعادة اكتشاف فرح الإيمان المسيحي واستعادة المحبّة وتجديد قدرة حريّة الأبناء في البحث عن الحقيقة. بإمكان الأنجلة الجديدة، أن تطال الأمكنة والمساحات التي ابتعدت عن المخلّص وإنجيله، فهي تسعى إلى إيجاد الأساليب المتاحة لإحيائها وبلورة ديناميتّها.

تدعو الأنجلة الجديدة المسيحيين إلى حسن استعمال جميع الوسائل من أجل حياة كريمة، نذكر منها: الإعلام، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية والأخلاقيّة، والأبحاث العلميّة والحياة السياسيّة وحوار الأديان والثقافات، وممارسة العدالة والسلام والديمقراطيّة، واحترام حقوق الإنسان. فالأنجلة الجديدة هي مَدْ تلك القطاعات والمبادئ بنور كلمة الإنجيل الذي يحقّق الخلاص ويثبت ملكوت الله الذي أعلنه السيّد المسيح وبدأ معه المسار الخلاصيّ. لذلك لا بدّ مع الأنجلة الجديدة، أن يدرك المسيحيون رسالتهم والعمل من جديد على اعتماد الإنجيل بحماس وقناعة، متجاوزين كلّ الصعاب بتوسيع الآفاق، وبذهنية متجدّدة، والانفتاح على الآخرين، ورفض الواقع المؤلم، مع السعي إلى التغيير، ورفض الرتابة والإقدام على التطوّر على جميع الأصعدة، لا سيّما الحياة الروحيّة التي تنمّ عن الإيمان والتعلّق بالسيّد المسيح. تدعو الأنجلة الجديدة أبناء الكنيسة إلى الانخراط في العمل الراعوي الذي يحاكي متطلّبات المؤمنين وحاجاتهم للسعي إلى بناء إيمانٍ قوي وفَرِح.

2-  الأنجلة الجديدة: (عيش الكلمة قبل التبشير بها):

ليس هناك من حالة معينة ووصفة محدّدة من قبل الكنيسة لعيش الكرازة الجديدة. فكلّ كنيسة، أيًّا كانت، في قارة أو بلد ما تختلف عن الأخرى، وإنّما يجمعها أسس وقواسم مشتركة: مثل إحياء الهوية الفردية وتعزيزها عند المؤمنين، والعمل على المعمّدين غير الممارسين لإيمانهم، وخلق شعور قوي بالانتماء إلى الكنيسة وتعزيزه، وتشبّثهم بشتّى الوسائل المتاحة والطرائق الجديدة، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر:

–  التشديد والتركيز على كنيسة حيّة وقويّة في تقليدها وتراثها وثروتها البشرية.

– تفعيل الحضور المسيحي الفعّال في لقاءات باسم السيّد المسيح وحوله ومعه.

– شدّد المؤمن على تماسك مطلق للمسؤولين في الكنيسة، لا سيّما مع المؤمنين من خلال الصدق، والشفافية والمثل الواضح والمعبّر عن أسلوب حياة ترتفع وترتقي نحو القيم والقداسة. من هنا لا يمكن إعلان الإنجيل والتبشير به من دون مصداقيّة عيشه في أسلوب الحياة المعبّر عنها بالمبادئ والقناعات والممارسات اليوميّة.

– قدرة الأنجلة الجديدة على تثبيت إيمان المؤمنين، أو إعادة إحياء الإيمان للّذين فقدوه أو الذين لا يمارسونه وذلك من خلال انتمائهم للكنيسة والتزامهم بتعاليم الإنجيل والسيّد المسيح؛ كما أنّها أيضًا طريقة عيش الإيمان من خلال المحبّة والجدية والحيويّة، والعمل على تطبيقه بالقول والفعل.

– الأنجلة هي العودة إلى الله وتعاليمه، هي التعمّق بالحياة المسيحيّة والروحيّة من أجل خلاص الإنسان.

– الأنجلة هي الرجوع إلى ينبوع الله وابنه المخلّص؛ الرجوع إلى المخلّص الذي مات من أجلهم ” تعالوا إليَّ أيّها المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (متى 11: 28).

– الأنجلة الجديدة هي عمل كلّ الكنيسة (إكليروس وعلمانيين) لا سيّما المسؤولين الذين أُعطيت لهم مهمّة إدارة شؤون الكنيسة وبالأخصّ الرسالة التبشيريّة بيسوع المسيح وباسمه وبملكوت الله. فهل الذين تركوا كلّ شيء وحملوا صليبهم وتبعوا الربّ يسوع هم المنادون فعلاً، من خلال قولهم وعملهم ومثلهم بالملكوت السماوي؟ “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” (متى 3: 2، مر 1: 15).

