الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس

الثالوث الأقدس
المطران كيرلس سليم بسترس

مقدّمة
قانون الإيمان
الباب الأول الثالوث الأقدس
الفصل الأول: الثالوث الأقدس في الكتاب المقدس
أولاً- تهيئة وحي الثالوث الأقدس في العهد القديم
1- علاقة الله الآب بالإنسان
2- علاقة الله بالإنسان بكلمته وحكمته
3- روح الله في العهد القديم
خلاصة.
ثانيًا- الثالوث الأقدس في العهد الجديد
توطئة: منهجيّة البحث في الثالوث الأقدس في العهد الجديد
1- الآب والابن
2- الآب والابن والروح القدس
3- الروح القدس في الكنيسة
4- الحياة بالروح
خلاصة
الفصل الثاني: الثالوث الأقدس في تعاليم الآباء والمجامع المسكونيّة
أوّلاً- في القرنين الأول والثاني
1- الثالوث الأقدس في سري المعمودية والإفخارستيّا
2- الثالوث الأقدس في تعليم الآباء
ثانيًا- في القرن الثالث
1- البدع الثالوثيّة: بين الشكلانيّة والتبعيّة
2- اللاهوت الناشئ
ثالثًا- من القرن الرابع حتى القرن الثامن
1- الآباء الشرقيّون في القرن الرابع
2- القديس أوغسطينوس
3- القديس يوحنا الدمشقي
4- المجامع المسكونيّة
رابعًا- معضلة انبثاق الروح القدس
1- في العهد الجديد
2- آباء الكنيسة
3- إضافة “والابن” على قانون الإيمان
4- فوتيوس
5- المعضلة اليوم
الفصل الثالث: الثالوث الأقدس في اللاهوت المعاصر
1- كارل راهنر
2- مولتمن
3- هانس كونج
الفصل الرابع: الثالوث الأقدس في واقع حياتنا المسيحيّة
أولاً- “الروح القدس الناطق بالأنبياء”
1- الروح القدس والأنبياء
2- الروح القدس ويسوع
3- الروح القدس بنطق بالوجود المسيحي على مدى الزمن
ثانيًا- بالروح القدس يكتمل وحي الثالوث الأقدس
1- الروح القدس هو حضور الله نفسه في الكون
2- مصدر عقيدة الثالوث الأقدس في المسيحيّة: الله كما ظهر لنا
3- عقيدة الثالوث الأقدس تعريف بالله وبالإنسان
4- سموّ الله وتعاليمه في عقيدة الثالوث الأقدس
الباب الثاني النعمة والتألُّه
الفصل الأول: النعمة في الكتاب المقدّس
القسم الأول: العهد القديم
أوّلاً- الألفاظ المستعملة للتعبير عن النعمة
1- (حِين)
2- (حيسيد)
3- (ريحيم)
ثانيًا- بعض الرموز المستعملة في العهد القديم للتعبير عن علاقة الله بالإنسان
1- رمز الزواج
2- رمز الأب
3- رمز الراعي
4- رمز الطبيب الشافي
5- رمز الكرمة
6- رمز محبة الأم لأولادها
ثالثاً: لاهوت النعمة في العهد القديم
1- قصد الله
2- الدعوة والاختيار والعهد
3- قداسة الله في قداسة الإنسان
4- المجد حضور الله في الإنسان
القسم الثاني: النعمة في العهد الجديد
أوّلاً- الأناجيل الإزائيّة
1- موقف الله من الإنسان
2- موقف الإنسان
ثانيًا- أعمال الرسل
1- التوبة
2- الإيمان
3- قوة الله ونعمة كلمته
4- الخلاص ومغفرة الخطايا
5- موهبة الروح القدس
6- لفظة النعمة في إنجيل لوقا وأعمال الرسل
ثالثًا- النعمة في رسائل بولس الرسول
رابعًا- النعمة في كتابات يوحنا الإنجيلي
الفصل الثاني: النعمة في كتابات آباء الكنيسة
أوّلاً- آباء الكنيسة الشرقيّة
ثانيًا- آباء الكنيسة اللاتينيّة
الفصل الثالث: البروتستنتيّة والمجمع التريدنتينيّ
أوّلاً- النعمة في لاهوت الإصلاح البروتسننتيّ
ثانيًا- المجمع التريدنتينيّ
ثالثًا- ماذا بقي اليوم من هذا النقاش بين الكاثوليك والبرونستنت؟
رابعًا- النعمة المقدِّسة والنعمة الحاليّة
الفصل الرابع: النعمة في اللاهوت المعاصر
1- النعمة حضور الله نفسه
2- النعمة لقاء بين حرّيّة الله وحرّيّة الإنسان
3- النعمة “تجلّي” الله
4- النعمة في حياة المسيحيّ اليوميّة
الباب الثالث الكنيسة
الفصل الأول: نشأة الكنيسة
أوّلاً- شعب الله في العهد القديم
1- مراحل تكوين شعب الله
2- ملكوت الله في العهد القديم
ثانيًا- الكنيسة في العهد الجديد
1- نشأة الكنيسة وارتباطها بمجيء المسيح وتبشيره بالملكوت
2- نشأة الكنيسة بموت يسوع على الصليب
3- نشأة الكنيسة بقيامة يسوع وإرساله الروح القدس على تلاميذه
4- خلاصة
الفصل الثاني: التعريف بالكنيسة
أوّلاً- الكنيسة شعب الله
1- شعب واحد في المسيح
2- تكوين شعب الله وامتداده في التاريخ
ثانيًا- الكنيسة أسرة روحيّة يشترك أعضاؤها معًا في حياة الله
1- الأسرة الروحيّة: الكنيسة أمّ والمسيحيّون إخوة
2- الكنيسة مؤسَّسة فيها خِدَم متنوعة
3- الأخوّة المسيحيّة حقيقة روحيّة تتخطى الأخوّة البشريّة
ثالثًا- الكنيسة جسد المسيح
1- غاية التجسّد تأليه الإنسان
2- الكنيسة جسد المسيح
الفصل الثالث: علامات الكنيسة
أولاً- الكنيسة واحدة
1- وحدة الكنيسة من وحدة الآب: جميع أعضاء الكنيسة هم أبناء الله
2- وحدة الكنيسة مع المسيح الواحد
3- وحدة الكنيسة من الروح القدس الواحد الذي يحييها
4- الكنيسة واحدة على صورة الثالوث الأقدس
5- المحبة ضمان وحدة الكنيسة
ثانيًا- الكنيسة جامعة (كاثوليكيّة)
1- المسيح أساس جامعيّة الكنيسة
2- الكنيسة سرّ الخلاص الشامل
ثالثًا- الكنيسة مقدّسة
1- قداسة الكنيسة من قداسة الله
2- الكنيسة والخطيئة
رابعًا- الكنيسة رسوليّة
1- الرسل
2- الخلافة الرسوليّة
3- الكنيسة الجامعة والكنائس المحليّة
الفصل الرابع: عصمة الكنيسة
1- أساس ثبات الكنيسة في الحقّ
2- عصمة الكنيسة في إعلانها عقائد الإيمان
3- نظرة معاصرة إلى عصمة الكنيسة
4- خلاصة

مقدمة
إنّ ما كان من البدء،
ما سمعناه، وما رأينا بأعيننا،
وما تأملناه، وما لمسته أيدينا في شأن كلمة الحياة،
– لأن الحياة قد ظهرت،
لقد رأيناها، ونشهد لها،
ونبشّركم بهذه الحياة الأبدية
التي كانت لدى الآب وظهرت لنا-
إنّ ما رأيناه وسمعناه،
به نبشّركم أنتم أيضاً،
لتكون لكم، أنتم أيضاً، شركة معنا.
وشركتنا نحن، إنّما هي مع الآب،
ومع يسوع المسيح ابنه.
ونكتب لكم بهذه الأمور،
ليكون فرحنا كاملاً” (1 يو 1: 1- 4).
لم نجد أروع من هذه الكلمات لتقديم الجزء الثاني من مجموعتنا: “اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر”.
لقد بحثنا في الجزء الأوّل في الله “الآب الضابط الكل، خالق السماوات والأرض”، الذي ظهر لنا في ملء الأزمنة في كلمته وابنه يسوع المسيح. فني المسيح رأينا الحياة الإلهية، وسمعناها ولمستهاَ أيدينا.
إلاّ أنّ الله لم يظهر في شخص ابنه يسوع المسيح إلاّ ليشركنا في حياته الإلهية. وهذه الشركة يحققها هو نفسه بواسطة روحه القدوس.
إنّ المسيح، بعدما صعد إلى الآب، أرسل إلينا من لدنه الروح القدس، الذي به يبقى معنا حتى انقضاء الدهر، وبه يؤلّه الإنسان ويكوّن الكنيسة.
هذا هو موضوع الجزء الثاني من مجموعتنا. وقد قسّمناه إلى ثلاثة أبواب: الثالوث، الأقدس، النعمة والتألّه، الكنيسة.
تعالج بعض كتب اللاهوت موضوع الثالوث الأقدس حالاً بعد موضوع الله الخالق، وقبل موضوع المسيح ابن الله،
نرى أن هذا الأسلوب غير ملائم. لأنّ الثالوث الأقدس لم يعتلن في ملئه إلاّ بعد صعود يسوع إلى السماء وحلول الروح القدس على التلاميذ. وإذّاك بدأت الكنيسة تعمّد باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19).
لذلك آثرنا، في عرضنا للاهوت المسيحي، اتّباع طريقة التدبير الخلاصيّ نفسه: فالآب أرسل إلى العالم الابن (وهذا ما عالجناه في الجزء الأوّل: الله الآب- ثم يسوع المسيح ابن الله).
ثم إنّ الابن أرسل إلى العالم الروح القدس من لدن الآب. فاعتلن إذّاك للعالم سرالثالوث الأقدس. وهذا ما نبدأ به الجزء الثاني (الباب الأول: الثالوث الأقدس).
اما الباب الثاني، وهو النعمة والتألّه، فيوضح نتيجة عمل الثالوث الأقدس في الإنسان: فالله يرسل إلينا روحه القدوس ليؤلّهنا، أي ليشركنا بحياته الإلهية: “إنّ شركتنا هي مع الآب ومع يسوع ابنه”
والباب الثالث، الكنيسة، يبيّن امتداد عمل التألّه هذا إلى شعب الله بأجمعه: “نبشّركم بهذه الحياة كون لكم، أنتم أيضاً، شركة معنا”.
من هنا يبدو لنا أن ديانتنا المسيحية تتّسم ببعض مميّزات حاولنا ابرازها في عرضنا لمختلف أقسام اللاهوت المسيحي، ونوجزها في النقاط التالية:
1- ديانتنا المسيحية هي ديانة تاريخية: إنّها تعبّر عن ظهور الله في التاريخ في شخص ابنه يسوع المسيح وروحه القدوس. لذلك لا ينطلق اللاهوت من تنظيرات عقلية، بل من خبرة إيمان، اختبر فيها الناس ظهور الله نفسه في تاريخهم وحياتهم.
2- ديانتنا المسيحية هي ديانة تسبيح لعظائم الله تجاه الإنسان. فهي لا تستند إلى ما يصنعه الإنسان تجاه الله، بل إلى ما صنعه الله تجاه الإنسان. فالمبادرة تأتي من الله. فهو الذي أحبّنا أوّلاً: أحبّنا وخلقنا، أحبّنا وأرسل إلينا ابنه الوحيد، أحبّنا وأرسل إلينا روحه القدوس. يقول القديس يوحنا الإنجيلي: “على هذا تقوم المحبة: لا أنّا نحن أحببنا الله، بل هو نفسه أحبّنا، وأرسل ابنه كفّارة عن خطايانا” (1 يو 4: 10).
3- ديانتنا المسيحية هي ديانة التألّه: وهذا ما ردّده آباء الكنيسة منذ القرون الأولى: “لقد صار الله إنسانًا لكي يصير الإنسان إلهًا”. ان الروح القدس، الذي هو روح الآب وروح الابن، يمكث فينا ليجعلنا على صورة الابن.
وفكرة التألّه هذه هي الخيط الذهبيّ الذي نسج منه الفكر المسيحي لاهوته عبر القرون. ونرجو أن ترافق القارئ في قراءته كل صفحة من صفحات هذا الكتاب.
فالله لا يني يدعو الإنسان إليه. وبين كلفة الله وجواب الإنسان، يقف الروح القدس الذي يأخذ من المسيح الكلمة ليبلّغنا إيّاها في أعاق قلوبنا، عاملاً فينا على تأليه البشرية والكون أجمع.
وتلك الكلمة، “كلمة الحق”، ينطق بها على الدوام روح الحق ويدعوها “الكنيسة”. الكنيسة مكوّنة من أناس خطأة، ولكنّها تحمل في ثناياها المسيح الإله وروحه القدوس. لذلك هي الهية ومقدسة.
4- ديانتنا المسيحية هي ديانة إلهيّة وإنسانيّة معًا: ديانتنا هي ديانة الإله المتجسّد. لقد حرمت المجامع المسكونية الازدواجيِّة النسطوريّة التي ترى في المسيح شخصين، شخصاً إلهيًا وشخصاً إنسانيًا، متّحدين اتحادًا عّرضياً. كما حرمت بدعة الطبيعة الواحدة التي تتلاشى فيها الطبيعة الإنسانية لصالح الطبيعة الإلهية، وبدعة المشيئة الواحدة التي تزول فيها المشيئة الإنسانية لصالح المشيئة الإلهية.
إنّ هذا التوازن بين العنصر الإلهي والعنصر الإنساني يجب أن يشمل كل المواضيع اللاهوتية، ولا سيّمَا موضوعي النعمة والكنيسة. فسنبيّن، في موضوع النعمة، أن العمل البشري، في النظرة المسيحية، هو بكامله عمل الله وبكامله عمل حرية الإنسان. وكذلك الكنيسة هي في آنٍ معًا هبة الله للبشر ومؤسسة إنسانيّة؟ هي الاتحاد غير المنظور لله مع البشر، وهي أيضاً البنى الخارجية من أسار ورتب وصلوات ووظائف خدمة، هي حضور المسيح فيها، وهي أيضاً القربان الذي يكرّسه الأساقفة والكهنة وسط شعبهم.
5- ديانتنا المسيحية ديانة منفتحة على الفكر المعاصر:
من الاتزان الضروري بين العنصرين الإلهي والإنساني تنتج ميزة أخيرة حاولنا أخذها بعين الاعتبار. ألا وهي أن اللاهوت يجب أن يكون في آنٍ معًا متمسّكًا بالوحي الإلهي وبالتقليد الكتابي والكنسي العريق ومنفتحاً على تطور الفكر البشري عبر القرون.
اللاهوت علم يحاول التعبير بكلام بشري عن حقيقة الله وعلاقته بالإنسان. والكلام البشري يخضع حتمًا لتطوّر البيئة الحضارية التي ينشأ فيها. لذلك كان لا بدّ لنا من أن نعرض لنظرة اللاهوت المعاصر في مختلف المواضيع التي عالجناها. ان التعدّديّة اللاهوتية أصبحت اليوم أمراً طبيعياً لدى جميع الكنائس. وانفتاح الكنائس المسيحية بعضها على بعض يحتّم علينا الانفتاح، ليس على التيارات اللاهوتية الكاثوليكية وحسب، بل أيضاً على التيارات اللاهوتية الأرثوذكسية والبروتستنتية.
ان الانفتاح لا يعني مطلقًا القبول بكل شيء دون روح نقدية. لا شكّ في أنّ اختيارنا لبعض اللاهوتيين المعاصرين قد يُستشفّ منه تحبيذ لآرائهم وتوجهاتهم اللاهوتيّة. نودّ تنبيه القارئ الكريم إلى أنّ هذا الاختيار لا يعني حتماً تبنّياً من قبلنا لكلّ الآراء التي نوردها. فهناك آراء متناقضة نعرضها جنباً إلى جنب. وما التناقض الظاهر في معظم الأحيان الا نظرة إلى الموضوع من ناحية خاصة. لذلك ندعو القارئ إلى قراءة هذه الفصول بروح منفتحة ومسؤولة في آنٍ معاً.
إنّ وحي الله قد أتى إلينا في شخصِ إنسان، وفي كلام إنسان. والكلام البشري الذي ننطق به في اللاهوت يجب أن يتطوّر وفقاً لتطور الإنسان وحضارته، وذلك في سبيل التعبير تعبيراً ملائماً عن حقيقة الله التي لا يمكن أيّ عقل بشري أن يدرك غور أبعادها.
وأخيرًا نودّ أن نلفت انتباه القرّاء إلى أن الجزء الأول من مجموعتنا يعالج القسمين الأول والثاني من قانون الإيمان، أي من البداية “نؤمن بإله واحد…” حتى “… الذي لا فناء لملكه”.
أما هذا الجزء الثاني فيعالج القسمين الثالث والرابع، أي من “وبالروح القدس…” حتى “مقدسة، رسولية”.
أما الجزء الثالث فسيتضمّن القسمين الأخيرين ويبحث في المعمودية وسائر الأسرار وفي “قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي”.
الأب سليم بسترس
قانون الإيمان
وُضع هذا القانون في المجمع المسكوني الثاني المنعقد في القسطنطينية سنة 381. وهو يعيد، في قسمه الأول حتى عبارة “وبالروح القدس”، قانون الإيمان الذي أعلنه المجمع المسكوني الأول المنعقد في نيقية سنة 325
نؤمن بإله واحد، آبٍ ضابطِ الكل، خالقِ السماءَ والأرض، كلِّ ما يُرى وما لا يُرى.
وبربّ واحد يسوع المسيح، ابنِ اللهِ الوحيد، المولودِ من الآب قبلَ كلِّ الدهور، نورٍ من نور، إلهٍ حق من إلهٍ حق، مولودٍ غر مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كلُّ شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء ونأنّس، وصُلب عنا عل عهد بيلاطسَ البنطيّ، ونألّم وقُبِر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلسَ عن يمين الآب، وأيضاً يأتي بمجدٍ عظيم ليدين الأحياءَ والأموات، الذي لا فناء لمُلكه.
وبالروح القدُس، الربِّ المحيي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ له وممجّد، الناطقِ بالأنبياء.
وبكنيسةٍ واحدة، جامعة، مقدَّسة، رسوليّة.
ونعترف بمعموديةٍ واحدة لمغفِرة الخطايا.
ونترجّى قيامةَ الموتى، والحياةَ في الدهر الآتي. آمين.
الباب الأول الثالوث الأقدس
“وبالروح القدس الرب المحيي، “المنبثق من الآب” “الذي هو مع الآب والابن “مسجود له وممجّد “الناطق بالأنبياء”.
كل مسيحي يعرف اليوم أن الإله الذي يؤمن به هو “إله واحد في ثلاثة أقانيم”. ويبدأ معظم صلواته ” باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد آمين”. تلك هي العقيدة المسيحية الأساسية، التي بدونها لا وجود لمسيحيّة متميّزة عن سائر الديانات. وفي تلك العقيدة موجز للإيمان المسيحيّ الذي به يتميّز المسيحيّون عن غيرهم من المؤمنين بالله.
فمن أين أتت تلك العقيدة؟ وعلى أيّ أسس يرتكز هذا الإيمان؟ كيف نشأت تلك العقيدة، وكيف تطوّرت في الفكر المسيحيّ منذ القرون الأولى للمسيحيّة، وماذا تعني اليوم للإنسان المعاصر؟ هذا ما سنحاول بحثه في ثلاثة أقسام:
الثالوث الأقدس في الكتاب المقدس،
الثالوث الأقدس في تاريخ المجامع المسكونيّة والفكر المسيحيّ على مدى العصور،
وأخيرًا لثالوث الأقدس في الفكر اللاهوتيّ المعاصر.
الفصل الأول الثالوث الأقدس
في الكتاب المقدس
إنّ وحي الثالوث الأقدس قد أتى إلينا عبر تاريخ الخلاص الذي بلغ كماله في شخص يسوع المسيح. فعقيدة الثالوث ليست حصيلة تفكير بشريّ نظريّ عن الله، ولا نتيجة تطوّر ديني بدأ في ديانات الشرق القديم. بل هي تعبير لاهوتي لسرّ الله الذي ظهر لنا ظهوراً خلاصيّاً في شخص يسوع المسيح. فالمسيح قد أتى إلينا باس الله حاملاً إلينا خلاص الله، ومن بعد قيامته أرسل إلينا روح الله. هكذا أوحى لنا الله بذاته آبًا يرسل إلى العالم ابنه المخلّص وروحه القدّوس. لذلك سيكون محور بحثنا وحي الله بذاته في العهد الجديد.
ولكن قبل ذلك سنتساءل: بمَا أنّ تاريخ الخلاص قد بدأ في العهد القديم، ألا يمكننا أن نجد وحي الثالوث الأقدس حتى في العهد القديم؟
أوّلاً- تهيئة وحي الثالوث الأقدس في العهد القديم
لا نجد في العهد القديم وحي الثالوث بشكل كامل، وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، لم يظهر ظهورًا كاملاً إلاّ في العهد الجديد في شخص يسوع المسيح. وكذلك الروح القدس لم يحلّ على التلاميذ وعلى كلّ إنسان إلا من بعد قيامة المسيح. ولكن ألا نجد في العهد القديم عناصر مختلفة هيّأت لهذا الوحي؟
لا بد، قبل المباشرة بالإجابة على هذا السؤال، من الإشارة إلى أنّ البحث في هذا الموضوع ما كان ممكنًا لو لم يبلغ الوحي بالثالوث كما له في العهد الجديد. فانطلاقًا ممّا أُوحي به إلينا في العهد الجديد، نستطيع أن نعود إلى العهد القديمِ لنرى فيه تهيئة هذا الوحي. وبمَا أنّ عقيدة الثالوث الأقدس في العهد الجديد مرتبطة ارتباطاً وثيقًا بعلاقة الله بالإنسان بواسطة الابن والروح القدس، فالبحث في تهيئة تلك العقيدة في العهد القديم لا بدّ له أن يتمحور حول تلك العلاقة ذاتها في نواحيها الثلاث.
1- علاقة الله الآب بالإنسان
عندما سأل أحد الكتبة يسوع: “أيّ وصية هي أولى الوصايا جميعًا؟”، أجابه يسوع: ” الأولى هي: اسمع، يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الرب الوحيد. فأحبب الرب إلهك بكلّ قلبك، وكل نفسك كلّ ذهنك؟ وكلّ قوّتك” (مر 12: 28- 30). تلك الوصية، التي نجدها في سفر تثنية الاشتراع (6: 5)، والتي كان على كل يهودي أن يتلوها كل يوم، توجز علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله. فالله هو الإله الوحيد الذي يجب أن يحبّه كلّ إنسان.
هذا الإله الوحيد هو الله الآب الذي يطلب يسوع أن يثق به الإنسان ويحبّه ويقتدي به: “أحبوا أعداءكم، وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات… فأنتم إذن، كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل” (متى 5: 44- 48).
يظهر الله الآب في العهد القديم في كلّ ما يقوله العهد القديم عن الله: الإله الواحد، والإله الخالق، والإله القدوس، والإله المخلّص، والإله الذي اختار شعبه ليقيم معه عهدًا منذ إبراهيم وإسحق ويعقوب حتى موسى وداود وسائر الأنبياء.
إلى جانب هذه التسميات التي يدعو بها العهد القديم الله، يمكن أن نضع تسمية “الأب”، كما نقرأ مثلاً في سفر أشعيا: “يا رب، أنت أبونا. نحن الطين وأنت جابلنا، ونحن جميعًا عمل يديك” (أش 64: 8). ففي هذه العبارة يدعى الله أبا، لأنه الخالق. وفي نصّ آخر يدعى الله أبًا لأنّه المخلّص والفادي: “أنت يا رب أبونا وفادينا، منذ الدهر اسمك” (أش 63: 16). وفي تثنية الاشتراع نجد علاقة بين تسمية الله “أبًا” وإيمان الشعب بأنّ الله هو الذي خلقهم واختارهم نصيبًا له: “أبهذا تكافئ الرب، أيها الشعب الأحمق الذي لا حكمة له؟ أليس أنه هو أبوك مالكك الذي فطرك وأبدعك؟ سل أباك ينبئك وأشياخك يحدّثوك، حين قسم العلي الأمم… لأنّ نصيب الرب شعبه، يعقوب حبل ميراثه… الصخر الذي ولدك تركته، والإله الذي أنشأك نسيته. فرأى الرب واغتاظ لما أغضبه بنوه وبناته” (تث 32: 6- 19).
وفي تلك الأبوّة يجد الأنبياء حافزًا لدعوة الشعب إلى القداسة: فإنّ دعوة سفر الأحبار: “كونوا قديسين، لأني أنا الربّ إلهكم قدوس” (أح 19: 2) تجد صداها في نبوءة إرميا مع ذكر أبوّة الله لشعبه: “ارجعي إليّ، يقول الرب، أما دعوتِني منذ ذلك الوقت: يا أبتِ، أنت مرشد صبائي… إرجعوا أيّها البنون المرتدّون، فأشفي ارتداداتكم” (إر 3: 1، 4، 19، 22). “يأتون باكين وأهديهم… لأنّي أب لاسرائيل، وأفرائيم بكر لي” (إر 31: 9). وفي ذلك يقول أيضاً النبي ملاخي: “الابن يكرم أباه، والعبد يكرم سيّده، فإن كنت أنا أبًا، فأين كرامتي، وإن كنت سيّدًا، فأين مهابتي؟” (ملا 1: 6). “أليس أب واحد لجميعنا؟ أليس الله واحد خلقنا؟ فلِمَ يغدر الواحد بأخيه مدنّسًا عهد آبائنا؟” (ملا 10:2).
وهوشع النبي يجمع بين محبة الأب وحنان الأم: “اذ كان اسرائيل صبيًّا أحببته، ومن مصر دعوت ابني… وأنا درّجت أفرائيم وحملتهم على ذراعيّ، لكنّهم لم يعلموا أني أنا أبرأتهم” (هو 11: 1- 2). وكذلك يقول أشعيا: “أتنسى المرأة مُرضَعها فلا ترحم ابن بطنها؟ لكن ولو أنّ هؤلاء نسين، لا أنساكِ أنا” (اش 49: 15).
ان الملك يدعى “ابن الله”، والله هو أب له بنوع خاصّ. فنقرأ في المزمور 88: “وجدت داود عبدي، بدهن قداستي مسحته… يدعوني: إنّك أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أجعله بكراً عليّا فوق ملوك الأرض” (مز 88: 21، 27- 28). وغي نبوّة ناتان لداود النبي، ترد أيضاً الفكرة ذاتها: “إذا تمّت أيّامك واضطجعتَ مع آبائك، وأقمتُ من يليك من نسلك الذي يخرج من صلبك، وأقررتُ ملكه، فهو يبني بيتًا لاسمي، وأنا أقرّ عرش ملكه إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا” (2 ملو 7: 12- 14). والمزمور الثاني يوضح تلك الأبوّة الخاصة ويؤكّدها: “قام ملوك الأرض والعظماء ائتمروا معا على الرب وعلى مسيحه… حينئذ يكلّمهم بسخطه وبغضبه يروّعهم: إنّي مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي، لأخبرنّ بحكم الرب. قال لي: أنت ابنى، أنا اليوم ولدتك. سلني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض ملكًا لك” (مز 2: 2- 8).
خلاصة القول أنّ هناك مقاطع عديدة من العهد القديم تدعو الله أبًا للشعب، وبنوع خاصّ للملك وللمسيح المنتظر، مظهرة محبة الله لأبنائه وداعية إياهم إلى الإيمان بتلك المحبة وإلى الجواب عليها بمحبة متبادلة وسيرة مقدّسة.
2- علاقة الله بالإنسان بكلمته وحكمته
إن علاقة الله بالإنسان تظهر في العهد القديم بنوع خاصّ في كلمته وحكمته وروحه. فكل ما قيل في العهد القديم عن كلمة الله وحكمته وجد تحقيقه في العهد الجديد في شخص يسوع المسيح. وكل ما قيل عن روح الله وجد تحقيقه في الروح القدس. لذلك يمكننا أن نرى في هذه المفاهيم تهيئة لظهور الابن والروح، الاقنوم الثاني والاقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.
ء) كلمة الله
الكلمة هي تعبير عن فكر الإنسان وتعبير عن إرادته. وفي حال غياب الإنسان تمثّل كلمته نوعًا من حضوره. هكذا كلمة الله في الكتاب المقدس هي حضور الله في وسط شعبه. ويتّسم هذا الحضور بثلاث سِمَات: فكلمة الله تكوّن الشعب، وتخلّصه، وتخلق الكون.
* إن الله، بكلمته، يكشف لشعبة. علاقته به وتصميمه تجاهه. فهو الذي اختار شعبه “ليكونوا له خاصة من جميع الشعوب”. وهذا ما أعلنه لموسى على جبل سيناء:
“وصعد موسى إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلاً: كذا نقول لآل يعقوب وتخبر بني إسرائيل. قد رأيتم ما صنعت بالمصريّين وكيف حملتكم على أجنحة النسور، وأتيت بكم إليّ. والآن إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون لي خاصة من جميع الشعوب، لأن جميع الأرض لي، وأنتم تكونون لي مملكة أحبار وشعبًا مقدّسًا” (خر 19: 3- 6).
وعلى جبل سيناء أوصى الله موسى أن يكتب “كلام العهد الكلمات العشر” (خر 34: 28)، أي وصايا الله العشر التي ستكون القاعدة والأساس لحياة الشعب وعلاقته بالله. فالشعب يكوّن وينشأ ويصير شعبًا مقدسًا لله بحفظه كلام الله. فكلمة الله هي إذن التي تخلق شعب الله، أي تجعل من جماعة من الناس شعب الله المقدس.
* ثم إن كلمة الله ترافق الشعب الذي خلقته لتقوده مدى تاريخه وتخلّصه. وذلك بواسطة الأنبياء الذين لا يتكلمون من ذواتهم بل ينقلون إلى الشعب كلام الله. فيقول أشعيا: “إستمعي أيتها السماوات، وأنصتي أيتها الأرض، فإنّ الربّ قد تكلّم” (أش 1: 2). ومعظم الأنبياء يبدأون نبوءاتهم بالعبارة التالية: “هكذا قال الرب” (عا 1: 3، 11؛ 2: 1؛ 3: 1). وكلمة الله هذه التي تُلقى إليهم تصير جزءًا منهم. وهذا ما يعبّر عنه إرميا وحزقيال بتعبير رمزيّ، “بأكل” كلمة الله. يقول إرميا:
“إن كلماتك قد بلغت إليّ، فأكلتُها، فكانت لي كلمتك سرورًا وفرحًا في قلبي، لأنّ اسمك ألقي عليّ، أيها الرب إله الجنود” (ار 15: 6).
ويسمع حزقيال صوت الله يقول له:
“يا ابن البشر، إني مرسلك إلى بني إسرائيل… فاسمع ما أكلّمك به… افتح فك وكُلْ ما أناولك”. ويناوله الله كتابًا فيأكله، “فيصير في فمه كالعسل” ثم “ينطلق ليكلّم الشعب بكلام الله” (راجع حز 2- 3).
وعندما تثقل كلمة الله على النبيّ لعدم إصغاء الناس إليها، يودّ ألاّ ينطق بها، بيد أنها “تصير في قلبه كنار محرقة” (ار 20: 9)، ولا يستطيع إلاّ أن يتكلّم بها.
ولكونها كلمة الله نفسه، فلا يمكن إلاّ أن تؤتي فعلها، حسب قول أشعيا:
“كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك، بل يروي الأرض، ويجعلها تنشئ وتنبت لتؤتي الزارع زرعًا والآكل طعامًا، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع إليّ فارغة، بل تتمّ ما شئت وتنجح في ما أرسلها له” (أش 55: 10- 12).
وكلمة الله هذه تقود الشعب وعليه وتخلّصه، وإن شعر النبيّ بضعفه وتردّده إزاء التبشير بها. فالله هو نفسه الذي يسهر على كلمته ليجريها. فعندما أعلن الله كلمته لإرميا النبيّ، خاف إرميا وقال لله: “هاءنذا لا أعرف أن أتكلّم لأني صبيّ، فقال له الرب: “لا تخف من وجوههم، فإنّي معدّ لإنقاذك”. ثم مدّ الرب يده ولمس فمه وقال له: “هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك. أنظر: إنّي أقمتك اليوم على الأمم وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس”. ثم قال له الرب: “ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟”، فقال: “إني راءٍ قضيبا ساهرًا”. فقال له الرب: ” قد أحسنت في ما رأيت، فإني ساهر على كلمتي لأجريها” (ار 1: 6- 12).
لذلك يرجو الشعب كلمة الله لأنها تخلّصهم: “أرسل كلمته فشفاهم ونجّاهم من مهالكهم” (مز 106: 20). وتؤكد المزامير بنوع خاصّ رجاء المؤمن بكلمة الله وحمده الله على كلمته: “أحمد الله على كلامه، أحمد الرب على كلامه” (مز 55: 11)، “ذابت نفسي شوقًا إلى خلاصك، إنّما رجوت كلمتك، كلّت عيناي من انتظار أقوالك، وأنا أقول متى تعزّيني” (مز 118: 81، 114، 147)
* انطلاقًا من كلمة الله التي تخلق الشعب وتخلّصه، توصلت أسفار العهد القديم الأحدث عهدًا إلى القول إنّ كلمة الله أيضاً التي خلقت الكون. ففيمَا تصف رواية الخلق الأقدم عهدًا أنّ الله جبل الإنسان من طين، تصف الرواية الأحدث أنّ الله خلق الكون والإنسان بكلمته: “وقال الله: ليكن نور، فكان نور…” (تك 1: 3- 26). ونجد هذا التعبير عن الخلق بالكلمة في المزامير والأسفار الحكمية: “بكلمة الرب صنعت السماوات، وبروح فيه كل جنودها” (مز 32: 6). “الرب صانع الجميع بكلمته” (حك 9: 1).
إن كلمة الله التي بها يكوّن الله شعبه ويرافقه ويخلّصه، والتي بها يخلق الكون، تشير في آن معًا إلى تسامي الله عن الكون والإنسان من جهة، وإلى حضوره في الكون وقربه من الإنسان من جهة أخرى. وكل ما قيل عن كلمة الله في العهد القديم سيرى العهد الجديد، ولا سيّمَا يوحنا الإنجيلي (يو 1: 1- 18)، تحقيقه تحقيقًا كاملاً في المسيح الذي هو كلمة الله المتجسّد.
ب) حكمة الله
هناك علاقة وثيقة بين كلمة الله وحكمة الله. فكلاهما تخلقان الكون وتكوّنان الإنسان وتقودانه وترشدانه إلى إرادة الله وإلى كل عمل مقدّس. هذا ما نقرأه في سفر الحكمة الذي يجمع بين كلمة الله وحكمته، فيقول:
“يا إله الآباء، يا ربّ الرحمة، يا صانع الجميع بكلمتك، وفاطر الإنسان بحكمتك، لكي يسود على الخلائق التي كوّنتها، ويسوس العالم بالقداسة والبرّ، ويجري الحكم باستقامة النفس، هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك… فإن كان في بني البشر أحد كامل ولم تكن معه الحكمة التي منك لا يُحسب شيئًا… فأرسلها من السماوات المقدسة وابعثها من عرش مجدك، حتى إذا حضرت تجدّ معي وأعلم ما المرضيّ لديك. فإنها تعلم وتفهم كلّ شيء، فتكون لي في أفعالي مرشداً فطينا وبعزّها تحفظني… نحن بالجهد نتمثّل ما على الأرض وبالكدّ ندرك ما بين أيدينا، فمَا في السماوات من اطّلع عليه، ومن علم مشورتك لو لم تؤتِ الحكمة وتبعث روحك القدوس من الأعالي، فإنه كذلك قوّمتَ سبل الذين على الأرض وتعلّم الناس مرضاتك. والحكمة هي التي خلّصت كلّ من أرضاك منذ البدء”. (حك 9: 1- 19).
تلك الحكمة تراها الأسفار المقدسة موجودة الله منذ الأزل:
“الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. من الأزل مُسحتُ من الأوّل قبل أن كانت الأرض. ولدتُ حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة المياه. قبل أن أقرّت الجبال وقبل التلال وُلدتُ. اذ كان لم يصنع الأرض بعد… كنت عنده مهندسًا… طوبى للإنسان الذي يسمع لي… فانه من وجدني وجد الحياة” (أم 8: 22- 36).
وهي، على مثال كلمة الله، قد خرجت من فم الله. “اني خرجت من فم العليّ بكرا قبل كل خليقة، وجعلت النور يشرق في السماوات على الدوام… قبل الدهر من الأوّل حازني، وإلى الأبد لا أزول” (سير 24: 5- 6، 14).
ان العهد الجديد سيرى في يسوع المسيح “حكمة الله” (1 كو 1: 24)، و”ضياء مجده وصورة جوهره وضابط كل شيء بكلمة قدرته” (عب 1: 3).
في العهد القديم كرز الأنباء بكلمة الله، وتكلّم سليمان بحكمة الله أمّا في العهد الجديد، فقد حضرت إلينا كلمة الله وحكمته في شخص يسوع المسيح:
“رجال نينوي سيقومون، في الدينونة، مع هذا الجيل، ويحكمون عليه، لأنهم تابوا بوعظ يونان، وههنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب ستقوم، في الدينونة، مع هذا الجيل، وتحكم عليه، لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وههنا أعظم من سليمان” (متى 12: 41- 42).
3- روح الله في العهد القديم
إنّ حضور الله في الكون والإنسان يتّخذ نوعًا آخر، إلى جانب حضوره بكلمته وحكمته، وهو حضوره بروحه. والروح، في العهد القديم، هو قدرة الله التي تظهر في الطبيعة وفي الإنسان، ولا سيّمَا في من يختارهم الله من ملوك وأنبياء وكهنة، على أن تشمل جميع الناس في الأزمنة الأخيرة.
ء) الريح
إنّ اللفظة العبرية للروح هي “رُوَح”، ترد 389 مرّة في العهد القديم، ولكنّها لا تعني فقط الروح القدس أو روح الله، بل أيضاً “الريح”، أي الهواء، أكان نسمة خفيفة أم ريحًا عاصفة. وتعني كذلك نَفَس الإنسان وروحه.
لقد اختبر الإنسان أوّلاً عمل الريح في الكون ونسبه إلى الله. ” فالله هو الذي أرسل الريح على الأرض لتتناقص المياه بعد الطوفان” (تك 8: 1)، وهو الذي جعل الرياح تهبّ لينزل المطر مع إيليّا النبيّ (3 ملوك 18: 45)، وهو الذي “ساق ريحًا شرقية على الأرض” حملت معها الجراد إلى مصر، ثم “ردّ ريحًا غربية شديدة جدًا فحملت الجراد وطرحته في بحر القُلْزُم” (تك 10: 13، 19). وكذلك عندما مدّ موسى يده على البحر، أرسل الرب ريحًا شرقية شديدة جفّفت البحر الأحمر ليمر فيه العبرانيون (تك 14: 21). والريح خاضعة لسلطة الله، على غرار جميع الكائنات، يستخدمها متى شاء: “هو الذي صنع الأزض بقوّته… بصوته يجمع غمار مياه في السماء، وينشئ السحب من أقصى الأرض، ويحدث البروق للمطر، ويبرز الرّيح من خزائنه” (إر 10: 13). “الشعب قد يبس وزهره قد سقط لأنّ ريح الرب هبّت فيه” (أش 40: 1)
ب) روح الإنسان
فالمعنى الأوّل للفظة “رُوَح” متعلّق إذًا بقوّة في الطبيعة تعطيها الحياة. والمعنى الثاني مرتبط بقوة في الإنسان تعطيه الحياة. فالرُوَح هي نَفَس الإنسان وروحه، نفخها الله ذاته في الإنسان، حسب رواية سفر التكوين: “وإنّ الرب الإله جبل الإنسان من تراب من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسًا حيّة” (تك 2: 7).
لهذا نرى أن الروح في العهد القديم أمر واقعيّ يمكن الإنسان، وإن لم يره، أن يشعر به ويدرك فاعليّته. فكما يشعر بعمل الريح في الطبيعة، كذلك يشعر بذاته كائنًا يتنفّس وروحه فيه.
ج) روح الله
أمّا المعنى الثالث للفظة “رُوَح” فهو روح الله لنفسه، الذي يستطيع الإنسان أن يدرك وجوده من خلال عمله في الطبيعة وعمله في الإنسان.
إن روح الله هو روح القدرة، الذي يعطي الحياة لجميع الكائنات. فهو الذي خلق كلّ شيء، كما جاء في الآيات الأولى من سفر التكوين: “في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفّ على وجه المياه” (تك 1: 1-2)، وكما جاء أيضاً في المزامير: “الجميع يرجونك لترزقهم القوت في حينه… تحجب وجهك فيفزعون، تقبض أرواحهم فيموتون وإلى ترابهم يعودون. ترسل روحك فيُخلقون، وتجدّد وجه الأرض” (مز 103: 27- 30).
وتؤكّد مختلف أسفار العهد القديم أنّ روح الله هو الذي يعمل في الذي اختارهم ليقودوا شعبه، كالقضاة والملوك والأنبياء. فعن عشنيئيل يقول سفر القضاة: “وكان روح الرب عليه، فتولّى القضاء لإسرائيل” (قض 3: 10)، وعن شمشون، عندما برز أمامه شبل لبؤة يزأر في وجهه: “فحلّت عليه روح الرب، ففسخه كما يفسخ الجدي، ولم يكن في يده شيء” (قض 14: 6). وكذلك “حلّ روح الرب على شاول عندما مسحه صموئيل بالزيت، فأخذ يتنبّأ” (1 ملوك 10: 6). وعندما مسح صموئيل داود “حلّ روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا… وفارق روح الرب شاول وزعجه روح شرّير من لدن الرب” (1 ملوك 16: 13، 14).
إنّ روح الرب يحلّ على الملوك فيمنحهم قوّة إلهيّة. وكذلك يحلّ على الأنبياء فيجعلهم يعملون ويتكلّمون باسم الرب، فنرى إيليا يقوده “روح الرب” (3 ملوك 18: 12)، وعند وفاته ينتقل روح الرب الذي كان حالاًّ عليه إلى أليشع: “ورآه بنو الأنبياء الذين في أريحا تجاهه، فقالوا: قد حلّت روح إيليا على أليشع” (4 ملوك 2: 15). وميخا النبي يرى في روح الرب قوّة لإعلان كلام الرب: “لكنّي قد امتلأت قوّة بروح الرب، وحكمًا وبأسًا، لأخبر يعقوب بمعصيته وإسرائيل بخطيئته” (ميخا 3: 8).
د) روح الله في الأزمنة الأخير
أمّا الذي سيحلّ عليه روح الرب بشكل دائم فهو المسيح، كما جاء في نبؤة أشعيا: “ويخرج قضيب من جذر يسَّى، ويَنمي فرع من أصوله. ويستقرّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح العلم وتقوى الرب” (أش 11: 1، 2). ويرى أشعيا الثاني روح الرب يحلّ على المسيح ليوصل رسالة الرب إلى جميع الأمم: “هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سارت به نفسي، قد جعلتُ روحي عليه، فهو يبدي الحكم للأمم، لا يصيح ولا يجلّب، ولا يُسمِع صوتَه في الشوارع. قصبة مرضوضة لا يكسر، وكتّانًا مدخنًا لا يطفئ. يبرز الحكم بحسب الحق. لا يني ولا ينكسر، إلى أن يجعل الحكم في الأرض، فلشريعته تنتظر الأمم” (أش 42: 1- 3)؛ “إنّ روح السيّد الرب عليّ، لأنّ الرب مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأجبر المنكسري القلوب، وأنادي بعتق للمسبيّين وبتخلية للمأسورين، لأنادي بسنة الرب المقبولة” (أش 61: 1- 3).
وبواسطة المسيح سيحلّ روح الرب على جميع الناس ليسلكوا بحسب وصايا الله. وهذا ما يعلنه حزقيال، “نبي الروح”: “أعطيهم قلباً واحدًا وأجعل في أحشائهم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمهم قلب الحجر، وأعطيهم قلبًا من لحم، لكي يسلكوا في رسومي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها، فيكونون لي شعبًا وأكون لهم إلهًا” (حز 11: 19، 20؛ راجع أيضاً 36: 26- 28).
وهذا ما يتنبّأ به يوئيل للأزمنة الماسياوية الأخيرة: “وسيكون بعد هذه أني أفيض روحيي على كلّ بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبّانكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلامًا. وعلى عبيدي أيضاً وإمائي أفيض روحي في تلك الأيام” (يوء 2: 28، 29).
وهكذا لن يعود حلول الروح هبة خاصة بالملوك والأنبياء، بل يعطى لشعب الله بأجمعه. وهذا الروح هو الذي سيجدّد قلب الإنسان من الداخل ليحمله على السلوك بحسب وصايا الله فالخاطئ يُحزن الروح القدس: “لكنّهم تمرّدوا وأحزنوا روَحه القدوس” (أش 63: 10). لذلك يطلب المزمور الخمسون: “قلباً طاهراً فيّ يا الله، وروحاً مستقيمًا جدّد في أحشائي. لا تطّرحني من أمام وجهك، ولا تنزع مني روحك القدوس” (مز 50: 13). ويقول سفر الحكمة في هذا الصدد: “من علم مشورتك لو لم تؤتِ الحكمة، وتبعث روحك القدوس من الأعالي؟” (حك 9: 17). وهذا الروح القدس يدخل إلى أعماق الإنسان و يملأه حكمة: “انّ الحكمة مهندسة كلّ شيء هي علّمتني. فإنّ فيها الروح الفهِم القدوس، المولود الوحيد ذا المزايا الكثيرة، اللطيف السرج الحركة، الفصيح الطاهر النيّر السليم، المحبّ للخير، الحديد الحرّ المحسن، المحبّ للبشر، الثابت الراسخ، المطمئن القدير، الرقيب الذي ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة” (حك 7: 21- 23).
وهذا الروح لن يترك الإنسان: “هذا عهدي معهم، قال الرب: روحي الذي عليك وكلامي الذي جعلته في فمك لايزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب، من الآن وإلى الأبد” (أش 59: 21).
والروح الذي سيرسله الرب في الأيام الأخيرة سيُحيي الأموات، كما جاء في نبوءة حزقيال على العظام اليابسة:
“وكانت عليّ يد الرب، فأخرجني الرب بالروح، ووضعني في وسط البقعة، وهي ممتلئة عظامًا… وقال لي: تنبّأ نحو الروح، تنبّأ يا ابن البشر، وقل للروح: هكذا قال السيد الرب، هلمّ أيها الروح من الرياح الأربع، وهبّ في هؤلاء المقتولين فيحيوا. فتنبّأت كما أمرني. فدخل فيهم الروح، فحيوا وقاموا على أرجلهم جيشًا عظيمًا جدًّا جدّاً… هكذا قال السيد الرب: ها أناذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم… وأجعل روحي فيكم فتحيون” (حز 37: 1- 14).
خلاصة القول انّ الروح في العهد القد يظهر على ثلاثة أوجه يظهر أوّلاً كقدرة حياة تحيي كل خليقة، ويظهر ثانياً في كلام الأنبياء والمعجزات التي يقومون بها باسم الله، ويظهر أخيراً كوعد للأزمنة الأخيرة التي فيها سيأتي المسيح ممتلئًا من الروح القدس، وبواسطته سيحلّ الروح القدس على جميع الشعب وفي داخلهم، كقوّة قداسة وينبوع حياة جديدة.
