البابا يشارك في لقاء حول الحرية الدينية في فيلاديلفيا

البابا يشارك في لقاء حول الحرية الدينية في فيلاديلفيا

اعداد مراسل الموقع من القاهرة – ناجى كامل- نقلا عن إذاعة الفاتيكان

شارك البابا فرنسيس مساء السبت بالتوقيت المحلي في لقاء حول الحرية الدينية في فيلاديلفيا بحضور عدد كبير من المهاجرين، معظمهم من أصول أمريكية لاتينية. ووجه للحاضرين كلمة قال فيها:
من بين المحطات الهامة لزيارتي وجودي هنا أمام قاعة الاستقلال، مهد الولايات المتحدة الأمريكية. في هذا المكان بالذات تم إعلان الحريات التي تحدد معالم هذا البلد. فقد نص إعلان الاستقلال على أن جميع الرجال والنساء مخلوقون سواسية، وقد منحهم خالقهم حقوقا غير قابلة للتصرف، وأن الحكومات موجودة لتحمي هذه الحقوق وتدافع عنها. هذه العبارات الرنانة ما تزال مصدر وحي لنا اليوم، كما كانت بالنسبة لشعوب كثيرة حول العالم التي ناضلت في سبيل حرية العيش وفقا لكرامتها.
بيد أن التاريخ يُظهر أيضا أن هذه الحقائق، كأي حقيقة أخرى، يجب أن يُعاد التأكيد عليها والاستئثار بها والدفاع عنها باستمرار. تاريخ هذه الأمة هو أيضا قصة جهد متواصل، يدوم حتى يومنا الحاضر، من أجل تجسيد تلك المبادئ السامية في الحياة الاجتماعية والسياسية. نتذكر النضال الكبير الذي أدى إلى إلغاء العبودية، اتساع نطاق الحق في التصويت، نمو الحركة العمالية، والجهد التدريجي لإزالة كل شكل من أشكال العنصرية والأحكام المسبقة الموجهة حيال الموجات المتعاقبة من الأمريكيين الجدد. هذا يُظهر أنه عندما يكون بلد ما عازما على البقاء أمينا لمبادئه التأسيسية، المستندة إلى احترام الكرامة البشرية، يتقوى ويتجدد.
تابع البابا فرنسيس يقول: كلنا نستفيد من تذكار ماضينا. الشعب الذي يتذكر لا يكرر أخطاء الماضي؛ بل ينظر بثقة إلى تحديات الحاضر والمستقبل. إن الذكرى تنقذ نفس الشعب مما أو ممن قد يسعى إلى السيطرة عليه أو استخدامه لمصالحه. عندما تُضمن الممارسة الواقعية لحقوق الأفراد والجماعات لا يصبح هؤلاء أحرارا ليحققوا قدراتهم وحسب إنما يساهمون أيضا في خير المجتمع واغتنائه. في هذا المكان الذي يشكل رمزا لطريقة الولايات المتحدة، أود أن أتأمل معكم بالحق في الحرية الدينية. إنه حق أساسي يحدد الطريقة التي نتفاعل من خلالها اجتماعيا وشخصيا مع جيراننا الذين يختلفون عنا بتوجهاتهم الدينية. وأكد البابا أنه في إطار الحوار ما بين الأديان يتحاور رجال ونساء ينتمون إلى تقاليد دينية مختلفة وهكذا تتحقق الحرية الدينية. الحرية الدينية تعني بالطبع الحق في عبادة الله، فرديا أم جماعيا، بما يمليه علينا ضميرنا. لكن الحرية الدينية، بطبيعتها، تتخطى حدود دور العبادة والإطار الخاص للأفراد والعائلات. ولفت البابا إلى أن البعد الديني ليس عبارة عن ثقافة فرعية، بل هو جزء من ثقافة كل شعب وأمة.
إن تقاليدنا الدينية المختلفة تخدم المجتمع، قبل كل شيء، من خلال الرسالة التي تعلنها. إنها تدعو الأفراد والجماعات إلى عبادة الله، مصدر كل حياة وحرية وسعادة. إنها تذكرنا بالبعد المتسامي للوجود البشري وحريتنا التي لا يمكن الانتقاص منها أمام المطالبة ببعض السلطة المطلقة. علينا أن ننظر إلى التاريخ، لاسيما تاريخ القرن المنصرم، لنرى الفظائع التي ارتكبتها أنظمة ادعت أنها تبني لها أو للآخرين “فردوسا أرضيا” عن طريق الهيمنة على الشعوب وإخضاعها لمبادئ غير قابلة للنقاش ظاهريا، وحرمانها من شتى أنواع الحقوق. إن تقاليدنا الدينية الغنية تحاول أن تعطي معنى وتوجها، “لديها قدرة متينة على فتح آفاق جديدة، وتحفيز الأفكار، وانفتاح العقل والقلب” (فرح الإنجيل، 256). إنها تدعو إلى الارتداد والمصالحة والاهتمام بمستقبل المجتمع والتضحية بالذات خدمة للخير العام وإلى الرأفة حيال المحتاجين. ويكمن إعلانُ حقيقة وكرامة الشخص البشري والحقوق الإنسانية في صلب رسالتها الروحية.