3-  طرائق الأنجلة وأساليبها:

–  الدخول في فكر الله من خلال عمل الروح القدس الذي يهب النعمة والعطايا والمواهب. فالروح يجدّد عقل الإنسان وقلبه، وينوّر حياته ليدرك ما يريده الله للإنسان.

–  إستعمال الأساليب الحديثة والوسائل المتطوّرة والطرائق المتعدّدة في تحقيق الأنجلة الجديدة، التي تحاكي العصر، كما باستطاعتها أن تجذب المؤمنين وغيرهم إلى كلمة الله وعيشها ضمن حياة الكنيسة من خلال الأسرار والليتورجيا والشهادة العلنيّة والصادقة. ” أمّا الذي يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات” (متى 5: 19، مر 6: 36).

– العودة إلى الذات من خلال فحص الضمير والتأمّل والصلاة المتواصلة لإعادة إكتشاف مشروع الله وإرادته الخلاصية من أجل الإنسان، كلّ إنسان، لا سيّما الذي يعتمد ويؤمن به ” فمَن آمن واعتمد يخلص ومَن لم يؤمن يُدان” (مر16: 16). وانطلق التبشير مع يسوع الذي أرسل تلاميذه وكلّ الذين يؤمنون به قائلاً:” … إذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم وعمّدوهم باسم ألآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19). فالدخول إلى الملكوت والحصول على الخلاص دعوة موجّهة لكلّ الأمم. فمحبّة الله وخلاصه للإنسان لا تنحصر أبداً بشعب أو بفئة بل بكلّ فرد يؤمن به ويعتمد. من هنا ندرك أهمّية الإنتماء والإلتزام بالهوية التي يختارها الإنسان لنفسه.

– العمل على فهم كلمة الله من خلال الإصغاء المتواصل والتواصل المستمرّ مع كلمة الله. لا بدّ للمؤمن من أن يفتح قلبه وعقله لكي يفهم مشيئة الله ويلتمس من النور الإلهي ومن تعاليم الله ويفهم الكتب المقدّسة، ويحتفل بالأسرار بإيمان عميق وواعٍ، لا سيّما سرّ الإفخارستيّا. “بواسطة الإحتفال بالأفخارستيّا، تعيش الكنيسة الخبرة اليوميّة لشركة أعضائها من أجل الشهادة اليوميّة داخل المجتمع، الذي هو بُعد أساسي للرجاء المسيحي. بهذا تدرك الكنيسة الوحدة الجوهرية للرجاء الإسكاتولوجي والالتزام في العالم. عندها تحيي ذكرى تدبير الخلاص.”[5]

– تتطلّب الأنجلة الجديدة من المؤمنين أن “يحبّوا بعضهم بعضًا” كما أوصانا السيّد المسيح الذي عاش معنا ومن أجلنا، وضحّى بذاته من أجل البشريّة. أليس هذا هو الحبّ الأسمى؟ لذا يطلب منّا أن نعيش المحبّة ونطبّقها في حياتنا اليوميّة “بهذا يعرفون أنّكم تلاميذي إذا كنتم تحبّون بعضكم بعضًا”. إنّ المحبّة الكاملة التي زرعها الله في قلب الإنسان، لا سيّما المؤمن بيسوع المسيح، لا بدّ وأن تأخذ مداها في المشاركة الفعّالة بين المعمّدين، لا سيّما الممارسين لإيمانه (بوعي وعمق)، وسائر الملتزمين بتعاليم يسوع. فالمحبّة هي علامة الوحدة. وعلى المعمّد أن يعيشها مع أخيه المؤمن كما الله أحبّنا وبذل إبنه الوحيد من أجل خلاص البشريّة. إنّ محبّة الإنسان هي محبّتنا لبعضنا البعض (يو 3: 16 و 13: 1- يو 13: 34)؛ فهذه المحبّة المتبادلة هي أساس البشرى السارة والتبشير بيسوع المسيح، هي محبّة الله للإنسان ومحبّة المسيح للبشرية كما محبّة المؤمنين لبعضهم البعض والتي تساهم في التعرّف على الله والمسيح (يو 13: 35).