وفي جميع هذه الوجوه، لا يبدو الروح كقدرة مستقلّة عن الله، بل كقدرة مرتبطة بالله. وحضوره هو حضور واقعي وسرّي في آن واحد، فالله يعمل بواسطة روحه القدوس في قلب العالم، ولكنّه يبقى متعاليًا عن العالم.
خلاصة
هكذا أوحى الله بذاته في العهد القديم: إلها أبًا يخلق العالم ويخلّصه بكلمته وروحه. وتلك هي التهيئة التي نجدها في العهد القديم لكشف سرّ الثالوث الأقدس في العهد الجديد. فمَا يجب تأكيده هو أن الله لا يكشف ذاته إلا من خلال علاقته بالإنسان. وقد ظهرت لنا تلك العلاقة علاقة ثالوثيّة: فالله هو الآب، والكلمة والروح هما قدرة الله وحضوره اللذان يتّصل بهما بالعالم فيخلقه ويرشده ويخلّصه ويحييه. إنهما، كما يقول القديس إيرناوس، “يدا الله”.
وهكذا يتبيّن لنا ما قلناه في مستهلّ بحثنا أن أيّ محاولة لاهوتيّة للدخول في سرّ الثالوث الأقدس يجب ألا تنطلق من التأمّل النظريّ الفلسفيّ في الذات الإلهية لمعرفة تكوينها الباطنيّ، بل من وحي الله لذاته في تاريخ الخلاص. فالله في العهد القديم من تاريخ الخلاص أوحى بذاته أباً يخلق ويخلص. “وروحه. وفي العهد الجديد بلغ وحي الله كماله، إذ أرسل إلينا الله ابنه الوحيد، وبالابن عرفنا الآب وعرفنا الروح القدس.
ثانيًا- الثالوث الأقدس في العهد الجديد
توطئة: منهجيّة البحث في الثالوث الأقدس في العهد الجديد
إنّ من أراد البحث في عقيدة الثالوث الأقدس كما وردت في العهد الجديد يصطدم بصعوبات وعقبات متعدّدة لا بدّ له من أخذها بعين الاعتبار لئلاّ يقع في مغالطات أو يطلق أحكامًا غير مبنية على طرق علميّة.
1- الصعوبة الأولى تأتي من أنّه يستحيل علينا تكوين صورة واضحة عن يسوع التاريخي استناداً إلى تفسير حرفي للعهد الجديد. ذلك أن أسفار العهد الجديد كلّها هي شهادات إيمان الرسل والتلاميذ الذين اختبروا المسيح القائم من بين الأموات. وكل منهم يروي سيرة يسوع على ضوء إيمانه. ومع ذلك يجب التأكيد على أن ما يروونه ليس من اختراع مخيّلتهم، بل هي أحداث واقعيّة عن يسوع الناصريّ الذي عاشوا معه وآمنوا به. فيجب من ثمّ من الناحية المنهجيّة الأخذ بعين الاعتبار الناحيتين معًا: الرواية على ضوء الإيمان، ورواية أحداث واقعيّة.
2- الصعوبة الثانية هي في التمييز بين أساليب متعددة في النصّ الكتابي: فهناك العقيدة الإيمانية، وهناك عبارات الكرازة، وهناك التفاسير اللاهوتية. لذلك يجب ألاّ يُعتبر كلّ تفسير لاهوتيّ، وإن ورد في العهد الجديد، كأنه عقيدة إيمانية. وهذا التمييز يصحّ أيضاً لتاريخ الفكر المسيحيّ على مدى العصور. فليس كل تحليل لاهوتيّ عقيدة إيمان
3- التحديات اللاهوتية، مهما كانت دقيقة، لا تستطيع الإحاطة بسر الإيمان ولا التعبير تعبيرًا وافيًا عن عقيدة الإيمان. بل إن هناك مسافة دائمة ملازمة لكل يد لاهوتي، بين التعبير والعقيدة الإيمانية المقصودة من خلال التعبير.
4- إن التحديدات اللاهوتية التي عبّرت من خلالها المجامع المسكونية عن عقيدة الثالوث الأقدس ليست جديدة بالنسبة لإيمَان العهد الِجديد. و استعمالها للألفاظ الفلسفية كالطبيعة والجوهر والأقنوم سوىَ تعبير لإيمَان العهد الجديد ذاته بلغة يفهمها العصر الذي وردت فيه. وهذا ما يجب إظهاره في البحث في إيمَان العهد الجديد بالثالوث الأقدس وعلاقة الأقانيم الإلهية بعضها ببعض. وفي هذا البحث يجب التنبّه إلى عدم استعمال تلك الألفاظ الفلسفية في تفسير أقوال العهد الجديد، بل الاكتفاء بإظهار ملاءمة ما ورد في العهد الجديد مع جوهر العقيدة التي أعلنتها المجامع المسكونية في تحديداتها اللاهوتية.
5- ان عقيدة الثالوث قد أوحيت لنا من خلال شخص يسوع المسيح ورسالته وموته وإرساله الروح القدس إلى تلاميذه من بعد قيامته. لذلك، للتعمّق في سرّ الثالوث الأقدس، يجب ألاّ نزيح أيصارنا عن يسوع للتأمل في طبيعة الله السرمديّة. على العكس من ذلك، بقدر ما نتعلّق بيسوع المسيح ونتعمّق في فهم شخصه ورسالته، ينكشف لنا سر الثالوث الآب والابن والروح القدس.
اننا، في أبحاثنا السابقة في تفسير قانون الإيمان، قد توسّعنا في نواح متعدّدة من هذا الموضوع. ففي تفسير القسم الأول من قانون الإيمان: “نؤمن باله واحد آب ضابط الكل”، عالجنا كيف يعبّر العهد الجديد عن ظهور الله الآب في تعليم يسوع وحياته.
وفي تفسيرنا للقسم المتعلّق بيسوع المسيح: “وبربّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد”، رأينا كيف ظهر يسوع في شخصه وتعليمه، في العهد الجديد، “المسيح”، و”ابن البشر”، و”الرب”، و”ابن الله”، و”الكلمة”.
يبقى لنا الآن أن نعود إلى أهمّ ما جاء في الجهد الجديد من نصوص توضح من جِهة علاقة الابن بالآب، ومن جهة أخرى علاقة الروح القدس بالآب والابن، وعمل الروح القدس في الكنيسة، لنستخلص منها إيمَان العهد الجديد بالثالوث الأقدس.
1- الآب والابن
ء) الله أب لجميع الناس
لقد أوضحنا في أبحاثنا السابقة كيف ظهر الله من خلال تعليم يسوع وعمله أبًا لجميع الناس: فهو الإله القريب من الإنسان. وهو يعتني بهم أفضل ممّا يعتني بطيور السماء وزنابق الحقل. وهو الأب الذي يعرف أن يمنح العطايا الصالحة لأبنائه. وهو الأب الرحيم الذي يسعى بنفسه لطلب الخروف الضالّ، وينتظر عودة ابنه الشاطر ليعيده إلى فرح الحياة معه.
وقد أظهر يسوع في أعماله أبوّة الله هذه. فنراه يغفر للعشّارين والخطأة: لخلعّ كفرناحوم، وللمرأة الزانية، ولزكا العشّار.
ب) الله أب ليسوع بنوع خاص
لقد صنع يسوع في حياته أموراً خاصة بالله. فغفر الخطايا، و”ما من أحد يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده” (مر 2: 7). ونقض شريعة السبت التي وضعها الله نفسه (مر 2: 29). وكان في تعليمه يتكلّم بسلطة إلهية: “سمعتم أنه قيل للأقدمين… أما أنا فأقول لكم…”
تلك كانت نقطة الانطلاق للإيمَان بالثالوث الأقدس في بدء المسرحية. فلقد آمن تلاميذ يسوع أنّ الله نفسه بكل قدرته قد ظهر لهم في شخص يسوع المسيح، وأنّه يمكن من ثمّ لكل إنسان ملاقاة الله في شخص يسوع المسيح.
وقد تثبّت هذا الإيمان بقيامة يسوع من بين الأموات. فبعد قيامة يسوع راح الرسل يكرزون أنّ يسوع الناصريّ الذي صلبه اليهود قد أقامه الله، وبقيامته أعلن للعالم أجمع صدق رسالته، وأدخله في مجده الإلهي، “وجعله ربّا ومسيحا” (أع 2: 36)، كما يقول بطرس الرسول في خطبته الأولى بعد العنصرة.
لقد آمنت الكنيسة الرسوليّة أن يسوع، بقيامته، قد حصل على أعلى كرامة إلهية. وهذا ما تشير إليه الألقاب المختلفة التي دعته بها. فآمنت أنه هو “اِلمسيح”، معبّرة بذلِك عن إيمانها بأنّ الله قد أقام فيه الملكوت الذي وعد به منذ العهد القديم. ودعته “ابن البشر”، منتظرة أن يأتي من جديد للدينونة وقيامة الأموات وبدء زمن خلاص جديد. ودعته “ابن الله”، وهذا اللقب هو، في الأصل لقب من ألقاب المسيح، الملك الماسيوي، كما جاء في المزمور 2: 7: “أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك” (راجع أع 12: 33) ودعته “الرب”، وهذا اللقب هو أيضاً أحد الألقاب الماسيوية، والدليل على أنّ الكنيسة الناشئة قد استعملته، العبارة الليتورجية الآرامية “ماراناثا” (أيها الرب، تعالَ) (راجع 1 كو 16: 22؛ رؤ 22: 20؛ 1 كو 11: 26).
ماذا تعلّمنا تلك الألقاب عن يسوع؟ اذا نظرنا إلى تلك الألقاب في ذاتها، قد نخلص إلى القول إن الكنيسة الرسولية قدّ تطورت في التعبير عن إيمانها بيسوع. فانتقلت من الإيمان بأن يسوع هو المسيح- وهذا الإيمان نشأ في محيط يهوديّ- إلى الإيمان بأن يسوع هو ابن الله والرب، وهذان التعبيران هما من المحيط اليونانيّ. وهكذا قد يرى البعض أنّ الجماعة المسيحية كانت ترى في يسوع مجرّد إنسان تبنّاه الله، ثم انتقل هذا الإيمان إلى الجماعات اليونانيّة التي راحت تعلن أنّ يسوع هو ابن الله منذ الأزل، وأن حياته على الأرض لم تكن سوى فترة قصيرة عاد من بعدها إلى المجد السماوي.
إنّ هذا التفسير لإيمان العهد الجديد بالمسيح خاطئ، لأنه يستند إلى نقطة انطلاق خاطئة. فالجماعات المسيحية الأولى بدأت بالقول إن المسيح الذي انتظره العهد القديم، المسيح الذي هو ابن البشر وابن الله والرب، قد أتى. وهو يسوع الذي من الناصرة. فالتعبير الإيماني الأوّل بدأ إذاً على الشكل التالي: ان المسيح الموعود به هو يسوع وابن البشر المنتظر هو يسوع، وابن الله هو يسوع، والرب هو يسوع. وفي هذا التعبير تبدو ألقاب المسيح وابن البشر وابن الله والرب ألقابًا مترادفة مع فروق دقيقة. ولكن في ما بعد قُلبت هذه التعابير للتعريف بيسوع تعريفًا واضحًا فقيل يسوع هو المسيح وابن البشر وابن الله والرب. وتحوّل مدلول تلك الألقاب وصارت كأنّها وصف موضوعيّ ليسوع وتعبير واضح عن علاقته بالله.
أمّا في الواقع فان تلك الألقاب لا تهدف إلى إزاحة الحجاب عن سر علاقة يسوع بالله، ولا إلى إدخال تلك العلاقة في نظرة معهودة من تاريخ الديانات. فكل ما أكّدته الكرازة الرسولية يبقي سرّ يسوع قائمًا، ولا يهدف إلاّ إلى إتاحة المجال للمؤمن للبلوغ إلى المسيح الحيّ. وقيامة يسوعٍ قد ثبّتت هذا الإيمان: فبها أعلن الله أن كلّ ما عمله يسوع وتكلّم به كان بقدرة الله، فهو إذاً مرسل الله ومسيح الله. وبقيامة يسوع أعلن الله أنّ كلّ مؤمن يستطيع اليوم الوصول إلى الله بواسطة المسيح، الذي يملك الآن أيضاً قدرة الله. وهذا ما تشير إليه العبارات التالية: “إن يسوع قد ارتفع بيمين الله” (أع 2: 33)، و”جلس إلى يمين الله” (أع 2: 34، رو 8: 34)، و”أُعطي كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (متى 28: 18)، و”جُعل ربًّا ومسيحًا” (أع 2: 36). لذلك “تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة ممّا في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض ويعترف كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله الآب” (في 2: 10- 11).
لا ريب في أن الجماعة المسيحية الناشئة لم تبحث بشكل مفصّل بالعلاقة التي تربط المسيح بالله كما ستفعله المجامع المسكونية الأولى، ولم تلجأ لذلك إلى التعابير الفلسفية التي ستستخدمها الكنيسة في ما بعد. إلاّ أنها عبّرت عن العلاقة ذاتها بتعابير وتصاوير أكثر واقعية: فجلوس المسيح عن يمين الله لا يعني شيئًا دقيقًا بالنسبة إلى علاقة يسوع الكيانيّة بالله، إنّما هو صورة للتعبير عن أعلى مرتبة يمكن لإنسان الوصول إليها. فيسوع قد أعطي سلطة الله نفسه، لذلك يتّخذ كلّ ما قاله وعمله على الأرض بعدًا إلهيًا.
ج) تحليل بعض نصوص العهد الجديد التي تظهر علاقة الابن بالآب
* تجارب يسوع: “إن كنت ابن الله” (متى 4: 1- 11)
تبدأ التجربتان الأوليان بقول المجرّب ليسوع: “إن كنت ابن الله فمُرْ أن تصير هذه الحجارة خبزًا”، “إن كنت ابن الله، فألقِ بنفسك إلى ما أسفل، لأنه مكتوب: إنّه يوصي ملائكته بك يحملك على أيديها، لئلاّ تصدم بحجر ما رجلك”. نحن هنا بصدد المفهوم الصحيح للبنوّة الإلهية، لعلاقة الابن بالآب فتجربة الإنسان تقوم على أن يرى في البنوّة الإلهية وسيلة لاستخدام سلطة الله في سبيل التحرّر من معطيات الطبيعة البشرية وصنع الخوارق والمعجزات. تلك هي نظرة الأساطير اليونانية إلى “أبناء الله”، أولئك الأبطال الذين ولدوا من تزاوج الإلهة وصاروا قادرين على صنع الأعمال الخارقة. فابن الله في تلك النظرة الأسطورية يحلّ محلّ الله ويستخدم قوة الله لمآربه الخاصة، بدل أن يكون هو في خدمة إرادة الله. وتبيّن التجربة الثالثة نتيجة تلك النظرة الشيطانيّة للبنوّة الإلهية: “أعطيك ممالك الدنيا ومجدها، إن خررت ساجدًا لي”. فما يَطلبه المجرّب من يسوع هو التخلّي عن البنوّة الإلهية ليصير خادم الشيطان “ابي الكذب” (يو 8: 44).
إن علاقة ابن الله بالآب، في الإنجيل، هي علاقة خضوع وخدمة. فالله يبقى، بالنسبة ليسوع، الإله الذي من كلمته يحيا: “إنّه لمكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”. كما يبقى أيضاً بالنسبة إليه “الربّ الإله الذي لا يجوز أن يجرَّب: “لا تجرّب الربّ إلهك” إن الجماعة المسيحية الأولى لا ترى أيّ تناقض بين كرامة البنوّة الإلهية وخضوع الابن لله الآب.
وهذا ما يبدو جليًّا في إنجيل يوحنا. فالابن يحيا بالآب (يو 6: 57). وطعامه أن يعمل مشيئة الذي أرسله ويتمّم عمله” (يو 4: 34). “فإنّ الابن لا يستطيع من نفسه أن يعمل شيئًا إلاّ ما يرى الآب يعمله. فما يفعله هذا، يفعله الابن كذلك” (يو 5: 19). لقد لرأى اليهود في قول يسوع إنّه ابن الله تجديفًا، لاعتبارهم أنّ ابن الله “يساوي نفسه بالله” (يو 5: 18). لذلك قالوا إنّ فيه شيطانًا (يو 8: 48). أمّا يسوع فيجيبهم: “ليس بي شيطان، إنما أكرم أبي… أنا لا أطلب مجدي” (يو 8: 49).
هذه النصوص أنّ بنوة يسوع الإلهية تقوم أولاً على ارتباطه العمل بالله. فهو يحيا من حياة الآب ويخدمه ويكرمه. لا يمكننا القول إن هذه النصوص لا تتعلّق بيسوع إلاّ من حيث هو إنسان لا من حيث هو إله. لا شكّ أنّ هذه النصوص تتحدّث عن يسوع في حياته على الأرض. ولكن يسوع الابن المتجسّد هو نفسه الابن الأزليّ. لذلك ما يقال عن بنوّته لله وهو على الأرض يعرّفنا عن علاقته بالله الآب منذ الأزل.
بالابن وحده نعرف الآب (متى 11: 25- 30؛ لو 10: 21- 22)
في الفقرة السابقة، رأينا تركيز الإنجيل على خضوع الابن للآب. أمّا في النصّ الحاليّ فالتركيز هو على وحدة الابن مع الآب.”فالآب قد دفع كلّ شيء إلى الابن”. لذلك “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابنُ ومن يريد الابن أن يكشف له”. بالابن وحده يستطيع الناس الوصول إلى معرفة الآب. ان الجملة الأولى ستجد صدى لها في قول يسوع لتلاميذه بعد قيامته: “لقد دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (متى 28: 18). وفي كلا النصّين تتحقّق نبوءة دانيال عن ابن البشر الذي “أعطي سلطانًا ومجدًا وملكًا، وسلطانه سلطان أبديّ لا يزول، وملكه لا ينقرض” (دا 7: 13- 14). فسلطان الابن يأتيه من الآب. وهذا السلطان هو لإحلال ملكوت الله ونشر معرفة الله. والدخول في ملكوت الله ومعرفة الله أمران مترادفان.
يعبّر الإنجيل في مقاطع متعددة عن رغبة الإنسان في معرفة الآب. وقد عبّر عن تلك الرغبة فيلبّس بقوله ليسوع: “يا رب أرنا الآب وحسبنا” (يو 14: 8)، كما عبّر عنها اليهود أيضاً بقولهم ليسوع: “أين أبوك” (يو 8: 19). فكان جواب يسوع لفيلبّس:
“أنا معكم كلّ هذا الزمان، ولا تعرفني، يا فيلبس. من رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت:
أرنا الآب؟ أفلا تؤمن أني أنا في الآب، وأنّ الآب فيّ؟ الأقوال التي أكلّمكم بها لا أتكلّم بها من نفسي، بل الآب المقيم فيّ هو يعمل أعماله. صدّقوني أنّي أنا في الآب والآب فيّ، وإلاّ فصدّقوا من أجل الأعمال” (يو 14: 9- 11).
يؤكد يسوع وحدته مع الآب التي تظهر في أقواله وأعماله. فالأقوال التي يتكلّم بها لا يتكلم بها من نفسه، والأعمال التي يعملها لا يعملها بقدرته. إنّما الآب المقيم فيه هو الذي يتكلّم ويعمل أعماله فيه. وهذا أيضاً مايكرّره لليهود: “إنّكم لاتعرفوني أنا ولا أبي، لو كنتم تعرفوني لعرفتم أبي أيضاً” (يو 8: 19).
وعندما سأله اليهود: “حتّى مَ تريب أنفسنا؟ إن كنت المسيح، فقله لنا جهرًا، أجابهم يسوع: “لقد قلته لكم، ولا تصدّقون. والأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي”، ثم أضاف: “أنا والآب واحد” (يو 10: 24- 25، 30). فتناول اليهود حجارة لكي يرجموه.
“فأجابهم يسوع: لقد أريتكم أعمالاً حسنة كثيرة من عند الآب، فلأيّ عمل منها ترجموني؟، أجابه اليهود: ليس لعمل حسن نرجمك، بل لأجل التجديف، ولأنك تجعل نفسك إلهًا، وأنت إنسان. فأجابهم يسوع: أوَليس مكتوبًا في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة؟ فإن كان الناموس يدعو آلهة أولئك الذين صارت إليهم كلمة الله- ولا يمكن أن يُنقض الكتاب- فأنا، الذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم، تقولون لي: إنك تجدّف، لكوني قلت: أنا ابن الله إن كنت لا أعملَ أعمال أبي، فلا تصدَّقوني. ولكن إن كنت أعملها، ولا تريدون أن تصدّقوني، فصدّقوا هد الأعمال، لكي تعلموا وتعترفوا أن الآب فيّ وأ،ي في الآب” (يو 10: 2- 38).
يتساءل الناس اليوم أيضاً كما تساءل اليهود في زمن الكنيسة الرسولية الناشئة: ما معنى القول إن يسوع هو ابن الله؟ الجواب على هذا السؤال هو في شخص يسوع نفسه: إن الله قد ظهر لنا ظهورًا نهائيًّا في شخص يسوع، وأوحى لنا بذاته الوحي الأخير (الاسختولوجي) في حياة يسوع وأعماله وأقواله. هذا ما يعنيه لقب الابن الذي يطلقه العهد الجديد على يسوع. يسوع هو الابن الذي به عرفنا الآب. لذلك لا يمكن لأيذ إنسان من بعد أن يتكلّم عن الله إلاّ من خلال الابن.
تلك هي نقطة الانطلاق لعقيدة الثالوث الأقدس وفي العهد الجديد وفي المسيحية. فالإيمان بالثالوث الأقدس ليس نظريّة فلسفيّة اخترعها الفكر البشريّ ولا تصوّرًا عقلانيا عن الله. إنما هو تعبير عنّ ظهور الله ظهورًا ذاتيًّا في شخص يسوع المسيح. فالله هو الآب، وقد ظهر لنا في ابنه يسوع المسيح.
ثم إن تلك العقيدة لا تهدف إلى إرضاء فضول الإنسان وإشباع رغبته في معرفة أسرار الغيب وأسرار العالم السماويّ. إنّما هي دعوة للدخول في حياة الله.
لذلك يتابع ض متى: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقّلين وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم، وكونوا لي تلاميذ، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم. أجل إن نيري ليّن وحملي خفيف”. فلا يكفي أن يعرف الإنسان أنّ يسوع هو ابن الله، بل يجب أن يقبل إليه ليجد الراحة لنفسه. وكذلك، في ظهور يسوع لتلاميذه من بعد قيامته، بعد قوله لهم: “لقد دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض”، يضيف: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 18- 20).
لقد أعطى يسوع سلطة الله ليُدخل جميع الناس في حياة الله. فبالابن ندخل حياة الآب.
* يسو هو “كلمة الله” و”ابن الله”، الذي به نحيا من حياة الله (يو 1: 1- 18)
ان الدخول في حياة الآب من خلال الابن، تلك هي الفكرة الأساسية التي يدور حولها إنجيل يوحنا من بدايته حتى نهايته. فينهي يوحنا إنجيله بقوله إنّ كل ما كتبه قد كتبه “لتؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح، ابن الله، وتكون لكم، إذا آمنتم، الحياة باسمه” (يو 20: 31). وهذا ما يؤكّده في مطلع إنجيله، الذي هو أروع ما كتب في علاقة المسيح بالله وعلاقة الإنسان بالله بواسطة المسيح. فالمسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والناس، حسب قول بولس الرسول: “إنّ الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان، المسيح يسوع” (1 تي 2: 5).
يدور مدخل إنجيل يوحنا حول فكرتين أساسيتين:
1) علاقة المسيح الفريدة بالله: “فهو الكلمة الذي كان منذ البدء لدى الله” (2) وهو إله: “وكان الكلمة الله”، “به كوّن كل شيء وبدونه لم يكن شيء واحد ممّا كوّن”، “فيه كانت الحياة”، و”الحياة كانت نور الناس”. إنّه ابن الله الوحيد الممتلئ من مجد الله: “وقد شاهدنا مجده، مجدًا من الآب لابنه الوحيد، الممتلئ نعمة وحقًا” (14). وهو “الإله، الابن الوحيد، الذي في حضن الآب” (18).
2) المسيح هو الوسيط بين الله والناس: إنّه الوسيط في الخلق، إذ “به كوّن كلّ شيء، وبدونه لم يكن شيء واحد ممّا كوّن”، “العالم كوّن” (10). وهو الوسيط في الخلاص: فقد منح العالم الحياة والنور: “فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس”، وبه يصير المؤمنون أبناء الله: “أما جميع الذين قبلوه، فقد آتاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، هم الذين آمنوا باسمه، الذين لم يولدوا من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (13). وبه نحصل على النعمة والحق: “فإنّ الناموس أعطي بموسى، وأمّا النعمة والحق فبيسوع المسيح قد حصلا” (17).
والجملة الأخيرة توجز الفكرتين: “الله لم يره أحد قط، الإله، الابن الوحيد، الذي في حضن الآب، هو نفسه قد أخبر” (18). فالمسيح هو ابن الله، وقد أخبرنا عن الله الذي لا يستطيع إنسان أن يراه. الابن وحده، الذي في حضن الآب، أي الذي يعرف الآب معرفة حميمة، يستطيع أن يعرّفنا بالآب ويقودنا إليه، ويجعلنا أبناء له، ويملأنا من نعمته وحقيقته.
أما السبيل الذي سلكه ابن الله ليقودنا إلى الله، فهو التجسّد: “والكلمة صار جسدًا، وسكن في ما بيننا، وقد شاهدنا مجده، مجدًا من الآب لابنه الوحيد الممتلئ نعمة وحقًا” (14). فيسوع هو المسيح، كلمة الله وابن الله، الكائن منذ الأزل لدى الله: انه كلمة الله الذي يعبّر أصدق تعبير عن الله، وهو ابن الله الذي يوحي الوحي الكامل عن الله.
تجلّي ابن الله (لو 9: 28- 37)
ان يسوع المسيح هو ابن الله منذ الأزل، وكونه إنسانًا لا يناقض كيانه الإلهي. فكيانه الإلهي الذي ظهر في أقواله وأعماله، ظهر بكامل مجده في “التجلّي”.
يوضح لوقا أنّ تجلّي يسوع أمام تلاميذه قد حصل “فيمَا هو يصلّي” (9: 29). ذلك أن الصلاة، بالنسبة إلى يسوع، هي لقاء الابن مع الآب، فيه يضع الابن ذاته بين يدي الآب، ويؤكّد الآب محبّته للابن.
“وفيمَا هو يصلّي، تغيّر منظر وجهه، وصارت ثيابه بيضاء لامعة”. والتلاميذ الذين كانوا معه “شاهدوا مجده”. واذا برجلين، موسى وإيليا، يخاطبانه، تراءيا في مجد، وأخذا يتحدّثان عن موته الذي سيقاسيه في أورشليم”. إن يسوع، في وسط آلامه وموته، يبقى الابن الممتلئ من مجد الآب. والتلاميذ، الذين يشاهدون الآن مجده يسمعون في آنٍ معًا صوت الآب يعلن، من الغمامة (التي ترمز في كل الظهورات، إلى الله). “هذا هو ابني، مختاري، فاسمعوا له”. إنّ الآب وحده يعرف الابن، وها هو الآن يعلن أنّ “يسوع هو ابن الله”.
لقد رأى بعض المفسّرين في الغمامة التي ظلّلت المسيح إشارة إلى الروح القدس، ويجدون في التجلّي ظهور الثالوث. وهذا ما يقودنا إلى القسم الثاني من نصوص العهد الجديد، وهي التي تظهر فيها الأقانيم الثلاثة.
2-َ الآب والابن والروح القدس
ء) البشارة بميلاد يسوع المسيح (لو 1: 26- 38)
يؤكد هذا النصّ بوضوح الأقانيم الثلاثة وعملها في تاريخ الخلاص:
فالأب هو الله الذي اختار مريم العذراء وملأها نعمة لتكون أمَّا لابنه: “السلام عيك يا ممتلئة نعمة، الرب معك” (28)، “لقد نلت حظوة عند الله” (30). وهو”الرب الإله الذي سيعطي المسيح عرش داود أبيه” (32). وهو الذي يرسل روحه القدوس ليحلّ على العذراء ويظلّلها بقدرته لتحبل دون مباشرة رجل (35)، وهو “الله الذي “ليس من أمر يستحيل عليه” (37).
ويسوع الذي يولد من العذراء دون مباشرة رجل هو ابن الله منذ الحبل به، وليس بالتبّني: “انه يكون عظيماً، وابن العليّ يدعى” (32). وعلى سؤال مريم: “كيف يكون ذلك، وأنا لا أعرف رجلاً؟”، يجيب الملاك: “الروح القدس يأتي عليك، وقدرة العليّ تظلّلك”، ثم يردف: “ومن أجل ذلك، فالقدوس الذي يولد منك يدعى ابن الله” (35). وابن الله هو نفسه المسيح الخلّص ابن داود، الذي “سيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء” (32- 33).
والروح القدس هو روح الله وقدرة الله، وهو الذي يظلّل العذراء (35). إنّ عمل خلاص البشر هو عمل روح القدرة الإلهية. وهذا العمل يبدأ منذ الحبل بيسوع. وفي هذا أيضا يقول إنجيل متّى: “يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم، فان الذي حبل به فيها إنّما هو من الروح القدس. وستلد ابناً، فتسميه يسوع، لأنه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (متى 1: 20- 21).
إن مجيء يسوع إلى العالم بقدرة روح الله في مريم العذراء هو حقًا. مجيء الله نفسه.
معمودية يسوع (متى 3: 13- 17)
في هذا النص أيضاً تظهر الأقانيم الثلاثة ظهورًا واضحًا: “فلمّا اعتمد يسوع، خرج كل الفور من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، ورأى روح الله ينزل بشكل حمامة ويحلّ عليه. وإذا موت من السماوات يقول: هذا ابني الحبيب، الذي به سررت” (3: 16- 17).
لقد رأى بعض المبتدعين في هذا المشهد تأييدًا لقولهم إنّ يسوع هو مجرّد إنسان تبنّاه الله يوم معوديته، إذ في تلك اللحظة نزل عليه روح الله، وأعلنه الآب ابنه الحبيب. جوابًا على هذه النظرة الخاطئة، نقول إنّ النصوص الإنجيلية يكمّل بعضها البعض الآخر، فيجب ألاّ يؤخذ نصّ بمعزل عن باقي الإنجيل. وقد رأينا في الفقرة السابقة أنّ يسوع حُبل به من الروح القدس، وأنّه بالتالي ابن الله منذ الحبل به، أي في صميم كيانه، وليس بالتبنّي. وما هذا المشهد سوى إعلان للملإ لمَا هو عليه يسوع في شخصه، وإعلان لرسالته. وممتلئ من الروح القدس، وهو ابن الله في عمق كيانه. فالأقانيم الثلاثة تظهر في بدء حياة يسوع العلنية، منبئة بأن عمل الخلاص الذي سيقوم به المسيح ليس عملاً إنسانيًا وحسب، بل هو أوّلاً عمل الله في أقانيمه الثلاثة.
ج) المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس (متى 28: 19)
“اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. يرجّح مفسرو الكتاب المقدس أنّ هذه الوصية التي وضعها الإنجيل على لسان يسوع ليست من يسوع نفسه، بل هي موجز الكرازة التي كانت تُعدّ الموعظين للمعمودية، في الأوساط اليونانية. فالمعمودية في السنوات الأولى للمسيحية كانت تعطى “باسم يسوع المسيح” (أع 2: 38؛ 10: 48) أو “باسم الرب يسوع” (أع 8: 16؛ 19: 5). ففي الأوساط اليهودية، لتمييز المعمودية المسيحية عن غيرها من طقوس التنقية والتطهير، كان يكفي أن يلفظ اسم يسوع المسيح على المعتمد، دليلاً على أنه صار خاصة المسيح وخُتم نختمه. أمّا في الأوساط اليونانية الوثنيّة، فكان يسبق المعمودية “تعليم أوّلي” ينقل المهتدين “من عبادة الأوثان ليعبدوا الله الحيّ”، كما جاء في رسالة بولس الأولى إلى التسالونيكيين (1: 3). وفي ذلك تقول الرسالة إلى العبرانيين: “فلندَع التعليم الأوّلي عن المسيح، ولنرتفع إلى الكامل من غير ما عودة إلى ما هو أساسي: إلى التوبة من الأعمال الميتة، والإيمان بالله، والتعليم بشأن المعموديات، ووضع الأيدي، وقيامة الأموات، والدينونة العامة” (عب 6: 1- 2). كان هذا التعليم الأوّلي يُعدّ الموعوظين فيعلّمهم أنّ الله سيرسل إلى قلوبهم روح ابنه ليستطيعوا أن يقولوا بكل ثقة: “أبّا، أيّها الآب” (غلا 4: 6، رو 8: 15). من هنا يرجّح المؤرخون أن صيغة المعمودية الثالوثية هي موجز للكرازة التي كانت تعدّ للمعمودية.
وهكذا توسّع استدعاء اسم يسوع ليشمل أبوّة الله وموهبة الروح القدس. ونجد أيضاً ذكر الأقانيم الثلاثة بمناسبة ذكر المعمودية في قول بولس الرسول: “إنّكم قد اغتسلتم، قد تقدّستم، قد برّرتم باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا” (1 كو 6: 11). ففي المعمودية يصير الإنسان ابن الله بالتبنّي، بالإيمان بيسوع المسيح ابن الله وبالمعمودية باسمه: “إنّكم جميعًا أبناء الله، بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنّكم أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح… والدليل على أنّكم أبناء كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ فيها: أبّا، أيها الآب” (غلا 3: 26- 27؛ 4: 6).
د) عبارات ثالوثية في رسائل بولس الرسول
نجد في رسائل بولس الرسول عبارات يذكر فيها الآب والابن والروح القدس في وحدة عمل وتثليث أقانيم، دون ذكر لفظة “أقنوم”، التي لا وجود لها في العهد الجديد، إنّما سيلجأ إليها اللاهوت المسيحي ابتداء من القرن الثالث عندما سيبدأ باستعمال لفظة “الثالوث”.
في ختام الرسالة الثانية إلى الكورنثيين، يقول بولس الرسول: “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله، وشركة الروح القدس معكم أجمعين” (2 كو 13: 13). يعتبر معظم المفسرين اليوم أن هذه العبارة الثالوثية التي تذكر نعمة الله، أي الآب، ويسوع المسيح، أي الابن، والروح القدس، تعود إلى اللّيتورجيا الأولى. ونجد مقابلها عبارات مختلفة، يختم بها بولس رسائله، ويذكر فيها فقط يسوع المسيح الرب: “نعمة الرب يسوع معكم” (1 كو 16: 23)؛ “نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم” (غلا 6: 18)؛ “نعمة الرب يسوع المسيح مع روحكم” (في 4: 23)؛ “نعمة ربنا يسوع المسيح معكم أجمعين” (1 تسا 5: 28؛ 2 تسا 3: 18). إن الصيغة الثالوثية لا تتوسعّ في تفسير العلاقة التي تربط “الأقانيم أحدهم بالآخر، ولا تذكر لفظة “ثالوث”، ولكنّها تضع المؤمنين في نعمة الله التي تجلّت لنا بشكل ثالوثيّ في ربنا يسوع المسيح الذي أظهر لنا محبة الله الآب، ويشترك فيها المؤمنون بواسطة الروح القدس
وفي الرسالة إلى الفيليبيين يعود بولس إلى الصيغة ذاتها، ولكن هذه المرة ليس في إطار ليتورجيّ بل في إطار تحريض على المحبة والاتحاد بين المسيحيين:
“ومن ثمّ أناشدكم بمَا في المسيح من دعوة ملحّة، وفي المحبّة من قوّة مقنعة، وفي الروح من شركة، وبالحنان والرحمة، أن أتمّوا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد، فتكون لكم محبّة واحدة ونفس واحدة، وفكر واحد” (في 2: 1- 2).
تلك الدعوة إلى الوحدة يبنيها بولس أيضاً على وحدة الآب والابن والروح في حديثه عن مواهب الروح المتعددة. يقول: “ما من أحد ينطق بروح الله، ويقول: يسوع مبسل؛ ولا أحد يستطيع أن يقول: يسوع ربّ إلاّ بالروح القدس”. نجد هنا ذكر الله، أي الآب، والرب يسوع، أي الابن، والروح القدس. ثم يتابع بولس:
“لا جرم أنّ المواهب على أنواع، إلاّ أنّ الروح واحد، وأنّ الخدم على أنواع إلاّ أنّ الربّ واحد، وأن الأعمال على أنواع، إلاّ أنّ الله واحد، وهو يعمل كلّ شيء في الجميع” (1 كو 12: 3- 6).
يؤكّد بولس أنّ مواهب الروح القدس، مهما تنوّعت، فمصدرها واحد، وهو الله، لأنّ الروح هو”روح الله”، و”الله هو الذي يعمل كلّ شيء في الجميع”. وهذا الروح عينه هو الذي يقود إلى الإيمان بأنّ يسرع هو رب.
من هنا نخلص إلى القول أن الحياة المسيحية بمجملها تستند إلى محبة الله الآب التي ظهرت لنا بالابن وفي الروح القدس والصيغة الثالوثية هذه لا نجدها في العهد الجديد إلاّ لدى ذكر عمل الله الخلاصيّ تجاه البشر، وفي وصف اختبار المسيحيين لهذا العمل الخلاصي. ففي الوعظ والإرشاد، كما في الليتورجيا الافخارستية، وكما في المعمودية، نجد ذكر الله الآب والربّ يسوع المسيح والروح القدس في وحدة عمل. وهذا العمل هو تقديس الإنسان وإشراكه في حياة الله الواحد. ولا يرى العهد الجديد أنّ ذكر الآب والابن والروح القدس في العمل الخلاصي الواحد يشكّل أي خطر على وحدانية الله. ومجرّد عدم طرح أيّ مشكلة من هذا القبيل هو دليل على وضوح الرؤية لدى الرسل ومدوّني أسفار العهد الجديد في موضوع وحدانية الله، الإله الواحد الذي ظهر في تاريخ الخلاص ثالوثًا: إلا وابنًا وروحًا قدسًا. أي إن الله، بواسطة الابن والروح، منحنا مغفرة الخطايا وأشركنا في حياته الإلهية.
هـ) لاهوت الثالوث في انجيل يوحنا
لقد رأينا في الفقرة السابقة كيف يؤكّد يوحنا علاقة الابن بالآب منذ مطلع إنجيله… وكذلك في الفصل الأول من إنجيله يؤكّد علاقة الروح بالآب والابن:
“وشهد يوحنا قائلاً: إنّي رأيت الروح نازلاً من السماء بهيئة حمامة، وقد استقرّ عليه. فأنا لم أكن أعرفه. إلا أن الذي أرسلني لأعمّد هو قال لي: إنّ الذي ترى الروح ينزل ويستقرّ عليه هو الذي يعمّد بالروح القدس. فذلك ما قد عاينت، وأشهد أنّ هذا هو ابن الله” (1: 32- 33).
“إنّ الذي أرسله الله ينطق بكلام الله، لأن الله لا يعطيه الروح بمقدار. الآب بحبّ الابن، وقد جعل في يديه كل شيء” (3: 34- 35).
إن الله، أي الآب، يحب الابن، وقد جعل كلّ شيء في يديه، وأعطاه الروح، “لا بمقدار”، بل بكل ملئه. لذلك يستطيع الابن أن يعمّد بالروح القدس. ويفسّر القديس كيرلس الاسكندري هذا النص بقوله: “إنّ الابن، الذي هو ممتلئ من الروح، يعطي الروح “من ملئه الخاصّ”.
وهذا ما يشير إليه النص التالي:
“وفي اليوم الأخير العظيم من العيد، وقف يسوع وصاح قائلاً: إن عطش أحد فليأت إليّ، وليشرب من آمن بي. فكا قال الكتاب: ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. فالروح لم يكن بعد قد أعطي، لأنّ يسوع لم يكن بعد قد مُجّد (7: 37- 39).
إن الروح سيعطيه يسوع للمؤمنين به بعد تمجيده، أي بعد قيامته. وهذا ما يبيّنه هو نفسه لتلاميذه في حديثه الأخير معهم في العشاء الفصحيّ. إننا نجد في هذا الحديث توضيحًا لعلاقة الروح القدس بالآب والابن، وأوّل موجز لاهوتي لعقيدة الثالوث الأقدس. يقول يسوع:
إن كنتم تحبوني تحفظون وصاياي، وأنا أسأل الآب فيعطيكم محاميًا آخر ليقيم معكم إلى الأبد، الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنّه لا يراه ولا يعرفه، أمّا أنتم فتعرفونه، لأنه يقيم معكم ويكون فيكم” (14: 15- 17).
“قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيم معكم، وأما المحامي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو الذي يعلّمكم كلّ شيء، ويذكّركم جميع ما قلت لكم” (14: 25- 26).
“ومتى جاء المحامي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي” (15: 26).
“إن في انطلاقي لخيرًا لكم. فإن لم أنطلق لا يأتكم المحامي، وأما إذا انطلقت فإني أرسله إليكم… وعندي أشياء كثيرة أقولها لكم، غير أنّكم لا تطيقون الآن حملها. ولكن، متى جاء هو روح الحق، فإنه يرشدكم إلى الحقيقة كلّها، لأنّه لن يتكلّم من عند نفسه، بل يتكلّم بمَا يكون قد سمع، ويخبركم بمَا يأتي. انه سيمجّدني لأنَه يأخذ ممّا لي ويخبركم. جميع ما للآب هو لي، من أجل هذا قلت لكم: إنه يأخذ ممّا لي ويخبركم” (16: 7- 15).
من هذه النصوص يمكننا استخلاص التعاليم التالية في الثالوث الأقدس:
1) الروح القدس متميّز عن الآب والابن. فهو ليس شكلاً من أشكال، ولا حالة من حالات الآب أو الابن. فالابن يسأل الآب أن يرسل الروح: “وأنا أسأل الآب فيعطيكم محاميًا آخر” (14: 16)، “الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (14: 26). والروح يرسله الابن من لدن الآب، وهو في آن معًا ينبثق من الآب: “متى جاء المحامي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، فهو يشهد لي” (15: 26). فالمقصود اذن ثلاثة أقانيم متميزة.
2) أما عن علاقة الأقانيم بعضها ببعض، فنرى أولاً أ، علاقة الروح بالابن هي على مثال علاقة الابن بالآب. فكما أنّ الابن يشهد للآب: “انّا ننطق بمَا نعلم، نشهد بما رأينا” (3: 11)، “أنا أتكلّم بمَا رأيت عند أبي” (8: 38)، كذلك الروح يشهد للابن (15: 26). وكما أن الابن يمجد الآب: “أنا مجّدتك على الأرض” (17: 4)، كذلك الروح سيمجد الابن: “انّه سيمجدني…” (16: 14). وكما أن الابن لايقول شيئاً من نفسه، بل يقول ما حدّده له الآب الذي أرسله” (12: 49؛ 7: 16)، كذلك الروح “لن يتكلّم من عند نفسه بل يتكلّم بمَا يكون قد سمع… انه يأخذ ممّا لي ويخبركم” (16: 13- 14). وأخيراً كما أن الابن قد أرسله الآب، هكذا الروح قد أرسله الابن (15: 26، 16: 7).
3) إن علاقة الروح بالابن لا تنفي أوّليّة علاقته بالآب. فالابن يرسل الروح، ولكن “من لدن الآب” (15: 26). ثم إن الابن يسأل الآب، والآب يرسل الروح. والروح سيمجّد الابن: فيسوع يقول: “يأخذ ممّا لي ويخبركم”، ولكنّه يضيف: “جميع ما للآب هو لي، من أجل هذا قلت لكم: انه يأخذ ممّا لي ويخبركم” (16: 14- 15). فالابن هو ابن الآب، وقد أعطاه الآب كل شيء. وكذلك الروح “ينبثق من الآب” (15: 16). فالآب هو مصدر ولادة الابن، ومصدر انبثاق الروح.
3- الروح القدس في الكنيسة
ء) يسوع يرسل الروح القدس على تلاميذه
هذا الوعد الذي وعد به يسوع تلاميذه قد حقّقه بعد قيامته. فمنذ ظهوره الأوّل لهم يوم قيامته منحهم الروح القدس، كما جاء في إنجيل يوحنا: “قال لهم ثانية: السلام لكم. كما أنّ الآب أرسلني، كذلك أنا أرسلكم. ولمّا قال هذا، نفخ فيهم وقال لهم: خذوا الروح القدس. فمن غفرتم خطاياهم غُفرت لهم، ومن أمسكتم خطاياهم أُمسكتَ” (يو 20: 21- 22) إنّ سلطان مغفرة الخطايا هو سلطان إلهي. وهذا السلطان قد مارسه يسوع في حياته (راجع مثلاً شفاء مخلع كفرناحوم: متى 9: 1- 8)، لأنّ روح الربّ كان عليه. فالآن، كما أرسله الآب وملأه من روحه، يرسل بدوره تلاميذه و يمنحهم الروح القدس، قدرة الآب وسلطانه الإلهي على منح الحياة الإلهية للناس بمغفرة خطاياهم ومصالحتهم مع الله.
تلك هي المعمودية بالروح القدس والنار، التي تكلّم عنها يوحنا المعمدان في تبشيره بالمسيح: “أنا أعمّدكم بالماء للتوبة، وأمّا الذي يأتي بعدي… فهو يعمّدكم بالروح القدس والنار” (متى 3: 11). والنار هنا رمز التطهير من الخطيئة. وتلك هي المعمودية بالروح القدس التي وعد بها يسوع تلاميذه قبل صعوده إلى السماء: “لا تبرحوا أورشليم، بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منّي. فإنّ يوحنا قد عمّد بالماء، أمّا أنتم فستعمّدون بالروح القدس بعد أيام قليلة” (أع 1: 4، 5).
ويروي لوقا في الفصل الثاني من أعمال الرسل كيف تمّت تلك المعمودية بالروح القدس والنار:
“لمّا حل يوم الخمسين كانوا كلّهم معًا في مكان واحد. فحدث بغتة صوت من السماء كصوت ريح شديدة تعصف، وملأ كل البيت الذي كانوا جالسين فيه. وظهرت لهم ألسنة منقسمة، كأنّها من نار، واستقرَّت على كلّ واحد منهم. فامتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى، كما آتاهم الروح أن ينطقوا” (أع 2: 1- 4).
ويفسّر بطرس للشعب أنّ هذا الحدث هو تحقيق نبوءات العهد القديم:
“هذا هو ما قد قيل عن لسان يوئيل النبي: وسيكون في الأيام الأخيرة، يقول الله، أني أفيض من روحي على كلّ بشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبّانكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلامًا. أجل، على عبيدي وعلى إمائي أفيض، في تلك الأيام، من روحي فيتنبّأون… فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعًا شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وما تسمعون” (أع 2: 16- 18، 32، 33).
ثم يطلب بطرس من مستمعيه أن يتوبوا ويعتمدوا لينالوا موهبة الروح القدس: “توبوا، وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس. لأنّ الموعد هو لكم ولبنيكم، ولجميع الذين على بُعد، بمقدار ما يدعو الرب إلهنا منهم” (أع 2: 38، 39).
