البابا يوحنا بولس الثاني في ميزان التاريخ

بقلم: نيافة الأنبا مكاريوس توفيق

مطران إيبارشية الإسماعيلية
سوف يسجّل تاريخ الكنيسة، بل تاريخ الإنسانية ، بأحرف من نور ومداد من مشاعر الانبهار والتقدير والإعجاب، أن قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني هو من أحد أعظم البابوات، بل أحد أعظم القادة والرؤساء الذين غيّروا مجرى التاريخ الإنساني، وعملوا على إرساء أسس عالم أفضل.. عالم المحبة والتضامن والسلام المبني على العدل واحترام حقوق الإنسان وكرامته، وحقه في الحياة والحرية. فقد عمل على ضرورة احترام الآخر بالحوار وتطهير الذاكرة من مرارات الماضي وأحقاده، كما قاد حوار الأديان ودعا ممثلي وقادة الأديان إلى الصلاة من أجل السلام، كما نادى بحوار الحضارات وتكاملها سبيلاً إلى السلام والوئام.
وقد تمكّن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني- على الصعيد الكنسي- من قيادة الكنيسة الجامعة بكل إيمان وثقة في العناية الإلهية، وبكل حكمة وفطنة وحسن تدبير، وقام بعديد من المبادرات المسكونية المبتكرة والفاعلة من أجل الوحدة المسيحية والمصالحة بين الكنائس. كما قام قداسة البابا بمبادرات راعوية لا تُحصى وعلى مستويات متعددة: من كتابة عشرات الرسائل البابوية، وآلاف العظات والخطب في الجموع الحاشدة من مختلف الأعمار والأجناس، ولم ينتظر قدوم المؤمنين إليه بل ذهب للقاء البعيدين والمهمشين والفقراء والمضطهدين، والشباب التائه في بيداء الحياة المعاصرة… والباحث عن السراب في وسائل الترفيه والتكنولوجيا والإعلام السائد. كان لقداسة البابا الراحل شخصية فذة وساحرة. لقد جمع بين قوة القداسة وعمق التواضع والبساطة، بين قوة العزيمة والصبر على الآلام وبين حنان الأبوة ورعاية الأم، بين حكمة الشيوخ وانطلاق الشباب وقد بلغت به العزيمة ونكران الذات إلى حد تجاهل آلامه ومشكلاته الصحية الكبيرة! لقد صار كالقديس بولس الرسول “كلاً للكل، حتى ربح الكل…”
قام قداسته بمائة وأربع رحلات راعوية خارج إيطاليا، زار خلالها 129 دولة، وحقق نجاحات عظيمة سواء بين المؤمنين الكاثوليك وغير الكاثوليك، أو على مستوى الحكومات والشعوب غير المسيحية. ولقد أطلقت عليه وسائل الإعلام في أمريكا اللاتينية “رياضي الرب” و “رحالة الإنجيل” حيث قضى خارج الفاتيكان نحو ألف يوم. وأشهر رحلاته هي التي قام بها للاحتفال “بيوم الشباب العالمي” في قارات العالم المختلفة. حيث كان يلتقي بملايين الشباب القادمين من كل أصقاع الأرض. وقد ألقى قداسة البابا مثلث الرحمات نحو عشرة آلاف خطبة وعظة، وأصدر 20 رسالة بابوية عامة فضلاً، عن مئات الرسائل في المناسبات الطقسية والرسولية، وأشرف على إصدار مجلدات القانون الكنسي- الغربي والشرقي، وإصدار مجلد “التعليم المسيحي” للكنيسة الكاثوليكية.
ودعا إلى عقد سينودس الأساقفة لدراسة شتى القضايا: الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، ومشكلة العنصرية، والقضايا البيئية، والثورات الشعبية، وصولاً إلى معالجة قضايا التنمية وديون العالم الثالث والأمن ونزع السلاح. كما دافع قداسة البابا الراحل دفاع الأبطال عن وحدة العائلة وقدسية حياتها ورسالتها، وعن الحق في الحياة للجنين والشيخ والمريض. التقى قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بأكثر من ستمائة من رؤساء الدول والزعماء وقادة الكنائس، وتوصلت الكنيسة الجامعة بقيادته وتوجيهاته إلى اتفاقات رسمية وغير رسمية، عقائدية وراعوية، مع كل من الكنائس اليونانية الأرثوذكسية، والكنائس الشرقية غير الخلقيدونية (السريانية، والقبطية)، والكنيسة الأشورية بالعراق- والكنائس الأنجليكانية، والإنجيلية تدعيماً للوحدة الإيمانية والمحبة الأخوية.
ساهم قداسة البابا الراحل في إخماد الحرب الأهلية اللبنانية بعد خمسة عشر عاماً من الخراب والدمار. وفي سبيل تدعيم السلام وعودة الوئام بين طوائف لبنان- رتّب عقد سينودس خاص عام 1994 من أجل لبنان، وأصرّ على أن يحضره ممثلون عن الطوائف الإسلامية اللبنانية- ليس بصفة مراقبين فقط، ولكن بصفة مشاركين. وقد كانت هذه الدعوة سابقة في تاريخ اجتماعات السينودس، بما فيها الدورة التي عُقدت من أجل قارة آسيا، أو تلك التي عُقدت من أجل أفريقيا. كما ساهم قداسة البابا الراحل تحرير وطنه وكل بلاد أوروبا الشرقية، التي كانت ترزح تحت نير الحكومات الشيوعية، وتحرير الكنائس والمؤمنين بالتالي من قيود واضطهادات الحكم الشمولي الاستبدادي.
كان البابا يوحنا بولس الثاني أول بابا يزور كنيساً يهودياً. فقد زار الكنيس اليهودي في روما سنة 1986، وقدّم الاعتذار عن اضطهاد أوربا لليهود. وأول بابا يزور مسجداً إسلامياً خلال رحلته إلى دمشق (سنة 2000) هو المسجد الأموي الذي كان كاتدرائية من قبل. وأول بابا يوافق على بناء مسجد في روما استجابة لطلب سفارات الدول الإسلامية. كما كان أول بابا يدعو ويرأس اللقاءات الدولية للحوار بين الأديان والعقائد المختلفة في كل العالم، ويدعو ممثلي هذه الأديان والعقائد إلى الصلاة من أجل السلام في مدينة أسيزي- بلد القديس فرنسيس الأسيزي.
قد كان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني قدوة في المحبة والقداسة، رائداً في الدعوة إلى الحوار البنّاء والمصالحة والسلام. كان إنسان الصلاة والصمت والتأمل العميق والإصغاء إلى إلهامات الروح القدس، والتجاوب معها. لذا فسوف يظل على مدى الأجيال شمعة مضيئة بل منارة تضيء للكنيسة وللعالم، وقد تمجّد الله في حياته كما تمجّد في مماته.
باركنا الله بصلواته وأعاننا على اقتفاء آثاره.
عن مجلة صديق الكاهن