البابا يوحنا الـ 23، ونصف قرن من التحوّلات

البابا يوحنا الـ 23، ونصف قرن من التحوّلات

بقلم: الأب الدكتور يوسف توما- العراق

افتتاحية العدد 435 – 436 من مجلة الفكر المسيحي أيار وحزيران 2008، في خريف عام 1958 لفظ البابا بيوس 12 أنفاسه بعد حبريّة دامت عقدين، بدأت مع الحرب العالمية الثانية في 1939، إجتمع الكرادلة يوم 28/10/1958 وانتخبوا، بعد مداولات مضنية، الكردينال أنجيلو رونكالي بطريرك البندقية، ولم يكن أحد يتوقع إنتخابه. وفـُسِّر ذلك فقيل: إنّه بابا إنتقالي نظرًا إلى سنّه المتقدّم (77 سنة)، وكانوا على خطأ! فبرغم اعتلال صحته وقِصَرِ حبريّته (5 سنوات)، كانت فترتها ذات تأثير كبير ومقرّر للعقود التالية. نتوقف اليوم عند خمسين سنة بعد ذلك الإنتخاب لنستعرض عمق التغيير الذي حركه “البابا الطيّب يوحنا” كما سمّاه الإيطاليون.

كانت الكنيسة الكاثوليكية في عام 1958 في قلب أزمة كبرى، ففي نهاية حبرية البابا بيوس 12 كان الإنقسام عميقًا فيها: إذ تعرّض الكهنة لانتقاد للسلطة بسبب مواقفها من العالم المعاصر، وخصوصا إثر الحرم الذي أنزله البابا بيوس على الكهنة العمال في عام 1954، فقرئ ذلك بمثابة إنسحاب ممّّا تعرّضت له أوربا من مآس بعد حربين، وكانت كنيسة روما (بين الحربين) تتحصن وراء سكوت فطن لكنّه سلبي ومتشائم، فكانت متخاذلة إزاء النازية والفاشيّة، لكنّها صبّت جام غضبها على الإشتراكية والشيوعية، فرأوا ذلك كيلاً بمكيالَين وسعيًا غير حكيم إلى موازنات سياسية مستحيلة، فبقيت المؤسسة الكنسية سجينة نظام ملكي مركزي.

من جهة أخرى دفعت نتائج ما بعد الحرب العالمية الثانية كنائس العالم الثالث إلى الإمساك بزمام أمورها، كما قام بين الرهبانيات الكبرى – اليسوعية والدومنيكية – شخصيّات عارضت إنغلاق السلطة الكنسية وحكمَها على لاهوتيين وعلماء كالآباء تيار دي شاردان وهنري دي لوباك وإيف كونغار وماري دومنيك شنو وغيرهم ممّن ألهموا حركة التغيير بمجملها في الكنيسة وخصوصًا نزول الكهنة إلى ساحة العمل.

ساد دوائر الفاتيكان آنئذ تيّار محافظ متحفّظ يتجاهل ما يدور في العالم ويقلل من شأنه، فجاء تدمير الفاشية ليخلق فراغًا، إذ جعل مسيحيين عَلمانيين يستيقظون حيال مسؤولياتهم فقامت منهم أحزاب مسيحية في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا، وخصوصًا جاء تيار الشخصانية في فرنسا وتيار الحداثة في ألمانيا. وكان هاجس تلك الدوائر دخول الأفكار التقدمية داخل الكنيسة التي ركنت لعقود إلى ممارسة السلطوية وحب المناصب.

وبرغم قوّة تيار اليمين ووقوفه وراء رئيس مجمع العقيدة والإيمان الكاردينال اوتافياني الذي وقف كجدار ضد أي محاولة إصلاح، لكن علامات الأزمنة كانت أقوى، فلم يروا – في انتخاب البابا يوحنا 23 المسن وضعيف الصحة – ما يقلق لكونه معتدلا يمسك العصا من الوسط بين تيارين متباعدَين. إلا أن التيار الأوّل فوجئ بالبابا الجديد. فهو وإن كان ظاهريا يبدو لا أباليًا طيّب المعشر محبًا للناس، إلا أن شخصيّته في الحقيقة أخفت رجلا ذا حنكة وإصرار، مارس لربع قرن دبلوماسية بارعة. إذ كان سفير الكرسي الرسولي في مناطق حسّاسة كبلغاريا وتركيا التي فيها تعرّف، عن كثب، على بطريرك القسطنطينية المسكوني أثيناغوراس. لذا منذ اللحظات الأولى توجّه نحو تقريب مختلف المذاهب المسيحية، كما كسب قلوب حكومات عدّة، بحيث طلبه الجنرال ديغول سفيرًا في باريس، فقد كان يفهم ويحترم فصل الدين عن الدولة. لكن أشدّ ما بقي هو خدماته الخيرية والإنسانية إبان محرقة اليهود، فساعد الهاربين من النازية، مما أثار الإعجاب بضخامة ما حققه في تلك السنوات السود. كما استطاع أن يقنع ديغول بالتخلي عن فكرة إقالة 30 أسقفا فرنسيًا ممّّن تعاونوا مع الإحتلال الألماني، وبذلك أطفأ خطر انقسام الكنيسة الفرنسية وتجنّب جرح البابا بيوس 12، وسيقوم رونكالي بحذاقة بالدفاع عن تيّارات تقدمية جريئة كانت تغلي في كنيسة فرنسا. فكان رجلا ناقدًا حاد البصيرة يعمل بخفاء وعمق بعيدًا عن الأضواء، لكنّه متمسّك بالنظام والإلتزام، لا يتردد في إنتقاد من يستحق ذلك. فهو إبن فلاحين من برغامو (مقاطعة لومبارديا) يتحلى ببساطة إنجيلية وحسّ بالفقراء والمرضى مما جعله يكسب قلوب الإيطاليين ثمّ العالم، فلم يُضع لحظة واحدة حالما عهدت إليه السلطة، فأصدر في عام 1959 رسالته الحبرية الأولى داعيًا الكنيسة إلى فتح الحوار المسكوني، وإقامة شركة تامّة، فأسس في عام 1960 سكرتارية حبرية لوحدة المسيحيين.