ماذا يعني في الواقع حلول الروح القدس على التلاميذ؟ وماذا يقصد التلاميذ بقولهم للشعب: توبوا واعتمدوا فتنالوا موهبة الروح القدس”؟ كيف تظهر تلك الموجة؟ إنّ التلاميذ، قبل حلول الروح القدس عليهم، كانوا خائفين، مختبئين، كما يقول يوحنا، “في منزل أبوابه موصدة خوفًا من اليهود” (يو 20: 19). ولمَّا حلّ عليهم الروح القدس، طفقوا يبشّرون بالمسيح بجرأة، “ويتكلّمون بلغات أخرى”، أي يبشّرون بالمسيح لجميع الشعوب وفي كلّ اللغات. ويقول يوئيل في نبوّته التي يذكرها بطرس: “أفيض من روحي على كل بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم”. والتنبّؤ هنا يعنىِ التكلّم باسم الله والشهادة لله.
فالروح القدس الذي حلّ على التلاميذ منحهم أن ينطقوا باسم الله ويشهدوا للمسيح. وهذا ما يؤكدونه أيضاً للشعب: إنّ من يتوب ويعتمد باسم يسوع ينال موهبة الروح القدس في، أي إنّ روح الله يملأه لينطق باسم الله ويشهد لله وللمسيح.فموهبة الروح القدس هي إذاً الامتلاء من روح الله، بحيث لا يعود الإنسان يفكّر بأفكار بشرية وينطق بأقوال بشرية، بل إنّ روح الله الذي يملأه هو الذي يفكّر فيه وينطق فيه. وروح الله هو أيضاً الذي يعمل فيه، لذلك إلى جانب الشهادة للمسيح نجد الرسل يجرون آيات وعجائب في الشعب: “حتى إنهم كانوا يخرجون بالمرضى إلى الشوارع، ويضعونهم على فرش وأسرّة، ليقع ولو ظلُّ بطرس، عند اجتيازه، على بعض منهم. وكان الجمع يبادرون، حتى من المدن المجاورة لأورشليم، حاملين المرضى والمعذّبين بالأرواح النجسة، وكانوا جميعهم يشفون” (أع 5: 15، 16).
إنّ هذه الآيات الخارقة هي مواهب خاصة يمنحها الروح القدس لمن يشاء، كما يقول بولس الرسول:
“كلّ واحد إنّما يعطى إظهار الروح للمنفعة العامة. فالواحد يعطى من قبل الروح كلام حكمة؛ والآخر كلام علم، بحسب الروح عينه؛ والآخر الإيمان، بذلك الروح عينه؛ والآخر موهبة الشفاء، بالروح الواحد عينه؛ وآخر إجراء العجائب؛ وآخر النبوّة، وآخر تمييز الأرواح. وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة. وهذه كلّها يفعلها الروح الواحد بعينه، موزّعًا، كيف شاء، على كل واحد خصوصًا” (1 كو 12: 7- 11).
إنّ عمل الروح القدس لا يقتصر على تلك المواهب الخاصة، بل يشمل الحياة المسيحية في جميع مرافقها. ويمكننا رؤية عمل الروح في وصف سفر أعمال الرسل لحياة الكنيسة الأولى. فالمواظبة على تعليم الرسل والشركة في الصلاة وكسر الخبز، أي القربان المقدس، والشركة في توزيع الخيرات، هي كلّها من عمل الروح القدس الذي كان يملأ المسيحيبن الأولين:
وكانوا مواظبين على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات، ووقع الخوف على كل نفس، لأنّ عجائب وآيات كثيرة قد جرت على أيدي الرسل. وكان جميع المؤمنين يعيشون معًا، وكان كل شيء مشتركًا فما بينهم، وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم، ويوزّعون أثمانها على الجميع بحسب حاجة كل واحد مدنهم. وكانوا كلّ يوم يلازمون الهيكل بنفس واحدة، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بابتهاج وسلامة قلب، ويسبّحون الله، نائلين حظوة عند جميع الشعب. وكان الرب كل يوم يزيد في الكنيسة عدد المخلّصين” (أع 2: 42-47).
ب) الروح القدس يكوّن الكنيسة
وهكذا يكوّن الروح القدس الكنيسة في كرازة الرسل فيها وانضمام المؤمنين إليها. لقد رافق الروح القدس الكنيسة منذ نشأتها وفي جميع مراحل نموها لذلك دعي سفر أعمال الرسل، الذي يروي نشأة الكنيسة ونموّها، “إنجيل الروح القدس”. الروح القدس هو قدرة الله التي تدفع بالكنيسة الناشئة “إلى أقاصي الأرض” حسّب قول يسوع لتلاميذه: “إنّكم ستنالون قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8).
لذلك يقود الروح القدس الرسل في كرازتهم. فالروح هو الذي قال لفيلبس أن يقترب من مركبة قيّم ملكة الحبشة (8: 29). والروح هو الذي قال لبطرس ألاّ يتردد في الذهاب إلى كرنيليوس قائد المئة، ويفتح أبواب الكنيسة للأمم (10: 19- 20). والروح هو الذي اختار بولس وبرنابا للرسالة (13: 2- 4). ونرى الرسل يصغون لإلهامات الروح القدس في عملهم الرسولي. فبولس وسيلا “جازا في فريجية وبلاد غلاطية، إذ منعها الروح القدس أن يبشّرا بالكلمة في آسية. ولما انتهيا إلى ميسية حاولا أن يشخصا إلى بيثينية، ولكنّ روح يسوع لم يأذن لهما” (16: 6، 7).
ويصغي الرسل لإلهامات الروح القدس في قراراتهم. لذلك في إعلانهم ما توصّلوا إليه في مجمع أورشليم بشأن موضوع إخضاع الأمم لشريعة موسى، نسمعهم يقولون: “لقد رأى الروح القدس ونحن” (15: 28)
يدعو سفر أعمال الرسل الروح القدس أحيانًا “روح يسوع” (16: 7)، لأنّ الروح القدس هو مواصلة حضور يسوع معهم. فالروح القدس هو الذي يعمل فيهم ما كان يسوع يعمله عندما كان معهم قبل موته وقيامته: التبشير بكلمة الرب، والدعوة إلى التوبة، وإجراء الأشفية. فالرسل يعلّمون باسم يسوع (4: 18)، ويدعون إلى التوبة والإيمان، كما كان يفعل يسوع (2: 38؛ 6: 7)، ويجرون الأشفية والآيات والعجائب باسم يسوع (3: 6، 4: 10، 30).
الروح القدس يعمل في الرسل ويعمل أيضاً في المؤمنين، فيجمع الشعب على اختلاف فئاته في جسد واحد هو جسد المسيح، حسب قو بولس الرسول: “إنّا جميعًا قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهودًا كنّا أم يونانيين، عبيدًا أم أحرارًا، وسقينا جميعًا من روح واحد” (1 كو 12: 13).
الكنيسة، حسب بولس الرسول، متحدّة اتحادًا وثيقًا باب فالمؤمنون يتبرّرون ويتقدّسون في المسيح وفي الروح (1 كو 1: 2، 30؛ 2 كو 5: 21)، ويتبرّرون ويتقدّسون أيضاً في الروح القدس (رو 14: 17). وكذلك في المسيح وفي الروح القدس يحصلون على السلام والفرح (في 3: 1؛ 4: 7؛ رو 14: 17). ومحبة الله قد أفيضت في قلوبهم في المسيح (رو 8: 39)، وفي الروح القدس (كو 1: 8). ويؤكّد بولس: “المسيح فيكم” (رو 8: 10)، “وروح الله ساكن فيكم” (رو 8: 9). والمسيحي هو ابن الله بالمسيح وبالروح (غلا 4: 4- 7).
الروح القدس يجعلنا أبناء الله: “لقد أخذتم روح التبنّي، الذي به ندعو أبّا! أيها الآب! فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا بأنّا أولاد الله” (رو 8: 15، 16). “والدليل على أنكم أبناء، كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه، ليصرخ فيها: أبّا! أيها الآب! فأنت إذًا لست بعد عبدًا، بل أنت ابنٌ، وإذا كنت ابنًا، فأنت أيضاً وارث بنعمة الله” (غلا 4: 6- 7). “إنّ جميع الذين يقتادهم روح الله هم أبناء الله” (رو 8: 14).
المسيحيون هم أبناء الله وهياكل الروح القدس وأعضاء في جسد المسيح. يقوم عمل الروح القدس في المؤمنين على أنّه يدخل أعماق الإنسان ليجعل منه عضوًا في جسد المسيح. لذلك يتكلّم بولس عن سكنى الروح القدس في المؤمنين: “أوَما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ روح الله ساكن فيكم؟” (1 كو 3: 16)، “أوَلا تعلمون أنّ أجسادكما هي هيكل الروح القدس الذي فيكم، الذي نلتموه من الله؟” (1 كو 6: 19). أمّا بالنسبة إلى المسيح، فالمؤمنون أعضاء المسيح: “أما تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء المسيح؟” (1 كو 6: 15). الكنيسة ليست جسد الروح القدس، بل جسد المسيح. فالروح القديس هو روح الله الذي يسكن في المؤمنين ليوحّدهم بالمسيح، ويدخلهم في علاقة المسيح بالآب.
الروح القدس هو قدرة الله الخلاّقة. علاقة المحبة التي عندما تنسكب في قلوب المؤمنين، تجعل منهم أشخاصاً مرتبطين بعضهم ببعض ومرتبطين بالله. الروح القدس هو علاقة الله بالبشر، والقدرة التي تربط البشر بالله. كأنّ الله، بروحه القدوس، يخرج من ذاته ويتّحد بالناس ليوحّدهم به. بالروح القدس يصير الإنسان والله واحدًا: “بهذا نعرف أنّا ثابتون فيه وهو فينا: بأنّه قد أعطانا من روحه” (1 يو 4: 13).
وتلك هي الكنيسة: حياة الله التي أتت بالمسيح وبالروح القدس تنسِكب في قلوب البشر، فتجعلهم أبناء الله وهياكل للروح القدس، أي توحّدهم بالله وتوحّدهم بعضهم ببعض، وتصيّرهم جسدًا واحداً للمسيح.
يقول القديس إيريناوس: “كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الروح للكنيسة. وهذا الروح الذي تسلّمته الكنيسة وأعطي لها ونُفخ فيها، هو المبدأ الحي للإتحاد الصميم بالمسيح: هو ثبات إيماننا، والسلّم الذي به نرتقي إلى الآب. وهو أخيرًا، وعلى الأخصّ، عربون وبذار لعدم الفساد حتى اللانهاية، حيث نُعتَق إلى الأبد من أصل الموت وجموده. فحيث الكنيسة هناك أيضاً روح الله، وحيث الله هناك الكنيسة وكلّ نعمة والروح هو حق: لذلك فانّ من لا يشترك في الروح لا يستقي من جوف أمّه غذاء الحياة، لا ينال شيئًا من الينبوع الصافي الذي يتدفّق من جسد المسيح” (ضد الهراطقة 3: 24، 1).
4- الحياة بالروح
يتوسّع العهد الجديد، ولا سيّمَا بولس الرسول، في الحياة بالروح، التي يجب أن يحياها أبناء الله: “إن كنّا نحيا بالروح فلنسلكنّ أيضاً بحسب الروح” (غلا 5: 25). أي إن كانت حياتنا هي من الروح، فينبغي أن يكون سلوكنا بحسب الروح. “إن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد حرّرك من ناموس الخطيئة والموت” (رو 8: 2). فالروح الذي أفيض في قلب المسيحي يصير مبدأ حياته. وكما أنّ الشجرة الصالحة تنتج ثمرًا صالحًا، هكذا الروح الذي يملأ قلب المسيحي من الداخل يثمر فيه ثمارًا صالحة: “أمّا ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام، وطول الأناة، واللطف والصلاح، والأمانة والوداعة والعفاف” (غلا 5: 22، 23).
وهذه الأعمال لا تُفرض على الإنسان من الخارج، بل تنبع من داخله بذاتيّة وحربّة. لا لأنّه “حيث يكون روح الرب، فهناك الحرّية” (2 كو 3: 17). لا شكّ أنّ الإنسان لا يصنع عندئذ إرادته بل إرادة الله. ولكن، بالروح القدس الذي أرض في قلبه، الري سكن فيه، الذي صار مبدأ أعماله، تصير إرادة الله إرادته، ورغبة الله رغبته.
وهذا لن يحدث دون موت وعذاب. فعلى المسيحي، حسب قول بولس، أن يموت مع المسيح ليستنّى له أن يقوم معه إلى حياة الروح: “لقد قمتم مع المسيح، فاطلبوا إذن مما هو فوق، حيث يقيم المسيحٍ جالسًا عن يمين الله… لأنّكم قد متّم للعالم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. فأميتوا إذا أعضاءكم الأرضية: الزنى والنجاسة والأهواء والشهوة الرديئة والطمع” (كو 3: 1- 5). “أسلكوا بالروح، فلا تقضوا شهوة الجسد. فإنّ الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد… فإنْ كنتم تنقادون للروح فلستم بعد تحت الناموس… لأنّ الذين هم للمسيح يسوع صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غلا 5: 16- 24).
إنّ هذا الموت عن الخطيئة هو الولادة الجديدة بالروح. فبالروح يصير المسيحي “إنسانًا جديدًا”، “إنسانًا روحيًا” (1 كو 2: 15)، وبالروح يحبّ، ويؤمن، ويرجو، ويصلّي، ويغلب العذاب والموت، ويحيا في الفرح والسلام.
ء) روح المحبة
المحبة أوّلاً هي حياة الله، هي روح الله. والمسيحي الذي يمتلئ من روح الله يمتلئ من المحبة، “لأنّ محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (رو 5: 6). والمحبة هي أوّلاً محبة الله لنا. والروح الذي يملأنا من المحبة التي أحبّنا بها الله يصير فينا ينبوع محبّة لله وللآخرين. فالروح ليس كالناموس، لأنّ الناموس يقيّد بأحكامه ووصاياه، ولكنّه لا يمنح أي قوّة لممارسة تلك الوصايا والأحكام. أمّا الروح فيعلّمنا كيف نحب، و يمنحنا القوّة على المحبة. ومن يحب يميّز ما يجب فعله: “لا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقلكم، لكي يتهيّأ لكم أن تميّزوا ما مشيئة الله، وما هو صالح وما يرضيه وما هو كامل” (رو 12: 3)؛ “لتكن محبتكم على نموّ صاعد في المعرفة والإدراك التام، حتى يكون في وسعكم أن تميّزوا القيم الحقّة” (في 1: 9).
ب) روح الإيمان.
المسيحي هو من يؤمن أنّ محبّة الله قد أُفيضت في قلوبنا بيسوع المسيح. فالروح القدس يقود إلى الإيمان بالمسيح. لذلك “ما من أحد يستطيع أن يقول “يسوع ربّ” إلاّ بالروح القدس” (1 كو 2: 3). “بذلك تعرفون روح الله: أنّ كلّ روح يعترف بأنّ يسوع المسيح قد أتى في الجسد، هو من الله، وكلّ روح لا يعترف بيسوع ليس من الله، بل هذا روح المسيح الدجّال…” (1 يو 4: 2، 3).
لذلك يدعو يسوعُ الروحَ القدس “روح الحق” (يو 16: 13)، وينبئ تلاميذه بأنّ هذا المحامي “متى جاء فإنّه يفحم العالم بشأن الخطيئة والبِرّ والدينونة. فبشأن الخطيئة، لأنَّهم لم يؤمنوا بي. وبشأن البر، لأنّي منطلق إلى الآب ولا تروني من بعد. وبشأن الدينونة، لأن زعيم هذا العالم قد دين” (يو 16: 8- 11). فالروح يفحم العالم أوّلاً بشأن الخطيئة، أي إنّه يظهر للعالم خطيئته التي قادته إلى صلب المسيح، ثم يبيّن للعالم برّ الله: فالله قد برّر المسيح، إذ أقامه وأصعده إلى السماء. وكلّ إنسان يمكنه الحصول على هذا البرّ بالإيمان بالمسيح وقبول المغفرة التي منحنا إيّاها على الصليب. وأخيرًا يشهد لقيامة المسيح وانتصاره على قوى الشر. وتلك هي دينونة العالم. وهكذا يُدخِل الروحُ القدس المؤمنين والعالمَ إلى سرّ المسيح وموته وقيامته.
الكنيسة الأولى كانت تدعو سر المعمودية سر الاستنارة. وبولس الرسول يرى أنّ الإنسان الروحي يستطيع أن يرى ما لا يراه الإنسان الطبيعي:
“لقد أعلنه لنا الله بروحه. لأنّ الروح يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله. فمَنْ مِن الناس يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه؟ فهكذا أيضاً، ليس أحد يعرف ما في الله إلاّ روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لكي نعرف ما أنعم به علينا الله من النعم. ونتكلّم عينها لا بأقوال تعلّمها الحكمة البشرية، بل بما يعلّمه الروح، معبّرين بالروحيات عن الروحيات. إن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما هو من روح الله، فإنّه جهالة عنده، وليس في وسعه أن يعرفه، لأنّه بالروح يُحكَم فيه. أمّا الإنسان الروحي فإنّه يحكم في كل شيء، ولا أحد يحكم فيه. لأنّه “من عرف فكر الرب فيعلّمه؟ “أمّا نحن فعندنا فكر المسيح” (1 كو 2: 10- 16).
إنّ الوحي، في المسيحية، لا يقوم على أنّ الله يكشف للإنسان حقائق يستحيل عليه إدراكها بالعقل، بقدر ما يقوم على أنّ الله يخرج من ذاته، وذلك بروحه القدّوس الذي هو ذات الله، ويلاقي الإنسان في صميم ذاته، حيث العقل والإرادة والحب. والإيمان الذي ينتج من ذلك هو شركة محبة في الروح. والمعرفة التي تنجم عن ذلك ليست معرفة عقلية بقدر ما هي معرفة كيانية تتخطّى كلّ عقل كما أنّ الحب يتخطّى كل إدراك.
ج) روح الرجاء
“المسيح فيكم رجاء المجد” (كو 1: 27). المسيحي الذي يصير بالإيمان إنسانًا جديدًا يتّحد بالمسيح. ولكن هذا الاتحاد يبقى اتحادًا أوّليًا يبعث الرجاء في الاتحاد الكامل. يذكّر بولس التسالونيكيين “بثبات رجائهم بربّنا يسوع المسيح” (1 تسا 1: 3). ويشكر الله “على أنّهم رجعوا إلى الله عن الأوثان ليعبدوا الله الحيّ الحقيقي، وينتظروا من السماوات ابنه، الذي أنهضه من بين الأموات، يسوع الذي ينقذنا من السخط الآتي” (1 تسا 1: 9، 10).
الرجاء حركة مزدوجة فيها يقين وفيها رغبة. فاليقين هو اللقاء الحاصل مع الرب، والرغبة هي في لقاء الرب لقاءً كاملاً. وكلا اليقين والرغبة هو عمل الروح القدس في الإنسان. فما أعطي لنا هو “باكورة الروح” (رو 8: 23): “إنّ الله هو الذي ختمنا وجعل عربون الروح في قلوبنا” (2 كو 1: 22)؛ “لقد خُتمتم بروح الموعد القدّوس الذي هو عربون ميراثنا” (أف 1: 13، 14). إنّ الروح الذي نلناه في المعمودية حاضر فينا حضور البزرة بالنسبة للشجرة (راجع مثل حبة الخردل: متى 13: 31، 32). الشجرة كلّها حاضرة في البزرة، والقوّة التي تنمي البزرة لتصبح شجرة حاضرة فيها بملئها، ولكن يلزمها وقت لتنمو وتصل إلى ما هي عليه. كذلك الروح حاضر فينا بملئه، وعمله فينا عمل دائم، ويقوم رجاؤنا على ترقّب بلوغه كماله فينا.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرجاء لن يتحقق بدوننا. فالله صار إنسانًا مثلنا، وأرسل إلينا روحه الإلهي ليعمل فينا ومعنا على تأليه الكون. ولأنّنا نؤمن بحضور روح الله فينا ونؤمن بأنّه سيقود العالم إلى كماله، نسهم معه في هذا العمل الإلهي. ويقوم إسهامنا جوهريًا على أن نصغي إلى إلهاماته ونفسح له في المجال ليعمل فينا. وهذا ما يعنيه بولس بقوله: “لا تطفئوا الروح” (1 تسا 5: 19)، “لا تحزنوا روح الله القدّوس، الذي خُتمتم به لأجل يوم الفداء” (أف 4: 30).
اليقين بحضور الروح فينا ينشئ فينا الفرح والسلام ويحملنا على العمل الدائم مع الروح. والرجاء ينشئ فينا الحنين إلى تجلّي المسيح النهائي في المجد:
“إنّي لأحسب أنّ آلام هذا الدهر الحاضر لا يمكن أن تُقابَل بالمجد المزمع أن يتجلّى لنا. لذلك تتوقّع الخليقة، مترقّبة، تجلّي أبناء الله. لأنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل، لا عن رضى بل بسلطان الذي أخضعها، إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضاً، من عبودية الفساد إلى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخّض. وليس هي فقط، بل نحن أيضاً، الذين لهن باكورة الروح، نحن أيضاً نئنّ في أنفسنا، منتظرين التبنّي، افتداء أجسادنا. لأنّا بالرجاء خلّصنا. على أنَ رجاء ما يُشاهَد ليس برجاء، لأنّ ما يشاهده المرء كيف يرجوه أيضاً؟ ولكن، إن كنا نرجو ما لا نشاهد، فبالصبر ننتظره” (رو 8: 18- 25).
د) روح الصلاة
الصلاة اتصال بالله واتّحاد به. ولكنّ الله نفسه، بروحه القدّوس، قد أتى إلينا وسكن فينا. فصلاتنا هي إذًا اتحاد بالروح القدس الساكن فينا: “الروح يعضد ضعفنا. لأنّا لا نعرف كيف نصلّي كما ينبغي، لكنّ الروح نفسه يشفع فينا بأنّات تفوق الوصف. والذي يفحص القلوب يعلم ما ابتغاء الروح، لأنّه بحسب الله يشفع في القديسين” (رو 8: 26، 27). دخولنا في الصلاة هو استجابة لصلاتنا، لأنّ دخولنا في الصلاة هو دخول في حوار الروح القدس مع الله، وبالتالي اشتراك في حياة الله نفسه.
فما يجب أن نطلبه إذًا في صلاتنا هو الروح القدس: “إذا كنتم، مع ما أنتم عليه من الشرّ، تعرفون أن تمنحوا العطايا الصالحة لأولادكم، فكم بالأحرى أبوكم السماوي يمنح الروح القدس لمن يسأله” (لو 11: 13). وعندما يسكن الروح القدس فينا يصير هو مبدأ حياتنا ومبدأ أعمالنا، فيتقدّس فينا اسم الله، ويأتي فينا ملكوته وتتمّ مشيئته. في بعض المخطوطات القديمة ترد عبارة “ليأتِ روحك”، عوضًا عن “ليأت ملكوتك”، في الصلاة الربّية. فالاتحاد بروح الله هو في الواقع الدخول في ملكوت الله. ومع الروح القدس الساكن فينا نعمل على تقديس اسم الله وإحلال ملكوته وتتميم مشيئته في الآخرين وفي العالم أجمع. لذلك يوصي بولس الأفسسيين: “صلّوا كلّ حين، في الروح، كلّ صلاة ودعاء. إسهروا لهذا في مواظبة لا تني” (أف 6: 18).
هـ) روح القيامة
العذاب والموت شكٌّ للإنسان. ويسوع نفسه، في نزاعه في بستان الزيتون قد طلب أن تعبر عنه كأس العذاب والموت: “يا أبتاه! إنّ كلّ شيء ممكن لديك، فأَجِزْ عنّي هذه الكأس! ولكن ليس ما أريد أنا، بل ما تريد أنت” (مر 14: 36). عن صلاة يسوع هذه تقول الرسالة إلى العبرانيين: “إنه هو الذي، في أيّام بشريّته، قرّب تضرّعات وابتهالات، في صراخ شديد ودموع، إلى القادر أن يخلّصه من الموت، فاستجيب له بسبب ورعه… وبلغ الكمال (عب 5: 7- 9). استجيب له، لا بأنّه أُنقذ من الموت، بل بأنّه أقيم من بين الأموات. وقيامته كانت بقدرة الروح: “إن المسيح بعد إذ أُميت، استردّ الحياة بالروح” (1 بط 3: 18).
وكما أقام الروح يسوع، هكذا سيقيمنا نحن أيضاً: “إنْ كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحي أيضاً أجسادكم المائتة، بروحه الساكن فيكم” (رو 8: 11). العذاب والموت لن يغيبا عن حياة الإنسان، ولكن عندما يحلّ في قلبه الروح القدس، يزول عنه الشك، ويظهر له الله إلهَ القيامة والحياة.
عندما طعن الجند جنب يسوع بحربة، “خرج من جنبه دم وماء” (يو 19: 34). الدم علامة الموت، والماء علامة الروح وعلامة الحياة: “إنْ عطش أحد، يقول يسوع، فليأتِ إليّ ويشرب. من آمن بي فستجري من جوفه، كما قال الكتاب، أنهار ماء حيّ”. ويضيف يوحنا: “قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. فالروح لم يكن بعد قد أعطي، لأنّ يسوع لم يكن بعد قد مُجّد” (يو 7: 37- 39).
إنّ منح الروح القدس مرتبط بتمجيد يسوع، أي بقيامته وصعوده إلى السماء ودخوله في مجد الآب. لكنّ يسوع لم يتمجّد بالروح إلاّ لأنّه قرّب نفسه للموت بالروح: “إنّ المسيح، بروح أزليّ، تقول الرسالة إلى العبرانيين، قد قرّب لله نفسه بلا عيب” (عب 9: 14). وهذا الروح هو روح الله، روح المحبة. لقد غيّر المسيح معنى الموت عندما ملأ الموت بالمحبة، وأوصى تلاميذه أن يسلكوا كما سلك هو: “هذه وصيّتي: أن يحبّ بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا. ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل الحياة عن أصدقائه. فأنتم أصدقائنا إذا صنعتم ما أنا موصيكم به” (يو 15: 12، 13). المسيحي، بالمعمودية، “يولد من الماء والروح” (يو 3: 5) لحياة جديدة هي حياة الله، أي حياة المحبة، “لأنّ الله محبة” (1 يو 4: 8، 16). وهذا الروح، روح الله وروح المسيح وروح المحبة، الذي يرافق المسيحي منذ ولادته الجديدة ويعطي معنى لحياته، يرافقه أيضاً في وسط عذابه وموته ويضق عليهما معنى.
الإنسان خلق ليحيا في علاقة، وبقدر ما تكتمل علاقته بالله وبالآخرين، بقدر ذلك يصير إنسانًا. لذلك فإنّ الموت، الذي هو العزلة القصوى، يبدو وكأنّه يفرغ الإنسان من ذاته. فبدون الله وبدون روح القيامة والحياة، مصير الإنسان الفراغ واليأس. في لوعة هذا الفراغ وعمق هذا اليأس يتجلّى الروح القدس، المعزّي الصالح، فيملأ الفراغ من ملء الله ويلاشي اليأس في خضمّ محبة الله. وإذّاك يتحوّل موت الإنسان إلى شركة حياة مع الله. هكذا مجّد الله يسوع بالروح القدس، وهكذا سيمجّدنا نحن أيضاً معه: “إن نحن متنا مع المسيح، فسنحيا معه” (2 تي 2: 11)، “إن كنّا نتألّم معه، فلكي نتمجّد أيضاً معه” (رو 8: 17).
و) روح الفرح والسلام
في هذا الجوّ المفعم بالمحبة والإيمان والرجاء والصلاة والقيامة، لا يعود مكان للحزن في قلب المسيحي. الفرح هو العلامة التي لا تخطئ على وجود الروح القدس في قلب المسيحي: “إنّ ثمر الروح هو المحبة والفرح والسلام” (غلا 5: 22)؛ “إنّ ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17). إنّ حضور الروح يشعّ بالفرح والسلام: “أمّا التلاميذ فكانوا ممتلئين من الفرح والروح القدس” (أع 13: 52). وبعد أن جلد رؤساء الكهنة الرسل وأطلقوهم، يقول سفر أعمال الرسل: “أمّا هم فخرجوا من وجه المحفل، فرحين بأنهم حُسبوا أهلاً لأن يهانوا من أجل اسم يسوع” (أع 5: 41).
لذلك، في وسط المضايق والعذابات، يفيض بولس فرحًا: “إنّي أفيض فرحًا في كل ضيقنا” (2 كو 7: 4)؛ “نفتخر حتى في الشدائد لعلمنا أن الشدّة تنشئ الصبر، والصبر يُنشئ الفضيلة المختبرة، والفضيلة المختبرة تنشئ الرجاء. والرجاء لا يخزي، لأنّ محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (رو 5: 3- 5). وكذلك يوصي بطرس الرسول المسيحيين قائلا: “إذا ما أهنتم من أجل اسم المسيح فطوبى لكم. لأنّ روح المجد، الذي هو روح الله، يستقرّ عليكم” (1 بط 4: 14).
الفرح والسلام الداخلي علامة المسيحي المميّزة. ولكنّ الفرح والسلام لا يمكن المسيحي أن يحصل عليهما بقوّته الذاتية. فكا أنّ النور هو إشعاع من الشمس، كذلك الفرح والسلام هما إشعاع من الروح الساكن في قلب المسيحي. لذلك يميّز المسيح بين السلام الذي يعطيه العالم والسلام الذي يعطيه هو، وبين فرح العالم وفرح تلاميذه:
“السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم؛ لست أعطيكموه كما يعطيه العالم. لا تضطرب قلوبكم ولا ترتعد! (يو 14: 27)، “إنّي منطلق إلى من أرسلني… ولكن، لأنّي قلت لكم ذلك، ملأت الكآبة قلوبكم… الحقّ الحقّ أقول لكم: إنَّكم ستبكون وتنوحون، والعالم سيفرح. إنَّكم ستحزنون، ولكنّ حزنكم سينقلب فرحًا. المرأة، إذا ما حان وضعها، مخزن، لأنّ ساعتها قد أتت، ولكنّها متى وضعت الطفل لا تعود تتذكّر شدّتها، فرحة بأن إنسانًا ولد في العالم. وأنتم أيضاً، فإنّكم الآن في حزن، ولكنّي سأراكم من جديد، فتفرح قلوبكم، وفرحكم هذا، لا يقدر أحدٌ أنْ ينتزعه منكم” (يو 16: 5- 7، 20، 22).
لمّا قام يسوع ورآه التلاميذ من جديد، يقول يوحنا: “ففرح التلاميذ إذ أبصروا الرب” (يو 20: 20). إنّ قيامة المسيح وحضوره فيهم بروحه القدوس هما أساس فرح التلاميذ. المسيحي لا يمكنه أن يفرح فرحًا حقيقيًا دائمًا إلاّ بالرب: “إفرحوا في الرب على الدوام، وأقول أيضاً افرحوا” (في 3: 4). فرحه هو بقوّة الرب وبحضور الروح القدس، روح الرب، معه وفيه.
هكذا ظهر لنا الروح القدس في الكتاب المقدس. وكما لاحظنا، لا نجد الكتاب المقدس تحليلاً نظرياً ولا تحديداً عقائدياً لكيان الروح القدس. إنّ ما نجده هو حصيلة خبرة شعب الله، في العهد القديم وفي العهد الجديد، لحضور روح الله وعمله في الكون وفي الإنسان، ولملء حضوره وعمله في شخص يسوع المسيح ومن ثمَّ في الرسل والكنيسة. فالروح القدس هو روح الله الذي يملأنا من حياته دون أن نستطيع إدراك سرّه. إنّه “الرب المحيي”، إنه حيّ وفعّال، وإنْ لم نَقْوَ على الإحاطة به. إنّه كالريح، حسب تشبيه المسيح لنقودموس: “الريح تهبّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، بيد أنّك لا تعرف من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب. فهكذا يكون الأمر ممّن يولد من الروح” (يو 3: 8).
الروح القديس هو حضور الله فينا، يقودنا إلى ملء الله، ويقود الخليقة كلّها إلى تجلّي أبناء الله. ويشمل عمل الروح القدس الخليقة في كلّ أبعادها المادية والروحية، الحاضرة والمستقبلة، الأرضية والسماوية. فالروح القدس يحي التاريخ كلّه ويلقي ملء نوره على تلمّس الناس حياةً أفضل وعلى سعيهم نحو الحق والعدالة والسلام وجميع القيم الحقة، في انتظار ملكوت ليس من هذا العالم. فالملكوت يأتي في الحياة والتاريخ عندما يملأ روح الله الحياة والتاريخ.
الروح القدس هو روح الله نفسه، والعمل الذي يُنسَب إليه في الكتاب المقدّس لا يمكن أن يُنسَب إلاّ إلى الله نفسه. لذلك أكّد آباء الكنيسة والمجامع المسكونية واللاهوتيون على مدى القرون ألوهيّة الروح القدس، وأعلنوا أنّ الروح القدس هو أحد أقانيم الثالوث الأقدس.
خلاصة
هذا هو إيمان العهد الجديد بالثالوث. وهذا الإيمان لم يصل إليه الرسل بتأثير من الديانات القديمة ولا من الفلسفة اليونانية. انما هو حصيلة اختبار روحي اختبروه في لقائهم يسوع المسيح في حياته وبعد قيامته. ففي عمله رأوا عمل الله، وفي حضوره رأوا حضور الله. ومن بعد قيامته ظهر لهم وأرسل إليهم روحه القدوس ليقيم معهم ويمكث يخدم ويقودهم إلى الله. واستنادًا إلى هذا الإيمان راحت الكنيسة تبني عقيدة الثالوث الأقدس. كيف تكوّنت تلك العقيدة؟ وكيف صاغتها الكنيسة على مدى العصور في تعاليم الآباء وتحديدات المجامع المسكونية وتعاليم اللاهوتيّين؟
الفصل الثاني الثالوث الأقدس
في تعاليم الآباء والمجامع المسكونيّة
أوّلاً- في القرنين الأول والثاني
1- الثالوث الأقدس في سرّي المعمودية والافخارستيّا
تتّضح لنا عقيدة الكنيسة الأولى في الثالوث الأقدس ليس فقط في تعاليم الآباء بل في ممارسة الأسرار المقدسة، ولا سيّمَا سرَّي المعمودية والإفخارستيّا. إنّ إيمان الكنيسة الأولى بالثالوث الأقدس قد انطلق من خبرة الرسل الذين عاشوا مع المسيح ابن الله واختبروا عمل الروح القدس في المسيح وفيهم من بعد قيامه المسيح. وهذا الاختبار هو الذي نقلوه إلى جميع المؤمنين بالمسيح عبر الأسرار المقدّسة، ولا سيّمَا سرَّي المعمودية والافخارستيّا. فمَا آمنوا به عبّروا عنه في الأسرار. لذلك نجد علاقة وثيقة بين كرازة الإيمان وممارسة الأسرار. وتلك العلاقة واضحة في وصية يسوع لتلاميذه بعد قيامته: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” متى 28: 19- 20). فالتعليم يسبق المعمودية، والمعموديّة تعبّر عن قبول التعليم وصدق الإيمان. والعلاقة ذاتها نجدها في إنجيل مرقس: “إذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، فمن آمن واعتمد يخلص” (مر 16: 15- 16). وهنا أيضاً التعليم والإيمان يسبقان المعمودية.
ء) المعمودية
لذلك ينطلق تعليم الكنيسة الأولى في عقيدة الثالوث الأقدس من الكرازة التي كانت تهيّئ الموعوظين لتقبّل سرّ المعمودية. ففي تلك الكرازة كانت تفسّر لطالبي العماد معاني هذا السر وأبعاده ومضمون الإيمان الجديد الذي سوف يعتنقونه. وقبل المعمودية وفي طريقة منح السر ذاتها، كان يُطلب من المعتمدين إعلان إيمانهم.
نقرأ في “العقليد الرسولي” لهيبوليتوس الروماني، الذي كُتب سنة 215، أنّ الأسقف، أو الكاهن، يقف بجوار الماء، بينما ينزل الشماس في الماء مع طالب العماد. ويضع الأسقف يده على رأس المعتمد، ويسأله:
– “هل تؤمن باله الآب القدير؟”، فيجيبه المعتمد: “إنّي أومن به”، فيغطسه إِذّاك في الماء مرة أولى. ثم يضع من جديد يده على رأسه ويسأله ثانية:
– “هل تؤمن يسوع المسيح ابن الله، الذي وُلد بفعل الروح القدس من مريم العذراء، ومات وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وجلس عن يمين الآب، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات؟”، فيجيبه المعتمد: “إنّي أومن به”، عندئذ يغطسه في الماء مرة ثانية. ثم يسأله ثالثة:
– “هل تؤمن بالروح القدس، وبالكنيسة المقدسة، وبقيامة الجسد؟”، فيجيب المعتمد: “إنّي أومن”. وإذّاك يغطسه مرة ثالثة. ثم يخرج المعتمد من الماء.
وتلك العادة كانت منتشرة في معظم الكنائس المسيحية، كما تشير إلى ذلك مؤلفات يوستينوس، وديونيسيوس الاسكندريِّ، وترتوليانوس، وكبريانوس، وسِيَر الشهداء التي تعود إلى القرن الثالث.
إن إعلان الإيمان هذا، في أثناء رتبة المعمودية، هو شهادة لموجز العقيدة المسيحية، و”قانون الإيمان” الكنيسة الأولى. ويبدو لنا الاعتراف بالثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، الركن الأساسي في تلك العقيدة.
ب) الافخارستيا
في الافخارستيا، سرّ الشكر، تحتفل الكنيسة بعظائم الله وتشكر له كلّ ما صنعه لأجلنا، ولا سيّمَا إرساله إلينا ابنه يسوع المسيح وروحه القدوس. لذلك يرد ذكر الأقانيم الإلهية الثلاثة في إقامة. كل افخارستيا، لدى تقدمة القرابين وتقديسها (ما يُدعى باليونانية الأنافورا).
يروي هيبوليتوس الروماني في التقليد الرسولي كيف كانت الكنيسة الأولى تحتفل بهذا السر:
“يقدّم الشمامسة القرابين إلى الأسقف، فيضع يده عليها، ويتلو عليها الصلاة التالية: “نرفع لك الشكر، يا الله، بابنك الحبيب يسوع المسيح، الذي أرسلته إلينا في تمَام الأزمنة مخلّصاً وفاديًا ومبلغًا إيانا ارادتك”. وبعد ذكر كلام الرب على الخبز والخمر، يتابع قائلاً: “نطلب إليك أن ترسل روحك القدوس على تقدمة الكنيسة المقدّسة، وأن تجمع النفوس لتوطيد الإيمان في الحق”. ويختم بالتمجيد: “ولذا نريد أن نسبّحك ونمجّدك بابنك يسوع المسيح، الذي به نرفع إليك التمجيد والإكرام، أيها الآب والابن والروح القدس، في الكنيسة المقدّسة، الآن وإلى دهر الداهرين. آمين”.
على هذا المثال كانت تُتلى كل صلاة افخارستيّة: فالصلاة تتوجّه إلى الآب، الذي أرسل ابنه المخلّص، وتطلب إليه الآن أن يرسل روحه القدوس على القرابين ليكرّسها ويجعلها جسد المسيح ودمه، وكل الشعب كله ليقدّسه ويوطده في الإيمان ويجمعه في الوحدة.
2- الثالوث الأقدس في تعليم الآباء
لم يكتف الآباء في تعليمهم بترداد. أقوال العهد الجديد في الثالوث الأقدس، بل حاولوا توضيح علاقة الأقانيم بعضها ببعض، وذلك في تفسير العقيدة المسيحية للمسيحيين، والدفاع عنها إمّا ضد الوثنيين وإمّا ضد الغنوصيين.
ء) الآباء المناضلون
يستقي الآباء المناضلون دفاعهم عن الإيمان المسيحي وعقيدتهم اللاهوتية من الكتاب المقدس ومن إيمان الكنيسة الأولى. إلاّ أنهم يعبّرون عن هذا الإيمان بتعابير مستقاة من الفلسفة اليونانية، وذلك في سبيل إيصال الإيمان المسيحي إلى اليونانيين المتشرّبين تلك الفلسفة.
لكن التعبير عن الإيمان المسيحي بمفاهيم الفلسفة اليونانية له مخاطره، اذ يمكن أن يؤثّر اللجوء إلى تلك المفاهيم على العقيدة نفسها. ولم يقو اللاهوت المسيحي على إزالة كل تلك المخاطر إلا تدريجيًّا.
لذلك نلاحظ عند الآباء المناضلين، من أمثال القديس يوستينوس، وتاتيانوس، وأثيناغوراس، والقديس ثيوفيلوس أسقف أنطاكية، بعض الالتباس في تأكيد أزليّة الابن والروح القدس ووحدتهما في الجوهر مع الآب. وقد تأثروا، في هذا الموضوع، بالنظرة الافلاطونية لله التي تضع بين الله الأسمى والإنسان قافلة من الكائنات التي تحتلّ مرتبة وسطًا بين الله والإنسان، لأن الله، في نظرها، بعيد كلّ البعد عن العالم المخلوق، ولا يمكنه أن يتصل به إلا بواسطة تلك الكائنات. والكلمة (باليونانية “لوغوس”) هي أعظم تلك الكائنات، وبالكلمة خلق الله العالم. فالخطر، في اللاهوت المسيحي، يكن في اعتبار ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وكلمة الله، كائنًا وسطًا بين الله والإنسان. وفي هذا الموضوع لا تخلو كتابات الآباء المناضلين من الالتباس. يقول مثلاً يوستينوسِ:
إنّ ابن الله، الوحيد الذي يدعى ابنًا بالمعنى الحقيقي، والكلمة الذي، قبل كل الخلائق، كان مع الله، وولد عندما صنع الآب، به، في البدء، كل شيء ونظّمه” (دفاع 2: 1، 2).
فكأن كلمة الله لم يولد الا عندما صنع الله الكون. وكذلك يقول ثيوفيلوس:
“لمّا أراد الله أن يصنع ما قرّره، ولد هذا الكلمة، لافظاً إيّاه بكر كل خليقة، اذ لم يحرم ذاته من الكلمة، بل ولد الكلمة، وكان بتحدّث دومًا معه” (كتاب إلى اوتوليكوس 2: 22).
يميّز ثيوفيلوس بين الكلمة الباطني، القائم منذ الأزل في الله، الذي هو فكر الله وعقل الله وعلم الله؟ والكلمة الملفوظ أو المنطوق به، الذي ولده الآب لمّا لفظه ونطق به قبل الخلائق، وبمساعدته صنع الكون:
“ان الله، اذ فيه كلمته الباطني، ولده مع حكمته، لافظًا إيّاه قبل كل شيء” (2: 10). “قبل ان يخلق أيّ شيء، كان الكلمة الباطني موجودًا على الدوام في قلب الله. لقد كان له مشيرًا، هو عقله وفكره” (2: 18).
يؤكد هؤلاء الآباء الوهية الابن والروح، اذ يميّزون بين “صنع الخلائق”، وولادة الابن، ووحدة الجوهر الإلهي بهن الآب والابن والروح القدس. يقول اثيناغوراس:
“إنّ ابن الله هو كلمة الآب بالفكر والقدرة. اذ فيه وبه كوّن كل شيء، لأن الآب والابن هما واحد فالابن هو في الآب، والآب هو في الابن في وحدة الروح وقدرته. إنّ ابن الله هو عقل الآب وكلمته. واذا أردتكم، بحكمتكم السامية، أن تعرفرا ما معنى “الابن”، سأقوله لكم ببضع كلمات: إنه وُلد من الآب، لا بمعنى أنه صُنع. فالله، منذ البدء، هو عقل أزلي، وبمَا أنه عاقل منذ الأزل، كان معه كلمته (الذي هو عقل الله)”.
سترفض الكنيسة في ما بعد التمييز بين الوجودين لكلمة الله: الوجود الباطني في الله، والوجود الخارجي الذي حصل عندما لفظ الله الكلمة ونطق به. ففي هذا التمييز التباس بالنسبة إلى تأكيد ازلية الكلمة، وخطر الانحراف نحو الاعتقاد بتطوّر كلمة الله وتبدّله من حال إلى حال. إلا أن لاهوت الآباء المناضلين في الثالوث الأقدس قد سار منذ البدء في الاتجاه الصحيح، الذي يؤكّد في آن معًا تثليث الأقانيم ووحدة الجوهر. وهذا ما سيعبّر عنه بوضوح أكثر القديس ايريناوس.
ب) القديس إيريناوس، أسقف ليون (140- 202)
توسّع ايريناوس في عقيدة الثالوث الأقدس في كتابيه: “ضد الهراطقة”، و”تبيين الكرازة الرسولية”. فالكتاب الأوّل موجّه ضد الغنوصيين الذين كانوا يفرّقون بين الإله الأسمى البعيد عن الكون والذي لا علاقة له بأيّ من الكائنات، والإله الأدنى الذي انبثق عن الإله الأسمى، وسقط بالتالي من جوهر الالوهة، وبه خلق الإله الأسمى الكون. فالخالق هو إذًا، في نظرهم، الإله الأدنى. والكتاب الثاني هو عرض بسيط شعبي للعقيدة المسيحية وتبيين أسسها الرسولية.
معرفة الله: يؤكد إيريناوس أنّ الإله الأسمى هو نفسه الإله الخالق، وأنه لا وجود لآلهة أدنين سقطوا من جوهر الالوهة. فالإله واحد، وهذا الإله قد عرّف ذاته لجميع الناس معرفة أولى بواسطة الخلق. ثم أوحى ذاته تدريجيًّا بواسطة الأنبياء، وأخيرًا بواسطة ابنه وكلمته يسوع المسيح.
أما بشأن إمكانية توصّل الناس إلى معرفة الله، فكان الغنوصيون يقسمون الناس إلى ثلاث فئات: المادّيين، أبناء الشيطان، الذين لا يمكنهم الوصول إلى معرفة الله، والنفسيين، أبناء الإله الأدنى، الذين يرتفعون بالمعرفة ثم يسقطون عنها، وأخيرًا الروحيين، أبناء الله، الذين يعرفون الله منذ الآن معرفة ثابتة بحَدْسهم الطبيعي. وهؤلاء فقط يمكنهم القول أنهم يعرفون الله معرفة كاملة.
جوابًا على هذه النظرة يؤكّد إيريناوس أنّ جميع الناس متساوون إزاء سر الله، الذي لا يمكن كشفه كشفًا تامًا بواسطة العقل، بل بواسطة الوحي الذي أتانا به ابن الله.
والكلمة، اذ يظهر الله للناس، لا يظهره بشكل يتيح لهم رؤيته رؤية مباشرة، وذلك لئلاّ يصل الإنسان إلى احتقار الله، وليكون دومًا أمامه هدف يحثّه على التقدّم” (ضد الهراطقة 4: 20، 7).
وحتى في السماء لن يزول هذا التقدّم في معرفة الله. يقول إيريناوس:
“ان كانت هناك، حتى في عالمنا المخلوق، أمور يحتفظ بها الله وأمور يستطيع علمُنا البلوغ إليها، فهل من الغريب أن نجد في الكتاب المقدس الذي هو روحي بمجمله، مسائل يمكننا حلّها بنعمة الله، ومسائل أخرى يحتفظ بها الله لنفسه، ليس في هذا العالم وحسب، بل أيضاً في العالم الآخر، وذلك لكي يبقى الله دوما يعلَمنا، ويظلّ الإنسان على الدوام يتعلّم على يد الله” (ضد الهراطقة 2: 28، 2- 3).
* المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس
يؤكّد ايريناوس أنّ معرفة الله لدى المسيحيين تبدأ بالمعمودية التي ينالونها على اسم الآب والابن والروح القدس. يقول في “تبيين الكرازة الرسولية”:
“إليكم ما يؤكده لنا الإيمان، كما سلّمنا إياه الكهنة، تلاميذ الرسل. انه يذكّرنا أوّلاً أننا نلنا المعمودية لمغفرة الخطايا باسم الله الآب، وباسم يسوع المسيح ابن الله الذي تجسّد ومات وقام، وفي روح الله القدوس… عندما نولد من جديد بالمعمودية التي تُعطى لنا باسم هذه الاقانيم الثلاثة، نغتني في هذه الولادة الجديدة من الخيرات التي في الله الآب بواسطة ابنه، مع الروح القدس. فالذين يعتمدون ينالون روح الله، الذي يعطيهم للكلمة، أي للابن، والابن يأخذهم ويقدّمهم للآب، والآب يمنحهم عدم الفساد. وهكذا بدون الروح، علينا رؤية كلمة الله، وبدون الابن لا يستطيع أحد الوصول إلى الآب. فان معرفة الآب هي الابن، ومعرفة ابن الله نحصل عليها بواسطة الروح القدس. ولكن الابن هو الذكي من شأنه توزيع الروح، حسب مسرّة الآب، على الذين يريدهم الآب، وعلى النحو الذي يريد” (الكرازة الرسولية 3 و 7).
* الإيمان بالثالوث الأقدس أساس خلاصنا
يتّضح لنا من خلال النص السابق أنّ الإيمان بالثالوث الأقدس لا يمكننا البلوغ إليه إلاّ انطلاقًا من تدبير الله الخلاصي. لذلك يعتبر هذا الإيمان أساس خلاصنا وركن بنائه. يقول في كتابه ضد الهراطقة:
“هوذا تعليم إيماننا المنهجي وأساس خلاصنا وركن بنائه: إنّه الله الآب الذي لم يُخلق ولم يولد ولا يرى، الإله الأوحد، خالق كل شيء، هذا هو البند الأول من إيماننا. أما البند الثاني فهو التالي: إنّه كلمة الله، وابن الله، ربنا يسوع المسيح، الذي ظهر للأنبياء في الشكل الذي وصفوه به في نبؤاتهم ووفق تدبير الآب الخاصّ، الكلمة الذي كوّن كلّ شيء، والذي في ملء الأزمنة، صار إنسانًا ليعيد كلَ شيء ويضبطه، فوُلد من البشر، وسار منظورًا وملموسًا ليبيد الموت ويظهر الحياة، ويعيد الوحدة بين الله والإنسان. أما البند الثالث فهو الروح القدس الذي نطق بالأنبياء، وعلّم آباءنا الأمور الإلهية، وقاد الصديقين في طريق البر. وهو الذي، في ملء الأزمنة، أفيض بشكل جديد على البشرية، فيمَا كان الله يجدّد الإنسان على الأرض كلّها” (الكرازة الرسولية 3 و6)
وهذا الإيمان هو إيمان الكنيسة الجامعة منذ الرسل:
“إن الكنيسة، وان تكن منتشرة في المسكونة كلّها حتى أقاصي الأرض، قد تسلّمت من الرسل وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض والبحار وكل ما فيها؛ وبيسوع المسيح الواحد، ابن الله، الذي تجسّد لأجل خلاصنا؛ و بروح قدس واحد نطق بالأنبياء معلنًا تدابير ربنا الحبيب يسوع المسيح، ومجيئه وميلاده البتولي وآلامه وقيامته من بين الأموات، وصعوده بالجسد إلى السماوات، ومجيئه الثاني عندما سيظهر من السماوات، عن يمين الآب، ليعيد كلّ شيء ويقيم كلّ جسد من جميع البشر، لكي تجثو أمام ربنا يسوع المسبح وإلهنا ومخلّصنا وملكنا، وفق إرادة الآب الذي لا يُرى، كل ركبة ممّا في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف به كلّ لسان…
هذه هي الكرازة التي تسلّمتها الكنيسة. وهذا هو إيمانها، على ما قلنا، ومع أنها منتشرة في العالم أجمع، فهي تحافظ على تلك الكرازة باعتناء، كما لو كانت تقيم في منزل واحد، وتؤمن بها باتّفاق، كما لو كان لها نفس واحدة وقلب واحد. وبوحدة رأي تكرز بها وتعلّمها وتسلّمها، كما لو كان لها فم واحد” (فقد الهراطقة 1: 10، 2).
ويعلن ايريناوس ضد الغنوصيين، الساعين وراء معرفة الله جديد يكتشفون سرّه بتنظيرهم العقليّ، أن لا الله إلاّ الإله الذي ظهر لنا في المسيح وفي الروح القدس:
“عندما سيبلغ كل شيء كماله في السماء، لن نرى آبا آخر غير الآب الذي نودّ أن نراه…، ولن نشاهد مسيحًا آخر ابن الله غير ذاك الذي ولد من مريم العذراء، وتألم، الذي به نؤمن وإيّاه نحب…، ولن نحصل على روح قدسٍ آخر غير ذاك الذي معنا والذي يصرخ فينا: “أبّا أيّها الآب. فبهم سنواصل السعي والتقدم، متمتعين بمواهب الله، ليس بعد من خلال الرموز وكما في مرآة، بل وجهًا إلى وجه” (ضد الهراطقة 4: 9، 2).
* وحدة الجوهر الإلهي والطبيعة الإلهية
لا يكتفي إيريناوس بذكر الأقانيم الثلاثة، بل يوضح وحدتها في الألوهة.
فيقول عن الآب والابن: “الآب ربّ، والابن ربّ، الآب إله والابن إله، لأن الذي ولد من الله هو إله. وهكذا، وإن كان هناك، حسب تدبير فدائنا، ابن وآب، نبيّن أن ليس إلاّ إله واحد، في جوهر كيانه بالذات وطبيعة هذا الكيان” (الكرازة الرسولية، 47).
ويؤكّد ألوهيّة الابن: “إنّ الابن، الذي هو موجود دومًا مع الآب، يوحي الآب منذ البدء للملائكة ورؤساء الملائكة والقوات ولكل من يريد الله أن يوحي له ذاته” (ضد الهراطقة 3: 9)، “لقد بيّنّا بوضوح أن الكلمة موجود منذ البدء لدى الله… وهكذا أرغمنا على الصمت أولئك الذين يقولون: بمَا أن المسيح ولد، فهذا يعني أنّه لم يكن قبلاً. فقد برهنّا أن وجوده لم يبدأ بولادته، بمَا أنه موجود دائمًا لدى الآب” (3: 18، 1).
لا يتكلم كثيرًا إيريناوس عن ألوهيّة الروح القدس، لأن موضوع النقاش في الكنيسة الأولى لم يكن الروح القدس بل الابن. ومع ذلك بشير إلى ألوهية الروح القدس في ذكر وحدة العمل الإلهي بين الآب والابن والروح القدس:
“الآب يسرّ ويأمر، والابن يعمل ويخلق، والروح يغذّي وينمي، والإنسان يتقدّم رويدًا ويرتقي إلى الكمال، أي إنه يتقرّب من الله غير الخلوق، لأنّ من هو غير مخلوق، فهو كامل، وهذا هو الله” (ضد الهراطقة 4: 38).
غن الروح يغذّي الإنسان بغذاء الله وينميه في معرفة الابن والآب. فهو واحد مع الابن والآب. ويدعو إيريناوس الابن والروح “اليدين” اللتين بهما خلق الآب العالم ولا يزال يعمل بهما متابعًا عمل خلاص الإنسان ليصل به إلى ملء حياة الله:
“إنّ الإنسان، الذي جبلته في البدء يدا الله، أي ابنه وروحه، يصير في كل وقت على مثال الله وصورته” (ضد الهراطقة 5: 28، 3).
لقد رأى البعض في تشبيه “اليدين” انتقاصا لوحدانية الله، أو عدم مساواة بين الأقانيم الإلهية. إلاّ أن ايريناوس لا يرى في هذا التشبيه سوى صورة للتأكيد على وحدة الأقانيم الإلهية في الطبيعة الإلهية وفي عمل الله في الكون. وكذلك القول عن العبارات التالية التي توضح عمل الأقانيم الثلاثة في خلاص الإنسان:
“إن الرب قد أفاض روح الآب على الإنسان ليوحّده بالله ويدخله في شركة معه، بمنحه الله للإنسان بالروح القدس” (ضد الهراطقة 5: 6، 6).
“بالروح يرتقي التلاميذ إلى الابن، وبالابن إلى الآب، والابن يسلّم عمله إلى الآب” (ضد الهراطقة 5: 36، 8).
“إن الذين يحملون في ذواتهم روح الله يُقادون إلى الكلمة، والابن يأخذهم ويقدّمهم إلى أبيه، والآب يمنحهم عدم الفساد” (الكرازة الرسولية، 7).
لا نجد أروع من هذه التعابير لتفسير عمل الأقانيم الثلاثة في تاريخ الخلاص، بيد أن إيريناوس يقتصر في لاهوته في عقيدة الثالوث الأقدس على هذا العمل، دون الخوض في موضوع كيان الله في ذاته وعلاقة الأقانيم الثلاثة ضمن حياة الله الباطنيّة.
ثانياً- في القرن الثالث
1- البدع الثالوثية: بين الشكلانية والتبعية
إن الفكر اللاهوتيّ في عقيدة الثالوث الأقدس كان في القرن الثالث يحتلّ مرتبة وسطًا بين تيّارين متناقضين: تيّار يميل إلى إزالة التمييز بين الأقانيم، فيرى في الثالوث الأقدس إلهًا واحدًا ظهر لنا في ثلاثة أشكال مختلفة، وتيار يميل إلى رفض المساواة بين الأقانيم، فيعتبر أن الآب وحده هو إله بالمعنى الحقيقي. أما الابن والروح، فليسا من جوهر الآب الواحد. التيّار الأول يدعوه اللاهوت الشكلانيّة، والتيّار الثاني يدعوه التبعيّة.
ء) الشكلانية
ينطلق هذا التيّار من وحدانية الله. فيقول إنّ الإله واحد وهو الآب، كما يؤكّد ذلك الكتاب المقدس في كلا العهدين ولكن المسيح، حسب العهد الجديد، هو أيضا إله. فالمسيح إذن هو نفسه الله الآب. ولتفسير ذلك، يقولون إنّ الله قبل التجسّد، كان فقط آباً، ولمّا تجسّد صار هو نفسه ابنًا، وتألم وصلب ومات وقام. وكذلك الروح القدس غير متميّز عن الآب. فهو الآب نفسه الذي يملأ الكون، والذي، في التجسّد، حلّ على مريم العذراء وولد منها ابنًا. فالآب هو ذاته الابن وهو ذاته الروح.
إنّ تلك النظرة إلى الثالوث تزيل كل تمييز في الذات الإلهية، اذ تجعل من الأقانيم الإلهية الثلاثة أشكالاً خارجية لا تتميّز إلا بالنسبة إلينا نحن البشر، أما بالنسبة إلى الله، فهي أشكال مختلفة لأقنوم واحد. وينتج من تلك النظرة إزالة كلّ سموّ في الله، فالله أقنوم واحد، وهذا الأقنوم هو ذاته قد تجسّد وتألّم ومات وقام وحلّ على التلاميذ يوم العنصرة.
لقد رفضت الكنيسة هذا المفهوم للثالوث الأقدس، حرصاً منها على احترام حموّ الله عزّ وجلّ الذي لا يمكن أن يكون عرضة للتحوّل والتغيّر والتبدّل في عمق ذاته الإلهية. تؤمن المسيحية أنَّ التجسد هو اتّحاد الله بالإنسان اتّحادًا شخصيًا، لكنّها تتمسّك في الوقت ذاته بسموّ الله، لذلك تعتقد أن أقنوم الابن هو الذي تجسّد وليس أقنوم الآب. وهذا ما ستؤكّده أيضاً في إعلانها التمييز بين الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية في المسيح. فالكلمة، الذي هو من ذات جوهر الآب، قد اتّخذ طبيعة بشرية كاملة واتّحد بها اتّحادًا جوهريًا، وفي هذه الطبيعة البشرية تألم وصلب ومات. إلاّ أنه في طبيعته الإلهية لم يزل غير متألم وغير مائت.

إنّ ما تقصده الكنيسة في إيمانها بطبيعة المسيح في سر التجسّد هو عينه ما تقصده في إيمانها بتثليث الأقانيم في سر الثالوث الأقدس. أعني به المحافظة كل أمرين معًا: سموّ الله وتعاليه من جهة، واتحاده بالإنسانية اتحادًا شخصيًا وجوهريًا من جهة أخرى. فسمو الله تؤكّده بقولها إنّ الآب هو أقنوم متميّز عن أقنومي الابن والروح القدس، وإنّ أقنوم الابن وحده هو الذي تجسّد. واتحاد الله بالإنسانية اتحادًا شخصيًا وجوهريًا، تؤكّده بقولها إنّ الابن الذي تجسّد هو من طبيعة الله الواحدة ومن ذات جوهر الله الواحد.
ب) التبعيّة
التيار الثاني الذي رفضته الكنيسة ودعاه اللاهوت “التبعيّة” يعتبر الله الآب وحده إلهًا بالمعنى الحقيقيّ، أي إنّه الله منذ الأزل وفيه ملء جوهر الألوهة وملء الطبيعة الإلهية. أمّا الابن والروح فهما، في نظر هذا التيّار اللاهوتي، تابعان للآب وخاضعان له، وليسا من جوهر الآب ذاته ولا هما أزليّان معه.
لقد سلكت هذا الطريق في تفسير الثالوث الأقدس بدعتا التبنّوية والآريوسية، اللتين توسّعنا في تاريخها وتعاليمهما في معرض حديثنا عن ألوهية المسيح. فالتبنّوية لا ترى في المسيح سوى إنسان تبنّاه الله أو اتّحد به كلمة الله اتّحادًا عرضيّا. والآريوسيّة تعتبر الكلمة كائنًا وسطًا بين الله والخلائق. وكلتا البدعتين أرادتا في نظرتهما إلى الثالوث المحافظة على وحدانيّة الله.
إن الكنيسة قد حرمت كلتا البدعتين، اذ رأت فيهما إنكارًا لتجسّد الله وإنكارًا لاتّحاده اتّحادًا جوهريًا بالإنسانية، وعودة إلى الأساطير القديمة التي تتحدّث عن وجود إله أعظم ينبثق منه آلهة أدنَوْن ويقيم إلى جانبه رهط من أنصاف الإلهة.
ليست عقيدة الثالوث الأقدس عقيدة تعود بالفكر البشريّ إلى تعدّد الإلهة، بل عقيدة تنطلق من ظهور الله، الإله الواحد الذي لا الله سواه، ظهورًا ذاتيًّا في شخص ابنه يسوع المسيح وروحه القدوس، وتؤكد أ،ه من خلال هذا الظهور الخلاصيّ، يمكننا معرفة الذات الإلهية المثلّثة الأقانيم. هذا ما سيعمل على توضيحه اللاهوت الناشئ ابتداء من القرن الثالث.
2- اللاهوت الناشئ
في القرن الثالث صار اللاهوت علمًا قائمًا بذاته، وحاول آباء الكنيسة واللاهوتيون التوسعّ في عقيدة الثالوث الأقدس، فأكّدوا وجود الأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس، في وجه اليهوديّة التي تعترف باله واحد دون تمييز في الأقانيم وتنكر التجسّد. كما سعوا في إظهار وحدة الأقانيم في الألوهة والكرامة إزاء الوثنية التي تقول بتعدّد الإلهة.
إلاّ أنّهم، في تفكيرهم اللاهوتي، لم ينظروا إلى الثالوث الأقدس في ذاته وفي كيانه الأزليّ بقدر ما نظروا إليه في ارتباطه بالعالم. وقد تأثّروا، في عرضهم للعقيدة، بالفلسفات اليونانية التي كانوا متشرّبين منها. لذلك لم يبلغوا إلى إزالة كل التباس في تعليمهم، وقد نرى في تعليم ترتوليانوس وأوريجانوس بعضًا من التبعيّة في كلامهما عن علاقة الابن والروح القدس بالآب.
ء) ترتوليانوس
ترتوليانوس هو أوّل لاهوتيّ في الكنيسة الغربيّة توسّع في عقيدة الثالوث الأقدس، واستخدم للتعبير عنها ألفاظًا ستثبت حتى يومنا هذا، ولا سيّمَا لفظتي “جوهر”، وأقنوم أو شخص.
لقد تأثّر ترتوليانوس بالفلسفة الرواقيّة الحلوليّة، التي كانت ترى في مبدإ الكون جوهرًا واحدًا حيًّا يجمع في ذاته بين الروحيّ والجسديّ، ويبرز خارج ذاته في تعدّد الخلائق، دون أن يفقد وحدته.
لذلك ينطلق ترتوليانوس، في عرضه لسر الثالوث الأقدس، من الجوهر الإلهي الواحد الذي ظهر بثلاثة أقانيم في الخلق والخلاص. فالأقانيم الإلهية هي، في نظره، ثلاثة أنواع من العلاقات يرتبط من خلالها الإله الواحد بالعالم، وتتساوى في جوهر الالوهة، غير أنها تتفاوت في الظهور. فالآب هو منذ الأزل، و”هو الجوهر كلّه” (ضد براكسياس، 9). أما الابن والروح فيشاركان الآب في جوهر الألوهة، إنّما بدرجة أدنى.
كذلك القول عن أزلية وجود الابن والروح جمع الآب. فهما أزليان مع الآب، ولكن ليس كأقنومين متميّزين عن أقنوم الآب، انما كصفتين في الذات الإلهية. ولم يتميّزا كأقنومين إلاّ في الزمن، أي لدى خلق الكون ولدى حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة. يقول ترتوليانوس:
“أن الله كان وحده… ومع ذلك لم يكن، إذّاك، وحده بالمعنى الحقيقيّ. فقد كان معه العقل الذي فيه. إن الله عاقل، والعقل كان فيه منذ البدء، وبه كان كلّ شيء. هذا العقل يدعوه اليونانيون “لوغوس” (ضد براكسياس، 5).
ويميّز ترتوليانوس، كما فعل يوستينوس قبله، بيت الكلمة الذي هو فكر الآب وعقله منذ البدء، والكلمة الذي نطق به الآب لدى خلق العالم:
“إن الله لم ينطق بكلمته منذ البدء بيد أن كلمته كان فيه مع العقل ذاته وفي العقل ذاته، مفكراً في ما سوف يعبّر به بكلمته ومنظّمًا إيّاه” (ضد براكسياس، 5).
إن العقل والكلمة الذي قبل الخلق هو صفة خاصّة بالله، ولكنّه ليس أقنوم الابن. فعندما قال الله “ليكن نور”، وُلد منه كلمته، إذّاك ظهر الابن الوحيد المولود من الآب، والمتميّز عنه. فالابن لم يظهر في الوجود متميّزًا عن الآب إلاّ لدى خلق العالم، والروح لم يظهر متميّزًا عن الآب والابن إلاّ لدى حلوله على التلاميذ. وكما أن الابن أخذ وجوده من الآب، كذلك الروح القدس أخذ وجوده من الابن الذي طلب إلى الله الآب بعد صعوده إلى السماء أن يرسل الروح القدس على التلاميذ. وهذا ما يعنيه ترتوليانوس بالتعبير الذي صار تقليديًّا في اللاهوت الغربي: “الروح ينبثق من الآب والابن”.
هكذا نلاحظ أن تعليم ترتوليانوس اللاهوتي في عقيدة الثالوث الأقدس، رغم عمقه وتأكيده على وجود “ثلاثة أقانيم في الألوهة الواحدة”، ينقصه التوازن والانسجام في الربط بين التثليث في الأقانيم والوحدة في جوهر الألوهة من جهة، ومن جهة أخرى بين ظهور الأقانيم الثلاثة ووجودها منذ الأزل في الإله الواحد.
ب) أوريجانوس
تأثّر أوريجانوس، في عرضه لعقيدة الثالوث الأقدس، بالأفلاطونية الحديثة. كيف كانت تلك الفلسفة تنظر إلى الالوهة؟
كانت الأفلاطونية الحديثة ترى في الألوهة ثلاث درجات متفاوتة. فالكائنات كلها تستق كيانها من الواحد الذي يعلو كل كيان، ولا يستطيع أي كائن بشريّ إلا حاطة به. وهذا الواحد المتسامي يظهر لذاته في كلمته الذي هو صورته وظهور كل صفاته وكمالاته. فالكلمة هو وحي الله. لذاته، هو فكر الله، وهو الإله الثاني الذي ينتقل بواسطته كيان الله من الواحد إلى تعدّدية العالم. لكن وجود العالم يبقى في فكر الله إلى أن يتحقّق بواسطة المبدأ الثالث الذي تدعوه الأفلاطونيّة الحديثة “روح العالم”، وهو الذي يمنح العالم الحياة والوجود. تلك المبادئ الثلاثة تحمل في ذاتها جوهر الألوهة، إلاّ أنّ الألوهة فيها على درجات متفاوتة.
تأثّر أوريجانوس بتلك النظرة، فرأى في الآب صفات الكائن الإلهي الأوّل، وفي الابن صفات الكلمة الإله الثاني، وفي الروح القدس صفات الإله الثالث وروح العالم. فنتج في رؤيته للثالوث الأقدس المسيحيّ تدرّج في الألوهة بين الآب والابن والروح، ومع ذلك فقد أكّد، على خلاف ما سيعتقده آريوس، المساواة في جوهر الألوهة بين الأقانيم الثلاثة، وأزليّة وجود الابن والروح مع الآب.
فالابن هو، في نظره، ضياء النور الأزليّ، فيقول:
“كما أن النور لا يمكن أن يكون دون ضياء، كذلك الابن لا يمكن أن تنظر إليه منفصلاً عن الآب، هو الذي ندعوه ختم الجوهر، والكلمة، والحكمة. فكيف يمكن القول إنه كان زمن لم يكن فيه الابن؟ من يقول هذا القول يؤكّد أنه كان زمن لم تكن فيه حقيقة ولم تكن حكمة ولم تكن حياة. هذا كلّه من جوهر الله الآب، ولا يمكن أن بنزع عنه ولا أن يفصل عن جوهره”
إلاّ أن أوريجانوس، مع تأكيده وحدة الجوهر بين الآب والابن والروح، يعلن أن الآب أعظم من الابن، وأن الابن أعظم من الروح القدس. فالابن هو ملء لاهوت الآب، إلا أنّه باتّصاله بالعالم يمتدّ إليه ظلّ العالم. الآب هو الواحد، أمّا الابن فيتأثّر بالتعدّديّة، الآب هو واحد وبسيط، أمّا الابن فهو “مثال المثل وجوهر الجواهو” ومبدأ كلّ خليقة، وهو أقنوم الحكمة الذي يتضمّن كلّ إمكانات الخلائق المستقبلة وتصاويرها: “انه يحوي المبادئ أو التصاوير أو الأوجه لكلّ ما هو مخلوق”. فالابن هو الحكمة، أمّا الآب فهو فوق الحكمة، الابن هو مبدأ الوحي للعالم، أمّا الآب فهو فوق الحكمة؛ الابن هو مبدأ الوحي للعالم، أمّا الآب فهو الإله الخفيّ.
والابن أعظم من الروح القدس، لأنه يسبقه في الكيان، مع أنّ أوريجانوس يشير إلى أنّ من يتّصل بالروح القدس، فكأنه اتّصل بالآب والابن.
إن فكر أوريجانوس اللاهوتي في عقيدة الثالوث الأقدس لا يزال يشوبه بعض الالتباس، وإنْ كان في عمقه منسجمًا مع الإيمان القويم.
ثالثاً- من القرن الرابع حتى القرن الثامن
1- الآباء الشرقيّون في القرن الرابع
إن لاهوت الثالوث الأقدس لم يبلغ الوضوح والدقة في التعبير إلاّ في القرن الرابع، مع القديس أثناسيوس الاسكندري، و بنوع خاصّ مع الكبّاذوكيّين، وفي الغرب مع القديس أوغسطينوس.
ء) القديس أثناسيوس الاسكندريّ
كان همّ أثناسيوس الأكبر، في عرض عقيدة الثالوث الأقدس، الدفاع عن الإيمان القويم ضدّ آريوس. لذلك ركّز على الوحدة في الجوهر بين الآب والابن، فصرّح أن الابن هو صورة من ذات جوهر الآب، وأن الروح القدس هو صورة الابن، كما أن الابن هو صورة الآب: “ففي الابن يمكننا رؤية الآب. وعندما نستنير بالروح، فالمسيح نفسه هو الذي ينيرنا به”. “واحد هو التقديس الذي نحصل عليه من الآب بالابن في الروح. فكما أنّ الابن هو ابن وحيد، كذلك الروح، الذي يمنحه ويرسله الابن، هو واحد… الآب يرسل الابن، والابن يرسل الروح… الابن يمجّد الآب، والروح يمجّد الابن”.
يركّز أثناسيوس تعليمه على عمل الابن والروح في تقديس الإنسان، دون التوسّع في علاقة الروح القدس بالآب وانبثاقه منه في حياة الثالوث الباطنية، مع أنّه يؤكّد هذا الانبثاق. لذلك يبقى عرضه لسرّ الثالوث ناقصاً في نواح متعددة.
ب) الكبّاذوكيون
يعود للكبّاذوكيين، باسيليوس الكبير وأخيه غريغوريوس النيصيّ، وغريغوريوس النزينزي، الفضل في رسم النهج الواضح للاهوت الثالوث الأقدس، وقد سار عليه اللاهوتيون في الشرق ثم في الغرب.
فقد ميّزوا أوّلاً بين الأقنوم، والجوهر. فالأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس، لهما جوهر واحد، أو طبيعة إلهية واحدة. وما يميّز الأقانيم أحدها عن الآخر هو العلاقة الخاصّة التي تربط كلا منها بالآخر. فالأبوّة هَي ميزة الآب، والولادة مَن الآب هي ميزة الابن، والانبثاق من الآب هي ميزة الروح القدس.
والأقانيم الثلاثة لها الكرامة ذاتها، لأن مساواتها هي في الجوهر وفي الأزلية. فالابن مولود من الآب منذ الأزل، والروح منبثق من الآب منذ الأزل. يقود غريغوريوس النزينزي:
“إنّهما ليسا بدون بداية، ولكن، في آن واحد وعلى نحو ما، هما بدون بداية. لا تناقض في هذين القولين إلا في الظاهر، لأنهما ليسا دون بدابة على صعيد العلّة والسبب… إنّما هما دون بداية على صعيد الزمن”.
ويبين غريغوريوس النيصيّ، في مقالته “ليس هناك ثلاثة آلهة”، أنّ كل عمل يقوم به أحَد الأقانيم الثلاثة خارج الثالوث، إنّما يقوم به بالاشتراك مع الأقنومين الآخرين، مع أن كلّ أقنوم يقوم بالعمل نفسه على نحوه الخاصّ، فيقول:
“في الطبيعة الإلهية لا يعمل الآب شيئاً ما إلاّ مع الابن، وكذلك الابن لا يقوم بعمل ما منفصلا عن الروح القدس، بل كلّ عمل يمتدّ من الله إلى الخليقة، ويمكننا تمييزه وفق مفاهيمنا، إنّما أصله في الآب، ويأتي من الابن، ويجد كماله في الروح القدس”.
ويؤكّد غريغوريوس النبيصيّ وحدة الطبيعة الإلهية والفرق به الأقانيم، جاعلاً هذا الفرق في العلّة والسبب فالآب هو علّة وجود الابن والروح، غير أنّ الابن يولد مباشرة من الآب، أما الروح فينبثق من الآب بواسطة الابن. لذلك يدعى الروح القدس في الكتاب المقدّس روح الله الآب و”روح المسيح”، كما جاء في قول بولس: “من ليس فيه روح المسيح فهو ليس له” (رو 8: 9). ثمّ يضيف:
“إن الروح الذي هو من الله هو إذًا أيضاً روح المسيح. أمّا الابن فهو من الله وليس من الروح، ولا يقال عنه كذلك. وترتيب العلاقات هذا ثابت، ولا يمكن أن يعكس، فيقال مثلا: إن المسيح هو مسيح الروح، كما يقال إن الروح هو روح المسيح”.
* ألوهية الروح القدس
لقد اهتمّ الكباذوكيون اهتماماً خاصّاً بتبيين ألوهيّة الروح القدس ضد مكدونيوس وأفنوميوس وأتباعه.
اغتصب مكدونيوس كرسيّ القسطنطينية بأيدٍ من الملك قسطنديوس بعد إنزال أسقفها القانونيّ بولس. إلا أنه لم يعتّم أن خلع عن كرسيّه سنة 360. وكان مكدونيوس من أتباع الآريوسية المعتدلة التي كانت تعظّم الابن غير الخلوق، إلاّ أنها تنكر عليه أن يكون “من ذات جوهر الآب”. أمّا عن الروح القدس، فكان مكدونيوس يقول “إنّه أحد الأرواح الخادمة، وإنّه لا يختلف عن الملائكة إلا بالرتبة”. فكان إنكار ألوهيّة الروح القدس ضلاله الرئيس، لذلك دعي أتباعه “محاربي الروح”.
أمّا إفنوميوس وأتباعه فكانوا من الآريوسيين المتطرّفين. فكتب باسيليوس مقالة “ضد أفنوميوس”، وأخرى “في الروح القدس”. ففيمَا كان يقول أفنوميوس: “إنّ الروح القدس هو ثالث بالكرامة والمرتبة، لذلك هو ثالث بالطبيعة”، يجيب باسيليوس إنّ الروح القدس، وإن احتلّ المرتبة الثالثة في الكرامة بعد الآب والابن، إلا أنه من جوهرهما الإلهي الواحد. يقول:
“فكما أن الابن يحتلّ المرتبة الثانية بعد الآب، لأنه من الآب، ويحتلّ المرتبة الثانية في الكرامة، لأن الآب هو المبدأ والعلّة، وليس هو مع ذلك ثانيًا في الطبيعة، لأنّ الألوهة في كليهما واحدة، كذلك، وإن كان الروح القدس يلي الابن في الرتبة والكرامة، إلاّ أنّ ذلك لا يجيز لنا القول إنّ الروح القدس هو من جوهر آخر”.
ورغم كل هذه البراهين لم يجرؤ باسيليوس أن يقول عن الروح القدس إنه إله، لأنه لم يجد هذا القول في الكتاب المقدس، بك كان يكتفي بالقول إنه إلهيّ.
أما غريغوريوس النزينزي فيؤكّد أنّ الروح القدس هو إله، ويبيّن ألوهيّته مع الآب والابن:
“ماذا إذن؟ هل الروح القدس هو إله؟- دون جدل.- ماذا إذن؟ ومن الجوهر الواحد؟- نعم، بمَا أنه إله”.
“لنرتعد أمام عظمة الروح الذي هو أيضا إله. فبالروح عرفنا الله. إنّه إله بأجلى بيان، هو الذي يؤلّهني، وكلّي القدرة وموزّع المواهب الإلهية، يعطي الحياة للكائنات السماوية والأرضية، هو الذي يحيا في الأعالي، وينبثق من الآب. إنّه القوة الإلهية، ومع ذلك يعمل من تلقاء نفسه. ليس هو بالابن، لأنّ للآب السماويّ ابنًا وحيدًا مملوءًا من صلاحه، ولكنّه ليس بغريب عن الإله غير المنظور، بل يتمتعّ بمجد مماثل لمجده”.
أمّا الفرق بين ولادة الابن وانبثاق الروح فيبقى في نظره سرًّا، ويكتفي بالقول: الابن والروح هما من جوهر الآب، إلاّ أنّهما يتميّزان أحدهما عن الآخر، كما أنّ أناسًا من البشرّية ذاتها يرتبطون بعضهم ببعض بعلاقات قرابة مختلفة.
وكذلك غريغوريوس النبيصيّ، في عظته “ضدّ المكدونيّين”، يبيّن ألوهيّة الروح القدس انطلاقًا من عمل الروح، الذي لا ينفصل عن عمل الآب والابن. فالنعمة الإلهية تأتينا من الآب بالابن والروح. فكيف يمكن أن يكون الروح مخلوقاً، وهو الذي يحيينا بالمعمودية؟ إن ما يعطى لنا هو مسحة الابن الملكيّة، بيد أنّ هذا الملك الإلهي الذي ينزل مع المسيح على الأرض ويمنحه الروح هو ملك أزليّ: فلا بدّ أن يكون الروح أزليّاً.
لقد تميّز الكباذوكيّون، في عرضهم لعقيدة الثالوث الأقدس، بثلاث ميزات:
1) ينطلقون من تثليث الأقانيم، ويبيّنون أنّ الأقانيم الثلاثة متّحدون في جوهر واحد، هو جوهر الألوهة، و الطبيعة الإلهية. 2) يرون في الكتاب المقدس أساس تثليث الأقانيم ووحدة الجوهر: فالآب ظهر بالابن وبالروح، وعمل الآب والابن والروح هو عمل واحد بالنسبة إلى تقديس الإنسان وتأليهه. فعلى السؤال الذي يمكن طرحه: لماذا نؤمن أنّ الإله الواحد هو في ثلاثة أقانيم وليس أكثر، نجيب انطلاقًا من هذه النظرة: لأن الله ظهر لنا في الوحي الكتابيّ ثالوثًا، وهذا الظهور هو كمال وحي الله لذاته. 3) الميزة الثالثة تقوم على الترتيب الذي يضعونه بين الأقانيم تأكيد وحدة الجوهر: فالأب هو المصدر الذي منه وُلد الابن، ومنه انبثق الروح. بيد ان هذا الترتيب هو فقط بالنسبة إلى المبدأ والعلّة، لا بالنسبة إلى الجوهر ولا بالنسبة إلى الأزليّة.. فالابن والروح هما من ذات جوهر الآب، وهما أزليّان معه.
لذلك يرتكز التوحيد، أي إن الله واحد، في لاهوت الكبّاذوكيّين ومن بعدهم في اللاهوت الشرقيّ عامّة، على دعامتين: وحدة الجوهر، أي وحدة جوهر الألوهة أو وحدة الطبيعة الإلهية، ووحدة المصدر والمبدإ والينبوع.
2-القديس أوغسطينوس
في حين ينطلق الآباء الشرقيّون، في نظرتهم إلى الثالوث الأقدس، من الأقانيم الثلاثة للوصول إلى الجوهر الواحد، ينطلق أوغسطينوس، على غرار ترتوليانوس، من وحدة الجوهر، ثم ينتقل إلى الأقانيم الثلاثة فالجوهر الإلهيّ، في نظره، يسبق منطقياً الأقانيم الثلاثة. ويعبّر عن ارتباكه إزاء لفظة أقنوم التي يستعملها مرغمًا لعدم توفّر لفظة أفضل. ويشير إلى أن الله ليس ثلاثيًا وحسب، بل ثلاثي الوحدة.
ومن الوحدة في الجوهر تنتج نظرة أوغسطينوس إلى علاقة الثالوث الأقدس بالعالم. فلا يكتفي بالقول، على غرار الكبّاذوكيين، إنّ الأقانيم الثلاثة بعضها غير منفصل عن بعض في أعمالها تجاه العالم، بل يذهب إلى القول إن الأقانيم الثلاثة مرتبطة بالعالم كمبدإ واحد.
غنيّ عن البيان أنّ الكتاب المقدس يتكلّم لغة أخرى. وهذا ما رآه جليًّا الكبّاذوكيون الذين يؤكّدون أن كل أقنوم متميّز في عمله عن عمل الآخرين، دون أن يكون منفصلاً عنهما. أمّا أوغسطينوس فيعتبر أن هذا التمييز بين عمل الأقانيم هو في الواقع مجرّد تعبير بشري يدعوه “التخصيص”، أي إننا نحن البشر نخص كلاًّ من الأقانيم بالأعمال التي تتوافق أكثر مع مصدره، مع ان كلّ تلك الأعمال هي في الواقع من عمل الأقانيم الثلاثة.
أمّا ما يميّز الأقانيم فهو فقط العلاقة التي تربط الواحد بالاثنين الآخرين وهذه العلاقة هي علاقة محبة. ولقد استند أوغسطينوس إلى تعريف الله كما ورد عند يوحنا الإنجيلي: “الله محبة” (1 يو 4: 16)، ورأى في الأقانيم الثلاثة العناصر الثلاثة الضروريّة التي تكوّن المحبة: المحبّ، المحبوب، والمحبة ذاتها. فالآب هو الذي يحبّ الابن، والابن هو الذي يحبّه الآب، والروح القدس هو المحبة ذاتها، كما جاء في قول بولس الرسول: “إنّ محبّة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (رو 5: 5). فالروح القدس هو علاقة المحبة التي تربط الآب بالابن والابن بالآب، هو المحبة المتبادلة بين الآب والابن. وهذا ما يفسّر، في رأي أوغسطينوس ما ورد في العهد الجديد عن الروح القدس من أنّه تارة “روح الآب” وتارة “روح الابن”.
وانطلاقًا من هذا التفسير لعلاقة الروح القدس بالآب والابن، يؤكّد أوغسطينوس أنّ الآب والابن هما للروح القدس بمثابة مبدإ واحد. فيقول إنّ الروح القدس “ينبثق من الآب والابن” (في الثالوث 5: 12). ثم يضيف “كمن مبدإ واحد” (5: 15). لكنّ دور الآب في انبثاق الروح هو أهمّ من دور الابن، فانّ المبادرة في المحبة تأتي من الآب. لذلك يعود أوغسطينوس في مواضع أخرى فيقول إنّ الروح ينبثق من الآب والابن، إلاّ أنّه ينبثق من الآب “بشكل رئيس”. وهكذا يحافظ على فكرة “المبدأ الواحد” بين الأقانيم الثلاثة، تلك الفكرة التي ركّز عليها الآباء الشرقيّون إلى جانب تأكيدهم وحدة الجوهر في الآب والابن والروح القدس.
3- القديس يوحنا الدمشقي
إنّ القديس يوحنا الدمشقي هو آخر الآباء الشرقيِّين، وقد عمل في لاهوته على عرض أفكار الآباء اللاهوتيّة في منهج تعليميّ. لذلك، في موضوع الثالوث الأقدس، لا تختلف نظرته عن نظرة الآباء الكباذوكيّين. ولقد أوجزها في الفصل الثامن من القسم الأوّل من كتابه “المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ”.
ء) ينطلق من الإيمان بالإله الواحد فيقول:
“إذاً نؤمن بإله واحد، بدءٍ واحد لا بدءَ له، غير مخلوق ولا مولود، لا يزول ولا يموت، أبديّ، لا يُحصر ولا يُحدّ، ولا يحاط به، لا تُحصر قوّته، بسيط وغير مركّب… صانع كل المخلوقات مايرى منها وما لا يرى… مترفّع عن كلّ جوهر لجلال جوهره، وكائن فوق كلّ الكائنات. فائق اللاهوت وفائق الصلاح وفيّاض. هو النور بالذات والصلاح بالذات والحياة بالذات والجوهر بالذات، لأن وجوده ليس من غيره ولا من كلّ الموجودات، لأنه هو ينبوع الوجود لها كلّها، وينبوع الحياة للأحياء والنطق للمتمتّعين بالنطق وعلّة جميع الخيرات للجميع. هو عالم بكلّ الأشياء قبل كيانها، وهو جوهر واحد ولاهوت واحد وقوّة واحدة ومشيئة واحدة وفعل واحد ورئاسة واحدة وسلطة واحدة، وتؤمن به كل خليقة ناطقة وتعبده”.
ثم يضيف، مؤكّداً اتّحاد الأقانيم رغم تمييزها:
“فالأقانيم متّحدون دون اختلاط، ومتميّزون دون انقسام- وهذا أمر غريب-. هم آب وابن وروح قدس، بهم اعتمدنا. فإنّ الربّ قد أوصى تلاميذه أن يعمّدوا على النحو التالي قائلاً: “معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19).
ب) ثم ينتقل إلى التمييز بين الأقانيم، مبتدئًا من التمييز بين الآب والابن، فيقول:
” نؤمن بآب واحد، مبدإ الجميع وعلّتهم. لم يلده أحد وهو وحده أيضاً غير معلول ولا مولود، صانع الكلّ، وأب بالطبيعة لمن هو وحده “الابن الوحيد”، ربنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح. وهو مصدر الروح القدس.
“ونؤمن بابن الله الواحد والوحيد، ربنا يسوع المسيح، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، من ذات جوهر الآب، الذي به كان كل شيء. فبقولنا إنّه قبل الدهور، نبيّن أنّ ولادته لم تكن في الزمن ولم تيتدئ، لأنّ ابن الله لم ينتقل من العدم إلى الوجود فهو بهاء المجد… الذي كان دائماً مع الآب وفي الآب، مولود من ولادة أزلية لا بدء لها. فإنّه ما كان قطّ زمن لم يكن الابن فيه، بل حيثما الآب فهناك الابن المولود منه، لأنه بدون الابن لا يسمّى آباً. وإذا لم يكن له الابن، فليس هو آباً. وهذا أفظع من كلّ كفر. وعليه لا يمكن القول إنّ الله خالٍ من الخصب الطبيعي. والخصب هو أن يلد المِثْلَ من ذاته -أي من جوهره الخاصّ- مثيلاً له في الطبيعة”.
ويوضح لماذا يدعى الابن “ابن الله الوحيد”:
“فهو الوحيد، لأنّه وُلد وحده من الآب ولادة وحيدة. فليس من ولادة أخرى تساوي ولادة الابن من الله، وليس من ابن الله سواه”.
ثم يتابع موضحًا الفرق بين الابن والروح:
“أمّا الروح القدس، فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق. وطريقة الوجود الأخرى هذه لا تدرك ولا تعرف، شأنها شأن ولادة الابن. لذلك كل ما هو للآب هو أيضاً للروح، ما عدا اللاولادة التي لا تشير إلى جوهر أو رتبة مختلفين، بل إلى طريقة الوجود. فإنّ آدم مثلا هو غير مولود لأنّه جبلة الله وشيتًا مولود لأنّه ابن آدم، وحواء منبثقة من ضلع آدم وهي غير مولودة. ولا يختلف واحدهم بالطبيعة عن الآخر، لأنّهم بشر، بل يختلفون في طريقة وجودهم”.
ج) ثم يوضح كيف أن الثلاثة إله واحد:
“إن كلاًّ من الأقانيم هو في الآخر، لئلاّ نصير إلى كثرة وجمهرة في الإلهة. لذلك نقرّ بعدم تركيب الأقانيم الثلاثة وبعدم اختلاطهم، ولذلك أيضا نعترف بوحدة الأقانيم في الجوهر، و بأنّ كلّ واحد منهم هو في الآخر، وبأنها هي هي مشيئتهم وفعلهم وقوّتهم وسلطتها وحركتهم- إذا صحّ التعبير، وبأنّهم إله واحد غير منقسم. فإنّ الله واحد حقاً، وهو الله وكلمته وروحه.
” إني لا أقول بتشابه، بل بوحدة هوّية، ووحدة انطلاق الحركة. فالجوهر واحد والصلاح واحد والقوّة واحدة والمشيئة واحدة والفعل واحد والسلطة واحدة، بل هي واحدة وهي هي نفسها، لا ثلاثة أمثال بعضهم في بعض، بل حركة واحدة وهي هي في الأقانيم الثلاثة. فلكلّ منهم، بالنسبة لغيره، ليس أقلّ مما له بالنسبة لنفسه، أي إن الآب والروح القدس واحد في كلّ شيء، ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق. وهذا التمييز بكون بفعل التفكير، فنعرف الله واحدا، ونعرف في وحدة خواصّه الأبوّة والبنوّة والانبثاق. ونفهم الفرق على حسب العلّة والمعلول وكمال كل أقنوم، أي طريقة وجوده. فلسنا نستطيع القول بانفصال مكانيّ- كما هو الحال عندنا- في اللاهوت غير المحدود، لأنّ الأقانيم هم أحدهم في الآخر، لا على طريقة الاختلاط، بل التواجد، على نحو قول الرب القائل: “أنا في الآب… والآب فيّ” (يو 14: 11).
“ولسنا نقول باختلاف في الإرادة أو الرأي أو الفعل أو القوّة أو أي شيء آخر، الأمر الذي يُحدث الانقسام الفعليّ الذي فينا في كلّ شيء. لذلك لا نقول بآلهة ثلاثة، آب وابن وروح قدس، بل بالأحرى بإله واحد، الثالوث المقدّس، مرجعُ الابنِ والروحِ فيه إلى علّة واحدة بدون تركيب ولا اختلاط – ذلك ضد هرطقة صابيليوس- فإنهم متّحدون، كما قلنا، لا للاختلاط بل للتواجد بعضهم في بعض ونفوذ أحدهم في الآخر، بدون امتزاج، ولا تشويش، ولا انفصال، ولا انقسام- ذلك ضد هرطقة آريوس”.
يؤكد يوحنا الدمشقيّ في هذا النصّ، وحدة الجوهر، أي وحدة الألوهة ووحدة الخواص الإلهيّة: الصلاح والقوّة والمشيئة والفعل والسلطة. لذلك لا نقول بآلهة ثلاثة، بل بإله واحد. لكن الإله الواحد الذي نؤمن به هو في ثلاثة أقانيم غير مختلطين، أي متميّزين (وذلك ضد صابيليوس والبدعة الشكلانية)، وغير منفصلين ولا منقسمين (وذلك ضد آريوس). ثم يوضح هذا التمييز بين الأقانيم في الإله الواحد، فيقول:
وإذا وجب الاختصار نقول: إنّ اللاهوت لا يمكن أن يُقسم إلى أقسام، وهو على نحو ما يصير في ثلاثة شموس متواجدة بعضها في بعض وهي لا تنفصل، فيكون مزيج النور واحداً والإضاءة واحدة إذاً عندما ننظر إلى اللاهوت، على أنه العلّة الأولى، والمبدأ الواحد، والواحد، وحركة اللاهوت ومشيئته الواحدة- إذا صحّ القول-، وقوّة الجوهر وفعله وسيادته ذاتها، فالذي يتصوّر في ذهننا هو الواحد. أما عندما ننظر إلى مَنْ فيهم اللاهوت أو- بعبارة أدق- إلى مَنْ هم اللاهوت، لا سيما إلى الصادرَين من العلّة الأولى بلا زمن والمساويَين لها في المجد وعدم الانفصال- أعني الابن والروح-، فالمسجود لهم ثلاثة: الآب آب واحد وهو لا مبدأ له- أي لا علّة له-، لأنّه ليس من أحد. والابن واحد وهو ليس بلا مبدإ- أي بلا علّة- وهو من الآب. وإذا اعتبرت البدء انطلاقاً من الزمن، فالابن لا بدء له، لأنّه صانع الأزمان وهو ليس تحت الزمن. والروح القدس روح صادر من الآب وذلك ليس بالولادة بل بالانبثاق، لأن الآب لم بنفكّ أن يكون غير مولود- فإنّه قد ولد الابن- والابن لن ينفكّ أن يكون مولوداً- لأنه وُلد من غير المولود-، فكيف إذاً؟ والروح القدس لا يستحيل إلى الآب أو إلى الابن، لأنه منبثق ولأنّه إله. فإنّ خاضته لا تتحرّك، وإلاّ كيف تبقى خاصّة إذا تحرّكت واستحالت؟ فإذا صار الآب ابناً، فلا يكون آباً بالحقيقة- لأنّ الآب واحد حقاً- وإذا صار الابن آباً فلا يكون ابناً بالحقيقة، لأن الابن واحد حقاً. والروح القدس واحد.