– تتطلّب الأنجلة الجديدة عيش الكلمة وتحقيقها بالمثل قبل إعلانها والتبشير بها. فهذه الكلمة يجب أن تكون للمؤمنين المسيحيين في لبنان والشرق (لمسيحيي لبنان والشرق) نورًا لعيونهم وعقولهم وضمائرهم وتُمسي برنامجًا لمسيرتهم المسيحيّة فتطال كلّ مؤمن من إكليروس وعلمانيين فيعيشون بطريقة واقعية وعمليّة ومنفتحة. فالكلمة أي كلمة الحياة هي التي تحيي حياة المؤمن وتجعله يتواصل مع المسيح من خلال حضوره الدائم، لا سيّما من خلال سرّ الإفخارستيّا وعمل الروح القدس. فعلى المسيحيين المشرقيين أن يتعلّقوا بالسيّد المسيح الذي يحييهم ويقوّيهم ويقودهم نحو الأمان والسلام، بالرغم ما يختبرونه ويعيشونه من خوف ويأس، وما يتعرّضون له من الإرهاب والقتل والشرذمة، وما يشنّ عليهم من حروب متنوّعة وبشتى الوسائل والطرق المتعدّدة، كما تعرّضهم الدائم للإضطهاد والتهجير بسبب هويتهم المسيحيّة وانتمائهم لكنيسة المسيح. ” لا تخف أيّها القطيع الصغير” (لو 12: 32). كلمة الحياة تهب المؤمنين الغبطة والفرح والسلام الداخلي؛ من هنا أهمية أن يؤمن المسيحي بالسيّد المسيح ويتعلّق به لأنّه سيّد الرجاء والحياة. إنّ دخول العولمة والتكنولوجيا والإكتشافات العلمية عالم اليوم لا سيّما بلاد الشرق الأوسط، من خلال وسائل الإتصال والتواصل، أدّى إلى تشويه في ذهنية بعض مسيحيي الشرق وثقافتهم، لقد باتوا يعتقدون أنّ عيش الدين وممارسته هو تقاليد بالية وعادات مزمنة. فبعض المسيحيين لا سيّما غير الممارسين لإيمانهم، سيطرت عليهم الذهنية “الغربية” التي تعتبر أنّ الدين لا فائدة منه لكونه عائقًا للتقدّم العلميّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. زِد على ذلك اللّامبالاة والتمسك بالعلمنة المزيّفة والمناداة بالانفتاح المتفلّت تحت غطاء نبذ التعصّب والطائفية البغيضة، هذه الدعوات أدّت، في بعض الأحيان، إلى الإلحاد المقنّع أو الصمت مقابل متطلبات الإيمان وعيشه في بيئة تسودها في بعض الأحيان التناقضات والتفلّت الأخلاقي والانقسامات والمنازعات على أكثر من صعيد. على مسيحيي الشرق لا سيّما الذين يعيشون في بعض الأحيان إيمانًا سطحيًّا وتقليديًا وظاهريًّا أن لا يأخذوا بتلك الدعوات التي ذكرناها آنفًا كي لا تشكّل سببًا مباشراً أو غير مباشر في تراجعهم أو انكفائهم أو تأثّرهم في طريقة عيش إيمانهم. يُطلب من المسيحيين عدم الشكّ في قيمهم الدينيّة بالرغم من تعدد الكنائس الشرقيّة، والتي ما زالت تناضل من أجل وحدتها. إنّ التقاعس في إعلان الإيمان وعيشه لا يعود فقط إلى فقدان الإيمان، وإنّما أيضًا إلى الرتابة والجمود والتفلّت من تعاليم الكنيسة التي تشمل الأخلاق والعائلة والزواج والمسائل الخلقيّة والنظرة إلى الإكليروس وممارستهم لرعايتهم ولدورهم في الكنيسة والمجتمع، كما الهوّة بين الرعاة والمؤمنين لأسباب عديدة. زِد على ذلك التغيير الواضح والسريع في حياة أفراد المجتمعات المأخوذين بالمظاهر الخارجية، والماديات، والنمط الاستهلاكي والتفلّت الأخلاقي، والنظرة الملتوية إلى العائلة والزواج، والتقوقع والانغلاق وتأثير المخدّرات وهيمنة الإعلام والإعلان وحركة الاتصالات والتواصل السريعة، كما الضياع في صفوف المراهقين والشباب، بالإضافة إلى تفكّك العائلات، وهجرة الأزواج.