تذكرنا تقاليدنا الدينية أننا ككائنات بشرية مدعوون للإقرار بالآخر الذي يكشف عن هويتنا العلائقية في وجه كل جهد يرمي إلى فرض “تجانس يسيطر فيه علينا أنانية القوي ورضوخ الضعيف وأيديولوجية اليوتوبيا” (م. دو سيرتو). في عالم تسعى فيه أشكال متعددة من الطغيان المعاصر إلى قمع الحرية الدينية أو محاولة جعلها ثقافة ثانوية خالية من الحق في التكلم في الحقل العام، أو استخدام الدين كذريعة للحقد والوحشية، من الأهمية بمكان أن يوحد أتباع مختلف الديانات صوتهم في المطالبة بالسلام والتسامح واحترام كرامة وحقوق الآخرين. تابع البابا يقول: إننا نعيش في عالم يخضع لـ”عولمة النموذج التكنوقراطي” (كن مسبحا، 106)، ويرمي بشكل واع إلى تجانس ذي بعد واحد ويسعى إلى إزالة كل الاختلافات والتقاليد في إطار البحث السطحي عن الوحدة. بالتالي فإن للأديان الحق والواجب في إيضاح إمكانية بناء مجتمع حيث “التعددية السليمة التي تحترم الاختلافات وتثمنّها” (فرح الإنجيل، 255) تشكل “حليفا هاما في الالتزام بالدفاع عن الكرامة البشرية … ودربا للسلام في عالمنا المضطرب” (المرجع نفسه، 257).
إن “الكويكرز” الذين أسسوا فيلاديلفيا استمدوا وحيهم من المعنى الإنجيلي العميق لكرامة كل فرد ولمثال الجماعة التي يوحدها الحب الأخوي. هذه القناعة حملتهم على تأسيس مستوطنة أصبحت ملاذا للحرية الدينية والتسامح. إن مفهوم الاهتمام الأخوي بكرامة الجميع، لاسيما الضعفاء والمعرضين للخطر، بات جزءا أساسيا من الروح الأمريكي. خلال زيارته إلى الولايات المتحدة عام 1987، أشاد القديس يوحنا بولس الثاني بهذا الأمر، مذكرا جميع الأمريكيين بأن “الامتحان الأقصى لعظمتكم يكمن في طريقة معاملتكم لكل كائن بشري، لكن خصوصا الأشد ضعفا ومن لا حول لهم ولا قوة”.
مضى البابا فرنسيس إلى القول: أريد الإفادة من هذه الفرصة لأشكر كل الأشخاص، مهما كان دينهم، الذين سعوا إلى خدمة إله السلام عن طريق بناء مدن المحبة الأخوية، والاهتمام بجيراننا المحتاجين، وحماية كرامة الحياة، التي هي هبة من الله، في جميع مراحلها، والدفاع عن قضية الفقير والمهاجر. غالبا ما لا يُسمع صوت الأشخاص المحتاجين إلى مساعدتنا. إنكم صوتهم، وكثيرون منكم أسمعوا صرخة هؤلاء بأمانة. من خلال هذه الشهادة، التي غالبا ما تصطدم بمقاومة قوية، تذكرون الديمقراطية الأمريكية بالمُثل التي تأسست من أجلها، وبأن المجتمع يتم إضعافه متى وحيثما يطغى الظلم. وعاد البابا ليتحدث عن العولمة مؤكدا أن العولمة ليست شرا بحد ذاتها، لأنها توحد الناس، تكون أمرا جيدا إذا ما سعت إلى توحيد الأشخاص في إطار احترام الأشخاص والشعوب وخصوصياتهم ومزاياهم.
وقال: من بيننا اليوم مواطنون أمريكيون من أصول لاتينية، فضلا عن ممثلين عن مهاجرين جدد إلى الولايات المتحدة! كثيرون منكم هاجروا إلى هذا البلد متحملين كلفة كبيرة لكن على أمل بناء حياة جديدة. لا تتركوا التحديات والصعاب التي تواجهكم تحبط عزيمتكم. وأطلب منكم ألا تنسوا أنكم تحملون هبات كثيرة لهذه الأمة، كما فعل من جاؤوا قبلكم. عليكم ألا تخجلوا أبدا من تقاليدكم. لا تسنوا الدرس الذي تعلمتموه، خصوصا من شيوخكم، والذي يمكنكم أن تقدموه من أجل إغناء حياة هذه الأرض الأمريكية. أكرر: لا تخجلوا مما هو جزء منكم، دماء حياتكم. إنكم مدعوون أيضا لتكونوا مواطنين مسؤولين، وتساهموا بشكل مثمر في حياة الجماعات التي تعيشون فيها. أفكر بنوع خاص بالإيمان النابض الذي يملكه كثيرون منكم، المعنى العميق للحياة العائلية وكل القيم الأخرى التي ورثتموها. من خلال الإسهام بمواهبكم لا تجدون مكانا لكم هنا وحسب، بل تساعدون على تجديد المجتمع من الداخل. وحث البابا الحاضرين على عدم نسيان ما حصل في تلك البقاع لقرنين خليا، لافتا إلى الإعلان الذي أكد أن جميع الرجال والنساء خُلقوا متساوين وقد مُنحوا من خالقهم حقوقا غير قابلة للتصرف وهذا يتطلب من الحكومات أن تحمي هذه الحقوق وتدافع عنها.
في ختام كلمته قال البابا فرنسيس: أيها الأصدقاء الأعزاء، أشكركم على ترحيبكم الحار وعلى انضمامكم إلي اليوم هنا. دعونا نحافظ على الحرية: حرية الضمير والحرية الدينية وحرية كل شخص وعائلة وشعب والتي هي مصدر الحقوق. ليتجدد هذا البلد وكل واحد منكم بدافع الامتنان للبركات الكثيرة والحريات التي تتمتعون بها. ولتدافعوا عن هذه الحقوق، لاسيما حرياتكم الدينية، لأن الله نفسه منحكم إياها. ليباركك جميعا. أطلب منكم رجاءً أن تتذكروا الصلاة من أجلي