” واعلم أننا لا نقول إنّ الآب من أحد، بل نقول إنّه أبو ابنه، ولا نقول إنّ الابن علّة أو آب، بل نقول إنّه من الآب وإنّه ابن الآب. ونقول أيضاً إنّ الروح القدس من الآب، ونسمّيه روح الآب. ولا نقول إنّ الروح القدس من الابن، ومع ذلك نسميه روح الابن. يقول الرسول الإلهي: ” إن كان أحد ليس فيه روح المسيح فهو ليس منه” (رو 8: 9). ونعترف أنّ الابن يظهره ويمنحه لنا، فقد قال: “نفخ في تلاميذه وقال لهم: خذوا الروح القدس” (يو 20: 22). فكما أن الشعاع والنور من الشمس- وهي ينبوع الشعاع والنور- كذلك يمنح لنا إشراق نوره بواسطة الشعاع، فينيرنا به ويكون متعتنا. ولسنا نقول إن الابن ابن الروح ولا إنه من الروح”.
إنّ تشبيه الأقانيم الثلاثة في الجوهر الواحد بالشمس وشعاع الشمس ونور الشمس هو تشبيه قديم في اللاهوت المسيحي. وهو يوضح أنّ الشمس لا يمكن أن تكون شمساً دون شعاع ودون نور. كذلك الآب لا يمكن أن يكون آباً دون ابن ودون روح. وكما أنّ الشمس لا تأتي إلينا كلّها، بل فقط بشعاعها ونورها، كذلك الله الآب لا يأتي إلينا إلاّ بابنه وروحه. وكما أنّ الشعاع والنور هما من ذات جوهر الشمس، كذلك الابن والروح هما من ذات جوهر الآب. فإذا حدّدنا الجوهر بقولنا إنه الجواب على السؤال: “ما هذا؟”- والأقنوم بأنه الجواب على السؤال: “من هذا؟”، نقول إنّ مما يأتي إلينا، في التجسد هو الله في جوهره الإلهي، أما مَنْ يأتي إلينا فهو ليس أقنوم الآب، بل أقنوم الابن وأقنوم الروح القدس.
تلك هي تعاليم القديس يوحنا الدمشقيّ في الثالوث الأقدس، وقد استفضنا فيها بعض الشيء، لكونها توجز تعليم الآباء الشرقيّين في هذا الموضوع الأساسيّ في الإيمان المسيحيّ.
4- المجامع المسكونية
إستناداً إلى الكتاب المقدس وتعاليم الآباء منذ الرسل، التأمت المجامع المسكونية وحدّدت عقيدة الكنيسة في موضوع الثالوث الأقدس، وذلك على مراحل مختلفة.
ء) المجمع المسكونيّ الأول (نيقية- 325)
أعلن هذا المجمع، ضد آريوس، أنّ “الابن هو من ذات جوهر الآب”، فهو متميّز عن الآب، لكونه ابنه الوحيد، إلاّ أنه غير منفصل عنه في جوهره الإلهي. لذلك هو “مولود غير مخلوق”، مولود من الآب قبل كل الدهور”. وقد أوجز إيمان الكنيسة بالثالوث الأقدس في “قانون الإيمان النيقاويّ”، وهو قانون الإيمان الذي لا نزال نتلوه اليوم، منذ مطلعه “نؤمن باله واحد…” حتى عبارة “… وبالروح القدس”.
في هذا القانون إعلان إيمان واضح بالثالوث الأقدس: “الآب الضابط الكل… وابن الله الوحيد… والروح القدس”، ولكن دون توسّع في علاقات الأقانيم بعضهم ببعض. أما الفقرة الأكثر توسّعا فهي الفقرة المتعلّقة بالابن، وذلك جواباً على بدعة آريوس التي التأم المجمع للنظر فيها.
ونلاحظ أيضاً، في طريقة عرض الإيمان المسيحي بالثالوث، أنّ وحدانيّة الله، أو ما يدعى بالتوحيد، ترتكز أولاً على وحدانيّة الآب: “نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل”. فالإله الواحد هو الآب. أمّا الابن فهو “الرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد…”. ووحدانيّة الله ترتكز ثانياً على الوحدة في الجوهر بين الآب والابن. فالابن “مساوٍ للآب في الجوهر”، أو “من ذات جوهر الآب”.
ب) المجمع المسكونيّ الثاني (القسطنطينية- 381)
يعزو التقليد إلى المجمع المسكونيّ الثاني إضافة العبارات المتعلّقة بالروح القدس إلى قانون الإيمان النيقاويّ. فجمع نيقية اكتفي بالقول إنّنا نؤمن بالروح القدس”، أما مجمع القسطنطينية فأضاف إلى هذه العبارة الموجزة التوضيح التالي: “الرب المحي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجّد، الناطق بالأنبياء”. وقد أتت هذه الإضافة جواباً على بدعة المكدونيّين الذين كانوا ينكرون ألوهيّة الروح القدس. وقد أكّد المجمع تلك الألوهيّة، فنسب أولاً إلى الروح القدس لفظة “الرب”، في حين لم يكن في نظر المكدونيّين، سوى أحد الأرواح الخادمة، ثم أعلن أنه منبثق من الآب، في حين أن المكدونيّين يقولون إنّه خليقة الابن. كما حدّد أنه ينبغي له السجود والعبادة مع الآب والابن. وكذلك في القول إنّه هو “الناطق بالأنبياء” إشارة إلى ألوهيّته. فكلّ نبيّ ينطق باسم الله ويعلن إرادة الله.
قد يبدو أن ما قاله المجمع المسكونيّ الثاني عن الروح القدس غير كافٍ. ويتساءل المؤرّخون لماذا لم يستعمل المجمع، لتأكيد ألوهيّة الروح القدس، تعابير تضاهي بوضوحها التعابير التي استعملها لتأكيد ألوهيّة الابن: “إله حقّ من إله حقّ”، أو “من ذات جوهر الآب”. نلاقي الجواب عند ساويروس الأنطاكيّ الذي أشار إلى أنّ آباء المجمع اكتفوا بتلك التعابير المعتدلة، “لا لأنّهم مالوا إلى معتقدات المكدونيّين، بل ليخفّفوا من النزاعات ولا ينفّروا الضعفاء في الإيمان”.
ان تحديد المجمع المسكونيّ الثاني، الذي أضيف إلى قانون الإيمان النيقاويّ، قد أكّد ألوهيّة الروح القدس، بيد أنّه لم يوضح علاقات الروح القدس بالآب والابن، ولم يقل إنّ الروح القدس هو من ذات جوهر الآب. وهذا النقص في الوضوح سيكون سبباً للخلافات التي ستنشأ في ما بعد بين الشرق والغرب، ولا سيما في موضوع انبثاق الروح القدس. ففي حين اكتفى المجمع بالقول إن الروح القدس “منبثق من الآب”، سيضيف الغرب المسيحيّ أنّه “منبثق من الآب والابن”، كما سنرى في فقرة لاحقة.
ج) المجمع المسكونيّ الثالث (أفسس- 431)
أعلن هذا المجمع، ضدّ نسطوريوس، أنّ المسيح يسوع هو نفسه ابن الله وكلمته، المولود من الآب قبل كل الدهور. لم يوضح هذا المجمع أيّ شيء عن الثالوث الأقدس في ذاته، بل اقتصر على الوحدة الشخصيّة بين ابن الله والإنسان يسوع المسيح.
د) المجمع المسكونيّ الرابع (خلقيدونية- 451)
لم يتطرّق هذا المجمع إلى عقيدة الثالوث في ذاتها، بل أعلن أنّ المسيح هو شخص واحد في طبيعتين تامّتين: طبيعة إلهيّة وطبيعة إنسانية، “متحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال”.
رابعاً- معضلة انبثاق الروح القدس
إنّ موضوع “انبثاق الروح القدس” قد شغل اللاهوتيين طوال خمسة عشر قرناً، ولا يزال اليوم المسيحيون على اختلاف فيه.
1- في العهد الجديد
نقرأ في إنجيل يوحنا قول يسوع لتلاميذه: “متى جاء المعزّي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي” (يو 15: 26). واستنادا إلى هذه الآية أقرّ آباء المجمع المسكوني العبارة التالية وأضافوها إلى قانون الإيمان: “وبالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب…”. بيد أنّ هذه العبارة تبدو لنا اليوم ناقصة لأنّها لا توضح دور الابن في انبثاق الروح.
هناك نظرتان إلى هذا الموضوع، فإمّا أن ننظر إلى انبثاق الروح في الزمن في تاريخ الخلاص بعد صعود يسوع إلى السماء، وإمّا أن ننظر إلى انبثاق الروح منذ الأزل ضمن الثالوث الأقدس ذاته.
إنّ يسوع، في توله “روح الحق الذي ينبثق من الآب”. لا يشير إلى انبثاق الروح القدس منذ الأزل ضمن الثالوث، بل إلى انبثاق الروح من الآب ليحلّ على التلاميذ وليعمل في العالم. وهذا واضح من قوله: “المعزّي الذي أرسله إليكم من لدن الآب…”. فالحديث يدور حول إرسال الروح القدس إلى التلاميذ، وليس حول انبثاق الروح منذ الأزل ضمن الثالوث. أمّا لفظة “ينبثق” المستعملة في اليونانية فتعني “يخرج”، “يصدر”.
كذلك نقرأ في سفر الرؤيا: “ثمّ أراني نهر ماء الحياة صافياً كالبلّور، خارجاً من عرش الله والحمل” (رؤ 22: 1). فنهر ماء الحياة هو إشارة إلى الروح القدس، كما ورد في إنجيل يوحنا: “إن عطش أحد فليأت إليّ ويشرب. من آمن بي، فكما قال الكتاب، ستجري من جرت أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 7: 37-39). والحمل هو المسيح الفادي. فالروح يخرج من عرش الله، أي من الآب، ومن المسيح الفادي. هذا النصّ يشير أيضاً إلى خروج الروح من الآب والابن في إطار تاريخ الخلاص.
ثم إنّ إنجيل يوحنا، عندما يتكلّم عن إرسال الروح القدس في تاريخ الخلاص، يعزو هذا الإرسال تارة إلى الآب: “وأنا أسأل الآب فيعطيكم معزّياً آخر” (14: 16)، “الروح القدس الذي سيرسله الآب باير” (14: 26)، وتارة إلى الابن: “ومتى جاء المعزّي الذي أرسله إليكم من لدن الآب” (15: 26).
أمّا انبثاق الروح القدس منذ الأزل ضمن الثالوث الأقدس فلا نجد له أيّ توضيح في نصوص العهد الجديد. إلاّ أنّ المجمع المسكوني الثاني في قوله “بالروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب” يشير إلى انبثاق الروح منذ الأزل من الآب، ولا يخبرنا شيئاً عن دور الابن في هذا الانبثاق.
2- آباء الكنيسة
إنّ دور الابن في انبثاق الروح القدس منذ الأزل ضمن الثالوث الأقدس قد أكّده الشرق والغرب معًا وإن بعبارات مختلفة. فأوغسطينوس، كما رأينا، يقول “إنّ الروح القدس منبثق من الآب والابن كمن مبدأ واحد”، و”منبثق من الآب بشكل رئيس”. ونجد تعبيراً مماثلاً عند كيرلّس الإسكندري الذي يقول إنّ الروح القديس “يصدر من الآب والابن”، “من كليهما معًا”. إلاّ أنّ معظم الآباء الشرقيين يؤكّدون انبثاق الروح القدس من الآب “بالابن” أو “بواسطة الابن”، أو يقولون، على ما نقرأ في كتابات يوحنا الدمشقي الذي أوجز لاهوت الآباء الذين سبقوه:
“الروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب والمستريح في الابن… الإله مع الآب والابن… في كلّ شيء شبيه بالآب والابن الذي بنبثق من الآب ويوزعه الابن، فتقبله كل الخلائق، وهو الذي يخلق من ذاته ويعطي الأشياء كيانها ويقدّسها ويجمعها. إنّه موجود في أقنومه الخاص، غير منفصل ولا منقسم عن الآب والابن، له كل ما للآب والابن ما عدا ميزة الغير المولود والمولود. فالآب غير مولود وهو مبدأ كلّ شيء… والابن مولود من الآب. وكذلك الروح القدس هو من الآب، ولكن ليس بالولادة بل بالانبثاق. لقد عرفنا أنّ هناك فرقاً بين الولادة والانبثاق، إلاّ أنّنا لا نعلم قوام هذا الفرق، ولكنّ ولادة الابن وانبثاق الروح هما من الآب”.
أمّا عن دور الابن في انبثاق الروح فيقول الدمشقي:
“نقول إن الروح القدس هو من الآب وندعوه روح الآب، ولكنّنا لا نقول إنه من الابن. ومع ذلك ندعوه روح الابن، بحسب قول الرسول الإلهي: “من ليس فيه روح المسيح فهو ليس له” (رو 8: 9). ونعترف أنّ الابن قد أظهره ووزّعه، كما كتب: فنفخ فيهم وقال: خذوا الروح القدس” (يو 20: 29). وذلك على مثال الشعاع والضياء في الشمس. فالشمس الواحدة هي مصدر الشعاع والضياء، ولكن الضياء يوزَّع علينا بواسطة ( ) الشعاع، وهذا الضياء هو الذي ينيرنا وفيه نشترك. إلاّ أنّ ذلك لا يتيح لنا القول إنّ الابن هو خاصة الروح أو منه”.
حتى القرن الثامن لا نجد أيّ تناقض بين التعابير الشرقية والتعابير الغربية في توضيح دور الابن في انبثاق الروح القدس، وقد قبل الآباء كلّ تلك التعابير كأنّها مترادفة، على ما أكّده القدّيس مكسيموس المعترف، المناضل الجريء عن الإيمان القويم، في رسالة بعث بها سنة 655 إلى مارينوس القبرصي، يفسّر العبارة التي كان الغربيون يستعملونها: “الروح القدس المنبثق من الآب والابن”. يقول:
“إنّهم يرتكزون على شهادات الآباء اللاتينيين المتّفقة وعلى شهادة كيرلّس الإسكندري (في تفسيره لإنجيل يوحنا). وقد بيّنوا أنّهم لا يعتبرون الابن علّة أو سبباً للروح القدس، إذ يعلمون أنّ الآب وحده هو علّة الابن والروح: الابن بالولادة، والروح بالانبثاق. فما يقصدونه هو أنّ الروح ينبثق بالابن، مشيرين إلى الوحدة والمساواة التامة في الجوهر”.
3- إضافة “والابن” على قانون الإيمان
إنّ معضلة انبثاق الروح القدس قد بدأت في الواقع عندما أضاف الغرب في تلاوة قانون الإيمان لفظة والابن (Filioque)، فأخذ يقول: “وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب والابن”. ويبدو أنّ تلك اللفظة أضيفت أوّلاً في إسبانية في أواخر القرن السادس، تأكيداً لألوهية الابن ضدّ الهراطقة المتشرّبين الآريوسية الرافضين تلك الألوهية. فالقول بأنّ الروح القدس منبثق من الآب والابن يؤكّد وحدة الابن مع الآب في الجوهر. وقد قبل الغرب إضافة تلك اللفظة لأنّها تنسجم مع طريقة تعبيره عن سرّ الثالوث الأقدس وعن وحدة الألوهية، منذ أغوسطينوس في القرن الرابع. ومع ذلك فقد تردّد في إضافة عبارة يرفضها الشرق في قانون إيمان صاغه الشرق والغرب معاً في المجمع المسكوني الأوّل(325) والثاني (381).
فسنة 809 أمر الإمبراطور شارلمان بإضافة تلك اللفظة إلى قانون الإيمان، ولكنّ البابا لاون الثالث أعلن سنة 810 في رومة أنّه، وإن كانت تلك العبارة غير مناقضة للإيمان، فلا يجوز إضافتها إليه. وحفر قانون الإيمان النيقاوي، دون إضافة “والابن”، باللغتين اليونانية واللاتينية، على لوحتين من فضة في كنيسة القدّيس بطرس في رومة حيث لا تزالان محفوظتين حتى الآن.
4- فوتيوس
إلاّ أنّ شارلمان وسائر الأباطرة الغربيين الذين خلفوه ظلّوا يضيّقون على الباباوات لإضافة “والابن” إلى قانون الإيمان، ولم يفلحوا في ذلك إلاّ بعد مئتي سنة من أخذ وردّ بين رومة والقسطنطينية، سنة 1009، عندما أرسل البابا سرجيوس الرابع إلى القسطنطينية نصاً لقانون الإيمان يحوي تلك الإضافة، وسنة 1014 مع البابا بندكتوس الثامن الذي أدخل رعياً في قانون الإيمان لفظة “والابن”، بضغط من الإمبراطور هنري الثامن. أمّا السنوات الصاخبة في تلك الفترة الطويلة فهي السنوات التي كان فيها فوتيوس بطريرك القسطنطينية ونيقولاّوس الأوّل بابا رومة، من سنة 858 إلى سنة 886. فقد كان البطريرك والبابا يتراشقان الحرم، وإمبراطور بيزنطية تارة يقيل فوتيوس وتارة يعيده إلى منصبه. ولم يكن موضوع انبثاق الروح القدس السبب الرئيس للخلاف، فقد كانت هناك أسباب أخرى سياسية وتبشيرية، منها النزاع بين رومة والقسطنطينية على بلغاريا، إذ كانت كلّ من البطريركيتين تحاول بسط سلطتها الدينية على تلك البلاد.
في هذه السنوات وضع فوتيوس كتاباً عن الروح القدس هاجم فيه الغرب لكونه أضاف وحده لفظة إلى قانون إيمان حظّرت المجامع المسكونية إدخال أيّ تعديل عليه، وانتقد من ثمّ التعديل ذاته، معتبراً أنّ القول “بأنّ الروح منبثق من الآب والابن” هو إعلان لمبدأين في الثالوث الأقدس، في حين أنّ الآب وحده، بحسب التقليد القديم، هو مبدأ الابن والروح. لذلك إن كان هناك من إضافة على قانون الإيمان فيجب القول “الروح القدس المنبثق من الآب وحده”. أمّا العبارات الأخرى التي نجدها عند الآباء الغربيين من أمثال أمبروسيوس وأغوسطينوس الذين كان فوتيوس قد قرأ كلّ كتبهم، فيقول عنها إنّها طريقة في التعبير ملتبسة لا يروم من خلالها الآباء إعلان عقيدة انبثاق الروح من الآب والابن بل تأكيد ألوهية الابن.
إنّ قول فوتيوس وبعض اللاهوتيين الشرقيين “إنّ الروح القدس ينبثق من الآب وحده” يصحّ بالنظر إلى وجود الروح في ذاته وكيانه، أي إنّ الروح ينبثق من الآب وحده، بمعنى أنّ الآب وحده هو مصدر الروح، كما أنّ الآب وحده هو مصدر الابن. فالمصدر في الثالوث هو واحد، وهو الآب.
ولكن الآب هو آب لأنّ له ابناً مولوداً منه منذ الأزل، وغير منفصل عنه. لذلك لا بدّ من تأكيد دور الابن في انبثاق الروح من الآب، وفي العلاقة الأزلية التي تربط الروح بالآب. ودور الابن هذا قد عبّر عنه الآباء الشرقيون بقولهم إنّ الروح القدس ينبثق من الآب “بالابن”، أو “بواسطة الابن”، أو “ينبثق من الآب ويستريح في الابن”.
5- المعضلة اليوم
إنّ خطأ الغرب يقوم على أنّه، دون الرجوع إلى الشرق، أضاف إلى قانون الإيمان المشترك بينهما عبارة ملتبسة ناقصة كان الجدال اللاهوتي لا يزال قائماً حولها. وهذا ما حاول إصلاحه مجمعا الاتحاد اللذان انعقدا الأوّل في ليون سنة 1274 والثاني في فلورنسة سنة 1438-1439. ففي هذين المجمعين وافق مندوبو الكنيسة الأرثوذكسية على القول إنّ الروح القدس منبثق من الآب والابن، ولكن مع الإشارة إلى نه ينبثق من الاثنين “كمن مبدأ واحد”. إلاّ أنّ هذين المجمعين قد رفضتهما الكنيسة الأرثوذكسية لدى عودة مندوبيها إلى القسطنطينية. وبعد سقوط هذه المدينة سنة 1453، لم تفلح اللقاءات القليلة التي جرت بين الشرق والغرب في الوصول إلى صيغة واحدة.
إنّ معظم اللاهوتيين من الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية متّفقون اليوم على أنّ موضوع انبثاق الروح القدس لا يشكّل عقبة في طريق الوحدة المسيحية. ولكنّ المطلوب قبلاً من جميع الكنائس المسيحية العودة في تلاوتها قانون الإيمان إلى الصيغة الأولى التي أقرّها المجمع المسكوني الثاني سنة 381، أي من دون إضافة “والابن”، ليتاح لجميع المسيحيين إعلان إيمانهم المشترك بفم واحد وقلب واحد. ومن ثمّ يتابع البحث اللاهوتي المشترك لإيجاد التعابير الملائمة، في سبيل مساعدة المسيحيين على النمو في معرفة الثالوث الأقدس وفي الحياة المسيحية التي هي اتّحاد بحياة الآب والابن والروح القدس.
لقد عاش الغرب والشرق في شركة إيمان حتى القرن الحادي عشر بالرغم من الاختلافات في التعبير عن دور الابن في انبثاق الروح القدس. فلا شيء يمنع الآن استعادة الوحدة المسيحية استناداً إلى قانون الإيمان الواحد الذي أعلن في المجمع المسكوني الثاني من دون إضافة لفظة ما عليه، على أن يتركْ الباقي لتفسيرات اللاهوتيين، فهو، كما يقول اللاهوتي الأرثوذكسي الروسي سيرج بولجاكوف، “لم يبلغ بعد درجة من النضج كافية فيكون موضوع تحديد عقائدي. وهذا لن يتمّ في المستقبل القريب”.
الفصل الثالث
الثالوث الأقدس في اللاهوت المعاصر
يتميّز اللاهوت المعاصر، في عرضه لعقيدة الثالوث الأقدس، برغبه العودة إلى أسلوب العهد الجديد، الذي لا ينظر إلى موضوع الأقانيم الثلاثة كوصف دقيق موضوعيّ للذات الإلهية بقدر ما ينظر إليه كتعبير عن علاقة الله الخلاصيّة بالإنسان. فني هذه العلاقة ظهر لنا الله آباً وابناً وروحاً قدساً.
فالمعضلة تكمن في تحديد مدى تطابق ظهور الله في تاريخ الخلاص مع كيانه الذاتي. كما تكمن في تحديد مدي إمكانيّة التعابير التقليديّة بالإحاطة بسرّ الله، كالقول إنّ الله “ثلاثة أقانيم في جوهر واحد”، وإن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس هو الذي تجسّد، ومدى انسجام تلك التعابير والثقافة المعاصرة.
سنقتصر على عرض أفكار ثلاثة لاهوتيّين خاضوا هذا الموضوع: راهنر، ومولتمن، وكونج. فالأوّل، كاثوليكي، عبّر عن اللاهوت التقليدي بأسلوب جديد، دون أن يحيد عن الإيمان المعترف به في الكنيسة الكاثوليكية. والثاني، بروتستنتي، ركّز على إيجاد لغة تجمع بين الوحدة في الله وتثليث الأقانيم. والثالث، كاثوليكي، أراد التوجّه إلى الإنسان المعاصر بلغة يفهمها، فحكمت عليه الكنيسة بأنّه حاد عن الإيمان المسيحي كما تعتنقه الكنيسة الكاثوليكية منذ القديم.
1- كارل راهنر (Karl Rahner)
ء) ظهور الثالوث في تاريخ الخلاص
ينطلق كارل راهنر، اللاهوتي الألماني المعاصر (+ 1984)، من المبدإ اللاهوتيّ القائل إنّ الحياة الإلهية هي سرّ لا يمكن الإنسان الوصول إليه بقواه الذاتية، وإننا من ثمّ لا نستطيع أن نصل إلى معرفة الله معرفة تامّة ما يمنحنا الله ذاته تلك المعرفة. ويضيف أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال عطاء الله نفسه لنا عطاء ذاتياً ومباشراً.
وإذا عدنا إلى الكتاب المقدّس، نجد ان هذا العطاء الذاتيّ لله قد تحقّق بوساطتين متميّزتين: وساطة يسوع المسيح ابن الله، ووساطة الروح القدس. والمسيح والروح لا يمكن أن يكون مخلوقين، وإلاّ لما أتيح لنا الاتّصال بالله في ذاته.
من هنا يخلص راهنر إلى تحديد القاعدة. التي يعتبرها أساسية في كلّ كلام لاهوتِيّ عن الثالوث الأقدس: “إنّ الله في ظهوره الخلاصيّ لا يختلف عمّا هو عليه في حياته الذاتيّة. والإنسان باتّحاده بالله من خلال ظهوره لنا في الابن والروح القدس لا يتّحد بمظاهر الله، كما كانت تقول البدعة الشكلانيّة، يل يتّحد بحياة الله الذاتية. فالثالوث هو، في ذاته، كما ظهر لنا في تاريخ الخلاص”. يقول راهنر:
“إنّ التعبير عن سرّ الله الثالوث انطلاقاً من علاقة المحبة التي تربط البشر بعضهم ببعض، كما نجدها عند القديس أوغسطينوس- مها كانت متفوّقة عبقرية أوغسطينوس وعبقرية الذين من بعده توسّعوا في الطريقة عينها-، أعني بذلك اعتبار الأقانيم الإلهية العناصر الثلاثة التي تكوّن المحبة، أي المحب، والمحبوب، والمحبة ذاتها، إنّ هذا التعبير لا يفسّر ما يجب تفسيره، أي لماذا الابن هو كلمة الآب، ولماذا ينبثق الروح من الآب. لأنّ تفسيراً كهذا يفترض أنّ الله يعرف ذاته ويحب ذاته، ولا يشرح كيف أنّ تلك المعرفة والمحبة هما مصدر ولادة الابن وانبثاق الروح.
“حتى وان أغفلنا تلك الصعوبات، يبقى أن هذا التفسير الذي عُرف “بالتفسير النفسي للثالوث” بهمل إلى حدّ بعيد النقطة الأساسية التي يرتكز عليها تاريخ الوحي وتاريخ العقائد في موضوع الثالوث الأقدس، أعني الخبرة التي من خلالها اختبر الرسل أن الابن الروح القدس هما عطاء الله ذاته لنا. وتلك الخبرة لتاريخ الخلاص هي وحدها كفيلة بأن تفهمنا معنى عقيدة الثالوث الأقدس: إن “التفسير اللاهوتي للثالوث” يتجاوز خبرتنا للثالوث في تاريخ الخلاص، ليغوص في نظريّات هي أقرب إلى “الغنوصية” منها إلى الإيمان المسيحي، ويسبر أعماق الذات الإلهية. وهو بذلك ينسى أن وجه الله، كما رأيناه، في عطاء الله ذاته لنا بشكل ثالوثيّ، هو نفسه الذات الإلهيّة في كل عمقها. لأن ما وصلنا من النعمة الإلهية والمجد الإلهي هو الله ذاته في عطائه لنا.
“في تاريخ الخلاص، الجماعيّ والفرديّ، لا يمكن القول إن كائنات سماوية قد ظهرت في عالمنا باسم الله، بل إنّ ما ظهر لنا وأعطي لنا حقاً هو الإله الوحيد نفسه، الذي لم يرسل إلينا من ينوب عنه أو يمثّله، بل أتى إلينا هو ذاته وكما هو في ذاته. والذي تقبّلناه هو الله ذاته وكما هو في ذاته.
“هذا الإله الواحد ندعوه “الروح القدس”، من حيث إنّه يدخل في أعماق الشخص البشريّ فيقدّسه ويؤلّهه، وهذا ما عرفناه واختبرناه في تاريخ الخلاص. وهذا الإله نفسه، من حيث إنّه حضر إلينا هو ذاته -وليس ممثّله أو وكيله- في وجودنا التاريخيّ في شخص يسوع المسيح، ندعوه “الكلمة”، أو “الابن” دون أي إضافة. ومن حيث إنّ هذا الإله الذي يأتي إلينا روحاً ويأتي إلينا كلمة، هو على الدوام الإله الذي لا يمكن التعبير عنه، والسرّ القدسيّ، والأساس والينبوع الذي لا يمكن إدراكه لمجيئه في الابن والروح، ومن حيث إنه يبقى دوماً كما هو، ندعوه الإله الواحد، الآب”.
ثم يعود إلى توضيح الجوهر الواحد والأقانيم الثلاثة. فيقول عن الجوهر الواحد:
“من حيث إننا، عندما نتحدّث عن الروح، والابن- الكلمة، والآب، ما نقصده هو بالمعنى الحصريّ أن الله يهب ذاته وليس كائناً آخر متميّزا عنه، يجب القول، بالمعنى الحصريّ عينه، وبالطريقة عينها، إنّ الروح، والابن- الكلمة، والآب، هم إله واحد والإله ذاته، في الملء اللامتناهي للألوهية الواحدة، وفي الجوهر الإلهي الواحد ذاته”.
أما عن التمييز بين الأقانيم الثلاثة فيقول:
“ومن حيث إنّ طريقة حضور الله كروح، وابن، وآب، لا تعني بالنسبة إلينا الطريقة ذاتها لهذا الحضور، أي من حيث إنه يوجد تباين في طريقة الحضور، يجب التمييز بدقّة بين طرق الحضور الثلاثة هذه. “فبالنسبة إلينا”، الآب، والابن الكلمة، والروح، ليسسوا أولاً، أمراً واحدًا. ولكن من حيث إن طرق الحضور هذه للإله الواحد ذاته، بالنسبة إلينا، لا يمكنها أن تزيل عطاء الله نفسه لنا عطاء ذاتياً كإله واحد ووحيد ومماثل لذاته، يجب إرجاع هذه الطرق الثلاثة لحضور الله الواحد ذاته، إلى الواحد ذاته، في ذاته وبالنسبة إلى ذاته.
“لذلك عندما نقول: إنّ الإله الواحد ذاته حاضر بالنسبة إلينا كآب، وابن كلمة، وروح قدس، أو: إن الآب يعطي لنا نفسه عطاء ذاتيّا مطلقاً بالابن وفي الروح القدس، يجب اعتبار هذيبن القولين والأقوال الأخرى المماثلة كتصريحات وتوضيحات عن الله كما هو في ذاته. وإلاّ كانت أقوالاً غريبة عن عطاء الله ذاته لنا عطاء ذاتياً. ولا يحقّ لنا أن نفترض وجوداً في الله مغايرا للطرق الثلاثة التي حضر فيها إلينا… في الثالوث الذي ظهر لنا في تاريخ الوحي والخلاص، اختبرنا الثالوث كما هو في ذات الله. وبما أنّ الله، في الطرق المبيّنة أعلاه، قد ظهر لنا ثالوثاً، يمكننا القول إننا اختبرنا الله في ذاته انطلاقاً من سرّه القدسيّ عينه. ذلك أنّ اقتراب الله من الإنسان اقتراباً حرّاً في النعمة التي تفوق إدراك الإنسان هو الذي يوحي لنا الذات الإلهية في عمقها. فإنّ كون الله مماثلاً لذاته لا يعني مطلقاً الجمود والموت، بل يتضمّن في ذات حيويّة إلهيّة تتيح له أن يأتي إلى ملاقاتنا. وتلك الحيويّة هي بعد أساسي في الثالوث الأقدس…
“إنّ عقيدة الثالوث الأقدس ليست مجرد تفكير بشريّ يمكن الاستغناء عنه. فبدونها لا يمكن أن نفهم كيف أن الله هو في آن معاً السر القدسيّ المطلق، البعيد عن الإنسان بعداً لا متناهياً، والإله القريب من الإنسان قرباً مطلقاً في عطاء ذاته للإنسان عطاء ذاتياً حقيقياً، وذلك في العمق الروحيّ لوجودنا كما في واقعيّة تاريخنا الجسديّ. في هذا يكمن حقاً معنى عقيدة الثالوث الأقدس”
ب) انفتاح الإنسان على المطلق
ويؤكد راهنر أن الإنسان يملك في عمق كيانه إمكانية تقبّل هذا العطاء الذي يهب فيه الله ذاته للإنسان. وتلك الإمكانيّة قد وضعها الله في الإنسان منذ أن خلقه. “فإنّ فعل الخلق هو أحد عناصر هذا العطاء الذي به يهب الله ذاته لنا”. إن عطاء الله ذاته لنا يفرض وجود شخص منفتح لتقبّل الإله الشخصيّ. فالإنسان إذاً من جهة كائن جسديّ وماديّ، ومن جهة أخرى وفي آنٍ معاً روحيّ شخصيّ ومنفتح على الإله المتسامي. ثم إنّ وجود الإنسان في الجسد لا يحول دون اتّصال الله به واتّصاله هو بالله. إنّما يوضح الطريقة التي ارتبط بها الله ليتّصل من خلالها بالإنسان، وهى طريقة التجسّد، والطريقة التي يتّصل من خلالها الإنسان بالله، وهي تقبّل الروح.
ج) النعمة دخول في حياة الثالوث
فإن كان الله في ذاته ثالوثاً، ينتج من ذلك أنّ الإنسان باتحاده بالله إنّما يتّحد بحياة الله الثالوث. لذلك لا يكفي القول إنّ النعمة هي موهبة من الله. بل يجب التأكيد على أن النعمة تأتينا بالابن المتجسّد وتجعلنا أبناء لله الآب وهياكل للروح القدس. إنّ اتصال الإنسان بالله ليس مجرد “مشاركة في الطبيعة الإلهية” بنوع عام، كما جاء في رسالة القديس بطرس الثانية (1: 4). بل هو اتّصال بحياة كل من الأقانيم الإلهية الثلاثة: فالآب يمنحنا روحه القدوس ليجعلنا، على مثال الابن، أبناء الله. إن علاقة الإنسان بالله في اللاهوت المسيحي هي علاقة ثالوثيّة، والإنسان يشترك حقا في حياة الله الثالوثيّة. وتلك هي النعمة: دخول في حياة الآب ليصير الإنسان ابنه، وفي حياة الابن ليصير الإنسان أخاه، وفي حياة الروح القدس ليصير هيكلاً له.
ثم إن هناك انسجاماً تاماً بين رغبة الإنسان في الاتحاد بالله من جهة والطريقة التي تحققت فيها تلك الرغبة من جهة أخرى. فالإنسان الذي يرغب في الاتحاد بالله يرغب في الواقع في أن يصير ابن الله ويتّحد بروح الله. وهذا ما تحقّق في عطاء الله ذاته لنا في تجسّد ابنه. فالابن المتجسّد أرسل إلينا روحه القدوس ليتّحد بِروحنا فنحيا من حياة الله، ونصير على مثاله أبناء الله.
إن الله، عندما أراد أن يُظهر ذاته للبشر، أرسل إليهم ابنه ليكون واحداً منهم في الزمن والتاريخ ويجعلهم أبناءه. فالتاريخ كلّه هو إذاً في اللاهوت المسيحيّ تاريخ تألّه الإنسان، منذ الخلق في بدء الزمن حتى عودة كل شيء إلى الله في نهاية الزمن.
وإرسال الروح على التلاميذ يوم العنصرة ليس أمراً ثانوياً بالنسبة إلى العمل الخلاصيّ الذي قام به الابن المتجسّد. فالابن من بعد قيامته يمنحنا أثمن ما لديه، يمنحنا روحه القدوس، الروح الذي يناله من الآب، الذي هو في آنٍ واحد روح الآب وروح الابن، وذلك ليُتمّ فينا وفي العالم أجمع عمل الخلاص الذي حقّقه الابن بتجسّده وموته وقيامته.
لا بدّ من التنويه بهذه النظرة الرائعة التي يعود كارل راهنر ليلتقي فيها مع أروع ما جاء عند الآباء الشرقيّين من لاهوت التألّه.
د) عمل الثالوث عبر التاريخ
إنّ عمل الثالوث عبر التاريخ وعلاقة الله بالإنسان لتأليهه على مدى الزمن، يوجزهما راهنر في اللوحة التالية:
مسيرة التاريخ عمل الروح الأصل المستقبل التاريخ السموّ التقدمة القبول الحقيقة المحبة تحت راية الوحدة
1) ان الله هو أصل الإنسان ومستقبله. انه أصله ومصدر كيانه، وفي آن معاً مستقبله المطلق، الذي يستطيع وحده ان يشبع رغباته ويملأ كيانه. وبين أصل الإنسان ومستقبله يسير التاريخ البشريّ الذي يتميّز بالحرّية المعطاة للإنسان.
2) بين التاريخ والسموّ مسافة تشير إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يختبر الله المتسامي اختباراً مباشراً وديعاً. ولكن ما يختبره من الله هو اختبار حقيقيّ يحقّق من خلاله نزعة كيانه نحو الإله المطلق المتسامي.
3) التقدمة- القبول: الإنسان كائن روحي. لذلك فهو يملك الحرية في أن يقبل الله الذي يهبه ذاته أو يرفضه. ان الله الذي يهب ذاته بمحبة لا يفرض على الإنسان أن يختاره، وإن كان يعلم أنّ قبول الإنسان عطاء الله هو السبيل الوحيد الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يحقّق كماله. فالله يهب ذاته بشكل يسمح للإنسان قبول هذا العطاء بكامل حريته.
4) الحقيقة- المحبة: إنّ ما ظهر لنا من الله هو الجوهر الإلهي بكلّ حقيقته. وظهور الحقيقة الإلهية هو ظهور في المحبة، أي انه ظهور لكائن روحيّ يمكنه مبادلة الله بالمحبة والإنسان، ذاك الكائن الروحي الذي لا يصل إلى ملء كيانه إلاّ بالمعرفة والمحبة، يتحقّق له هذا الأمر عندما يمتلئ من معرفة الله ومحبّته.
يدعونا راهنر إلى قراءة هذه اللوحة في الاتّجاه العموديّ. فالعمود الأوّل يدعوه “مسيرة التاريخ” مشيراً بذلك إلى أن الله يرغب في عطاء ذاته للإنسان، وإلى أنّ لك الرغبة هي أساس اصل الكون والتاريخ. فالله لأناس يعيشون في التاريخ مشدودين إلى الله الذي هو مستقبلهم المطلق، لذلك فان تقدمة الله ذاته للإنسان هي حتماً تقدمة ضمن التاريخ. أما تتويج مسيرة التاريخ بفكرة “الحقيقة”، فالقصد منه التأكيد على أن عطاء الله وأمانته ليسا مجرّد مظاهر، بل هما عطاء حقيقيّ وأمانة حقيقيّة، وأننا من خلالهما يتاح لنا التعرّف إلى الله في ملء حقيقته.
وتلك الحقيقة قد ظهرت لنا في التاريخ في شخص يسوع المسيح، ابن الله، الذي هو كلمة الله، ووحي الله، وعطاء الله الذاتيّ. فيه خلق كل شيء، وبه يتمّ خلاص كل شيء. هو الأول والآخر، البداية والنهاية. وفيه يصير الكون كلّه تاريخ خلاص ورحمة ونعمة.
إن مسيرة التاريخ يقابلها في العمود الثاني “عمل الروح” فالروح هو الذي يظهر للإنسان محبة الله، وبالروح يعرف الإنسان ان الله هو مستقبله المطلق، وأنه في الله وحده يمكنه تحقيق نزعته الفطريّة إلى السموّ. كما أن الروح هو الذي يدخل إلى أعماق الإنسان ليحمله على قبول تقدمة الله- والإجابة على محبة الله بمحبة متبادلة.
هكذا يبدو لنا سرّ الثالوث الأقدس سراً خلاصياً يجّرعن عمل الله الثالوث في تاريخ الإنسان، ويقود الإنسان إلى كلا خلاصه في الله. وهذا العمل الإلهي يتمّ تحت راية الوحدة، مع تمييز الأقانيم في تلك الوحدة. إنّه الإله الواحد الذي يهب ذاته لنا في الابن والروح، في الابن الذي هو كلمة الآب أي الحقيقة الإلهية، وفي الروح القدس، الذي هو روح الآب وروح الابن، أي المحبة الإلهية.
2- مولتمن (Jurgen Moltmann)
ينتقد مولتمن طريقة راهنر في التعبير عن الأقانيم الإلهية، ولاسيّمَا تسميته الأقانيم الثلاثة “طرق وجود” للإله الواحد. فيرى في هذا التعبير خطر الانزلاق نحو الشكلانيّة.
لا ريب في أن التعبير اللاهوتي عن سرّ الثالوث يجب أن يجمع بين أمرين قد يبدوان متناقضين: التوحيد والتثليث، أي إنّ الله واحد في ثلاثة أقانيم. ففي تأكيد وحدانيّة الله يجب المحافظة على تثليث الأقانيم، وفي تأكيد تثليث الأقانيم يجب عدم انتقاص وحدانيّة الله. فيسأل مولتمن: ما هو العنصر الذي يجعل الله واحدا؟ ويجيب أن اللاهوت حتى الآن قد رأى هذا العنصر في أحد أمرين:
إمّا في الطبيعة الواحدة والجوهر الواحد
وإنّما في الذات الإلهية الواحدة.
كما أنّ هناك نظرتين: احداهما في الأقانيم الإلهية الثلاثة، ثم تؤكّد أنّ لها طبيعة إلهيّة واحدة. وهذه هي نظرة الكتاب المقدس. وتنطلق الثانية من الذات الإلهية الواحدة، ثم تبحث في تحقيق هذه الذات في الأقانيم الثلاثة. وهذه هي نظرة التفكير الفلسفيّ الذي يمكنه التوصّل إلى وجود ذات إلهيّة واحدة، من خلال ضرورة وجود المطلق، الذي لا يمكن أن يكون إلا واحداً.
ء) أمّا مولتمن فيختار طريقاً ثالثاً، فيقول:
“من جهة النظر اللاهوتيّة، يبدو الانطلاق من الكتاب المقدس، أي من الأقانيم الثلاثة؛ ثم الانتقال إلى البحث في وحدة هذه الأقانيم، أجدى من الانطلاق من المسلّمة الفلسفية، التي تفترض وحدة الذات الإلهية المطلقة، ثم تنتقل إلى البحث في ما يقوله الكتاب المقدس عن الأقانيم الثلاثة. ففي النظرة الأولى، تتضمّن وحدة الأقانيم موضوع اكتمال الثالوث في نهاية التاريخ. وتلك الوحدة يجب أن نعتبرها منفتحة مضيافة وقابلة لأن يدخل فيها آخرون ويأتلفوا معها. أمّا إذا انطلقنا من تجانس الذات الإلهية الواحدة، فيصعب علينا تصوّر انفتاح تلك الذات الإلهية الواحدة على غيرها. لأنّ مثل هذا الانفتاح قد يفقدها تجانسها”. ثم يتابع:
“في بحثنا عن مفهوم للوحدة يتلاءم والشهادة الكتابيّة عن الإله الثالوث الذي يتّحد بذاته، يجب أن ندع جانباً مفهوم الجوهر الواحد ومفهوم الذات الواحدة. فلا يبقى لنا سوى القول باتّحاد الأقانيم في ما ينهم، أو باتّحاد الإله الثالوث. ذلك أن مفهوم الاتّحاد يعني وحدة منفتحة ويمكن الاتصال بها. الإله الواحد هو الله متّحد. وهذا يفرض في الله تمييزاً شخصياً، وليس فقط شكليًّا. فالأشخاص وحدهم يمكنهم أن يكونوا متحدين، وهذا لا يصحّ في “طرق الوجود” (كما يقول راهنر). إن اتّحاد الأقانيم الإلهية لا يحتاج إلى أن يبرهن عنه بوحدة الجوهر الإلهيّ، ولا بوحدة الذات الإلهيّة. إن اتّحاد الثالوث هو أحد المعطيات التي تتضمّنها شركة الآب والابن والروح القدس.
“إنّ الآب والابن والروح القدس ليسوا فقط متميّزين أحدهم عن الآخر، بل هم على القدر ذاته متحدون أحدهم مع الآخر وأحدهم في الآخر. فالقول إنّ الله أقانيم، والقول إن الله شركة هما جانبان لأمر واحد. لذلك إنّ مفهوم الأقنوم الإلهي يجب أن يتضمّن مفهوم الاتحاد، وكذلك يجب أن يتضمّن مفهوم الوحدة الإلهية مفهوم الأقانيم الثلاثة.
“ينتج من ذلك أنّ عنصر الوحدة في الله يجب ألاّ يكون في تجانس الطبيعة الإلهية الواحدة، ولا في الذات المطلقة الواحدة، ولا في أحد أقانيم الثالوث. بل يجب أن يدرك في تداخل الأقانيم الإلهيين أحدهم في الآخر.
إن لم نر وحدة الله في اتحاد الإله الثالوث، يصعب علينا اجتناب خطري الآريوسية والصابيليّة”.
أمّا تمييز الأقانيم أحدهم عن الآخر، فيراه في علاقة كل منهم بالآخر ضمن الثالوث. فالآب هو المصدر الذي منه يولد الابن، ومنه ينبثق الروح القدس، فالآب لا يدعى آبا لأنه خلق الكون، بل لأنّه أب لابن وحيد. والخلق هو عمل الأقانيم الثلاثة، “الآب يخلق السماء والأرض بالابن في قدرة الروح القدس”.
أمّا الروح القدس فإنّه، من حيث وجوده الإلهي، ينبثق من الآب وحده. وهذا القول هو تأكيد لألوهيّة الروح القدس. أما من حيث صورتّه ضمن الثالوث، فإنّه يأخذ تلك الصورة من الآب والابن، أي ان له علاقة بالآب والابن. لذلك يدعى “روح الآب” و”روح الابن”. فهناك فرق بين الأمرين يجب المحافظة عليه. يقول مولتمن:
“ان الكنيسة الغربية، بإضافتها “والابن” على قانون الإيمان، قد أزالت هذا الفرق، وكأن هناك مصدرين لوجود الروح القدس: الآب والابن. وذلك لا يمكننا هنا أن نضيف ونجمع، كما تفعله صيغة “والابن”، التي تترك في الغموض ما يأتي من الآب وما يأتي من الابن. بل يجب المحافظة على الواقعيّة، فيكتفي بتحديد الأمرين الواحد تلو الآخر: أي أوّلاً علاقة الروح القدس بالآب، ثم علاقة الروح القدس بالابن”.
وينتقد مولتمن استعمال لفظة “علّة” ( ) عند الآباء الكباذوكيّين، بالنسبة إلى علاقة الآب بالابن والروح. فتلك اللفظة أخذها الآباء عن فلسفة أرسطو، واستعملوها بالمعنى ذاته لعلاقة الآب بالابن، فقالوا إنّ الآب هو علّة الابن، وملأ الآب بالروح القدس، فقالوا أيضاً: إنّ الآب هو علّة الروح القدس. وفي هذا الاستعمال لم يعد أيّ تمييز بين ولادة الابن وانبثاق الروح القدس.
والحال أنّ الروح القدس ينبثق منذ الأزل من الآب، لا من حيث إنّ الآب هو المبدأ الأوحد للالوهة، بل من حيث إنه منذ الأزل آب للابن. لا شك أنّ هذا التعبير الذي يركّز على “العلّة الواحدة” يمكننا فهمه انطلاقاً من محاربة عقيدة إضافة “والابن” الملتبسة، ولكنّه يتضمّن خطراً مماثلاً للخطر الذي يحاربه… وهو خطر الانزلاق إلى التبعيّة، التي تعتبر الآب وحده إلهاً بالمعنى الحصريّ والابن والروح تابعين له. لذلك من الأنسب إبعاد مفهوم “العلّة الأولى” عن عقيدة الثالوث الأقدس، والاكتفاء بعرض العلاقات بين الأقانيم الثلاثة، ومن تلك العلاقات تنتج حتماً أوّليّة الآب”.