– إنّ بعض مسيحيي الشرق عاشوا في بيئة منغلقة أو ضمن أنظمة قاسية وجائرة أو دخلوا في نظريات معقدة أو حركات إيمانية غير صحيحة بكلّ معنى الكلمة، الأمر الذي عزّز لديهم فكرة الإستسلام لحياة التقوقع والعزلة والبُعد عن تطوّر العالم الفكري والاجتماعي، ممّا دفع بهم للهروب نحو الأمام؛ وأحيانًا تأججّ في حياتهم رد فعل سلبي دفعهم إلى تغيير وتصحيح أوضاعهم من خلال التفلّت من بعض قيود الدين، ممّا أدّى إلى إبتعادهم عن الكنيسة وتراجع إيمانهم التصاعدي. إنّ حالة هؤلاء المسيحيين خلقت علامات شكّ ومثالاً سيّئًا وحجر عثرة أمام المؤمنين المسيحيين وغير المسيحيين، فأتى تديّنهم فارغًا من كلّ محتوى صحيح، وعدم إخلاصهم لهويتهم ولإنتمائهم للسيّد المسيح وللكنيسة. يُطلب من هؤلاء المسيحيين أن يكونوا شهودًا للمسيح ولإنجيله وأن يكونوا مبشرين بكلمة الحياة والحقّ وإلاّ صارت حياتهم غير مطابقة لمعموديتهم.

4- عمل الأنجلة الجديدة:

يمكننا القول إنّ الأنجلة الجديدة لكنائس الشرق الأوسط حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى، فالمسيحيون في البلاد العربية، ولا سيّما في لبنان، مدعوون للدخول في مفهوم الأنجلة الجديدة ومبادئها ووسائلها من أجل إعلان الإيمان ونقله والتربية عليه، ممّا يُسهم في خلق أفراد صالحين للمجتمع، كما يُعزّز الروابط الإنسانيّة والإجتماعيّة في ما بين الشعوب. فالأنجلة الجديدة تعزّز موقع المسيحيين ودورهم وتعطيهم الرجاء والأمل من خلال تعلّقهم بالأرض والإنسان، وتُساعدهم على عدم الرحيل والهجرة، والبقاء في أوطانهم كرسل سلام ودعاة محبّة وانفتاح. من هنا لا بدّ من العمل بطريقة متجدّدة ومتواصلة على العائلة التي تربّي على الإيمان والقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة. فعلى العائلة المسيحيّة أن تقبل الأنجلة الجديدة فتزرع الإيمان وتُعلنه وتنقله وتربّي عليه.

إنّ رعاة الكنيسة مع الرهبان والراهبات مدعوون لتحمّل مسؤولية شعب الله من خلال تكرّسهم للمسيح بهدف إعلان الملكوت والتبشير به، فيكونوا المثال والقدوة. فالرعاة أيضًا بحاجة ماسة إلى التمسّك بالأنجلة الجديدة وتفعيلها في ما بينهم قبل نقلها إلى المؤمنين. إنّ “المجتمع المسيحي” في أزمة، كذلك يعيش رعاة الكنيسة تحت وطأة تلك الأزمة. والمطلوب الجهد الفعّال وعلى جميع الأصعدة، لتثبيت الإيمان وتعزيزه في ما بين المؤمنين كما إعادة إحيائه عند المعمّدين غير الممارسين أو الذين حرموا أنفسهم من ممارسة الأسرار المقدّسة، أو عند المعمّدين الممارسين لإيمانهم من خلال وجودهم في الإحتفالات الليتورجية بداعي الواجبات والعلاقات الإنسانيّة والإجتماعيّة. لا يجب أن نزدري بدور المدرسة أو نُهمل أهميته في التربية على الإيمان من خلال التعليم المسيحي وممارسة الحياة المسيحية وعيش الليتورجيا. كما لا يمكننا أن نتجاهل دور الحركات الرسوليّة والفرق المتعددة المهمات والأدوار، والّلجان الحيّة ضمن الرعية أو الأبرشية، والتي تساند العمل الرعوي والرسولي في تنشئة المؤمنين ومرافقتهم ومساندتهم في تحقيق حياة مسيحية صادقة وفعّالة. فعلى أعضاء الكنيسة معرفة المسيح بروحانية عميقة ومتواصلة لكي يستحقوا حمل اسمه والتبشير به.

