الاحتفال على مرور 75 عاما

الاحتفال على مرور 75 عاما

الاحتفال على مرور 75 عاما

على تأسيس الجمعية الكاثوليكية للمدارس المصرية

ألفى شند

احتلت الجمعية الكاثوليكية للمدارس المصرية والتي تعرف حاليا باسم جمعية الصعيد للتربيىة والتنمية مكانا مرموقا ومتميزا في العمل الأهلي على امتداد 75 عاما في العمل التنموي. ونجحت في ابراز والتعبير عن فكر الكنيسة الاجتماعى منذ ان تأسست بمبادرة من الكنيسة القبطية الكاثوليكية. فبعد قيام الحرب العالمية وتوقف التمويل الخارجي لأجل تعليم التلاميذ الفقراء فى المدارس التي أسسها الاباء الفرنسيسكان والاباء اليسوعيين دعت الحاجة الى تأسيس جمعية اهلية لإدارة أمور تلك المدارس والاعتماد على التبرعات المحلية لأهل الخير ووجوب معاونة اهل المدينة لأهل القرية. ولم يجد الانبا مرقس خزام بطريرك الاقباط الكاثوليك وقتئذ أفضل من صديقه الاب هنرى عيروط اليسوعى للقيام بهذه المهمة ، وذلك لاعتبارات عديدة .

أولهما، انشغال الاب عيروط بقضايا الفلاح المصرى منذ بدء دعوته الرهبانية، فمنذ اليوم الأول بدء مسيرته الرهبانية ضد رغبة والده المهندس المعماري، قرّر العمل على رفع شأن الطّبقات الفقيرة في مصر، لا سيّما في منطقة الصّعيد. وأعتبر رسالته هى تحرير الفلاحين من البؤس والجهل . ورأى بفطنة الراهب اليسوعى واسلوبهم ان الوعظ من فوق المنابر لن يغير واقع الفلاحين ومجد الله الاعظم وهو الشعار الذي ترفعه الرهبنة اليسوعية في كل ما تقوم به. بل رأى أن يفعل شيئًا من أجل طبقة تؤلّف ثلاثة أرباع المصريين. وبفطنة الراهب اليسوعى والنهج الذي تتبعه الرهبنة اليسوعية، إنّ النجاح يقتضي الدراسة والفحص والتعمق فى حياة الفلاحين. ألم يجلس معلمه اغناطيوس دى ليولا قبل بدء رسالته وهو فى سن الاربعين على مقعد الدرس في “السربون” لأجل العمل الرسولي. فأمعن خلال تنشئته الكهنوتية دراسته في الخارج في تاريخ الفلاح والتعمق في قضاياه الخاصة، وجمع لهذه الغاية الوثائق والمستندات التى حصل بمقتضاها على الدكتوراه فى علم الاجتماع من جامعة ليون عام 1938، ولقد ذكر الأب عيروط في مقدّمة بحثه الاكاديمى الذي اقتبس منه كتاب “الفلاح عاداته وتقاليده” عن الصعوبات التي واجهته فقال: “ونودّ أن نقول للقارئ، إنّنا اعتمدنا في هذا البحث على ما لاحظناه وحققناه بأنفسنا. وقد استغرق منّا البحث والاستقصاء سنين عديدة، كانت فيها المُشاهدة والتحرّي عدتنا، فنحن من مصر، ونعيش بين أهلها عيش المواطنين. وقد امتدت مشاهداتنا وملاحظتنا طوال السنين في مختلف أنحاء الريف، حيث لم ننقطع عن المشافهة والمحادثة والبحث والاستقصاء والطواف في أنحاء البلاد ومخالطة الطبقات حبًا في الكشف والاستطلاع حتّى جاء بحثنا نتيجة الملاحظة والتأمّل الطويلين…لقد جاء هذا البحث وليد المشاهدة والتحقيق”. وفي كتاب “الفلاحون” الذي يعد مرجع اساسى فى الدراسات عن الفلاح المصري كتب فصلاً عن حالة الفلاح بعنوان “بؤس الفلاح ” قال فيه: “يتمثّل بؤس الفلاح في صورتين، الأولى بؤسه المادّيّ وحرمانه من مقوّمات حياته الجسميّة، فهو فقيرٌ لا يكاد يجد القوت والملبس والمسكن. أمّا الصورة الأخرى لبؤسه، فهي معنويّة تتمثل في حرمانه من التعليم، وجهله وذلته وهوانه على نفسه وعلى غيره، حتّى أصبح دون المستوى الإنسانيّ من هذه الناحية….. أيُّ ظلمٍ أفدح، وأيُّ وضعٍ أنكى من وضع الفلاح؟ لقد حُرم من نعمة التثقيف والترقية، والتربية والتعليم، ثم عوقب من ولاة أموره الّذين تجب عليهم المسارعة إلى انتشاله مما هو فيه… تلك المآسي من فقر وجوع وجهل ومرض، من أسبابها التفكّك والتمزّق وانقطاع الصلة بين البلاد، فبين الوجه البحريّ والقبليّ قطيعةٌ وتباعد، ومثل ذلك بين العاصمة وسائر البلاد، الأمر إذن متعلّق بإذكاء الشعور الإنسانيّ في نفس هذا الجمهور الشهيد ورفع الروح المعنويّة لأفراده وجماعاته، وهذا واجب المثقفين من أبنائه، هذه الرسالة السامية، هي رسالة المعلمين ورجال الدين هم قبل غيرهم وهم الذين تدعوهم طبيعة عملهم إلى الاندماج والاختلاط بطبقات الأهلين وكل من يسهّل هذه الرسالة ويساعد على أدائها، يؤدي للوطن أنبل وأقدس واجب إنسانيّ” . ولم يتوقف اهتمامه على القرية المصرية فقط، بل اهتم بوضع الفقراء في وسط وجنوب أفريقيا فسافر إلى هذه البلاد للخدمة هناك لتطوير القري الأفريقية، ونشر خبرته في هذا المجال في كتاب صدر باللغة الفرنسية بعنوان (Liaisons Africaines) نشرته أسرته في كتاب صدر بعد وفاته عام 1975 يتضمن ملخصا وتقريرا عن زياراته لهذه البلاد.