وكذلك يرى مولتمن خطراً في استعمال لفظة “أقنوم” أو شخص أو “طريقة وجود” بمعنى واحد للآب والابن والروح القدس. فالآب ليس أقنوماً كالابن، بل هناك فرق بين الأقانيم الثلاثة. لأن ما يميّز الأقنوم أو الشخص هو علاقته بالآخر. وبما أن الأقانيم الثلاثة يتميّز أحدهم عن الآخر بعلاقته الفريدة تجاه الآخر، لا ينطبق مدلول لفظة “أقنوم” بالمعنى ذاته على كل منها.
يشير أخيراً مولتمن إلى أنّ نظرة اللاهوت الغربيّ بإسناد الوحدة في الله إلى الطبيعة الإلهية قد تقود إلى إزالة الفرق بين الأقانيم الثلاثة، كما نرى ذلك في البدعة الشكلانيّة. لذلك يجب القول إنّ الوحدة في الله لا تسبق الأقانيم. بل “إنّ الوحدة الإلهية تكمن في ثالوث الآب والابن والروح القدس. إنّها لا تسبق الثالوث ولا تأتي بعده”.
ويخلص مولتمن إلى القول إنّنا في لاهوت الثالوث الأقدس لا نستطيع استعمال ألفاظ مجرّدة تشمل بمدلول واحد الأقانيم الثلاثة. بل يجب الاكتفاء بسرد تاريخ الآب والابن والروح القدس. وهذا التاريخ يختبره الإله الثالوث نفسه.
ب) نتائج النظرة على لاهوت الكنيسة
1) إنّ التركيز في لاهوت الثالوث على وحدة الطبيعة أو على وحدة الذات الإلهية يقود إلى رؤية وحدويّة وسلطويّة للكنيسة: إله واحد، مسيح واحد، رئيس واحد للكنيسة (بطرس الرسول، ومن بعده بابا رومة). وفي هذه النظرة الوحدويّة تبدو الطاعة للسلطة الكنسيّة الركيزة الأساسيّة لبنية الكنيسة.
أمّا رؤية الوحدة في تثليث الأقانيم فأكثر انسجاماً مع الله المحبة، وينتجَ منها نظرة للكنيسة مبنيّة، لا على السلطة والطاعة، بل على الحوار والوفاق، وعلى عمل الروح في الكنيسة.
2) وفي هذه النظرة الثالوثيّة يبدو ملكوت الله تحقيق ملك الآب والابن والروح القدس.
يقوم ملك الآب على خلق عالم منفتح على المستقبل، لتمجيد الله الثالوث. فالخلق منذ البدء ليس إلاّ بداية عمل الله الخلاّق، الذي يمتدّ حتى نهاية التاريخ. وهكذا يتّخذ مفهوم العناية الإلهية بعداً جديداً، هو بعد الانفتاح على المستقبل. فالله الآب يعتني بأبنائه، ليس فقط في الحاضر، بل فتحهم على المستقبل. وملك الآب ليس فقط ملك قدرة، بل هو ملك رجاء يظهر في محبة الله وصبره وقبوله بإمكانيّة ابتعاد خلائقه عنه وانغلاقها على ذاتها. هكذا يفسح الآب المجال لحرّية خلائقه: فهو يملك بخلق كيانها وإفساح المجال لحرّيتها، حتى ضمن العبوديّة التي هي ذاتها مسؤولة عنها.
أمّا ملك الابن فيقوم في سيادة المصلوب التي تحرّر الناس من عبوديّة الخطيئة ومن سلطة الموت، وتدخلهم في حرية أبناء الله المجيدة، إذ تجعلهم على صورته. لقد خلق الإنسان على صورة الله لينال البنوّة الإلهية. فهو من ذاته منفتح على مستقبل إلهيّ سيحقّق فيه كمال كيانه. فإن هو ابتعد عن الله، انغلق بالفعل عينه على ذاته وقتل فيه كل إمكانيّة إلهيّة مستقبليّة. والابن هو المصلوب الذي يحرّر الإنسان بالألم الذي يقبله طريقاً إلى القيامة.
وأخيراً ملك الروح يختبره المسيحيّ الذي حرّره الابن وصار ممتلئاً من مواهب الروح. وفي هذا الامتلاء يختبر المسيحيّ أن الله قريب منه: فهو في الله، والله فيه. وتلك الخبرة يدعوها الصوفيّون “ولادة الله في النفس”.
وفي الروح تولد جماعة جديدة، هي العلامة المسبقة للخليقة الجديدة التي سوف تجد كمالها في ملك المجد في مشاهدة الله وجها لوجه في حياة الثالوث الأبدية.
3- هانس كونج (Hans Kung)
أوضح هانس كونج نظرته اللاهوتية إلى سرّ الثالوث الأقدس في آخر كتابين له: “هوّية المسيحيّ”، الذي نشر بالألمانية سنة 1974، وترجم إلى الفرنسيّة سنة 1978، و “أموجود الله؟” الذي نشر بالألمانيّة سنة 1978، وترجم إلى الفرنسية سنة 1981.
وقد أثار الكتابان ضجة كبرى في الأوساط الكاثوليكية، بسبب مواقف المؤلف المتطرّفة، لا سيّما في تفسيره لألوهيّة المسيح. وهذا الموضوع يمتّ بصلة وثيقة إلى موضوع الثالوث الأقدس. لذلك سنوجز فكرته في هذين الموضوعين اللذين يحاول أن يعبّر من خلالهما عن العقيدة المسيحية بطريقة تتلاءم وعقليّة الإنسان المعاصر.
ء) ألوهيّة المسيح
عن ألوهيّة المسيح، يعتبر كونج أولا ان الإله واحد. لذلك لا يمكن أن يكون “ابن الله” الذي تجسّد في يسوع المسيحٍ إلهاً آخر إلى جانب الله، كما تقول الآريوسية. ويرفض من ناحية أخرى الشكلانيّة، مؤكّدا أنّ “ابن الله” ليس مجرّد شكل لله، بل هو كائن متميّز عنه، وإن ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في علاقة فريدة لا نجدها عند أيّ من الناس.
وتلك العلاقة الفريدة بين يسوع الناصريّ والله، يراها كونج في الوحي، ويصوغها على النحو التالي: إن يسوع الناصريّ، الإنسان الحقيقي، هو، للمؤمن، الوَحي الصحيح للإله الحقيقيّ الأوحد”. وتتضمّن هذه العبارة كلّ ما جاء في العهد الجديد عن الوحدة بين الآب والابن، كما في الأقوال التالية ليسوع: “الآب يعرفني، وأنا أعرف الآب” (يو 10: 15)، “إنّ الآب فيّ، وأنا في الآب” (يو10: 38)، “أنا والآب واحد” (يو10: 30)، “من رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 9).
في هذه التصريحات لا يرى كونج أيّ تأكيد ما ورائيّ حول كيان الله، بل مجرّد تعبير عن شخص يسوع ودوره بالنسبة إلى الله وبالنسبة إلينا. يقول كونج:
“ففي عمل يسوع وفي شخصه يأتي الله لملاقاتنا ويتجلّى تجلّياً محسوساً، ليس للمراقب المحايدة بل للإنسان الذي يؤمن بيسوع ويسلّم له ذاته بثقة. فني يسوع إذاً يظهر الله على حقيقته. وفي يسوع يُظهر الله، على نحوٍ ما، وجهَه… لذلك يمكننا أن ندعو يسوع وجه الله، أو حسب قول العهد الجديد ذاته، “صورة الله” (كو 1: 15). وهذا معنى عبارتي “كلمة الله” و”ابن الله”. فهذه التعابير هي صور لا تعني سوى العلاقة الفريدة التي تربط يسوع بالآب وبالبشر: إنّ عمل يسوع وأهميّة شأنه يقومان على أنَه هو وحي الله لأجل خلاص العالم”
أمّا عن وجود ابن الله منذ الأزل مع الله قل التجسّد فيقول كونج إنّه أمر يصعب اليوم قبوله. انه مجرّد انعكاس في اللاهوت المسيحيّ لاعتقادات يهوديّة في وجود الحكمة الإلهية والتوراة، كلام الله، منذ الأزل مع الله. إن تفكير العهد الجديد قد انتقل من الآخر إلى الأوّل، من النهاية إلى البداية. فإذا كان يسوع المصلوب الذي أقامه الله هو هدف التاريخ ونهايته، فلا بدّ أن يكون منذ البداية ومنذ الأزل مع الله. فالآخر هو أيضاً الأوّل.
ويضيف أنّ تلك التصوّرات لا تعني لنا اليوم سوى التأكيد على “أن العلاقة بين الله ويسوع لم تنشأ عن طريق الصدفة، بل هي من المعطيات الأوليّة، وأساسها في الله نفسه”. ذلك “أنّ الله هو منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد، كما أوحى بذاته في يسوع”.
أمّا عن المجامع المسكونيّة، فيرى كونج أنّ مجمع نيقية (325)، في رفضه نظرّية آريوس، وإعلانه أنّ يسوع هو “من ذات جوهر الآب”، أراد التأكيد على أن يسوع ليس إلهاً آخر إلى جانب الله، ولا إلهاً بين الله والإنسان. بل إنّ الله الواحد الحقيقيّ قد ظهر ظهوراً حقيقياً في شخص يسوع. وهذا أيضاً معنى تصريح مجمع خلقيدونية (451) أنّ يسوع هو إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ. وهذا التصريح يجب تأكيده اليوم أيضاً، بمعنى أنه لا يمكننا القول إن يسوع هو “إله وحسب”، ولا إنّه “إنسان وحسب”. بل هو في آنٍ معاً إله وإنسان.
لكن كونج يفسّر ألوهية المسيح في منظار وظيفيّ، لا في منظار ماورائيّ. أي إنّ الله قد تكلّم وعمل وأوحى ذاته الوحي النهائيّ في شخص يسوع وعمل يسوع. فيسوع هو موفد الله ووكيله وممثّله ونائبه، وقد أثبت الله دور يسوع هذا عندما أقامه من بين الأموات. وكل التصريحات حول البنوّة الإلهية ووجود ابن الله منذ الأزل ووساطته في الخلق وتجسّده، إنّما هي وليدة فكر أسطوري، ولا تهدف إلاّ إلى إعلان الصفة الفريدة التي يتمتّع بها يسوع في دعوته وتطلباته، والتأكيد على أنّ تلك الدعوة والتطلّبات لم تأتِ من مصدر بشريّ بل من مصدر إلهيّ.
لذلك يقول كونج إنه لا يرفض أي شيء ممّا أعلنته المجامع المسكونية في موضوع ألوهية المسيح، ولكنّه يضيف أنّه يجب التعبير عن تلك التعاليم في إطار مفاهيمنا وثقافتنا المعاصرة.
ويعود في كتابه “أموجود الله؟” إلى الموضوع نفسه، فيقول:
“إنّ القول بأن الله صار إنساناً في يسوع يعني الأمر التالي: إنّ كلام الله وإرادة الله قد اتّخذا وجهاً إنسانياً في جميع أقوال يسوع، وكرازته، ومسلكه ومصيره. إن يسوع، في أقواله وأعماله، في آلامه وموته، وفي شخصه كلّه، قد أعلن وأظهر وأوحى كلام الله وإرادته: ففيه يتطابق تمام المطابقة الكلام والفعل، التعليم والحياة، الكيان والعمل. إنه جسدياً، في وجه بشريّ، كلمة الله وإرادة الله وابن الله”
وهذا هو المعنى الأخير للتعابير الكتابيّة التي تتكلّم عن ألوهيّة المسيح، ولا سيما في انجيل يوحنا (1: 1- 14، 5: 17- 18، 10: 33- 38، 19: 7). كما أنّ هذا هو ما نعنيه اليوم، عندما نعلن في قانون إيمان نيقية أنّ يسوع المسيح هو “ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، من ذات جوهر الآب”. لذلك يعود كونج فيوجز إيمانه بقوله: “إنّ الإنسان الحقيقيّ يسوع الناصريّ هو، للمؤمنين، الوحي الفعلي للإله الحقيقيّ الأوحد، وفي هذا المعنى هو ابن الله وكلمته”.
ثم يضيف: إنّ كل التصريحات التي نقرأها في إنجيل يوحنا عن ألوهيّة المسيح تجد معناها في هذا القول المقتضب والأساسي: “ان الله نفسه يظهر ذاته ظهوراً فريداً ونهائياً في شخص يسوع وفي عمله”.
ثم يسأل نفسه: “ماذا يعني اليوم كل هذا بالنسبة لي أنا؟”. ويجيب: ان كل ما اكتشفه الفلاسفة عن الله وكل ما اعتقدت به الديانات لا يعطيني الصورة الحقيقية الواضحة عن الله. تلك الصورة لا يمكننا أن نجدها إلاّ في الكتاب المقدّس: أولاً في العهد القديم، وبشكل نهائيّ في العهد الجديد في شخص يسوع وعمله وموته. يقول كونج:
“حيث يسوع، هناك أيضاً الله، فهو الذي يعرّفنى إرادة الله. حيث يتكلّم يسوع ويعمل، هناك أيضاً الله إلى جانبه. وحيث يتألم ويموت، هناك أيضاً الله حاضر حضوراً خفيًّا. لذلك أستطيع أن أدعوه وجه الله وصورته، وأيضاً كلمة الله وابنه… بالنسبة لي يسوع الناصري هو ابن الله… ففيه ظهر كلام الله وعمل الله ظهوراً نهائياً. لذلك هو بالنسبة إليّ مسيح الله، ووحيه، وصورته، وكلمته، وابنه. إنّه هو الابن الوحيد لله، ولا أحد سواه”.
هكذا ينظر كونج إلى يسوع المسيح ابن الله نظرة خلاصية، وليس نظرة مما ورائيّة وكيانية. إنّ كيان ابن الله يقتصر، في نظره، على عمله الخلاصىّ بالنسبة إلى الإنسان، فهو الله للإنسان وهو كلمة الله للإنسان، وهو صورة الله التي يبحث عنها الإنسان منذ القديم وفي جميع الديانات والفلسفات، والتي لا يمكنه أن يراها إلاّ في المسيح. وبهذا فقط هو ابن الله.
تلك هي النقطة الأساسية التي رأت السلطة التعليميّة في الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ هانس كونج قد حاد فيها عن تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة التقليديّ وعن تعليم المجامع المسكونيّة وعن تعليم العهد الجديد ذاته. فحسب تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، يسوع المسيح هو ابن الله لجأ فقط لأنّه يوحي الله، بل أيضاً لأن ابن الله الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الكائن منذ الأزل مع الله وفي الله، هو نفسه قد أخذ جسداً من مريم العذراء، وصار إنساناً دون أن يفقد شيئاً من ألوهيّته. فهانس كونج يفسّر وجود ابن الله منذ الأزل بقوله إنه مجرّد تعبير لا يعني سوى أنّ الله الموجود منذ الأزل قد أوحى لنا ذاته في يسوع الإنسان الوحي الكبير.
في هذا الموضوع يؤكّد كارل راهنر بدوره ضرورة القول بوجود ابن الله منذ الأزل قبل التجسّد في الله. ويؤيّد قوله استنادًا إلى الإيمان بأن يسوع هو وحي الله ذاته، وإلى مبدإه اللاهوتيّ القائل إنّ الله قد ظهر لنا في يسوع المسيح كما هو في ذاته. فمن ظهوره لنا كلمة الله نستنتج انه موجود في الله منذ الأزل ككلمة الله والأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.
ب) الروح القدس
إنّ نظرة هانس كونج إلى الروح القدس هي أيضاً نظرة خلاصيّة، وليس ماورائيّة. فيقول إنّ الروح القدس هو “الله نفسه من حيث إنّه يملك بقوته وقدرة نعمته، على الإنسان كله، وعلى عمق كيانه وعلى قلبه، ويحضر إليه حضوراً حقيقياً، ويتجلّى له هو ذاته تجلّياً فعّالاً”.
“إنّ الروح القدس ليس سائلاً سحرّيًا، جوهرّيًا، سريًّا، وفائق الطبيعة. إنّه الله نفسه، الله القريب من الإنسان ومن العالم كقوة وقدرة تدرك الإنسان، دون أن يتمكّن الإنسان من إدراكها، وتقدّم ذاتها للمرء دون أن يتاح للمرء التصرّف بها على هواه. تخلق الحياة، ولكنها أيضاً تدين الإنسان.
“المهم هو أنّ الروح القدس ليس عنصراً ثالثاً، شيئاً بين الله والإنسان. إنّه القرب الشخصيّ الذي به يقترب الله من الإنسان. وكلّ سوء فهم للروح القدس يأتي من أننا نفصل بفكر أسطوريّ الروح القدس عن الله لنجعله مستقلاً عنه. فالروح القدس هو الله نفسه، من حيث إنّه يملك عليّ ويسكن فيّ. إنّه يملك على قلي دون أن يصير ملكي الخاص لأتصرّف به على هواي. إنّ تقبّل الروح لا يعني اختبار حدث سحريّ، بل الانفتاح لقبول البشرى الصالحة التي جاءنا بها المسيح”.
ج) الثالوث الأقدس
لقد عبّر التقليد اللاهوتي، منذ القرن الرابع، عن سرّ الثالوث الأقدس بقوله: “إله واحد أي جوهر واحد في ثلاثة أقانيم”. يقول كونج إن لفظتي جوهر وأقنوم قد استخدمهما اللاهوت. الفلسفة اليونانية وقد لا يعنيان الشيء الكثير للإنسان المعاصر. لذلك يجب إهمالهما والعودة إلى بساطة التعابير التي نجدها في العهد الجديد. يقول:
“إن الله قد ظهر لنا في ابنه يسوع المسيح. فيسوع المسيح هو الحي الحقيقيّ للإله الحقيقيّ. ولكن كيف يصير يسوع حضور الله بالنسبة إلى الكنيسة وبالنسبة إلينا اليوم؟ الجواب الذي نقراه في العهد الجديد هو التالي: إن حضور يسوع من بعد قيامته لم يعد حضوراً ماديًّا، بل صار حضوراً بالروح. فالروح القدس هو إذاً حضور الله وحضور المسيح الممجّد لجماعته ولكل مؤمن بمفره. في هذا المعنى الله نفسه هو الذي يوحيّ ذاته بيسوع المسيح في الروح”.
تلك هي عقيدة الثالوث الأقدس التي تلزمنا في آن معاً أن نميّز بين الآب والابن والروح القدس، وأن نجمع بينهم في وحدة لا تنقسم ولا تنفصل. يقول كونج: “ان وحدة الآب والابن والروح القدس يجب أن تُعتبر حدث وحي ووحد وحي”.
في نظرة كونج إلى المسيح، وإلى الروح القدس، وإلى الثالوث الأقدس، نرى تركيزاً على وحي الله للإنسان، وإهمالاً للبحث في كيان الله في ذاته. فني وحي الله للإنسان ظهر الآب، بالابن، في وحدة الروح القدس. خلاصة القول ان نظرة كونج للثالوث هي نظرة خلاصيّة، وليست نظرة ماورائيّة. لذلك حكمت عليه الكنيسة الكاثوليكيّة بأن تعليمه ناقص، لأنه يبرز جزءاً من العقيدة ويهمل الجزء الآخر.
الفصل الرابع الثالوث الأقدس في واقع حياتنا المسيحية
في نهاية هذا البحث، الذي عرضنا فيه للثالوث الأقدس في الكتاب المقدّس وآباء الكنيسة واللاهوت المعاصر، تفسيراً لقانون الإيمان، الذي يعلن الإيمان المسيحيّ بالآب الضابط الكل، وابن الله الوحيد، والروح القدس الربّ المحي، يجدر بنا أن نتساءل: ماذا يعني هذا الإيمان بالنسبة إلى واقع حياتنا المسيحية؟
نبدأ أوّلاً بتفسير الجملة الأخيرة التي وردت في قانون الإيمان عن “الروح القدس، الناطق بالأنبياء”، فنبيّن أنّ الروح القدس لا يزال اليوم أيضاً ينطق بالأنبياء من المؤمنين بالمسيح.
ثم نشرح كيف أنّه، بحلول الروح القدس، اكتمل ظهور الثالوث الأقدس، وانكشف لنا سرّ الله في علاقته بالإنسان وفي حياته الذاتية.
أولاً- “الروح القدس الناطق بالأنبياء”
لماذا يعود قانون الإيمان إلى ذكر الأنبياء بعد ذكر المسيح؟ ألم يقل لنا الروح القدس كلّ شيء في المسيح؟ وماذا يعني اليوم الإيمان بالروح القدس في واقع حياتنا؟ بعد الجولة التي قمنا بها في الطرق المختلفة التي عبّر بها آباء الكنيسة واللاهوت المسيحي عن إيمانهم بالروح القدس عبر القرون، قد يبدو الحديث عن الروح وليد نظريات لاهوتية عفا عنها الزمن وهي بعيدة عن واقع الحياة المسيحية المعاصرة.
ما نقصد إثباته هنا هو أنّه لا يمكن المسيحي أن يفهم معنى عمل الله في العالم أو أي شيء عن كيان الله في ذاته وفي علاقته بالإنسان ما لم يتعمّق في لاهوت الروح القدس، لأنّه بالروح القدس يتَّحد الله بالإنسان ويصل الإنسان إلى الله. فالروح القدس هو الإله الذي كلَّمَ الإنسان بواسطة الأنبياء، وكلَّمَ الإنسان بالمسيح، ولا يزال اليوم يتكلَّم بالوجود المسيحي على مدى الزمن. وهكذا بالروح القدس يكتمل وحي الله الثالوث ووحي عمله في العالم.
1- الروح القدس والأنبياء
يقول بطرس الرسول في رسالته الثانية “لم تأتِ نبوّة قطّ عن إرادة بشر، إنما بإلهام الروح القدس تكلَّمَ رجال الله القدّيسون (2 بط 1: 21). ويردّد يسوع جواباً على التجربة الأولى قول تثنية الاشتراع: “الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله” (متى 4: 4). فإنّ كلمة الله التي تحي الإنسان هي كلام الروح، والأنبياء هم الأناس الذين أصغوا إليها واستقوا من منهلها وكرزوا بها.
فالإله الذي بشّروا به ليس بصنع مخيّلتهم، بل هو الإله الحيّ الحقيقي الذي منه يستقون الحياة والحقيقة. هو الذي ألهمهم وملأهم من روحه وأرسلهم لإعلان اسمه وإرادته بين الأم. لذلك يبدأون نبؤاتهم بإعلان ارتباط كلامهم بالله: “هكذا يقول الرب”. فهم موفدو الرب ينطقون باسمه ويتكلّمون لا لكشف غوامض المستقبل بل لإعلان إرادة الله في الماضي والحاضر والمستقبل وتأكيد محبته الأزلية للبشر.
يعلن بولسّ الرسول أنّ “ما لم تره عين وما لم تسمع به أُذُن ولا خطر على قلب بشر هو ما أعدّه الله لمحبِّيه”. ثمّ يضيف: “وهذا قد أعلنه لنا الله بروحه، لأنّ الروح يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله. فمَن مِن الناس يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه؟ فهكذا أيضاً ليس أحد يعرف ما في الله إلاّ روح الله”. ويردف: “ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لكي نعرف ما أنم به الله علينا من النِعَم، ونتكلّم عنها لا بأقوال تعلِّمها الحكمة البشرية، بل بما يعلِّمه الروح، معبّرين بالروحيّات عن الروحيّات” (1 كو 2: 9- 13).
وعلى نقيض الذين يعلنون اليوم موت الله أو عدم وجوده أو مضرّة التفكير به وعدم جدوى التحدّث عنه، ويقنعون بالكبرياء الإنسانية، يقول النبي مع أشعيا: “السيّد الرب ينبّه أُذنيّ صباحاً فصباحاً لأسمع كالعلماء” (أش 50: 4)، وما يسمعه “يَنْبَأ” في مخدعه الداخلي “ينادي به على السطوح” (متى 10: 27)، فهو يتكلّم كلام الله ويحيا حياة الله، والكلام والحياة عنده لا ينفصلان، فالله هو حبّه الأوحد سواء تكلّم أم عاش.
2- الروح القدس ويسوع
“إنّ الله بعد أن كلَّمَ الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدة وبشتّى الطرق كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة بالابن الذي جعله وارثاً لكلّ شيء، وبه أيضاً أنشأ العالم، الذي هو ضياء مجده وصورة جوهره، وضابط كلّ شيء بكلمة قدرته” (عب 1: 1- 3).
إنّ يسوع، كلمة الله النهائيّة للبشر، كان ممتلئاً من الروح القدس في عمق كيانه. فقد حُبل به بواسطة الروح القدس، وبقوّة الروح القدس صنع العجائب وطرد الأرواح الشرّيرة وغفر الخطايا، وأعلن معنى ما يقوم به: “إن كنت أنا بروح الله اخرج الشياطين، فذلك أنّ ملكوت الله قد انتهى إليكم” (متى 12: 29).
والروح القدس هو الذي أقام ِيسوع من بين الأموات بعد موته: “إنّ ابن الله الذي وُلد بحسب الجسد من ذريّة داود قد أُقيم بحسب روح القداسة في قدرة ابن الله بقيامته من بين الأموات” (رو 1: 4). لقد خضع ابن الله للموت على غرار كلِّ الناس الذين صار واحداً منهم، لكنّه بموته أمات الموت وقام بقدرة الروح الذي كان متحداً به اتحاداً جوهرياً. فالروح الذي أقام يسوع هو نفسه الذي كان يسوع ممتلئاً منه في حياته. إنّه روح الله، روح الحياة وروى القيامة.
3- الروح القدس ينطق بالوجود المسيحي على مدى الزمن
“إنّ يسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وتسمعون” (أع 2: 31، 33). هكذا فسّر بطرس الرسول لليهود حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة.
وعندما نسأل اليوم ماذا يعني الإيمان بالروح القدس في واقع حياتنا؟ نجيب درن تردد أنّ الله الذي كلَّم الإنسان قديماً بالأنبياء، وملأ يسوع في حياته، وأقامه من الأموات بعد مماته، وملأ التلاميذ يوم العنصرة وفي كرازتهم حتى الاستشهاد، لا يزال يكلِّمنا ويملأنا من حياته الإلهية. فالله ليس فكرة منعزلة في عالم آخر، بل إنّه في عالمنا منذ أن صنعه. وفي ضمير كلّ إنسان منذ أن خلقه. لقد كلّم البشر في داخلهم كما كلَّمهم بواسطة أنبيائه، ثم كلَّمهم في شخص ابنه يسوع، وأخيراً أرسل إليهم روحه القدّوس مكث فيهم يحييهم.
“لا أحد يستطيع أن يقول: “يسوع رب” إلاّ بالروح القدوس” (1 كو 12: 3). فكلّ فعل إيمان هو عمل الله في الإنسان، وكلّ عمل خير هو عمل الله في الإنسان. إنّ إيماننا بالروح القدس يعني اليوم في واقع حياتنا أنّ الله غير بعيد عنّا، يعمل في الإنسان وبعمل في الكون ليقود ذاك إلى الخير وهذا إلى الكمال.
نحن مدعوّون بحسب بولس الرسول إلى أن نكون روحانيين ممتلئين من الروح القدس فنحيا في حياتنا بحسب الروح، ليس فقط في المواهب الخارقة من صنع المعجزات والأشفية والتكلُّم بالألسنة والنبوّة وتمييز الأرواح والحكمة والعلم (راجع 1 كو 12: 7- 11)، بل أيضاً في الحياة اليومية الاعتيادية حيث يجب أن تظهر تمار الروح: “المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاة والأمانة والوداعة والعفاف” (غلا 5: 22، 23). ففي داخل كلّ إنسان يحيا بالروح يبدأ عالم جديد، عالم الحياة الحقّة، عالم الله وعالم ابنه يسوع المسيح وعالم روحه القدّوس الذي يصرخ فينا “أبّا أيّهاٍ الآب” (غلا 4: 6).
إنّ إيماننا بالروح القدس هو الإيمان بأنّ الله حاضر في العالم وحاضر في كنيسته يعمل في إيمانها أسرارها، وتبقى محبته أمينة رغم عدم أمانة أبنائه له. لقد رافق الله الكنيسة عبر القرون وتكلّم في مجامعها ولا يزال يحملها على إدراك ما ينقص في مؤسّساتها وتوضيح تعاليمها.
وإنّ إيماننا بالروح القدس هو الإيمان بأنّ الله حاضر في قدّيسيه، في كلّ الذين يحيون حياة الله ويعكسون صورته. هؤلاء هم الأنبياء المعاصرون الذين ينطق الروح بكلامهم وحياتهم، وحياتهم هي ذاتها نبوّة حيّة تنبئ بحياة الله، ووجودهم هو ذاته كرازة تعلن وجود الله، من يراهم يدرك أنّه في المسيح يسوع ظهرت خليقة جديدة لا يمكن إلاّ أن تكون عمل الله نفسه.
وإنّ إيماننا بالروح القدس هو أخيراً رجاء بمستقبل البشرية. لا شكّ أنّ البشرّية تتخبّط اليوم في تناقضات لا تعرف كيف تحلّها: بين الفرديّة والجماعيّة، وقيمة الشخص البشري وضرورة الروابط الاجتماعيّة. لكنّنا نؤمن أنّ روح الله حاضر فيها بواسطة كلّ إنسان يحيا حياة الروح ويسعى إلى نشر المحبة والسلام في العالم، وهو الذي سيقود البشر إلى حلّ تناقضاتهم فيصيرون على صورة الله. إنّ الإيمان بالروح القدس يشمل التاريخ برمَّته وعمل الله فيه في ماضيه وحاضره ومستقبله.
ثانيًا- بالروح القدس يكتمل وحي الثالوث الأقدس
إنّ حقيقة الثالوث الأقدس قد عاشتها الكنيسة الأولى في صلواتها وأسرارها قبل أن تعلنها عقيدة إيمانيّة، فكانت تعمّد “باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 18). ففي هذه العبارة التي يضعها إنجيل متّى على لسان يسوع نفسه وتعود إلى القرن الأوّل، نجد بوضوح ذكر الأقانيم الإلهية الثلاثة. كذلك يذكر سفر أعمال الرسل: “لمّا سمع الرسل الذين في أورشليم أنّ السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا. فانحدرا وصلَّيا لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم يكن بعد قد حلَّ على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع. عندئذٍ وضعا أيديهمَا عليهم فنالوا الروح القدس” (أع 8: 14- 17). ففي هذا الحدث تمييز واضح بين الرب يسوع والروح القدس، وتأكيدٌ أنّ المسيحي لا يكتمل إيمانه بمجرّد الإيمان بالربّ يسوع، أي “إنّ يسوع المسيح هو ابن الله” كما ورد في معموديّة قيّم ملكة الحبشة على يد فيلبّس (أع 8: 37)، بل بالإيمان بالروح القدس والامتلاء منه. فالإيمان بالآب والابن يكمّله الإيمان بالروح القدس.
وماذا يعني ذلك في واخذ حياتنا المسيحية؟
1- الروح القدس هو حضور الله نفسه في الكون
يمكن الإنسان أن يؤمن بوجود الله وبأنّ الله قد خلق العالم، ولكنّ هذا الإيمان قد يبقى بعيداً عن الحياة. فالفلاسفة العقلانيّون الألوهيّون في القرن الثامن عشر (من أمثال فولتير) كانوا يؤمنون بإله كهذا، إلاّ أنّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا الإله بعد خلقه العالم لم يعد مرتبطاً به بأي علاقة.
إلى جانب هذه الفئة الأولى من المؤمنين بالله يمكننا أن نجد فئة ثانية من أمثال ميخائيل نعيمة، تؤمن بأنّ الله قد أرسل ابنه يسوع المسيح معلِّماً للإنسانية على غرار سائر المعلّمين والأنبياء، وتعتقد أنّ يسوع مات كسائر الأنبياء ولم يبقَ أنه بعد موته إلاّ تعاليمه يقرأها الناس فيتّعظون بها ويحاولون تطبيقها في حياتهم.
إنّ المسيحية هي أعمق من ذلك، ترى في يسوع المسيح ليس معلّماً ومثالاً وحسب بل أيضاً مخلِّصاً، وتؤمن أنّ يسوع المسيح بعد موته قام من أن الأموات ودخل في مجد الآب وأرسل إلينا روحه القدّوس ليمكث فينا ويعمل فينا. ففي المسيحيّة لا يُترك الإنسان لقواه الذاتية، إنّما يستقرّ الله فيه ليعمل وإيّاه على تحقيق كماله الشخصي وكمال الإنسانيّة.
هذا هو معنى إيماننا بالروح القدس الذي به يكتمل وحي الثالوث الأقدس وتظهر صورة الله الحقيقيّة. إنّ تاريخ الفكر البشري بأسره هو بحث مستمرّ عن الله. وفي المسيحيّة الله نفسه هو الذي يأتي إلينا “في ملء الأزمنة” في شخص يسوع المسيح ويمكث فينا بروحه القدّوس. لذلك يدعو بولس الرسول الروح القدس “روح الله” و “روح المسيح” و “روح الرب”، لأنّه به يستقرّ عمل المسيح الحيّ مدى الدهر. بهذا الروح وحده نستطيع بلوغ الإيمان، وبه وحده “نصير للمسيح” (رو 8: 9) وأبناء الله (غلا 4: 6)، وبه وحده نعرف ما أنعم به الله علينا فينكشف لنا سرّه وطبيعته، لأنّ روح الله وحده يعرف ما في الله (1 كو 2: 10- 12).
من هنا تتّضح لنا أهمية ما قامت به الكنيسة الأولى في المجامع المسكونية لتأكيد ألوهية الروح القدس. فالإيمان بتلك الألوهية لا يعني عودة إلى تعدّد الآلهة بل تأكيداً لقرب الله من الإنسان. فكما أنّ الإيمان بألوهية يسوع المسيح ابن الله لا يعني ازدواجية في الله بل قرب الله من الإنسان إلى حدّ أنّه صار واحداً منّا في شخص ابنه يسوع المسيح، هكذا الإيمان بألوهية الروح القدس يعني أنّ الله ليس سيداً عن الإنسان بل يمكث فيه ويحييه ويعمل به. فتأكيد ألوهية الابن هو تأكيد أنّ الله نفسه صار إنساناً، وتأكيد ألوهية الروح القدس هو تأكيد أنّ الله نفسه هو الذي لا يزال يمكث في الإنسان والتاريخ على مدى الزمن.
2- مصدر عقيدة الثالوث الأقدس في المسيحية: الله كما ظهر لنا
استناداً إلى ما قلناه عن الابن والروح القدس يظهر لنا بوضوح أنّ مصدر عقيدة الثالوث الأقدس في المسيحية لن نجده في أيّ من الديانات القديمة بل في ظهور الله نفسه في تاريخ الخلاص. إنّ عقيدة الثالوث لم تُعلن في الإيمان المسيحي انطلاقاً من تخيّلات أسطورية ولا من نظريات فلسفية ماورائية، بل اعتَلَنت بظهور الله في تاريخ الخلاص آباً وابناً وروحاً قدساً. ففي تاريخ الخلاص ظهر يسوع ابن الله متميّزاً عن الآب، فكان في صلاته يخاطب الله داعياً إيّاه أباه، وكان في أعماله يغفر الخطايا ويصنع المعجزات بقدرة الله، فاعترف به الرسل وآمنوا انه “ابن الله” و”الكلمة الذي كان في البدء عند الله” (يو 1: 1، 2).
ليست عقيدة التجسّد حكاية نزول إله من السماء إلى الأرض ليقضي فيه بضع سنوات ثم يعود إلى حيث كان. تلك الأسطورة بجد أمثالها في ديانات الهند. إنّما عقيدة التجسّد تأكيد إيماني أنّ الإنسان يسوع المسيح الذي وُلد وعاش ومات في حقبة معيّنة من التاريخ ليس مجرّد إنسان نقل إلينا كلام الله كما ينقله نبيّ ويبقى في كيانه مستقلاً عن الله. إنّ “ههنا أعظم من نبيّ” (راجع متى 12: 41، 42). إنّ يسوع هو، في عمق كيانه وفي جوهره وفي حياده وموته وقيامته، “كلمة الله”، أي به وفيه ظهر الله نفسُه وأوحى بذاته كما هو. إنّ الأنبياء كلّهم نقلوا إلى البشر كلام الله، أمّا يسوع فهو في ذالّه “كلمة الله”. وبما أنّ “كلمة الله” التي من “ذات الله” لا يمكن أن تكون مخلوقة، اعترفت المسيحية بألوهية يسوع المسيح. إلاّ أنّها أصرّت على تأكيد تميّزه عن الله الآب الذي أرسله وبه تكلّم وبه أوحى بذاته إلى العالم.
وكذلك القول عن الروح القدس الذي ظهر متميّزاً عن الآب والابن. فالآب أرسله. وهو “ينبثق من الآب”، ويسوع يرسله إلى التلاميذ “من لدن الآب” (يو 15: 26).
فانطلاقاً ممّا نقرأ في الكتاب المقدّس عن ظهور الله نفسه في تاريخ الخلاص آباً وابناً وروحاً قدساً، عبّر اللاهوت المسيحي في القرن الرابع عن إيمانه بالله بقوله: إله واحد، أبَ طبيعة واحدة في ثلاثة أقانيم. لقد استقى اللاهوت لفظتَي طبيعة وأقنوم من الفلسفة اليونانية وحدّد معناهما بالنسبة إلى الثالوث الأقدس. وقد أراد بتلك العبارة التوفيق بين ما يبدو لعقل البشر متناقضاً: التوحيد والتثليث. إنّ اللاهوت المسيحيّ لم يختلق صورة الله انطلاقاً من تصوّرات العقل البشري، بل عبّر عما اختبره الإنسان في ظهور الله نفسه، الآب والابن والروح القدس.
والآن لنتوسعّ قليلاً في ما ينتج من تلك العقيدة بالنسبة إلى معرفتنا لسرّ الله وسرّ الإنسان.
3- عقيدة الثالوث الأقدس تعريف بالله وبالإنسان
نتحدّث مراراً عن سرّ الله ونؤكّد أنّ عقيدة الثالوث الأقدس في الديانة المسيحية لا تفهمنا الكثير من هذا السرّ. ولكنّنا ننسى أنّ في الإنسان أيضاً سرًّا يستحيل علينا إدراكه. وعقيدة الثالوث الأقدس، وإن لم تحلّ سرّ الله ولا سرّ الإنسان، إلاّ أنّها تدخلنا في السرّين معاً فتلقي عليهمَا بعض الأضواء وتتيح لنا أن نتّخذ منهما موقفاً. ليست عقيدة الثالوث الأقدس عقيدة نظرية بل عقيدة ديناميكية، أي إنّها لا تهدف إلى كشف غوامض الماورائيّات وحلّ ألغاز الكون، بل إلى الدخول في عمق هذا العالم وهذه الحياة لاكتشاف مما فيهمَا من معنى. إذّاك يتجلّى لنا الله نفسه غاية العالم القصوى والمعنى العميق لحياة الإنسان.
هكذا تلقي عقيدة الثالوث الأقدس الضوء على الله والإنسان معاً، بحيث يمكننا القول إنّ أي تعريف بالإنسان لا يتضمّن علاقة الإنسان بالثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، هو تصغير وتشويه للإنسان. لذلك لا نستطيع نحن المسيحيين أن نكتفي فنعرّف الإنسان بقولنا إنّه “كائن عاقل” أو “كائن اجتماعي”، ففي هذين التعريفين نقص أساسي هو ارتباط الإنسان بالله. إنّ الإنسان مرتبط بالله في عمق كيانه. لذلك رأى آباء الكنيسة الشرقيّة أن تجسّد ابن الله لم يكن حادثاً عارضاً في تاريخ الخلاص تمّ بسبب خطيئة الإنسان وللتكفير عنها، إنا هو أمر أساس في تصميم الله منذ الأزل وفي عمق إرادته، أي في صميم كيان الله وكيان الإنسان.
يقول سفر التكوين في العهد القديم إنّ الإنسان خُلق على صورة الله. ويمكننا أن نضيف اليوم، بعد أن اكتمل الوحي في العهد الجديد، أنّ الإنسان خُلِق على صورة الله الثالوث، الآب والابن والروح القدس. فالإنسان مرتبط بالآب الذي خلقه وبالابن الذي خلَّصه وبالروح القدس الذي يؤلّهه. والصورة التي خُلق عليها الإنسان بنوع خاص هي صورة ابن الله الذي تدعوه الرسالة إلى العبرانيين “ضياء مجد الله وصورة جوهره وضابط كل شيء بقدرته” (عب 1: 3). فالإنسان إذاً حاضر منذ الأزل في ابن الله وكلمته وصورته، حاضر منذ الأزل في الله.
إنّ ارتباط الإنسان بالله في أصل كيانه يجعلنا نجرؤ على القول من ناحية أخرى إنّه لا يمكننا التعريف بالله منفصلاً عن الإنسان، ولا سيّمَا بعد أن اختبرنا كلمة الله يتجسّد ويصير إنساناً، وروحَ الله يحلّ على الإنسان مكث فيه.
نعود فنؤكّد أنّنا بقولنا هذا لا ننظر إلى الله نظرة الفلسفة الماورائية الميتافيزيقية، بل نظرة الكتاب المقدّس الوجوديّة الظهورية التي تبرز لا كيان الله كما يمكننا أن نتصوّره في ما وراء هذا الكون، بل كيان الله كما ظهر في تاريخ الخلاص.
إنّ إله الماورائيّات هو إله بعيد عن الإنسان، إنه القدرة والعظمة والسيادة، الإله الذي يتسلّط على الإنسان ويسخّره لإرادته وأهوائه. على هذا الإله ثار، وبحقّ، الفلاسفة الملحدون من أمثال فويرباخ وماركس ونيتشه. أمّا إله يسوع فلا يمكن أن يطاله أيّ نقد من إنسان، والملحدون لا يمكنهم التعرّض له لأنّهم لم يختبروه. هذا الإله الحيّ الحقيقي هو الإله القريب من الإنسان الذي اختبره رجال الله ورجال الروح، الأنبياء والرسل والقدّيسون، في الكتاب المقدّس وعلى مدى تاريخ المسيحية. هؤلاء اختبروا في الله عمق حياتهم ومعنى وجودهم وكمال ذاتهم.
إنّ التزام الله بالإنسان في هذين الحدثين الأساسين من تاريخ الخلاص، حدث تجسّد كلمة الله وحدث حلول روح الله على الإنسان، ينتج منه بالنسبة إلى كيان الله وكيان الإنسان نتائج جوهرية تتخطّى كلّ ما جاءت به الديانات التوحيدية كاليهودية والإسلام والفلسفات الماورائية التي أقرّت بوجود إله واحد خالق ومنظّم للكون. إنّ القول بالإله الواحد الأحد يجعل الله منعزلاً عن الإنسان والإنسان منعزلاً عن الله. أمّا القول بالإله الواحد الثالوث فيجعل الله في صلب تحديد الإنسان كما يجعل الإنسان في صلب تحديد الله. لذلك ليس الله في نظر المسيحية فقط الخالق الذي يرتبط بالإنسان ارتباط السيّد بعبيده، كما يقول الإسلام، وليس هو فقط الخالق الأب الذي يعتني بشعبه عناية الأب بأبنائه، كما تقول اليهودية، ففي هاتين الديانتين يبقى الله منفصلاً عن الإنسان، وإن اتّصل به بواسطة أنبيائه ورُسله وأوحى إليه بأنّه الرحمن الرحيم.
المسيحية وحدها، بقولها إنّ الابن الذي هو أقنوم في الإله الواحد تجسّد وصار إنساناً ومات على الصليب حبًّا بالإنسان، وإنّ الروح القدس الذي هو أقنوم في الإله الواحد حلَّ على الإنسان مكث فيه ويعمل معه، أدركت أنّ عظمة الله لا تكن في بُعد كيانه عن العالم والإنسان بل في اتّحاده بالعالم والإنسان في أقنومَي الابن والروح القدس.
4- سموّ الله وتعاليمه في عقيدة الثالوث الأقدس
ولكن أليس من خطر في أن يفقد الله، في النظرة المسيحية إلى الإله المتجسّد، صفة جوهرية من صفاته هي سموّه وتعاليه عن العالم والإنسان؟ أليس من خطر في أن نرى الله يندمج بالعالم بحيث لا يعود هناك فرق بين الاثنين؟
إنّ هذين الخطرين يزولان في التفسير الصحيح لعقيدة الثالوث الأقدس التي تتضمّن ثلاثة أمور: شخصانية الله، وألوهية الأقانيم الثلاثة، وتميّز الأقانيم أحدها عن الآخر.
ء) شخصانية الله: الله يتميّز عن العالم
الأمر الأوّل هو تأكيد شخصانيّة الله، أي إنّ الله شخص وليس بمجرّد قوة مبهمة تعمل في الكون. فالقول إنّ الله قوّة بهمة تعمل في الكون يقود حتماً إلى دمج هذه القوّة بالكون وعدم تمييزها عنه. أمّا القول إنّ الله شخص في أقانيم ثلاثة فيزيل هذا الخطر ويبقي على تميّز الله عن الكون. فكما أنّنا، عندما نقول إنّ الإنسان هو شخص، نعني أوّلاً أنّه متميّز عن سائر الأشخاص، له كيانه الخاص وحرّيته الخاصة، بهما يمكنه الدخول في علائق مع سائر الأشخاص، كذلك بطريقة مماثلة، عندما نؤكّد شخصانية الله، نحافظ على تميّزِه عن الكون وعلى إمكان دخوله في حوار حريّة ومحبة مع الكون والإنسان.
إنّ مفهوم عقيدة الثالوث الأقدس على هذا النحو يظهر الله مرتبطاً بالعالم والإنسان دون أن يتطابق معهما كما تقول الحلولية التي ترى تطابقاً بين الله والكون، فتعتبر أنّ القوّة الكونيّة هي نفسها الله. إنّ المسيحية تؤكّد أنّ الله مرتبط بالعالم والإنسان ولكنّه يتميّز عنهمَا.
ب) ألوهية الأقانيم: الله يسمو الكون
الأمر الثاني هو تأكيد ألوهية الأقانيم الإلهية. فالآب هو الله، والابن هو ابن الله، والروح القدس هو روح الله. والابن والروح لم يخلقه الله، بل هما من جوهر الله بالولادة والانبثاق. بهذا التأكيد تحافظ عقيدة الثالوث الأقدس على سموّ الابن والروح وتعاليهما فوق العالم والتاريخ، رغم دخولهما في العالم والتاريخ. واستناداً إلى هذا التأكيد لا نستطيع القبول بنظرية الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) الذي يعتبر الله روحاً مطلقاً مندمجاً بالتاريخ إلى حدّ أنّ التاريخ، بتطوّره وتفاعل عناصره بعضها مع بعض، يصيّره ما هو عليه ويوصله إلى المطلق. فالله، في المسيحية، يعمل في التاريخ، إلاّ أنّه يسمو التاريخ. إنّ المحافظة على سموّ الله وتعاليه بالنسبة إلى العالم والإنسان والتاريخ تبقي الإيمان الذي هو لقاء بين الله الذي يكلّم الإنسان والإنسان الذي يجيب الله، وتحافظ على إمكان حوار الحرّية والمحبة بين الله والإنسان.
ج) تميّز الأقانيم أحدها عن الآخر
الأمر الثالث الذي يؤكّد سموّ الله هو تميّز أقنوم الآب عن أقنومي الابن والروح القدس. هذا ما أعلنته الكنيسة عندما حرمت بدعة الشكلانية التي تقول إنّ الآب والابن والروح القدس ليسوا سوى أشكال مختلفة رأى فيها البشر الله الواحد حسب تطوّر عقليتهم البشرية، وإن الأقانيم لا وجود لها إلاّ في فكرنا نحن لا في طبيعة الله الواحدة. وهناك صيغة أخرى للشكلانية ترى تطوّراً وتحوّلاً في الله وتقول إنّ الله كان في العهد القديم آباً، ثم صار بالتجسّد ابناً، وأخيراً بعد قيامته صار روحاً قدساً.