إنّ مسؤولية الأنجلة الجديدة تقع على عاتق الجماعة المسيحية بأسرها لا سيّما الرعاة المدعووين لتكثيف جهودهم في زرع الرجاء والمحبّة والإيمان في قلوب المؤمنين وضمائرهم وإعطاء المَثَل الصالح من خلال التواضع والتجرّد والمسامحة والغفران والمحبّة والحضور الفعّال في شتّى الميادين. والأنجلة الجديدة بالنسبة إلى مسيحيي الشرق الأوسط هي العودة إلى الجذور المسيحيّة من خلال الإيمان والتقوى وممارسة الفضائل المسيحية والتعلّق بالقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، كما يُسهم في تثبيت وتقوية المسيحيين في هويتهم عبر عيش كلمة الله وتطبيقها وممارسة الأسرار المقدّسة وإحياء الشراكة والمحبّة بين أبناء الكنيسة لا سيّما بين الرعاة والمؤمنين. وهكذا تغدو الشهادة المسيحية عميقة، وشفّافة، وحقيقيّة، وفرحة، وجذّابة وصادقة. من هنا، على المسيحيين المصمّمين على فهم إيمانهم وإنجيلهم بعمق أن يدركوا أهمية حضورهم ودورهم ورسالتهم في هذا الشرق.

على المسيحيين أن يقرأوا الكتاب المقدّس ويكتشفوا كلمة الله الموجّهة إليهم اليوم ويفهموها فهي تخاطبهم بطريقة متجدّدة. وعليهم أن لا يعيشوا في الانطواء على الذات والخوف من الآخر، لذا على الرعاة أن يعملوا على تقوية إيمانهم وروحانيتهم، كما تدعيم الروابط الاجتماعية والتضامن فيما بينهم دون الانغلاق والتقوقع والتعصّب. تعزّز الأنجلة الجديدة الوحدة المسيحية في بلدان الشرق الأوسط فتُسهم بذلك في مشاركة المسيحيين وتساعد على الاعتراف بوجودهم وتقديرهم.

5-  كنيسة الرجاء:

الأنجلة الجديدة هي حافز مهمّ للرعاة، ليستعيدوا رسالتهم ودورهم. فالمسؤولون-الرعاة عن كنيسة المسيح مدعوون إلى العودة إلى الذات والتوبة من أجل نقل البشارة. من هنا لا يمكن أن يبشِّروا إذا لم يبشَّروا. فالنضج الإيماني من خلال إعلان الإيمان والاحتفال بالأسرار والليتورجيا وعيش المحبّة،  يُسهم في إعلان البشارة ونقلها بطريقة صحيحة ومؤثّرة إلى قلب الكنيسة والمجتمع. لذا لا بدّ للرعاة ومن خلال حضورهم وتصرّفاتهم وتطبيقهم الفعلي للإيمان أن يحفّزوا المؤمنين على الإيمان بالرغم من الرياح التي تعصف بكيانهم. إنّ الروح القدس يعمل بالعمق من أجل توجيه الرعاة والعلمانيين إلى برّ الأمان والتعلّم على مواجهة التحديات المحدقة بهم من خلال عرض الأوضاع ببساطة وطرحها بوضوح وضمن حدود المنطق والمعقول. فالكنيسة مدعوة أكثر، من أي وقت مضى، لا سيّما في هذه الظروف التي تمرُّ بها المنطقة، إلى إستعادة زمام الأمور بإعلان الرجاء والتمسّك بكلام البابا بنديكتوس السادس عشر عندما يتحدّث عن “الوثوق في اللامتوقّع” ويذكّر بأنّ الإنسان في أغلب الأحيان يتجاهل الأشياء الجميلة أو ينسى قيمة وأهمية العطايا والنعم. ” وكونوا في كلّ حين مستعدين للردّ على كلّ مَن يطلب منكم دليلاً على الرجاء الذي فيكم. وليكن ذلك بوداعة واحترام” ( 1 بط 3: 15-16). من هنا تبقى الكنيسة عنوانًا للرجاء من خلال العمل الراعوي الحاضر لكلّ أبناء الكنيسة والذي يعطي دفعًا لتقبّل الرجاء الذي يحتاجه المؤمنين. لا بدَّ للعمل الراعوي أن يعمل بطريقة جدّية وعميقة ليُسهم في تكوين هوية مسيحيّة مبنيّة على اختيار شخصي وعن قناعة تتميّز بحريّة الضمير والعقيدة. فالعمل الراعوي يدفع بالمعمّدين إلى ممارسة الإيمان وعيش الالتزام المسيحي بإخلاص من خلال حياتهم الخاصة والعامة.