لكنّ أهم قرار إتخذه كان بعد أقل من 3 أشهر من انتخابه، ففي ك2 عام 1959 دعا إلى عقد مجمع فاتيكاني، وهو ليس مجرّد اجتماع عادي إذ لم ينعقد منه قبلئذ سوى 20 مجمعًا. والذي سبقه كان في عام 1869، وتميّز برفض قاس للعالم المعاصر، نبع منه تيارات متشدّدة زجّت الكنيسة في طرق مسدودة. أراد البابا يوحنا مجمعًا إيجابيًا لا يحكم ولا يدين، بل يوضح الكنيسة ويصالحها مع العالم، فأطلق شعاره الشهير في كلمة إيطالية aggiornamento أي “تحديث من أجل اليوم”.

الأب الدكتور يوسف
توما، رئيس تحرير
مجلة الفكر المسيحي

عَرف البابا يوحنا بنظرة ثاقبة أن مجمعًا شاملا للكنيسة الكاثوليكية، سينقذها من هيمنة جناحها اليميني المتشدّد الذي بقي يُحكِم القبضة على السلطة، فكان أغلبهم من إيطاليا وإسبانيا وأمريكا وبولونيا، ويعترضون على أي إصلاح، لكنّه رأى بين مجموع أساقفة الـ 2427 (من مجموع 3070 من المدعوين) كتلة قويّة من كنائس محلية من دول العالم الثالث، وضعهم في مواجهة الكنائس الأوربية، إذ بدأت تتحرّر من وصايتهم وهيمنتهم لأنها ظلت ذات عقلية إستعمارية. فأقيمَت اللجان وأعطي المفكرون واللاهوتيون والخبراء مكانة، وأرجع موظفو المكاتب الرومانية إلى الظل كي لا يضعوا العقبات. وبتاريخ 15/6/1961 نضجت الأمور، فأصدر البابا رسالته الحبرية الكنيسة “أم ومعلّمة” بيّن فيها أن السلام والمحبة لا يتحققان بلا عدالة، فأدرج بذلك مفهومًا جديدًا هو التنمية، الذي كان قد أصبح غريبًا عن لغة الكنيسة. وفي ت أوّل 1962 أفتُتح المجمع الفاتيكاني الثاني في كنيسة القديس بطرس، في فترة حرجة، تزامنت مع أزمة كوبا التي كادت تتحول إلى حرب بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لولا تدخل البابا الشخصي.

لم يعش البابا يوحنا 23 ليرى خاتمة المجمع إذ توفي على أثر جلطة قلبية في 3 حزيران 1963، مرهقا بأسلوب عيش فرضه على نفسه. فكان موته المبكر بمثابة نهاية ربيع سلام في العالم، إذ أغتيل الرئيس الأمريكي جون كندي بعد 5 أشهر، وطرد الزعيم الروسي نيكيتا خروشوف من المكتب السياسي بعد 15 شهرًا. ولدى اختتام المجمع في ك1 عام 1965، أطلق الزعيم الصيني (ماو تسي تونغ) “الثورة الثقافية” التي زعزعت البلاد وأدّت إلى موت ما يقارب 100 مليون نسمة! وأرسل الرئيس الأمريكي جونسون قواته ليبدأ حرب فيتنام.

لكن برغم تلبد كلّ تلك الغيوم، كان البابا يوحنا قد أرسى أسس مؤسسة كنسيّة جديدة، وزرع في تشققاتها بذورًا تبشّر بحصاد أزمنة أفضل. فلدى وفاته كانت الكنائس المحلية قد أخذت مكانتها، وألغِي استعمال اللغة اللاتينية القديمة، وأعيد النظر في علاقات الكنيسة مع باقي الأديان وخصوصًا اليهوديّة. وبتأثير منه أنتُخِب البولوني كارول فويتيوا كردينالا (سيصبح البابا يوحنا بولس الثاني)، ولم تكن بولونيا تريده بسبب تفتحه ودعوته إلى رفع الحرم عن المنخرطين في الحزب الشيوعي. إنفتح البحث الكتابي والتفسير اللاهوتي، وقبلت أفكار علمية جديدة حتى مع تيارات الإلحاد، وأطلق المجال للحركات العَلمانية أن تخدم العدل والسلام.

سيأخذ مسار البابا يوحنا 20 عامًا كي يستقر، لكن أحدًا لم يكن يحلم في عام 1958 بإمكانية كلّ هذا التغيير الكبير، فهي اليوم تعدّ أعظم ثورة في تاريخ الكنيسة على الإطلاق، إذ توضَّح هدفُها ووضعت نفسها في طريق الدفاع عن الإنسان فقط، وجاء خَلَفُه البابا بولس السادس ليكمل الشوط، وفتح ملف تطويب البابا يوحنا 23 بضغوط شعبيّة قوية منذ عام 1968، لكنّ الملف ضاع في رمال البيروقراطية، ولم يعد ليرَ النور إلا مع حبريّة البابا يوحنا بولس الثاني، فطوّبه في عام 1999 مع البابا بيوس التاسع، وما زال الكثيرون ينتظرون إعلانه قديسا، ذاك الرجل الذي صالح الكنيسة مع العالم، وكان كشهاب لمع في السماء علامة رجاء بأن الروح القدس ما يزال يعمل.

عن موقع ابونا