إنّ كلتا الصيغتين تنفي سموّ الله وتشوّه عقيدة الثالوث الأقدس. فالآب يتميّز عن الابن والروح القدس بأنّه هو الذي أرسلهما. إنّ سموّ الآب يكمن هنا في كونه لم يتجسّد. هناك بُعد في الله لا نستطيع الوصول إليه، وهو في الله الآب مصدر أقنوم الابن وأقنوم الروح القدس.
ثمّ إنّ الله لا يمكن أن يتطوّر ويتحوّل بظهوره في الزمن. إنّه “هو هو أمس واليوم وإلى الدهور”، “إذ ليس فيه ظلّ دوران ولا تحوّل”. لذلك فإن كان ظهر لنا في التاريخ آباً وابناً وروحاً قدُساً، فهو هكذا في ذاته منذ الأزل وإلى الأبد.
ينتج من ذلك التمييز أنّه لا يمكننا القول إنّ يسوع المسيح هو “إله” دون أن نوضح ماذا نعني بلفظة “إله”. فإذا عنينا بها “الله الآب” كان قولنا بدعة وانحرافاً عن الإيمان المسيحي، لأنّ يسوع المسيح والله الآب ليسا الأقنوم نفسه بل هما أقنومان متميّزان، أمّا إذا عنينا بها جوهر الألوهة وأكّدنا أنّ يسوع المسيح هو ابن الله المتجسّد ومن جوهر الآب كان قولنا قويماً. هذا ما أكّدته المجامع المسكونية التي حرمت بدعة التبنّوية التي كانت تعتبر يسوع المسيح مجرّد إنسان تبنّاه الله.
فالتمييز إذاً بين أقنومي الآب والابن لم نصل إليه انطلاقاً من تفكير نظري حول كيان الله بل من كيان الله نفسه كما ظهر لنا في تاريخ الخلاص.
وكذلك القول بالنسبة إلى التمييز بين أقنوم الروح القدس وأقنومي الآب والابن، إذ لا نستطيع تأكيد هذا التمييز إلاّ من خلال ما ظهر لنا في تاريخ الخلاص من امتلاء يسوع من الروح القدس حتى إرسال الروح القدس على التلاميذ وعلى العالم ليقدّسهم ويؤلّههم.
هذا هو السبيل الوحيد للتوفيق بين سموّ الله وتعاليه من جهة ودخوله عالمنا البشري دخولاً حقيقياً أي ذاتياً وجوهرياً من جهة أخرى. فسموّ الله وتعاليه تعبّر عنهما عقيدة الثالوث الأقدس بقولها إنّ الله لم يتَّحد بالعالم في أقنوم الآب بل في أقنومي الابن والروح. ودخول الله العالم واتّحاده به اتّحاداً حقيقياً أي ذاتياً وجوهرياً تعبّر عنهمَا عقيدة الثالوث الأقدس بقولها إنّ الابن والروح القدس هما من ذات جوهر الله الآب. والعهد الجديد يميّز بين هذين الأمرين، فلا يطلق اسم “الله” (مع أل التعريف وباليونانية ) إلاّ على الله الآب؛ أمّا عن الابن فيقول إنه “ابن الله” و”كلمة الله” و”الرب” و”إله” (دون أل التعريف)، وعن الروح إنّه “روح الله” و”روح المسيح”، و”الرب”.
إن اللاهوت المسيحي، بعودته إلى أصالة عقيدة الثالوث الأقدس كما عبّر عنها الكتاب المقدّس، يتيح للإنسان المعاصر تقبّل العقيدة كأمر بنسجم وتطلّبات عقله البشري في توقه إلى اللانهاية وفي رغبته في عدم التخلّي عن هذا العالم. ففي هذا العالم يلتقي الإنسان الله الواحد الذي ظهر لنا في شخص ابنه يسوع المسيح مخلصاً وفادياً، وفي روحه القدّوس ربًّا محيياً ومؤلّهاً. وفي هذا العالم يلتقي الله الإنسان ويعمل فيه وبه على خلق بشرية جديدة على صورة الثالوث. إنّ عمل الله هذا هو “النعمة”، والبشرية الجديدة هذه التي على صورة الثالوث هي “الكنيسة”. والنعمة والكنيسة ستكونان موضوعي أبحاثنا في الفصول اللاحقة.
الباب الثاني النعمة والتأله
“النعمة” كلمة ورد استعمالها مراراً في الكتاب المقدّس، ولا سيّمَا في العهد الجديد، وتحدّث عنها آباء الكنيسة، وكتب فيها اللاهوتيون مؤلَّفات كثيرة، وحدثت بشأنها خلافات عقائدية بين المسيحيين منذ القرون الأولى حتى الإصلاح البروتستنتي.
كل ما يعرفه عامّة المسيحيين عن النعمةّ أنها مساعدة خارجية يمنحنا إياها الله لتسهيل سيرنا في الفضيلة وعمل الخير. إلاّ أنهم لا يهتمّون لها كثيراً، بل يتكلّمون على جهودهم الخاصّة وأعمالهم الصالحة للحصول على الخلاص، معتقدين ان الإنسان إنما يستحق الخلاص ويحصل على الحياة الأبدية بأعماله الصالحة، وهكذا يقعون على غير علم منهم، في هرطقة بيلاجيوس.
إنّ هذا الموضوع أساسيّ في الديانة المسيحية لأنه يعنى بعلاقة الإنسان بالله، بخلاصه وتبريره من الخطيئة. لذلك سنحاول في هذا البحث استجلاء مدلول النعمة والإحاطة بكل معانيها، مبتدئين من مفهوم النعمة في الكتاب المقدّس (الفصل الأوّل)،
ثم في تاريخ الفكر المسيحي عند الآباء واللاهوتيِّين على مرّ العصور (الفصلان الثاني والثالث)،
وأخيراً في الفكر اللاهوتيّ المعاصر (الفصل الرابع).
الفصل الأول النعمة في الكتاب المقدس
إنّ أيّ بحث في المواضيع اللاهوتيّة يجب أن ينطلق من الكتاب المقدّس. ففيه أوحى الله بذاته وبقصده الأزليّ في ما يختصّ بالإنسان. وفيه عبّر شعب العهد القديم تم الرسل والمسيحيّون الأوّلون عن إيمانهم بالله وبالعلائق التي يريد إنشاءها مع البشر.
القسم الأول: العهد القديم
إن المسيح هو “كمال الناموس والأنبياء”، وفيه “حصلنا على النعمة والحق”، وتحقّق رجاء العهد القديم. ماذا كان يرجو العهد القديم، وكيف عبّر عن علاقة الله بالإنسان؟ هذا ما سنحاول توضيحه انطلاقاً من الألفاظ والرموز التي استعملها العهد القديم للتعبير عن مفهوم النعمة.
أولاً: الألفاظ المستعملة للتعبير عن النعمة
إن أسفار العهد الجديد قد كتبت باليونانية. إلاّ أن اللغة التي استخدموها قد تأثّرت كثيراً بالترجمة اليونانيّة للعهد القديم المعروفة “بالترجمة السبعينيّة”، التي تعود إلى القرن الثالث قبل المسيح. لذلك لا يمكننا فهم الألفاظ المستعملة في العهد الجديد إن لم نرجع إلى أصلها السامي الغبريّ كما ورد في أسفار العهد القديم.
ء) الألفاظ التي تعبّر عن محبّة الله ورحمته
1- حِينّ
معناها في اللغة العبرّية واستعمالها في العهد القديم:
تعني هذه الكلمة: الحسن والجمال الذي يجده إنسان في شخص آخر، ثم الحظوة والنعمة. فيقال مثلاً “لقي حظوة في عيني فلان”.
وهذه الكلمة مشتقّة من فعل (حنان) الذي يعني “انحنى بنظره على” ومن ثم “تحنّن على” ثم تفضّل، منّ على، أحسن إلى، أنعم على، وهب، أعطى.
عندما تستعمل هذه اللفظة للتعبير عن موقف الله من الإنسان، تعني أنّ الله ينحني على الإنسان ويتحنّن عليه، فينال الإنسان حظوة لدى الله، مثل نوح وموسى (تك 6: 8؛ 33: 10؛ خر 33: 12).
وموقف الله هذا عطية مجانيّة من قبله، كما يقول في سفر الخروج “أتحنّن على من أتحنّن وأرحم من أرحم” (33: 19). إلاّ أن عمل الخير يجلب حنان الله، كما يقول النبيّ عاموس: “أبغضوا الشر وأحبّوا الخير، وأقيموا الحكم في الباب، فعسى الرب إله الجنود يحنن على بقية يوسف” (5: 15).
ونجد مراراً هذه اللفظة مقترنة بلفظة “رحوم” في العبارة التالية “” (رحوم وحنون): “الرب إله رحوم وحنون، طويل الأناة كثيرة المراحم والوفاء” (خر 34: 6).
* ترجمة هذه اللفظة إلى اليونانية وسائر اللغات
– لقد ترجمت السبعينية هذه اللفظة بكلمة ، التي تعني في اليونانية العامّة حسن الجمال، والحظوة عند الناس (الاصل يعني اللمعان، ومنه الفرح )، وفي اللغة الدينيّة تعني الحظوة عند الله.
– أمّا كلمة نعمة في العربية فمشتقة من فعل نَعِمَ أي رَفَهَ. فيقال نَعِمَ عيشه أي طاب ولان واتّسع. و”نَعِمْتُ بهذا عيناً” أي سررت به وفرحت. وأنعم الله النعمة عليه أي أوصلها إليه. وفي العبريّة كلمة مشابهة في الأصل وهي (نُعَم) وتعني أيضاً الحسن والسرور واللطف والفضل، وقد جاءت في المزمور 89: 17 “ولتكن نعمة الرب إلهنا علينا، وعملَ أيدينا وفّقْ لنا”. وقد ترجمتها السبعينية بكلمة أي “بهاء”.
– الترجمة اللاتينية استعملت كلمة gratia ومنها أتت كلمة grace الفرنسية.
2- (حيسيد)
تعني هذه الكلمة: الصلاح والرأفة والنعمة، وتتضمّن دوماً معنى الأمانة في محبة الله لشعبه. لذلك ترتبط مراراً بالعهد، كما يقول أشعيا: “إن الجبال تزول والتلال تتزعزع، أمّا رأفتي فلا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمكِ الرب” (54، 10)، “إنّي أعاهدكم عهداً أبديّاً على مراحم داود الأمينة” (55: 3؛ راجع أيضاً 54: 8؛ مز 50: 1).
وتدل على ذلك اللازمة التي تعود بعد كل آية من المزمور 136 “فإنّ إلى الأبد رحمته”.
وهذه الأمانة نفسها يطلبها الله من الإنسان، كما في النبيّ هوشع: “ليس في الأرض حقّ ولا رحمة ولا معرفة الله” (4: 1)، “إنّي أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من المحرقات” (6: 6).
نشير إلى وجود فرقة من اليهود تدعى “حسّيديم”، أي الأتقياء الأمناء، أسّسها في أوكرانية وبولندة رابي بعلشيم طوف (1699- 1760). ثم انتشرت في أنحاء أوروبة الشرقية وانتقلت إلى أوروبة الغربية، وبعد الاضطهاد النازيّ إلى الولايات المتّحدة.
السبعينية ترجمت هذه الكلمة بلفظة ، واللاتينية misericordia ومنها أتت كلمة misericorde الفرنسية.
العربية ترجمتها بلفظة “رحمة” أو “رأفة”. إلاّ أنّ هاتين اللفظتين لا تؤدّيان جميع معاني الكلمة العبرية.
3- (ريحيم)
تعني في الأصل رحم المرأة وأحشاءها، مركز العطف والرحمة. تشير هذه الكلمة إلى الشعور والتأثّر في التعبير عن الحبّ، ولا سيّمَا بين الوالدين والأولاد وبين الأخوة والأخوات.
السبعينية ترجمت هذه العبارة بلفظة وأحياناً بلفظة
اللاتينية ترجمتها بلفظة misericordia والفرنسية بلفظة pitie
العربية تؤدّيها أحياناً بلفظة “رحمة”، وأحياناً أخرى بلفظة “رأفة”. ولفظة رحمة أقرب إلى الكلمة العبريّة. إلاّ أنّ “الرأفة” أقرب إلى المعنى. لأنّ فعل “رئف به” يعني، حسب القاموس، “رحمه أشدّ رحمة” (المنجد).
إنّ هذه الكلمات قريبة بمعناها، تدلّ كلّها على محبة الله ورحمته وعطفه ونعمته، ولا سيّمَا تجاه الفقراء والضعفاء والخطأة.
ب) ألفاظ أخرى متّصلة برحمة الله
1- (إيمت)
تعني الأمانة الثبات في العلاقة بين الأشخاص، والحقّ والصدق. وقد ترجمتها السبعينية بلفظة التي تعني “غير الخفيّ” أي الحق، من الناحية الفلسفية. فبينما تركّز اليونانية على الناحية الفكرّية والعقليّة، تشير العبريّة إلى العلاقات بين الأشخاص. وتلك العلاقات هي علاقات حقّ وأمانة.
فالله أمين في مواعيده: “إعلم أنّ الربّ إلهك هو الله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل” (تث 7: 9).
وترتبط هذه اللفظة مراراً بلفظة (حيسيد= رحمة) للدلالة على أن رحمة الله هي أمينة ثابتة إلى الأبد:
– “الرحمة والحق” تلاقيا، العدل والسلام تلاثما” (مز 84: 11).
– “وأمّا النعمة والحق فبيسوع المسيح قد حصلا” (يو 1: 17).
2- (مشباط)
تعني العدل (تصيدق) أي الصدق والبرّ. الكلمة الأولى تعني عدل الله وحكمه لإحلال السلام وتثبيت النظام. والكلمة الثانية تعني الالتزام بالنظام أو بالعهد أو بالشريعة.
ترتكز هاتان اللفظتان على فكرة العهد المأخوذة من الحضارات المجاورة للشعب اليهوديّ. فنجدها مثلاً في حضارة الحثّيّين (سكان شمالي سوريا وأواسط تركيا). فكان الملك يقوم بمعاهدة مع قبيلة عائشة على حدود مملكته. وتتضمّن تلك المعاهدة بعض الأحكام والشرائع التي يجب اتّباعها. ومن يخالفها يقع تحت العقاب الشديد. ويتعهّد الملك من جهته بالأمانة والحماية. وقد اتبعت العهود بين الله وإبراهيم وموسى المنهج نفسه. فمن جهة يلتزم الشعب بإتباع وصايا الله وشرائعه، ومن جهة أخرى يعد الله الشعب بأن يكون معه ويحميه وينصره على أعدائه.
لذلك لعبت الشريعة دوراً كبيراً وكان لها شأن هام في حياة الشعب اليهوديّ الدينيّة. فالإنسان الصدّيق هو الذي يحفظ بدقّة أحكام الشريعة.
اليونانيّة ترجمت هذه الكلمة بلفظة ، وتعني المحافظة على قوانين المدينة وعوائدها. وهذه من علامات الحضارة. أمّا الشعوب البربريّة فليس لها أنظمة وقوانين تتبعها.
3- (عزّ)= العزّة، القوّة، القدرة
إنّ لفظة باليونانيّة تعني مبدأ الحياة في الكون. فيرى اليونان في الكون قوة سريّة تسيّره. والسحرة هم الذين يعرفون أسرار تلك القوة ويستخدمونها.
أمّا الشعب اليهوديّ فيرى القدرة في شخص الله الحيّ. فإله إسرائيل هو إله التاريخ، وهو الذي بقدرته، دون أيّ استحقاق ولا تدخل سحريّ من قبل الشعب، قاد شعبه من مصر إلى أرض إسرائيل. وتردّد المزامير إيمان الشعب بقوة الله:
“الله معتصم لنا وعزّة، وقد وجدناه نصرة عظيمة في المضايق” (مز 45: 1- 2). “هب لعبدك قوّة منك وخلّص ابن أمتك” (مز 85: 16).
ولفظة قوّة تستعمل في التمجيدات: “لأن لك القدرة والمجد إلى الأبد”.
وهذه القدرة الإلهية هي التي يراها العهد القديم في المسيح المنتظر. فإنّه سيأتي بقوة. إنه “الجبّار” (أشعيا 9: 6)، الذي يستقرّ عليه روح القوّة (أشعيا 11: 2) لإعادة بناء مملكة داود. وهو الذي سيرعى شعبه بعزّة الرب (ميخا 5: 4). كذلك تستعمل هذه اللفظة في المزمور الملكيّ الذي يتنبأ عن المسيح: “قال الربّ لربيّ: اجلس عن يميني… عصا قوة يرسل لك الرب من صهيون. سُدْ فيما بين أعدائك” (مز 109: 2).
ويستعمل العهد القديم أكثر من مئتي مرة عبارة “يمين الله” للدلالة على قدرة الله التي يظهر عملها في العالم وفي التاريخ. وتقترن اليمين أو الذراع بلفظة القدرة، فنرى مراراً عبارة “ذراع القدرة” (مز 89: 10، 12؛ اش 62: 8). وسنجد تلك العبارة في لوقا 1: 51 “بسط قدرة ساعده”.
لا ينظر العهد، القديم إلى قدرة الله كإلى صفة لله في ذاته بقدر ما يرى فيها وصفاً لعمل الله في الخلق والكون والتاريخ، لا سيّمَا في علاقته مع شعبه. وتلك القدرة هي تعبير رمزيّ لحضور الله الدائم في وسط شعبه. وهذا سيساعدنا على فهم معنى النعمة في العهد الجديد وفي اللاهوت.
4- (رُوَح)
تعني هذه اللفظة الهواء والريح. وتستعمل للدلالة على النَفَس ونَفْحَة الفم. وتشير عندئذٍ إلى قدرة الله: “بكلمة الرب صنعت السماوات، وبروح فيه كل جنودها” (مز 32: 6).
وتطوّرت هذه اللفظة لتعني شخصاً، فالروح هو مصدر قوة الله (تك 1: 2؛ أي 33: 4). والروح هو قوّة الله العاملة في الكون. فالله حاضر في الكون بروحه الذي يملأ كلّ شيء، كما يقول المزمور 138، 7 “أين أذهب من روحك وأين أفرّ من وجهك”.
وروح الله هو الذي يرسله الله إلى الأنبياء (حز 2: 2؛ 3: 24).
والروح سيحلّ بشكل خاصّ على المسيح (اش 11: 1- 6، 42: 1- 5).
وكذلك سيكون الروح عطيّة الله للشعب الماسيويّ برمّته (أع 2: 17- 23؛ يؤ 2: 24؛ حز 11: 9؛ 36: 25- 28؛ 37: 1- 14).
فالروح هو تعبير لحضور الله ولعمله في العالم. فهو الذي يخلق وهو الذي يحيي، وهو الذي يجدّد حياة الأفراد والجماعات.
وروح الإنسان هو أيضاً عطيّة من الله. فالجسد ليس إلاّ تراباً من دون الروح. وعند الموت “يعود التراب إلى الأرض حيث كان، ويعود الروح إلى الله الذي وهبه” (جا 12: 17).
ثانياً- بعض الرموز المستعملة في العهد القديم للتعبير عن علاقة الله بالإنسان
1- رمز الزواج
لقد اختار الله شعبه كما يختار الرجل امرأته. وكل خيانة لوصايا الله تُعتبر خيانة زوجية، أي زنى تجاه الله. نجد هذا الرمز في الأنبياء، ولاسيّمَا في نبؤة هوشع (راجع خصوصاً الفصل 2، ثم ار 2: 2؛ حز 16: 23؛ اش 50: 1؛ 54: 6؛ 62: 4- 5). وسيعود هذا الرمز في رسائل بولس (اف 5: 21- 33) وفي رؤيا القديس يوحنا (21: 2).
2- رمز الأب
لا بدّ من الإشارة أولاً إلى أنّ لفظة “ابن” تعني في العهد القديم مختلف أنواع القرابة. “بني اسرائيل” عبارة تعني الشعب الاسرائيلي، “ابن البشر” ابم الإنسان” تعني أولاً “الإنسان”.
“ابن الله” هو أوّلاً لقب الملك. وهي عبارة نجدها أيضاً في الديانات البابليّة والمصرّية. فالملك يتمتعّ بعلاقة خاصة مع الله.
إلاّ أنّ هذه العبارة تستعمل أيضاً للدلالة على الشعب الإسرائيليّ بمجمله، لتشير إلى ما يتمتعّ به هذا الشعب من حظوة وعناية لدى الله. فالشعب الإسرائيليّ هو “الابن البكر” لله (خر 4: 22- 23، ار 31: 9). كذلك نرى أن جميع أبناء وبنات الشعب الإسرائيلي هم أولاد الله. فقد ولدتهم أورشليم “عروس الله” (حز 16: 20)، وإسرائيل (هو 2: 4).
غير أن هذه العلاقة ليست علاقة حبّ بقدر ما هي علاقة طاعة وأمانة وخدمة.
الله هو أب إسرائيل. فقد ولدهم جميعاً (عد 11: 11- 12)؛ تث 32: 6). وأبوّته هي رمز لحبّه ورحمته لهم (تث 32: 9- 13).
وعلى الرغم من السبي إلى بابل، لم يفقد الشعب إيمانه بأبوّة الله ومحبته له. بل على العكس من ذلك، فقد ازداد هذا الإيمان، حتى إننا نجد في أشعيا الثالث عبارات تهيّئ الصلاة الربية (63: 16، 64: 8).
3- رمز الراعي
كان الشعب الإسرائيليّ يعيش في أوائل تاريخه من رعاية المواشي. وقد اتّخذ رموزه من أطر حياته. فرأى الشعب في الله الراعي الذي يقوده بعناية ومحبة (مز 22: “الرب يرعاني فلا شيء يعوزني…”؟ مز 78: 13؛ حز 34: 31؛ اش 40: 10- 11).
4- رمز الطبيب الشافي
إن المرض يرتبط بالخطيئة، في عقليّة العهد القديم (“من خطئ، هذا الرجل أم أبواه، حتى ولد أعمى؟” يو 9: 2). لذلك يرى الشعب في الله إلهاً يغفر الخطايا ويشفي أمراض الجسد (عد 12: 13؛ 4 ملو 20: 5- 8، هو 6: 1- 3؛ 7: 1؛ 11: 3، ار 3: 22؛ 17: 14).
لذلك فإن التوبة والندامة ضروريّتان لحصول الشعب على الغفران والشفاء. فالمهمّ إذاً إعادة علائق الصداقة والأمانة بين الشعب والله. وتلك الحالة هي التي تنعش الإنسان جسداً ونفساً.
5- رمز الكرمة
الكرمة تتطلّب عناية كبيرة واهتماماً دائماً (1 ش 5: 2- 7). فكما يعتني الإنسان بكرمه، هكذا يعتني الله بشعبه. وهذا التشبيه سيستخدمه المسيح في حديثه عن علاقة تلاميذه به “أنا الكرمة وأنتم الأغصان وأبي الكرّام” (يو 15: 1- 8).
6- رمز محبّة الأمّ لأولادها
رأينا أن كلمة رحمة مشتقّة من “رحم” المرأة. فالله يحب شعبه كما تحب المرأة (أش 49: 4 1- 15؛ 63: 13).
ثالثاً- لاهوت النعمة في العهد القديم
لقد رأى العهد القديم أنّه يستحيل على الإنسان الوصول إلى معرفة الله في ذاته، إذ لا يمكن الإنسان أن يرى الله ويبقى حيًّا، كما يقول الله لموسى (خر 33: 11- 23؛ عد 12: 10- 8). “لكنه يستطيع اختبار عمل الله في الكون وإدراك قصده في علاقته بالإنسان. فالله قد اختار شعبه ودعاه وصنع معه عهداً وقدّسه ومجّده.
1- قصد الله
إنّ قصد الله يتجلى في العهد القديم في الأحداث الهامّة التي ترويها الأسفار المقدّسة: كدعوة إبراهيم ووعد الله بأن يعطيه نسلاً وأرضاً، ودعوة موسى ومساعدته على إخراج الشعب من مصر، ومنحه إيّاه الشريعة في سيناء، والوصول بالشعب إلى أرض الميعاد. كما حلى أيضاً في كلام الأنبياء الذي يفسّر معنى الأحداث، ويوضح سير التاريخ. فالأمم كلها مدعوّة إلى الخلاص، حسب قول أشعيا:
“ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يوطّد في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه جميع الأمم. وينطلق شعوب كثيرون ويقولون: هلمّوا نصعد إلى جبل ، وهو يعلّمنا طرقه فنسلك في سبله” (اش 2: 20- 3).
وفي آخر الأزمنة سينشى الرب ملكا أبديّا، حسب نبؤة دانيال:
“وفي أيّام هؤلاء الملوك، يقيم إله السماء مملكة لا تنقض إلى الأبد، وملكه لا يترك لشعب آخر، فتسحق وتفني جميع تلك الممالك، وهي تثبت إلى الأبد” (2: 44). وابن الإنسان هو الذي سيعطى الملك: “ورأيت في رؤى الليل، فإذا بمثل ابن البشر آتياً على سحاب السماء، فبلغ إلى القديم الأيّام وقرّب إلى أمامه، وأوتي سلطاناً ومجداً وملكاً. فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانه سلطان أبديّ لا يزول، وملكه لا ينقرض” (دا 7: 13- 14).
2- الدعوة والاختيار والعهد
تعبّر تلك الألفاظ الثلاثة عن المرحلة الأولى من تحقيق قصد الله. فالله، بمبادرة مجّانيّة منه، يختار شعباً ويدعوه إلى مصير مختلف عن مصير سائر الشعوب. ولا فضل للشعب في هذا الاختيار الإلهي:
“إنك شعب مقدّس للرب إلهك، وإيّاك اصطفي الرب إلهُك أن تكون له أمّة خاصّة من جميع الأمم التي على وجه الأرض. لا لأنكم أكثر من جميع الشعوب لزمكم الرب واصطفاكم، فإنّما أنتم أقلّ من جميع الشعوب، لكن لمحبة الرب لكم ومحافظته على اليمين التي أقسم بها لآبائكم أخرجكم الرب بيد قديرة وفداكم من دار العبودية من يدي فرعون ملك مصر. فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل” (تث 7: 6- 9، راجع أيضا 9: 4- 6).
إنِّ الله يبقى أميناً لاختياره. وهذا ما يعنيه العهد الذي يمكن ايجازه في العبارة التالية: أنتم تكونون لي شعباٍ، وأنا أكون لكم إلهاً”. وهذا العهد قد أبرمه الله أوّلاً مع نوح (تك 9: 9- 17)، تم مع إبراهيم (تك 15: 1- 14)، ثم مع موسى على جبل سيناء، حيث تكرّس العهد بدم الذبائح: “هذا هو دم العهد الذي عاهدكم به الربّ على جميع هذه الأقوال” (خر 24: 8). إلاّ أن الشعب لم يحفظ وصايا الله. وقد رأى الأنبياء في المصائب التي حلّت بإسرائيل قصاصاً من الله على خيانته إيّاه. لكن رحمة الله تثبت إلي الأبد. لذلك يبشر الأنبياء بقدوم “عهد الجديد” يقطعه الله مع شعبه، ويتميّز بتغيير قلوب الشَعب: “إني أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم” (ار 31: 33).
وقد ترجمت لفظة “عهد” في الترجمة السبعينية بلفظة التي تعني الوصيّة. ونرى في تلك الترجمة تأكيداً لعطاء الله المجانيّ للإنسان. فالعهد ليس مجرّد معاهدة بين فريقين، إنّما هو عطاء مجّانيّ من قبل الله للإنسان ودعوة إلى تقبّل هذا العطاء بحفظ وصايا الله والسلوك أمامه في البرّ والقداسة.
3- قداسة الله في قداسة الإنسان
عند الشعوب القديمة، هناك صلة بين الأشياء المقدّسة والله. فكل ما يلمسه الله يصبح مقدّساً. فإذا سقطت صاعقة على شجرة، تصبح تلك الشجرة مقدّسة لأنّ الله قد مسّها، وإذا ولد طفل في حالة مشوّهة يعتبر مقدّساً لأنّ الله قد مسّه. لذلك تقترن القدسيّات بالرهبة والخوف.
أمّا الشعب الإسرائيليّ فقد رأى في القداسة ميزة شخصيّة لله. والقداسة هي مجموعة صفات الله من صلاح وعدل وأمانة ومحبّة ورأفة الخ. وبمَا أن جميع تلك الصفات ينظر إليها الشعب من خلال علاقة الله بالإنسان، فإن قداسة الله هي في علاقته بالبشر ورحمته ومحبته لهم.
ثم إنّ قداسة الله تظهر في تقديس الإنسان. يقول حزقيال: “يا ابن البشر، ان آل إسرائيل لما سكنوا في أرضهم نجّسوها بطريقهم وأعمالهم… فلما دخلوا بين الأمم… دنّسوا اسمي القدوس… لذلك قل لآل إسرائيل: هكذا قال السيد الرب، ليس لأجلكم أنا فاعل، يا آل إسرائيل، لكن لأجل اسمي القدوس الذي دنّستموه في الأمم الذين دخلتم بينهم فأقدّس اسمي العظيم الذي دنّس في الأمم الذي دنّستموه فيما بينهم، فتعلم الأمم أنيّ أنا الرب… حين أتقدّس فيكم على عيونهم. وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم. وأنضح عليكم ماء طاهراً فتطهرون من جميع نجاستكم… وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً… وأجعلكم تسلكون في رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها… وتكونون لي شعباً وأكون لكم إلهاً” (36، 17- 28).
إنّ الشعب بخطاياه يدنّس اسم الله. إلا أن الله يظهر رحمته ومحبّته لشعبه فيخلّصهم من خطيئتهم ويضع فيهم روحاً جديدا لتتميم وصاياه. وهكذا يقدّس الله. ان قداسة الله لا يستطيع العقل البشريّ أن يدركها. إلاّ انّها تظهر في تقديس الإنسان. وهكذا يظهر الله قداسته وبرّه وصلاحه في قداسة الإنسان وبرّه وصلاحه.
هذا المفهوم لقداسة الله هو قريب جداً من مفهوم النعمة في العهد الجديد. فالنعمة هي قداسة الله التي تملأ الإنسان وتعطيه قلباً جديداً وروحاً جديداً يستطيع بهما أن يحيا في القداسة على مثال الله، ويتمّ إرادة الله وأحكامه ووصاياه، ويكون أميناً للعهد الذي قطعه مع الله.
وهنا نجد أساس الشهادة المسيحيّة. إذا كانت قداسة الله تظهر في الإنسان، فلا بدّ من أن يحيا المسيحيّ حياة الله فيه ليشهد لله في العالم: “هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات” (متى 5: 16).
فقداسة الله ليست إذاً أمراً رهيباً يثير الخوف والرعب كما عند الوثنيّين. ومهما خطى الإنسان، فإنّ محبة الله تبقى ثابتة أمينة: “كيف أعاملك يا أفرائيم وأصنع بك يا إسرائيل… قد انقلب فيّ فؤادي واضطرمت مراحمي. لا أنْفِذُ وَغْرَ غضبي ولا أَهِمُّ بعد بتدمير أفرائيم. لأني أنا الله لا إنسان. أنا في وسطكم القدوس” (هو 11: 8- 9). إن الإنسان الخاطئ يخاف من الله القدوس. إلاّ أن قداسة الله تقوم لا على تدمير الإنسان، بل على تبريره وخلاصه. وهكذا ظهر لنا الله في شخص يسوع المسيح الذي “لم يأت ليدين العالم بل ليخلّص العالم”.
هذا ما اختبره أشعيا وعبّر عنه في الرؤيا التي شاهدها في الهيكل، حيث سمع الملائكة ينشدون لله: “قدوس قدوس قدوس رب الجنود. الأرض كلها مملؤة من مجده”. فوعى عندئذٍ أشعيا خطيئته وقال في نفسه “ويل لي قد هلكت، لأني رجل دنس الشفتين، وأنا مقيم بين شعب دنسي الشفاه وقد رأت عيناي الملك ربّ الجنود”. هذا هو المشهد الأوّل من الرؤيا: التناقض بين قداسة الله وحالة الإنسان الخاطئ. إلاّ أنّ الرؤيا لا تقف عند هذا الحد. ويتابع أشعيا: “فطار إليّ أحد السرافين وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح ومسّ في وقال: ها إن هذه قد مسّت شفتيك، فأزيل إثمك وكُفِّرت خطيئتك” (اش 6: 1- 7).
4- المجد حضور الله في الإنسان
– تعني لفظة مجد بالعبرية (كَفُود) “الثقل”. وبما أن ثقل الشيء يدلّ على قيمته، فالمجد يعني أولاً القيمة، ومن ثم القدرة والسلطة. أمّا أساس المجد فيكون إمّا الثروة، كإبراهيم الذي كان “مجيداً” لأنه كان “غنياً بالماشية والفضة والذهب” (تك 13: 2). وإمّا المكانة الاجتماعية، وفي ذلك يقول يوسف لإخوته: “أَخبروا أبي بجميع مجدي بمصر وجميع ما رأيتموه” (تكوين 45: 13). وأيوب يصرخ في شدّته: “إن الله قد عرّاني من مجدي ونزع إكليل رأسي” (أي 19: 9).
– إلاّ أن العهد القديم قد رأى أن “المجد الإنساني” أي المبنيّ على الثروة والمكانة الاجتماعية مجد باطل: “لا تخش إذا استغنى ونمى مجد بيته، فإنه إذا مات لا يأخذ شيئاً ولا ينزل معه مجده” (مز 48: 17- 18). وحده الله هو مجد الإنسان الذي لا يتزعزع “عند الله خلاصي ومجدي، وفي الله صخرة عزّي ومعتصمي” (مز 61: 8).
– أمّا تعبير “مجد الله” فيعني ظهور الله نفسه في عظمته وقدرته وبهاء قداسته. ويتجلّى مجد الله في أمرين: في العظائم التي يجريها وفي ظهوراته.
– عظائم الله وهي أولاً الخلق “السماوات تذيع مجد الله، والفلك يخبر بأعمال يديه. “لتمتلئ الأرض كلّها من مجد الرب” (عد 14: 21)، ثم العجائب التي يجريها لشعبه، كمعجزة البحر الأحمر، “وفيها مُجّد الرب بفرعون وجميع جنوده ومراكبه” (خر 14: 17- 18)، أي ظهرت قدرته، تم معجزة المنّ والسلوى في الصحراء، التي فيها رأى العب “مجد الرب” (خر 16: 7).
إلاّ أن هذه العظائم التي يجريها الله لا تهدف إلى إظهار قدرة الله وحسب، بل أيضاً إلى خلاص الإنسان. فالمجد يأتي مراراً مرادفاً للنص: “ستفرح البرّية والقفر وتبتهج البادية وتزهر كالورد… فهم ينظرون مجد الرب وبهاء إلهنا” (أش 35: 1- 2). وهذا ما رآه لوقا عندما استبدل كلمة “خلاص” بكلمة “مجد” في النص الذي يأخذه من أشعيا: “صوت صارخ في البرية اعدّوا طريق الرب… فيعاين كلّ إنسان خلاص الله” (لو 3: 4- 6). أمّا أشعيا فيقول: “… ويتجلى مجد الرب ويعاينه كل ذي جسد” (أش 40: 3- 5).
فمجد الله هو إذاً قدرته التي تظهر لخلاص الإنسان: “عندما يبني الربّ صهيون يتجلّى في مجده” (مز 101: 17).
– ثم إن مجد الله لا يعني فقط ظهوره من وقت إلى آخر، بل حضور، الدائم وسط شعبه، أوّلاً على جبل سيناء (خر 24، 15؛ تث 5: 22)، ثم في الهيكل (خر 29: 43؛ 40: 34). وهذا الحضور يهدف إلى تقديس الشعب. إلاّ أن الله لا ينحصر حضوره في الهيكل. فقد رآه حزقيال يترك الهيكل (حز 11: 22)، ويلأ بروحه جماعة إسرائيل في السبي (حز 36: 23؛ 39: 21- 29).
– أشعيا الثالث يجمع بين هذين المعنيين: معنى القدرة ومعنى الحضور. فالله يملك في المدينة المقدّسة التي جدّدها بقدرته وأنارها بحضوره “قومي استنيري، فإنّ نورك قد وافى ومجد الرب أشرق عليك” (60: 1- 2). لذلك تصبح أورشليم تسبحة مجد في الأرض” (62: 7)، “وفيها يجمع الرب جميع الأمم والألسنة، فيأتون ويرون مجده” (66: 18).
هذا المفهوم لحضور الله سيبلغ كماله في العهد الجديد. فيسوع هو تجسيد حضور الله وقدرته. والنعمة هي حضور الله في الإنسان بقدرته الإلهيّة”، التي تؤهّل الإنسان أن يعمل أعمال البرّ والقداسة.
القسم الثاني: النعمة في العهد الجديد
لقد قيل مراراً إن إله العهد القديم هو إله الغضب والعدل، بينما إله العهد الجديد هو إله المحبة. رأينا في القسم الأوّل خطأ تلك النظرة. فالعهد القديم هو بمجمله تاريخ محبّة الله لشعبه محبّة رحيمة أمينة ثابتة، وإن رافقت تلك المحبة مظاهر غضب الله وعدله في المحن والمصائب التي رأى فيها الشعب جزاء من الله على خيانته. أمّا ما يميّز العهد الجديد عن العهد القديم فهو تجسيد محبة الله في شخص ابنه يسوع المسيح، ودعوة كل إنسانا ابناً لله في المسيح.
وهذه البنوّة لله هي محور مفهوم النعمة في العهد الجديد.
أولاً- الأناجيل الإزائيّة
1- موقف الله من الإنسان
رأينا أن العهد القديم يتكلّم عن أبوّة الله تجاه شعبه، ولكن في مقاطع متفرّقة وفي معظم الأحيان بطريقة تشمل الشعب بمجمله. أمّا العهد الجديد فيؤكّد العلاقة الشخصيّة بين الله وكل واحد من أبنائه. فالعناية الإلهية تسهر على كل إنسان لتقوته كما تقوت طيور السماء، وتلبسه كما تلبس زنابق الحقل (متى 6: 26- 30)، وتغفر له كما يغفر الأب لابنه الشاطر الذي يعود إليه تائباً (لو 15).
وهذه البنوّة هي عطيّة مجانية منن قبل الله، ويرى فيها الإزائيّون الناحية الشخصية والداخلية للملكوت. فالذين يقبلون عطية الله ويصيرون أبناءه يدخلون الملكوت ويدعون “أبناء الملكوت”، وعليهم أن يحيوا حياة أبناء الله.
الملكوت عطية من الله: “لا تخف أيها القطيعِ الصغير، لأنه قد حسن لدى أبيكم أن يعطيكم الملكوت” (لو 12: 32، أنظر أيضا مثل العملة المرسلين إلى الكرم: متى 20: 1- 16 ومثل المدعوين إلى العرس: متى 22: 1- 10).
والملكوت مدعوّ إلى أن يجمع ليس فقط أبناء الشعب اليهوديّ الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء الملكوت، بل أيضاً جميع الشعوب: “إن كثيرين سيأتون من المشرق والمغرب، ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، أمّا أبناء الملكوت فيلقون في الظلمة الخارجيّة” (متى 8: 10- 12). يبدأ الملكوت صغيراً مثل حبّة الخردل تم يصبح شجرة… (متى 13: 31- 32؛ أنظر أيضاً سائر أمثلة الملكوت في متى 13).
إن دعوة الناس لأن يصيروا أبناء الله تتحقّق بواسطة يسوع المسيح ابن الله: “لقد دفع إليّ أبي كل شيء. وليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومن يريد الابن أن يكشفه له” (متى 11: 27).
2- موقف الإنسان
يستطيع الإنسان أن يرفض ملكوت الله: “الحق أقول لكم، إن العشارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله. فإن يوحنا قد جاءكم من طريق البرّ، فلم تؤمنوا به، أمّا العشارون والبغايا فقد آمنوا به…” (متى 21: 31- 32، أنظر أيضاً 21: 43؛ 22: 2- 8؛ 23: 13).
فمنذ بدء كرازته راح يسوع يبشّر بالتوبة والإيمان: “لقد تمّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 1: 15).
والتوبة تثمر بالأعمال الصالحة “أثمروا ثمر توبة لائقاً” (متى 3: 8). فمن قبل دعوة يسوع عليه أن يعيش حسب الشريعة الجديدة التي جاءنا بها، والتي يوجزها في التطويبات (متى 5: 10- 12)، ثم يتوسّع فيها في مقارنة بين الناموسين العتيق والجديد (متى 5- 7)، مشيراً إلى أن هذه الأعمال هي أعمال أبناء الله، وأنها تنتج عن العلاقة الجديدة بين الله والإنسان: “لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات” (5: 45)، “كونوا كاملين كما أن أباكم السماويّ هو كامل” (5: 48) “صلِّ إلى أبيك الذي في الخفية” (6: 6).
إن تشديد يسوع على أعمال البرّ يقابله من ناحية أخرى موقفه المليء بالرحمة من الخطأة. فإن اسمه يعني “الله- يخلّص”. ومسامحة الخطايا والتحرير منها هي أهم ما جاء لأجله يسوع:
“إني لم آت لأدعو صدّيقين بل خطأة إلى التوبة” (لو 5: 32). ونراه يغفر الخطايا بالقدرة الإلهية التي فيه، فيقول للمخلّع: “لتطب نفسك، يا ابني، مغفورة لك خطاياك” (متى 9: 2)، وللمرأة الخاطئة: “مغفورة خطاياكِ… إيمانكِ خلّصكِ، اذهبي بسلام” (لو 7: 48- 50)، ولزكّا العشّار: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت… لأن ابن البشر قد جاء ليطلب ما قد هلك ويخلّصه” (لو 19: 9- 10)، وللصّ التائب: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43).
لذلك فالمهمّ، في نظر يسوع، ليس أن يكون الإنسان منزّهاً عن الخطيئة، بل أن يعترف ويطلب المغفرة سبيلاً إلى الارتداد وتغيير القلب كالعشّار الذي عاد إلى بيته مبرّراً دون الفريسيّ (لو 18: 9- 14).
وفي مختلف الحالات، فان تبرير الإنسان لا ينتج عن أعماله الصالحة، كما كان يظنّ الفريسيون، بل هو عطية مجّانيّة من الله الذي يسكب محبّته ورحمته في قلب من يعترف بخطيئته وينفتح له.
ثانيًا- أعمال الرسل
إنّ لوقا هو كاتب سفر أعمال الرسل كتكملة لإنجيله. إلاّ أنه في الإنجيل يبتدئ من الجليل حيث بدأ يسوع رسالته، ثم ينتقل إلى اليهوديّة لينتهي بأورشلبم. أمّا في أعمال الرسل، فيبتدئ من أورشليم، ثم يروي امتداد الكنيسة إلى اليهوديّة، ثم إلى السامرة إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8).
وامتداد الكنيسة هذا هو عمل الروح القدس: “إنكم ستنالون قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي جميع اليهوديّة والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (1: 8). لذلك دعي سفر أعمال الرسل “إنجيل الروح القدس”. كيف يرى لوقا علاقة الله بالإنسان، وعمل الروح فيه؟
1- التوبة: يشدّد لوقا في أعمال الرسل، كما في إنجيله، على ضرورة التوبة لنيل موهبة الروح القدس: فبطرس يطلب من اليهود في خطابه الأوّل يوم العنصرة أن “يتوبوا ويعتدوا باسم يسوع لمغفرة الخطايا، فينالوا موهبة الروح القدس… وبأقوال أخرى كثيرة كان يناشدهم ويحثّهم قائلاً: تخلّصوا من هذا الجيل المعوجّ” (2: 38- 40). وبولس، من بعد الرؤيا، راح يكرز جميع الناس من يهود وأمم “بأن يتوبوا ويرجعوا إلى الله بمزاولة أعمال تليق بالتوبة” (26: 20، أنظر أيضاً 17: 30).
2- الإيمان: إلى جانب التوبة يتحدّث لوقا عن ضرورة الإيمان بالربّ يسوع (8: 36- 37؛ 20: 21)، “لأن كل من يؤمن باسمه ينال باسمه مغفرة الخطايا” (10: 43).
3- قوة الله ونعمة كلمته: إنّ الله هو الذي يعطي الإنسان التوبة والإيمان. فيسوع هو الذي “يعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا” (5: 31)، و “الله هو الذي يعطي التوبة للأمم” (11: 28).
4- الخلاص ومغفرة الخطايا هما ثمر التوبة “كلّ من يدعو باسم الرب يخلص” (نبؤة يوئيل: أع 2: 21)، ويحصل على “السلام مع الله بيسوع المسيح” (10: 36؛ راجع 13: 26، 38-39؛ 8: 22؛ 26: 18).
5- موهبة الروح القدس: يرى لوقا في الروح القوّة الإلهية التي يرسلها يسوع الممجّد إلى تلاميذه. فبه يعمّدون: “إن يوحنا قد عمّد بالماء، أمّا أنتم فستعمَّدون بالروح القدس” (1: 5). وموهبة الروح القدس هي العلامة الحقيقيّة لإرادة الله في خلاص الأمم (10: 47؛ 11: 16-18)؛ وحلول الروح القدس على كرنيليوس في قيصريّة يدعى عادة “عنصرة الأمم” (10: 44- 46) بعد عنصرة اليهود (2: 1- 13).
والمعمودية هي التي تمنح الروح (2: 38)، أمّا معموديّة يوحنا قد تمنح إلّ مغفرة الخطايا (تلاميذ افسس 19: 1- 6).
6- لفظة النعمة في إنجيل لوقا وأعمال الرسل
إنّ لوقا هو الإنجيلي الوحيد من بين الإزاثيّين الذي يستعمل لفظة وتعني في الإنجيل وفي أعمال الرسل:
– أما الحظوة عند الله كما في العهد القديم (لو 1: 30: “لا تخافي يا مريم، فلقد نلت حظوة عند الله”، 2: 52: “أمّا يسوع فكان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس”).
– وتعني أيضاً، وهذا جديد بالنسبة إلى العهد القديم! الذي يمنحه الله بواسطة التبشير بالإنجيل. فنشاهد العبارات التالية: “كلام النعمة” (لوقا 4: 22)، “كلمة نعمة الله” (أع 20: 32؛ 14: 3)، “انجيل نعمة الله” (أع 20: 24).
– هذه النعمة هي أيضاً، وهذا المعنى مرتبط بالمعنى السابق، القوة التي يمنحها الله للتبشيبر.. بالإنجيل (14: 26: “استُودعا نعمة الله للعمل الذي أكملاه”؛ راجع أيضاً 15: 40).
وأخيراً في 15: 11، يربط لوقا بين النعمة والمسيح وهذا التعبير سنجده مراراً عند بولس الرسل: “حال كوننا بنعمة الرب يسوع نؤمن أن نخلص نحن، مثل أولئك”.