ثانيهما، توفر الخبرة التربوية فى التعليم عند الاب عيروط بصفته تلميذ ومربى يسوعى وهي خبرة ثمينة فى مجال التربية والتعليم تتعدى الخمسة قرون. ولوقوف القارئ على مضمون تلك التربية يمكننا القول إن التعليم عند اليسوعيين لا يقتصر على مُجرد “تعلم محتوي الكتاب” بل يتجاوز ذلك ليشمل تكوين الشخص وكل الشخص بكافة جوانبه: العقل، القلب، البدن الروح. وهكذا، ينمو الطُلاب ويصبحون أفراداً ناضجين وقادرين علي المُساهمة بما لديهم من مواهب ومهارات لخير بلادهم وأخواتهم في الإنسانية، إذ يصبحون “رجالاً ونساء من أجل الآخرين”.

وهي تتميز بخمس “سمات”:

1-السعي إلي الجودة: تحرص المؤسسات اليسوعية علي الجودة، فتحقيق الامتياز من الامور الأساسية ومن ثَمَ يُوضع مقياس عالي المستوي لأداء كل من الطُلاب والمُدرسين، مما يُساعدهم أن يحرصوا أشد الحرص على الوصول إلى الامتياز في الناحية الأكاديمية.

2- دراسة العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية: تُولي المؤسسات اليسوعية اهتماماً كبيراً لدراسة كل من العلوم الإنسانية والطبيعية ويتم توجيه الطُلاب بحيث يُصبحون قادرين علي كل من التفكير والتعبير الشفهي والكتابي بحيث يعرفون شيئاً عن التاريخ، والأدب، والفن من ناحية ويتمتعون بفهم عميق للرياضيات والعلوم من ناحية أخري. ويهدف اليسوعيون بذلك إلي إعداد أفراد قادرين علي العيش بل علي الدخول إلي مجال العمل أيضاً.

3-الأخلاق والقيم: تؤكد التربية اليسوعية المسائل الخُلُقية والقيمية بحيث تُشكل مصدر قوة لها وتُمكنها من تقديم نموذج خير للطلاب ولذلك، تُعتبر قيم الأسرة، والنزاهة الشخصية، والأخلاقيات العملية من الأمور الجوهرية.

4- الخبرة الدينية: للخبرات الدينية أهمية خاصة وجوهرية في التربية اليسوعية. وهي تندمج في العملية التعليمية بحيث تُتاح للطالب الفرصة أن ينمو في كل من المعرفة والإيمان، وفي كل من التعلم والعقيدة.

5-تربية مُرتكزة على الشخص: وأخيراً، تتمثل الخاصية الخامسة للتربية اليسوعية أنها ترتكز على الشخص فمهما كان حجم المؤسسة يبقي الفرد علي قدر كبير من الأهمية وهو يتمتع بأكبر قدر مُمكن من الاهتمام الشخصي بالفرد هو أنّ كل شخص له فرادته وخصوصيته ومن حقه أن يحظي بالاهتمام الكافي. ومن ثَمَ فقد ظل هدف التربية اليسوعية من القرن السادس عشر ثابتاً لم يتغير، ألا وهو تكوين أفراد يُحدثون تغييراً إيجابياً في العالم.

بهذا النهج التربوى سارت مدارس جمعية الصعيد المتواضعة فى مبانيها وامكانياتها ومدرسيها وكانت بمثابة القلب النابض كما وصفها الاب هنرى عيروط الذي يضخ الدماء لحياة القرية. وهو ماتميزت به مدارس جمعية الصعيد حتى اليوم . ويدفع الاغنياء والفقراء على التكالب عليها رغم تحولها للآسف الى مدارس خاصة بمصروفات بدءا من العام 2002 .