يُطلب من كنائس الشرق الأوسط تأمين تنشئة عميقة ودائمة للإكليروس كما للعلمانيّين من خلال التعليم المسيحي والعمل الراعوي، كما العمل على التربية على ثقافة قبول الآخر والحوار وثقافة السلام وسائر القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والإنجيليّة التي تحتاجها بلاد الشرق الأوسط، لا سيّما في هذه الظروف الحرجة والمصيرية، أكثر من أي وقت مضى، كما الحرص على تفعيل دور المرأة والسهر على الشبيبة ودعم العائلة التي تبقى أساس المجتمع الشرقي وصموده في هذه البقعة من العالم. معظم هذه الأمور لا بدّ وأن تنطلق من الإنجيل، من التعمّق به وفهمه، من قراءته بروح جديدة وذهنية منفتحة حيال التحدّيات القائمة في العالم، لا سيّما في هذه المنطقة.

        إنّ تهميش المسيحيين في الشرق، ولا سيّما في لبنان، سيقود إلى عدم الإستقرار بل إلى التخاصم والفتنة والنزاع المسلّح والخراب بين مكوّنات المجتمعات في بلاد الشرق الأوسط والخليج. أعتقد بأنّ معظم الشرائح في المجتمعات العربية تُدرك بأنّ المسيحيين في الشرق ولبنان هم عامل إستقرار وازدهار وانفتاح على العولمة وتعدّد الحضارات بطريقة إيجابية وحضاريّة، لأنّ المسيحي بتربيته وثقافته وإيمانه يؤمن بالآخر المختلف كما يحترم التعددية ويشجع على التمايز ممّا يسهّل “العيش معًا ” تحت سقف القانون والعدالة واحترام المعتقد وتطبيق الديمقراطية وممارسة الحريّة المسؤولة. نذكّر بأنّ النهضة الإنسانيّة لا تقوم إلاّ على أسس روحيّة ولاهوتيّة وإنطلاقًا من الإنجيل. لذا فالمواطنة والحريّة الدينيّة عاملان مهمّان من أجل تعامل سليم وصريح بين جميع المواطنين.

        والدعوة موجّهة إلى مسيحيي الشرق الأوسط كي يستعيدوا دورهم بالرغم من الأجواء الضبابيّة التي تحجب الرؤية الصحيحة في المنطقة، ممّا يساهم في الحدّ من القلق على مصيرهم ومصير الآخرين في ظروف صعبة على الجميع.

قال البابا فرنسيس:” لا يمكن أن أتصوّر منطقة الشرق الأوسط من دون المسيحيين وأضيف لا يمكن تصوّر الوجود المسيحي في الشرق من دون البشارة وعيش البشارة ورسالة المحبّة والسلام في مواجهة العنف والحقد والقتل والخطف، وأنّ المسيحيين هم مثل حبّة الحنطة إن لم تمت في الأرض تبقى مفردة وإن ماتت أتت بثمار كثيرة”.

الأب نجيب بعقليني

دكتور في اللاهوت الراعوي

أخصّائي في راعوية الزواج والعائلة

المصادر:

1-  الكتاب المقدّس.

2-  يوحنّا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي، رجاء جديد للبنان، 1997.

3-  بنديكتوس السادس عشر، الإرشاد الرسولي، الكنيسة الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، 2012.

4-    Benoit XVI, lettre apostolique (en forme de motu proprio, Ubicumque et Semper), la promotion de la nouvelle évangélisation.

5-    Benoit XVI, lettre apostolique, Porta Fidei (la porte de la foi), 2011.

6-   François, Exhortation apostolique, Evangelii Gaudlium, (la joie de l’Evangile), (l’annonce de l’Evangile dans le monde d’aujourd’hui, 2013.

7-   المجمع البطريركي الماروني، النصوص والتوصيات، بكركي، 2006.

[1]  – ” إنّ نقل الإيمان المسيحي هو رسالة جوهرية للكنيسة “، بنديكتوس السادس عشر، الإرشاد الرسولي، الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، عدد 85.

– ” إنّ كلّ من الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط… مدعوّة أيضًا لتجدّد روحها التبشيرية”، المرجع السابق، عدد 89.

[2]  بنديكتوس السادس عشر، الإرشاد الرسولي، الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، عدد 98 و99.

[3]  المرجع السابق، عدد 37.

[4]  المرجع السابق، عدد 67.

[5]  المرجع السابق، عدد 80.