ثالثهما: توفر سمات شخصية فريدة في ذلك القائد قلما تتجمع في شخص واحد، حدثني عنها رفيقاه في الرهبنة الاب “فلر” والاب “يوحنا فور” تتمثل فى الانفتاح على المجتمع والاخرين وهو الراهب المتعبد رجل الدير.

فتشير بعض اوراق وجدت في مخزن الجمعية بالمقر القديم الى عقد حوار مع مؤسس جماعة الاخوان الاستاذ حسن البنا وجماعته بمقر الجمعية فى الاربعينات من القرن الماضي .. تناولت عدة مسائل بعض منها اتخذها الضباط الاحرار مبادىء لثورة 23 يوليو . ويقال ان الرئيس عبد الناصرعندما قابله قال له “لقد قمت بالثورة قبلنا” وقد استثمر الاب عيروط هذا التقدير وكان يضع صورتهما معا فى حافظة بطاقته الشخصية ، ويتعمد ابرازها عند الحاجة لتذليل العوائق ولاغرابة فى ذلك فالمثل يقول من شابه جماعته ما ظلم ، فاليسوعيين يتصفون بسعة الحيلة . وددت توضيح ذلك للجهات التى انتقدت في وقت ما خليفته على عدد من المواقف الوطنية مثل الموقف من قانون الجمعيات الاهلية الحالى والتضامن مع منظمات المجتمع المدني ضد بعض مواده التي تقيد عمل الجمعيات الاهلية، وفتح الجمعية قاعاتها لفعاليات سياسية اسفرت أحدها عن ولادة حركة “كفاية” المعارضة. والإيمان  بالعمل الجماعي وكان يقول للعاملين معه ” ان تعمل خطوة واحدة مع الناس أفضل من مائة خطوة بمفردك” وان التنمية مسيرة جماعية محددة الاهداف.

وأهمية مشاركة المرأة فى الحياة وخاصة في التغيير والتنمية واعتمد على سيدات المجتمع الراقي المتعلمات في مشروعه النهضوى وكانوا النواة الاولى لتأسيس الجمعية عام 1940 وفى نشاط جمع التبرعات لتنفيذ انشطتها. وزراعه الفاعل في العمل التنموي امثال السيدة سميرة مجلي وجانى عجوري حتى تركه رئاسة الجمعية بناء على قرار من رؤساءه فى الرهبنة العام 1963 بغرض التجديد الروحى الرهباني وهو نهج متبع فى الحياة الرهبانية. وجاء بعدهن السيدة سيمون تاجر وفيفيان عزيز وماجدة جبرائيل التي أطلق اسمها على مدرسة الجمعية بقرية النخيلة. وان التنمية مسيرة جماعية تقتضى تكاتف جميع الاديان والمذاهب والطوائف . ذات يوم أبدى لي الاب فور عن دهشته ان يظل ساعده الأيمن فى اداره المدارس ورفيق نضاله الاستاذ ايليا ميخائيل حتى مماته على المذهب البروتستانتي ويشغل رتبة شيخ في الكنيسة الانجيلية. بل لم يجد عائق ان يشغل يهودي (قطان باشا) مكانة عضو فى مجلس ادارة الجمعية .

ويعد الاستاذ امين فهيم أطال الله فى عمره المؤسس الثانى للجمعية الصعيد ليس لكونه انقذ الجمعية مع ابناءها المخلصون من خطر الانحلال بعد صدور قانون التعليم عام 1963 واقرار مجانية التعليم ، أو لكونه حافظ على هويتها وصان رسالتها . وقاد الجمعية على هدى الغرض الذي تأسست من اجله دون انحراف. وانما تضمينه رسالة الجمعية انشطة لكافة جوانب التنمية الاجتماعية، ومزج العمل التطوعي بالمهني للعمل التنموي وفقا لمفهوم التنمية الذي ظهر في حقبة الستينات، وما جاء به المجمع الفاتيكاني الثاني في الشأن الاجتماعى ورسالة العلمانيين، معتمد على سواعد العلمانيين والعلمانيات من الشباب. ولا ننسى الدور المخلص الذي قام به الاستاذ إميل نوير أبان فترة رئاسته القصيرة للجمعية ووضع خبرته وحنكته المالية في تدبير وديعة مالية من عائد مشروع القروض الصغيرة لدعم انشطة الجمعية وتامين رسالتها لسنوات قادمة.

بهذا النهج العلمي والإنساني تأسست جمعية الصعيد وحققت اهداف طيبة ساهمت فى تطوير وضع الفلاح المصرى وتحسين احوال القرية المصرية بقدر اما اتيح لها من امكانيات. وبهذا الاساس القوى استطاعت ان تصمد وتواجه تحديات وهزات عاتية على امتداد 75 عاما. وتؤكد ان نجاح أي مشروع مرهون بالدراسة والفطنة في ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب … فتحية لهؤلاء الرجال والسيدات العظماء.