ثالثاً- النعمة في رسائل بولس الرسول
إنّ بولس الرسول قد توسّع في موضوع النعمة، ولا سيّمَا بمناسبة خلافه مع اليهود المتنصّرين، الذين كانوا يريدون أن يتقيّد المسيحيون بأعمال الناموس الموسويّ، من ختانة وامتناع عن بعض المآكل وما سوى ذلك، معتبرين أن الإيمان بالمسيح لا يكفي للخلاص. لا بدّ من قراءة الفصلين الأوّلين من رسالة القديس بولس إلى الغلاطيّين لإدراك البلبلة التي أحدثتها في الكنائس آراء اولئك اليهود المتنصّرين. أمّا بولس فيؤكّد في هذه الرسالة وفي رسالته إلى الرومانيين أنّ “الإنسان لا يبرّر بأعمال الناموس، بل بالإيمان بيسوع المسيح” (غلا 2: 16).
ء) حالة الإنسان من دون النعمة: لا فرق بين اليهود والأمم، “فالجميع قد خطئوا وأعوزهم مجد الله” (رو 3: 23):
الجميع قد خطئوا: لوضح بولس في رسالته إلى الرومانيين حالة الإنسان بعيداً عن نعمة المسيحٍ. فالأمم (رو 1: 18- 32) واليهود (رو 2: 17- 29) جميعهم قد خطئوا (راجع أيضا 3: 9- 18).
والخطيئة، التي ترجع لفظتها 63 مرة في الرسالة إلى الروممانيين، يرى فيها بولس قوة كونيّة يُستعبَد لها الإنسان (رو 6: 14- 20؛ 7: 14، 17، 20)، وتعمل فيه كل شهوة (رو 7: 8). والإنسان العائش تحت سلطان الخطيئة يدعوه بولس “الإنسان الجسديّ”، الذي يسيطر فيه الجسد على الروح (رو 8: 5- 13)، والذي يرفض أيّ ارتباط بالله، ليكون هو إلهاً لنفسه.
ثم يتساءل بولس: “من ينقذنا من جسد الموت هذا؟” (رو 7: 24). فالناموس يوضح لنا ما يجب عمله، ولكنه لا يستطيع أن يمنحنا القوة على ذلك. المسيح وحده يمكنه أن يحرّرنا من الخطيئة (رو 7: 25؛ 8: 1- 4).
فأعوزهم مجد الله: قلنا في كلامنا عن قداسة الله ومجده في العهد القديم، إن الله يتقدّس ويتمجد في بر الإنسان وصلاحه. أما الخطيئة فتمنع ظهور مجد الله، إذ “تعوق إظهار الحقّ” (رو 1: 18 “الذين يعوقون الحق بالظلم”). لذلك “يعتلن غضب الله من السماء على كل كفر وظلم” (راجع أيضاً 2: 5). أمّا مجد الله فيظهر في “آنية الرحمة التي أعدّها من قَبْل للمجد، أي فينا نحن الذين قد دعاهم، لا من اليهود فقط، بل من الأم أيضاً” (رو 9: 23).
النعمة علاقة حوار الله. أمّا الخطيئة فتمنع هذا الحوار، وتترك الإنسان في أنانيّته واعتداده بنفسه. أمّا عبارة “غضب الله” فليست سوى تعبير بشريّ للعقاب الذي تحمله الخطيئة في ذاتها: من يبتعد عن الله وينغلق على ذاته يعِشْ في الظلمة ويعمل أعمال الظلمة، لذلك لا ينتج عن أعماله إلاّ الشرّ. أمّا الله فيصبر ويطيل أناته على الإنسان (رو 2: 4؛ 3: 25- 26؛ 9: 22).
ب) الحياة الجديدة في المسيح
1- يبني بولس نظرته في الحياة المسيحية على المقارنة بين الإنسان العتيق والإنسان فالإنسان العتيق هو كل إنسان يخضع لعبودية الخطيئة. والخطيئة تسود العالم منذ الإنسان الأول، الذي يدعوه بولس مع سفر التكوين “آدم”، وهي لفظة عبريّة تعني “الإنسان”. أمّا الحياة الجدية فقد أتتنا بيسوع المسيح، الذي هو “آدم الجديد”، أي “الإنسان الجديد”.
“فكما أنها بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة الموت… فلئن كان بزلّة واحد قد لكثيرون، فكم بالأحرى نعمة الله وموهبته قد وفرتا للكثيرين بنعمة الإنسان الواحد، يسوع المسيح… فلئن كان الموت بزلّة واحد قد ملك بهذا الواحد، فكم بالأحرى الذين ينالون وفور النعمة وموهبة البرّ، سيملكون في الحياة بواحد، هو يسوع المسيح. فإذن كما أنه بزلّة واحدة كان القضاء على جميع الناس، كذلك ببرّ واحد، يكون لجميع الناس تبرير الحياة. لأنه كما جعل الكثيرون خطأة بمعصية كذلك بطاعة واحد يجعل الكثيرون أبراراً. لقد دخل الناموس حتى تكثر الزلّة، ولكن حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة، حتى إنه، كما أنّ الخطيئة ملكت للموت، كذلك النعمة تملك بالبرّ للحياة الأبدية، بيسوع المسيح ربنا” (رو 5: 12- 21).
إن كلام بولس في ما يدعوه اللاهوت “الخطيئة الأصلية”، أي اتّحاد جميع الناس في مع آدم (“بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم”) لا يهدف إلاّ إلى إظهار اتّحاد جميع الناس في النعمة مع المسيح. وهذا هو الأمر المهمّ الذي يريد بولس أن يؤكّده. فلا يتكلم عن شمول الخطيئة إلاّ ليبرز شمول النعمة.
2- كيف يتمّ اتحاد الإنسان بالمسيح “الإنسان الجديد”؟
إن الله قد صالحنا مع نفسه بموت المسيح وقيامته، فصرنا، بموت المسيح، خليقة : “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، فالقديم قد اضمحل، وكل شيء قد تجدّد. والكل من الله الذي صالحنا مع نفسه بالمسيح… إن الله هو الذي صالح، في المسيح، العالم مع نفسه، ولم يحسب عليهم زلاّتهم… إن الذي لم يعرف الخطيئة جعله خطيئة من أجلنا، لكي نصير نحن به برّ الله” 5: 17- 21).
فالمسيح “قد مات عن الجميع والجميع أيضاً قد ماتوا معه. وإنه قد مات عن الجميع لكي لا يحيا لأنفسهم في ما بعد، بل للذي مات وقام لأجلهم” (2 كو 5: 14- 15).
بالمعمودية يتّحد الإنسان بموت المسيح وقيامه: “إنّا جميع من اعتمدوا للمسيح، قد اعتمدنا لموته. فلقد دُفنّا إذن معه بالمعموديّة للموت، حتى إنّا، كما أُقيم المسيح من بين الأموات بمجد كذلك نسلك نحن أيضاً في جدّة الحياة. لأنّا، إذا كنّا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بشبه قيامته، عالمين أن إنساننا العتيق قد صُلب معه، لكي يتلاشى جسد الخطيئة، بحيث لا نُستعبد بعد للخطيئة، لأنّ الذي مات قد محرّر من الخطيئة” (رو 6: 3- 7).
فالنعمة هي إذاً اشتراك في موت المسيح وقيامته، بحيث يخلع الإنسان عنه “الإنسان العتيق” ويلبس الإنسان الجديد، أي يتّحد بالمسيح “فيحيا في المسيح” “ويحيا المسيح فيه”. هذا ما يردّده بولس في عبارات مختلفة، مؤكّداً تلك العلاقة الشخصيّة والجماعيّة التي تربط الإنسان، كائناً فرداً وعضواً في جماعة، بالمسيح يسوع:
“لست أنا حيا، بل هو المسيح يحيا فيّ” (غلا 2: 20)؛
“أفلا تعرفون أنّ يسوع المسيح فيكم” (2 كو 13: 5)؛
“ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم…” (أف 3: 17)؛
“أما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكناً فيكم. من ليس فيه روح المسيح فهو ليس له. ولكن إن كان المسيح فيكم، فالجسد ميت بسبب الخطيئة، أمّا الروح فحياة لأجل البرّ” (رو 8: 9- 11).
ويذهب بولس، في تعبيره عن الاتحاد العميق بين المسيحيّ والمسيح، إلى القول: “إنّكم جميعاً أبناء الله، بالإيمان بالمسيح يسوع. لأنكم، أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح. فليس بعد يهوديّ ولا يونانيّ، ليس عبد ولا حرّ ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غلا 3 26- 28).
ان “لبس المسيح” الذي يتكلم عنه بولس هنا ليس مجرّد تغيير في سلوك المسيحي. فبالمعموديّة تنشأ علاقة كيانيّة جديدة بين الإنسان والمسيح. فالمعتمد، إذ يلبس المسيح، يصير المسيح مبدأ كيانه ويجعل منه ابن الله على مثاله ويشركه في حياة الله. وجميع المعتمدين يصيرون واحداً في المسيح، لأن حياة المسيح الواحد تسري فيهم جميعاً.
ج) موهبة الروح القدس
إن الروح القدس هو الذي يشرك المسيحيين في حياة المسيح.
فالله قد أفاض علينا بوفرةٍ الروحَ القدس، بيسوع المسيح مخلصنا (راجع تي 3: 4- 7)، الروح هو روح التبنّي الذي يعمل فينا ليجعلنا أبناء الله على مثال الابن: “فإنّا لم نأخذ روح العبوديّة بل روح التبنّي، الذي به نصير ورثة الله” (راجع رو 8، 14- 18). وهذا الروح يعضد ضعفنا، ويجعلنا مشابهين لصورة ابن الله، الذي “يصبح هكذا بكراً بين إخوة كثيرين” (راجع رو 8: 26- 29). والدليل على أننا أبناء الله كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ فيها: “أبّا أيها الآب…” (غلا 4: 4- 7، 19).
وهكذا فالحياة الجديدة التي يحياها المسيحيّ هي اشتراك في حياة الثالوث الأقدس: “فالبمسيح لنا كلينا (أي اليهود والأمم) التوصل إلى الآب، بروح واحد” (اف 2: 18). فالروح يجعلنا أبناء الآب على مثال الابن يسوع وبالاتحاد معه.
يعود بولس مراراً إلى سكنى الروح في الإنسان: “ان محبّة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (رو 5: 5)، “فالله قد أرسل إلى قلوبنا روح ابنه” (غلا 4: 6)، “ومنحنا الروح” (غلا 3: 5)، “وأفاضه علينا بوفرة” (تي 3: 6)، والروح يسكن فينا (رو 8: 9)، “إننا هيكل الله وروح الله ساكن فينا” (1 كو 3: 16؛ 6: 19).
إلا أن موهبة الروح القدس هذه، التي أعطيت لنا، ليست إلاّ بداية بالنسبة إلى الفداء الأبديّ والمجد السماويّ. فإننا لا نملك سوى “عربون الروح” (2 كو 1: 22؛ 5: 5)، و”باكورة الروح” (رو 8: 23)، والروح “هو عربون ميراثنا” (اف 1: 4). وهذا يعني أن الجديدة التي حصلنا عليها على هذه الأرض هي عربون يمنحنا إياه الله. وهذا العربون هو في آن معاً ضمانة لنا بأننا سنحصل على المجد الأبديّ، وبدء الحياة في المجد الأبديّ منذ الآن. فالمجد مرتبط بالنعمة ارتباط الثمرة بالزهرة والنبتة بالبزرة (رو 5: 1- 4؛ راجع برهان في ذلك في رو 5: 6- 10، 21، 6: 5- 8؛ 8: 17- 22، 29- 30).
د) النعمة تحرّر من الخطيئة
1- يشدد بولس على التناقض بين حياة يسوع في الجسد وحياته في المجد من بعد قيامته. لانّ الكلمة، في التجسد، “لاشى ذاته آخذا صورة عبد” (في 2: 7). وهو “الذي لم يعرف الخطيئة، جعله الله خطيئة من أجلنا” (2 كو 5: 21). فحياة المسيح على الأرض هي انحدار إلى عالم الخطيئة لمصارعته. وبطاعته حتى الموت، موت الصليب، استحقّ أن ينتصر الخطيئة والموت. وهكذا صار يسوع “آدم الآخر روحا محييا” (1 كو 15: 45).
2- والمسيحي، على مثال يسوع، عليه أن ينتقل من الإنسان الجسديّ إلى الإنسان حيّ، من الوجود الأرضيّ في جسد الخطيئة إلى الوجود الروحيّ، بقوة الروح القدس. غير أن هناك فرقاً بين المسيحي والمسيح. فالمسيح لم يتحرر، بقيامته، من الخطيئة نفسها، لأنه “لم يعمل الخطيئة”، به من عواقبها التي حملها تضامناً مع ذريّة آدم. أمّا المسيحي فعليه أن يتحرّر من الخطيئة ذاتها.
وهذا التحرّر لن يحصل دون عراك وجهاد. لأن في الإنسان مبدأين متناقضين: الجسد والروح “فالجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وكلاهما يقاوم الآخر، حتى إنكم لا تصنعون ما تريدون” (غلا 5: 7). والإنسان من طبيعته “جسديّ، مبيع للخطيئة وتحت سلطان الخطيئة” (رو 7: 14). ويبقى فيه الميل إلى الخطيئة، حتى بعد حصوله على الخلاص. غير أنه يستطيع التغلّب قي هذا الميل بقوة الروح الساكن فيه “إن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد حرّرك من ناموس الخطيئة والموت… إن كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحي أيضاً أجسادكم المائتة، بروحه الساكن فيكم” (رو 8: 2، 11)، “أسلكوا بالروح فلا تقضوا شهوة الجسد… إن كنتم تنقادون للروح، فلستم بعد تحت الناموس” (غلا 5: 16، 18).
والإنسان الجديد لا يبنى، ني نظر بولس، إلاّ على أنقاض الإنسان العتيق الذي يجب إماتته (كو 3: 5- 9، اف 4: 20- 24). على هذا المبدإ ترتكز قيمة الإماتة في المسيحيّة. فالإماتة ليست مجرد أمر سلبيّ، بل هي عراك ضد الإنسان العتيق الذي يحاول دوماً أن يبعدنا عمّا يبنينا. وهذا العراك هدفه بناء ما فينا من قيم سامية وتطلعات صالحة، ولا بد من أن يدوم الحياة كلها، حتى نبلغ إلى “ملء قامة المسيح، إلى الإنسان الكامل”.
3- ثم إن النعمة تحرّر المسيحيّ من الناموس. وهذا يعني أمرين متكاملين:
– زوال الناموس القديم في شرائعه وأنظمته المقيّدة، بحيث إن الأمم واليهود الذين يريدون أ، يصيروا مسيحيين غير ملتزمين بالخضوع للناموس اليهودي.
– هذا التحرّر من القوانين القديمة هو في آنٍ معاً تحرر لأجل عمل الخير. فالمسيحيّ غير مقيّد بأنظمة تُفرض عليه من الخارج، بل يحرّكه الروح لعمل المحبة. ذلك هو التحرر المسيحيّ، تلك هي حرية أبناء الله: نتحرّر من الناموس فارس المحبة. وجميع شرائع العهد القديم التي تُنقض في العهد الجديد، والشرائع الجديدة يطبّق عليها قول بولس: “إن الناموس كلّه يتمّم في هذه الوصية الواحدة: أحبب قريبك كنفسك” (غلا 5: 14). وهذه المحبة هي “ثمر الروح” (غلا 5: 22)، إنها موهبة تعمل في صميم الإنسان وتحرّره من أعمال الجسد (غلا 5: 16- 21).
هـ- البرّ والتبرير
1- إن الآب هو الذي، بموت يسوع وقيامته، قد صالحنا مع نفسه. وهكذا صار لنا يسوع من الله حكمة وبرّاً وقداسة وفداء” (1كو 1: 30). و”وهو الذي لم يعرف الخطيئة قد جعله الله خطيئة من أجلنا لكي نصير نحن به برّ الله” (2 كو 5: 21).
فالبرّ إذاً هو الحالة الجديدة التي يعيشها الإنسان الذي يقبل فداء المسيح. والتبرير هو عمل الله الذي به يزيل خطيئة الإنسان ويجعل منه إنساناً جديداً بارّاً.
إن هذا الحكم الذي يصدره الله مبرّراً الإنسان ليس مجرّد حكم خارجيّ يعلن فيه الله أن الإنسان لم يعد بعد تحت الدينونة، كما كان في حالة الخطيئة. إن النظرة البروتستنتيّة للتبرير تكتفي بهذا الحكم الخارجي معتبرة أن الإنسان يبقى خاطئاً، إلاّ أن الله يتغاضى عن خطيئته ويعامله كما لو كان بارّاً. أما النظرة الكاثوليكيّة فتعتبر أن الإنسان يصير في الواقع بارّاً. لأنه كما يقول بولس، عندما يقترن بالرب “يكون معه روحاً واحداً… ويصير هيكل الروح القدس” (1 كو 6: 17، 19). “إن الله قد صالحكم الآن بجسد بشريّة ابنه، إذ أسلمه للموت، ليظهركم لديه قديسين، بغير عيب ولا مشتكى” (كو 1: 22، راجع أيضاً اف 2: 5- 6).
2- الإيمان هو الذي يبرّر الإنسان لا أعمال الناموس
إن التبرير والخلاص يحصل عليهما الإنسان بنعمة مجّانيّة من الله: “إن كان ذلك بالنعمة، فليس إذاً بالأعمال، وإلاّ فليست النعمة نعمة بعد” (رو 11: 6) “فإنّ الله لكونه غننيًّا بالرحمة وأحيانا مع المسيح، إذ بالنعمة أنتم مخلّصون… أنتم إذاً بالنعمة مخلّصون بواسطة الإيمان، وهذا الخلاص ليس هو منكم بل عطية من الله، وليس هو من الأعمال لكي لا يفتخر أحد” (أف 2: 4- 9).
بالإيمان يقبل الإنسان فداء الله. هذا ما يعنيه بولس بقوله إن الإيمان هو الذي يبرّر الإنسان: “البارّ بالإيمان يحيا” (رو 1: 17)، “برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح” (3: 22)؛ “إن اعترفت بفمك أن يسوع هو ربّ، وآمنت في قلبك أن الله قد أقامه من بين الأموات، فإنك تخلص. لأن الإيمان بالقلب يقود إلى البر، والاعتراف بالفم إلى الخلاص” (رو 10: 9- 11).
3- الإيمان العامل بالمحبة
“نحن صنعه، إذ قد خلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعدّها الله من قبل لنسلك فيها” (رو 2: 10). إن الإيمان، وإن كان قد تحرّر من أعمال الناموس الموسويّ، إلاّ أنّه لا يكون إيمانا حقيقيًّا إلاّ إذا اقترن بالعمل بناموس المسيح الذي يوجزه بولس بالمحبة. (راجع غلا 5: 13- 14؛ 6: 2). وتتميم هذا الناموس شرط للحصول على الخلاص في الدينونة الأخيرة: “لا تضلّوا، إن الله لا يُستهزأ به، وكل امرىء يحصد ما قد زرع. فالذي يزرع في جسده، يحصد من الجسد الفساد، والذي يزرع في الروح، يحصد من الروح الحياة الأبدية. فلا نفشلْ في عمل الخير، فإنّا سنحصد في الأوان إن نحن لم نكلّ. فلنُحسن إذاً إلى الجميع ما دامت لنا الفرصة، ولا سيّمَا إلى الذين هم شركاؤنا في الإيمان” (غلا 6: 7- 10).
الإيمان وحده يبرّر الإنسان. ولكن الإيمان العامل بالمحبة هو وحده الإيمان الحقيقيّ، الذي به يلتزم الإنسان العمل بناموس المسيح.
رابعاً: النعمة في كتابات يوحنا الإنجيلي
أ- حالة الإنسان في العالم
“العالم”، عند يوحنا الإنجيلي، اصطلاح لمُلك الخطيئة. فالشيطان هو رئيس العالم، أي موحي الخطيئة، والشهوة هي التي تملأ العالم: “لا تحبّوا العالم، ولا ما في العالم. إن أحبّ أحد العالم فليست فيه محبة الله. لأنّ كل ما في العالم- شهوة الجسد وشهوة العين وصلف الغنى ليس من الآب بل من العالم. والعالم يزول وشهوته أيضاً” (1 يو 2: 15- 16).
لذلك يدعو يوحنا الخطيئة “خطيئة العالم” (يو 1: 29). والخطيئة، في نظره، هي ابتعاد عن الله ورفض لله:
– فالله حق، والخطيئة كذب (يو 8: 44؛ 1 يو 2: 4؛ 21- 22)
– والله نور، أما الخطيئة فظلمة (يو 3: 19- 21؛ 1 يو 1: 5- 7)
– “والله حياة، أمّا الخطيئة فموت (يو 8: 21- 24؛ 1 يو 3: 14- 15)
– والله حرية ويدعونا إلى الشركة معه، أمّا الخطيئة فعبوديّة (يو 8: 31- 36).
ب- الحياة الجديدة في يسوع المسيح
1- الثالوت الأقدس مصدر الحياة الجديدة
– الآب ينبوع الحياة الجديدة: “فكما أن الآب له الحياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته” (يو 5: 26). فالآب إذاً “حياة”. وهو “محبة” (1 يو 4: 7- 10، 16) وهو أيضاً “نور” (1 يو 1: 5).
– تلك الحياة الجديدة تجلّت لنا في الابن. فهو “القيامة والحياة” (يو 11: 25)، وهو “الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6)، وهو “خبز الحياة” (يو 6: 35- 58) وكلامه هو “روح وهو حياة” (يو 6: 63)، “وعنده كلام الحياة الأبديّة” (يو 6: 68). وتلك رسالته أن يهب الحياة للعالم (يو 6: 33؛ 10: 10؛ 1 يو 4: 9). وبه حصلنا على “النعمة والحق” (يو 1: 17).
وهو، كالآب، محبة (يو 13: 1، 34؛ 14: 21؛ 15: 9؛ 13؛ 1 يو 3: 16).
وهو أيضاً، كالآب، نور (يو 1: 9؛ 3: 19- 21؛ 8: 12؛ 9: 5؛ 12: 46).
– الروح القدس هو الذي يحيينا: إنه “الروح المحيي” (يو 7: 37- 39) الذي أرسله يسوع من بعد قيامته ليرشد التلاميذ إلى الحق (يو 14: 36؛ 16: 13).
2- حياتنا الجديدة
إنها “ولادة جديدة” (يو 1: 12؛ 3: 3) تمنحنا “حياة جديدة” (يو 5: 24؛ 6: 40؛ 20: 31) حياة أبناء الله (1 يو 3: 1- 15)، حياة المحبة التي تجعلنا نشترك في حياة الله (1 يو 4: 7، 16؛ الشركة مع الله: 1 يو 1: 3، يو 17: 21- 26).
منذ هذه الحياة، يبدأ المسيحيّ “الحياة الأبديّة”، إلاّ أنّ تلك الحياة تجد كمالها في المجد السماويّ (راجع سفر الرؤيا 21: 1- 8؛ 22: 5). وفي 22: 1 يصف الثالوث وصفاً رمزيّاً: فالروح “نهر ماء الحياة” يخرج من عرش الله (الآب) والحمل (الابن).
فالنعمة هي، على هذه الأرض، شركة في حياة الثالوث وتلك الشركة ستجد كمالها في المجد السماويّ. هذا هو ميراث الإنسان الذي يصبح ابناً لله.
الفصل الثاني النعمة في كتابات آباء الكنيسة
هناك تيّاران في لاهوت النعمة عند الآباء: فالآباء الشرقيّون يرون النعمة في تأليه الإنسان. بينما يرى الآباء الغربيّون النعمة في التحرّر من الخطيئة. فالتيّار الأوّل يستند إلى كتابات يوحنا الإنجيلي، ويشدّد على تجسّد الكلمة الذي بواسطته يصبح الإنسان ابن الله، بينما يرتكز التيّار الثاني على رسائل بولس الرسول، ويرى في النعمة مساعدة يعطيها الله للإنسان ليحيا حياة قداسة على مثال المسيح. فالتيار الأول يركّز على كيان الإنسان، بينما يركّز التيّار الثاني على عمله. فالنعمة عند آباء الكنيسة الشرقيّة تهدف إلى رفع كيان الإنسان ليصير على صورة الله. أمّا عند آباء الكنيسة الغربيّة فتهدف إلى تحرير الإنسان من الخطيئة.
أولاً- آباء الكنيسة الشرقيّة
لقد عبر الآباء عن أفكارهم في موضوع النعمة بمناسبة ما كتبوه في الأسرار وما قام من جدل لاهوتي حول سريّ التجسّد والثالوث الأقدس.
أ) النعمة والأسرار
النعمة هي حضور الثالوث الأقدس في نفوس الذين يتقبّلون سرّ المعموديّة، فيولدون من جديد، ويتّحدون بالله، وما حياتهم إلاّ تطبيق لما حصلوا عليه بالمعموديّة.
1- ايريناوس: يشدّد على الولادة الجديدة أكثر ممّا على مغفرة الخطايا. فبالمعموديّة ينال المؤمن الروح القدس الذي يسكن فيه ويتّحد به.
وهذا الروح يجعل من المؤمن ابن الله، شبيهاً بالابن، إنساناً روحياً، بانتظار ملء النعم في رؤية الله في المجد الأبديّ.
“فالاتّحاد بالروح القدس لا يمكن فصله عن الاتّحاد بالابن والآب. فالنعمة إذاً هي قبل كل شيء موهبة غير مخلوقة: إنها حضور الثالوث في المؤمن لتقديسه ومساعدته على أن يكون إنساناً روحيّاً.
2- أوريجانوس: يرى في المعموديّة أساس الحياة الروحيّة كلها في مختلف مراحلها. فالمعمودية تشرك الإنسان في حياة الكلمة؛ والروح، بالإيمان والمعرفة والمحبة، يقوده إلى الآب. فيصير إنساناً جديداً، قد تحرر من الاستعباد للخطيئة، وأخاً للمسيح وابناً للآب.وهكذا يشترك في الطبيعة الالهيّة بالمحبة والروح اللذين أفيضا في قلبه.
بالروح يشترك المسيحيّ في الكلمة الذي يصبح فيه مبدأ حياه إلهية. وهكذا يتجدّد سكنى الكلمة في أحشاء مريم وميلاده في أعضاء جسده السري. وتلك السكنى تصيّر الإنسان على صورة الكلمة. “إني أعلم ما في النفس التي يسكنها الله، وها هي النفس المقفرة. إن لم يكن الله فيها، إن لم يكن فيها المسيح الذي قال: أنا وأبي سنأتي إليه وعنده نجعل مقامنا، إن لم يكن فيها الروح القدس، فالنفس مقفرة. ولكن إن سكن فيها الله والمسيح والروح القدس، فهي ممتلئة من الله.
3- كيرلس الأورشليمي: إن المعموديّة تمنحنا الروح القدس ومواهبه المختلفة: “إن المعموديّةَ التي ستتقبلونها هي أمر عظيم: إنها انعتاق الأسرى، مغفرة الخطايا، موت الخطيئة، ولادة جديدة للنفس، ثوب من نور، ختم مقدس لا يمحى، طريق إلى السماء، نعيم الفردوس، عربون الملكوت، موهبة التبّني”. ثم يذكر سكنى الروح القدس في النفس، التي تصبح “مسكنا إلهيّا”.
ب) التجسد مبدأ التأليه والتبنّي
1- التأليه والصورة والمثال: يرى آباء الكنيسة الشرقية في تألّه الإنسان النعمة الكبرى التي يمنحها الله “للإنسان. فبينما كان الفلاسفة اليونان ينشرون نظريّة أفلاطون في التشبّه بالله، والأديان اليونانية تسعى إلى الوصول إلى خلود الآلهة بواسطة طقوس سحريّة أو طرق تقشّف بشريّة، راح اللاهوتيّون المسيحيّون يعلنون أن الاشتراك في الطبيعة الإلهية والتشبه بخلود الله والتأله لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها بجهوده الخاصّة، بل هي نعمة من الله. فالله نفسه نزل إلى البشر وتجسّد ليرفع الإنسان إليه ويشركه في حياته الإلهية. وقد صار أمراً تقليديًّا في اللاهوت الشرقيّ تقسيم تاريخ الخلاص إلى ثلاث مراحل:
– خلق الله للإنسان على صورته ومثاله
– سقوط الإنسان بالخطيئة الأصليّة
– إعادة الصورة القديمة بالتجسّد والفداء
ويقوم التألّه، أو اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية الذي ورد ذكره في رسالة بطرس الثانية (1: 4)، على الخلود وعدم الفساد والحياة الأبديّة بعد الموت. فالإنسان مائت من طبيعته، أمّا الله فمن طبيعته لا يموت. ومن ثمّ فالاشتراك في طبيعة الله يعني أولاً عدم الموت.
وعندما يفسّر آباء الكنيسة قول الكتاب المقدّس إنّ الله خلق الإنسان “على صورته ومثاله” يميّز بعضهم بين الصورة ( ) والمثال ( ). فالصورة هي في طبيعة الإنسان، إمّا في جسده، ونفسه حسب إيريناوس، إمّا في نفسه فقط حسب أكّليمنضوس الإسكندريّ وأوريجانوس. وهذه الصورة لا تُفقد بالخطيئة. أمّا المثال فقد فقده الإنسان بالخطيئة، وأعاده إلينا الكلمة المتجسّد. فمن يقبل خلاص المسيح وفداءه يشترك في الطبيعة الإلهية، أي في عدم الفساد وفي الحياة الأبديّة.
أمّا أثناسيوس وغريغوريوس النبيصيّ فيريان في “الصورة” ختماً إلهيًّا يضعه الله في روح الإنسان وعقله. وهذا الختم يصبح قاتماً بالخطيئة، ويعيده الفداء إلى بهائه الأوّل. أمّا “المثال” فهو الاقتداء والتشبّه بالله. فالإنسان يصير تدريجياً على مثال الله يتألّه باشتراكه في حياة المسيح الإله، وذلك بواسطة الإيمان وسري المعموديّة والافخاريستيا.
2- التبنّي: يرى أثناسيوس وكيرلّس أنّ التألّه لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان إلاّ بالتبنّي. فالطبيعة الإنسانيّة معرّضة للفساد وبعيدة كلّ البعد عن الله. الله وحده يستطيع أن يؤلّه الإنسان. وقد صنع ذلك بواسطة الابن الذي تجسّد ليجعل من جميع الناس أبناء الله. فالابن وحده صورة الله المماثلة للآب. فهو وحده إذاً يستطيع أن يجعل الإنسان على مثال الله. “الابن إله، لأنّه يؤلّهنا”. “لقد صار الله إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً.”
ج) الروح المحيي: يشدّد آباء الكنيسة اليونانية على ما يميّز الروح القدس عن الخلائق. فالروح يقدّس الإنسان ويؤلّهه، فهو إذاً قدوس وإله، يقول أثناسيوس. وكذلك يقول القدّيس غريغوريوس النزينزيّ: “إذا كان الروح القدس لا يحقّ له السجود والعبادة (كإله)، فكيف يصيّرني إلهاً بالمعموديّة؟” ويتكلّم باسيليوس عن حضور الروح القدس في النفس حضوراً مقدّساً ومؤّلهاً. “وهذا الروح هو قدوس من طبيعته كما أنّ الآب هو قدوس والابن قدوس من طبيعتهما”.
يشبّه كيرلّس الإسكندريّ موهبة الروح بالختم الذي نقشت عليه زهرة. فالختم هو الروح القدس نفسه، والزهرة المنقوشة على الختم هي النعمة الخلوقة. فلا وجود للنعمة في نفس المؤمن إلاّ إذا حضر الروح القدس نفسه ليسكن في تلك النفس. وهكذا يشترك المسيحيّ ليس فقط بمساعدات الروح القدس، بل يشترك في الطبيعة الإلهية ذاتها.
ثانياً: آباء الكنيسة اللاتينية
يرى آباء الكنيسة اللاتينيّة في النعمة حافزاً داخلياً به يقود الله الإنسان ويساعده على عمل الخير وعلى السير بثبات نحو الحياة الأبدية. وقد أكّدوا دور الروح القدس الذي يعمل في داخل الإنسان ليسير به على طريق القداسة. في هذا المعنىّ يقول ترتوليانوس إن النعمة هي “قوة إلهية”.
فبينما يشدّد الآباء الشرقيّون على تحوّل كيان الإنسان الذي يتألّه ويصبح بالنعمة ابن الله، يركّز اللاتينيّون على دور النعمة في عمل الإنسان: فتشفيه من ميوله وشهواته المنحرفة وتساعده على تتميم وصايا الله.
أ) القديس أوغسطينوس
لقد كان للقديس أوغسطينوس تأثير حاسم على لاهوت النعمة في الغرب حتى يومنا هذا. لذلك لا بدّ من التعمّق في أفكاره في هذا الموضوع.
تتميّز نظرته إلى النعمة بالتشديد على مجانيّة هبة الله:
1- فالإنسان، بسبب سقطة الخطيئة الأصلية، هو عبد للشهوة والخطيئة، ولا يملك في ذاته الِحرّية والقدرة ليحب الخير ويتمّمه. فالحرّية تقوم على محبة الخير وعلى توجيه كل عمل يقوم به الإنسان نحو الحياة مع الله.
2- إلاّ أن نعمة المسيح تبرّر الإنسان الساقط، وتعيد إليه الحريّة وتضع في قلبه محبة الخير وتساعده على تتميم وصايا الله. فالتبرير هو عمل الله الذي يهدي الخاطئ إلى طريق البر، فيحرّره تدريجياً من الشهوة ويملأه من المحبة.
3- إن الإيمان الذي به يقبل الإنسان رسالة المسيح هو أيضاً نعمة من الله.
4- بالمعموديّة يولد الإنسان من جديد ويصبح عضواً في جسد المسيح وابناً لله وهيكلاً للروح القدس. في هذا يتفق أوغسطينوس مع آباء الكنيسة اليونانيّة.
5- التبرير يتضمّن موهبة الروح القدس غير الخلوقة وموهبة المحبة الخلوقة. فالنعمة في كتابات أوغسطينوس هي تارة الروح القدس نفسه وتارة نتيجة حضوره أي موهبة المحبة التي تساعد الإنسان على تتميم إرادة الله.
6- إن النعمة لا تعطي فقط الإنسان إمكانيّة عمل الخير والقدرة على عملِ الخير، بل إن كل عمل صالح وخلاصيّ يقوم به الإنسان هو من فعل النعمة. فالنعمة إذاً في هذه النظرة هي المساعدات المستمرّة التي يمنحها الله للإنسان ليتمّم بملء رضاه أعمال البرّ والصلاح.
7- إن الإنسان الذي يقبل نعمة الله ويعمل أعمال البرّ يستحقّ الحياة الأبديّة، إلاّ أن الخلاص الأبديّ لا ينتج عن استحقاقات الإنسان بل هو موهبة من الله لا يستطيع الإنسان الحصول عليها إلاّ بالصلاة.
8- التحديد السابق من قبل الله لخلاص بعض الناس: إستناداً إلى رو 8: 29 “إن الذين سبق فعرفهم، سبق أيضاً أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه”، يرى أوغسطينوس أنّ الله يعرف منذ الأزل ويحدّد الأشخاص الذين سيخلصون. فهؤلاء ينالون من الله موهبة الثبات في النعمة. أمّا الذين يهلكون فيهلكون بحرّيتهم، إلاّ أنهم لم ينالوا نعمة الثبات. فالله يختار بعض الناس ويمنحهم نعمة خاصّة، مع أنه يدعو الجميع إلى الخلاص.
لا يمكننا اليوم قبول نظرية أوغسطينوس هذه. فالله لا يميّز بين أبنائه بالنسبة إلى الخلاص. بل يمنحهم جميعاً النعمة الكافية لكي يصلوا إلى الحياة الأبديّة. والنعمة التي تعطى للجميع، تبقى نعمة، وإن أعطيت للجميع. أمّا أوغسطينوس فيعتبر أن النعمة لا تكون نعمة إذا أعطيت لجميع الناس.
كذلك لا يعطي أوغسطينوس لحريّة الإنسان الأهميّة التي يجب إعطاؤها. وكأنه لا يرى قدرة الإنسان على رفض النعمة.
ب) بيلاجيوس ومجمع قرطاجة
1- بيلاجيوس راهب إيرلندي الأصل عاش في رومة حوالي سنة 400، ثم انتقل إلى شماليّ إفريقيا ثم إلى أورشليم.
يمكننا إيجاز تعليمه في النعمة في العبارة التالية: ان الإنسان يستطيع تتميم وصايا الله بقواه الذاتيّة، ولا حاجة له إلى مساعدة إلهيّة لا لإرادة الخير ولا لتتميمه.
يميّز بيلاجيوس في الإنسان ثلاثة أمور: القدرة والإرادة والكيان. فالقدرة على عمل الخير، أي الحريّة، هي “النعمة” التي وهبها الله للإنسان. أما إرادة عمل الخير وتنفيذ هذا العمل في كيان الإنسان فيعودان إلى الإنسان فقط. إلاّ أن الله يساعد الإرادة بمساعدات خارجيّة: تعاليم الكتاب المقدّس، موعد الخيرات الآتية في الحياة الأبديّة، التحذير من فخاخ الشيطان. ولكن بيلاجيوس يرفض أيّ وجود لمساعدات داخليّة يمنحها الله للإنسان، وذلك لسببين: 1) لأن الإنسان ليس بحاجة إليها، فحريّته تكفي لذلك، 2) لأنّ الله لا يمكن أن يكون عنده “محاباة وجوه” لتفضيل إنسان على آخر.
2- مجمع قرطاجة (411) حرم تعاليم بيلاجيوس في البنود التالية:
البند 3. لا تقتصر نعمة التبرير على مغفرة الخطايا التي ارتكبها الإنسان، بل هي أيضاً مساعدة لكي لا يخطأ الإنسان.
البند 4. ان نعمة المسيح التي تساعدنا على الابتعاد عن الخطيئة لا تمنحنا فقط معرفة الخير والشر، بل نهبنا أيضا محبة الخير والقدرة على تتميمه.
البند 5. إن النعمة لا تمنح فقط سهولة أكثر، بل بدونها لا نستطيع أن نتمم وصايا الله.
البنود 6، 7، 8. لا يستطيع أي من القديسين أن يجتنب الخطيئة. وعندما يقولون “اغفر لنا خطايانا” يقولون ذلك عن حقّ وليس عن تواضع.
ج) البيلاجية المعتدلة:
نشأت في بعض أديرة للرهبان في مرسيلية. وكانت ردة فعل -ضرورية ولكن متطرّفة- ضد تعاليم أوغسطينوس في التحديد السابق والنعمة الكافية التي لا بدّ منها للخلاص. فأكّدوا أن الله يريد خلاص جميع الناس، إلاّ أنّه يمنحهم نعمه على قدر طلبهم. إن الله يعرف من هم الذين سيخلصون، إلاّ أنه لا يميّز بين شخص وآخر، بل يحبّهم جميعا دون تفرقة. إنما ينتظر من قبل الإنسان إبداء الرغبة في الحصول على نعمة الإيمان وطلب تلك النعمة. فبداية الإيمان ليست من عمل النعمة بل من عمل الإنسان.
كذلك يعتبرون أن الخلاص الأبديّ ليس نعمة خاصة من الله، بل هو ناتج عن استحقاقات الإنسان.
د) مجمع اورانج (529) شدَّد على أمرين: الله هو مصدر كل إيمان وخلاص، ولا يستطيع الإنسان أن يقوم بأي عمل خلاصي دون النعمة.
– فالنعمة تسبق كل جهد بشريّ، وهي مصدر كل صلاة ورغبة صالحة وكل عمل خلاصيّ ولا يستطيع إنسان أن يصل إلى الإيمان من دونها.
– ثم إن النعمة ضروريّة للثبات في الإيمان وتتميم الوصايا والنموّ في الحياة المسيحيّة.
– أما بالنسبة لتحديد الله السابق للمخلّصين، فقد أعلن الجميع أنه لا تحديد سابق من قبل الله للهالكين. فجميع من اعتمدوا يمنحهم الله النعمة الكافية للخلاص، إن هم ارادوا وتجاوبوا مع تلك النعمة.
الفصل الثالث البروتستنتيّة والمجمع التريدنتيني
إن موضوع النعمة هو الموضوع الرئيس الذي قسم الكنيسة الغربية إلى كاثوليكية وبروتستنتيّة. فمحور النقاشات كان الدور الذي يجب أن يعطى لنعمة الله من جهة ولأعمال الإنسان من جهة أخرى في “تبرير الخاطئ أمام الله” وحصول الإنسان على الخلاص.
ولقد اعتبر المصلحون البروتستنتيّون أن طاعتهم للبابا وبقاءهم في الكنيسة الكاثوليكية هما رهن بقبول البابا نظرتهم في هذا الموضوع. إلاّ أن الكنيسة الكاثوليكيّة، في المجمع التريدنتيني، رفضت النظرة البروتستنتيّة وحرمت أتباعها.
ما هي بالإيجاز تعاليم البروتستنتيّة وتعاليم المجمع التريدنتينيّ في موضوع النعمة؟
أولاً- النعمة في لاهوت الإصلاح البروتستنتي
1- الخطيئة الأصليّة أفسدت بطريقة جذريّة طبيعة الإنسان. ومن ثمّ لا وجود للحريّة التي تتيح للإنسان تتميم أعمال برّ وصلاح. فالإنسان خاطئ في كيانه وفي جميع أعماله. نعمة الله هي التي تبرّره وتعمل فيه كل عمل صالح يقود إلى الحياة الأبديّة. والشرط الكافي والضروري للحصول على هذا التبرير هو الإيمان. والإيمان ليس اعتناقاً فكرياً لحقائق عقائديّة، بل هو عمل إرادة به يثق الإنسان برحمة الله الذي ينحني على الإنسان ويغفر له خطاياه.
2- التبرير الذي يحصل عليه المؤمن لا ينفذ إلى صميم طبيعته الإنسانيّة. بل يبقى عرضيًّا وخارجيًّا. يبقى الإنسان المبرَّر خاطئاً. إلا أن خطيئته لا تحسب عليه. انه، حسب تعبير لوتر، “خاطئ وبارّ في آن معاً”.
3- الأعمال لا تقود إذاً إلى التبرير. فالإيمان وحده يبرّر الإنسان. إلا أن الإنسان يجب ألاّ يكتفي بالإيمان، بل أن يقرن الإيمان بالعمل.
يقول ملنختون إن الأعمال هي ثمار الإيمان. وإن لم تكن هي التي تبرّر الإنسان إلا أن الله قد أوصى بها، ولا بدّ للمسيحيّ من أن يظهر إيمانه بحياة جديدة في تتميم جميع وصايا الله وجميع تعاليم المسيح.
إلاّ أن الخلاص الأبديّ لا يحصل عليه المؤمن بما يقوم به من أعمال صالحة. فالإنسان، مهما قام بجهد ومهما صنع من أول صالحة ومهما بلغ من كمال وقداسة، فإنه يبقى خاطئاً، ولن يستحقّ بأعماله وبحياته الحياة الأبديّة. فالخلاص هو نعمة مجانيّة استحقها لنا “المسيح وحده” بموته الفدائيّ وقيامته. “النعمة وحدها، “المسيح وحده”، “الإيمان وحده”، هي العبارات الثلاث التي توجز فكرة المصلحين في النعمة والتبرير والخلاص الأبديّ.
ثانياً: المجمع التريدنتينيّ (الدورة السادسة، 13 كانون الثاني 1547)
أعلن المجمع التريدنتينيّ العقيدة الكاثوليكية حول النعمة في “القرار في التبرير”. وفيه يتكلم عن التبرير الذي يحصل عليه الإنسان البالغ. أمّا الأطفال الذين يتبرّرون بالمعمودية دون أيّ مساهمة من قبلهم، فلا يأتي المجمع على ذكرهم في هذا القرار.
في 16 فصلا و33 بنداً يعرض المجمع للخلاص والتبرير اللذين يمنحهما الله للإنسان باستحقاقات يسوع المسيح، ويؤكد ضد التعاليم البروتستنتية مساهمة الانسان في الخلاص والتبرير باستحقاقات إعماله الصالحة. سنكتفي هنا بإيجاز الفصول الستة عشر:
1- إن الخطيئة الأصلية قد جعلت الناس “عبيداً للخطيئة”، بحيث لا يستطيعون الحصول على التبرير بقواهم الطبيعية أو بتتميم الناموس.
2 و3- المسيح، بموته، برّرنا. ومن يولد من جديد يشترك في آلام المسيح ويصبح ابن الله ويصل على النعمة التي تصيّره باراً.
4- تبرير الإنسان يتمّ بالمعموديّة، كما كتب: “لا أحد يستطيع أن يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء والروح” (يو 3: 5).
5- إن الله قد أحبّنا أولاً. فهو إذاً يعطي النعمة للإنسان دون أيّ استحقاق من قبل الإنسان. إلا أن الإنسان لا يفقد حريّته، بل يستخدمها عندما يقبل نعمة الله السابقة. والنعمة السابقة هي التي تسبق ارتداد الإنسان وتبريره.
6- التمهيد للحصول على التبرير: يهيّأ الإنسان للحصول على التبرير بطرق مختلفة: نعمة الله السابقة؛ الإيمان بالوحي وبأن الله هو الذي يبرّر الخاطئ؛ التوبة؛ التصميم على نيل المعموديّة وعلى بدء حياة جديدة وعلى تتميم وصايا الله.
7- التبرير ليس مجرد غفران للخطايا بل تجديد الإنسان الداخليّ بتقبل النعمة. فالإنسان الخاطئ يصبح بارًّا في صميم كيانه ووارثاً للحياة الأبديّة.
8- الإيمان يبرّر الإنسان بمعنى ان الإيمان هو بدء الخلاص والتبرير.
9- لا أحد يستطيع أن يعرف معرفة أكيدة لا تحتمل الشكّ والخطأ انه نال النعمة. فمن جهة يجب آلا نشك في رحمة الله، ومن جهة أخرى يجب أن نعي دوماً ضعفنا وإهمالنا وتقصيرنا.
10- البرّ الذي يحصل عليه الإنسان ينمو بالأعمال الصالحة.
11- تتميم الوصايا ممكن وضروريّ للإنسان المبرّر. فالإيمان وحده لا يكفي
12- لا أحد يستطيع أن يقول إنه من عداد المخلّصين الذين سبق الله فحدّد أن يحصلوا على الخلاص. لأن كل إنسان معرض للخطيئة ويمكن أن يقع في الخطيئة
13- نعمة الثبات في الإيمان وفي النعمة: لا أحد يستطيع أن يقول إن الله سيمنحه إياها حتى وإن كان هو غير أمين لله بتتميم الأعمال الصالحة.
14- من نال النعمة التبرير ثم عاد فسقط في الخطيئة يفقد الخالع. لكنه يستطيع بسر التوبة استعادة النعمة التي فقدها.
15- بالخطيئة المميتة لا يفقد الإنسان إلاّ النعمة، أمّا الإيمان فلا يُفقَد سوى بالجحود.
16- ثمار التبرير: إستحقاقات الأعمال الصالحة، حسب قول بولس الرسول: “كونوا مستزيدين على الدوام في عمل الرب، عالمين أن تعبكم ليس بباطل في الرب” (1 كو 15: 58)، “ان الله ليس بظالم حتى لينسى عملكم الصالح والمحبة التي ابديتموها لأجل اسمه” (عب 6: 10)، “لا تفقدوا ثقتكم فإنّ لها جزاء عظيما…” (عب 10: 35). لذلك فالحياة الأبديّة هي في آن معاً نعمة وعد بها المسيح أبناء الله ومكافأة يمنحها الله جزاء الأعمال الصالحة. ذلك هو “إكليل البر الذي سيجزي به الله الديّان العادل… مع الذين أحبّوا ظهوره” (2 تي 4: 7).
ان يسوع هو الذي يمنح دوماً قوّته للمبرّرين، “كالرأس للأعضاء” (اف 4: 15)، و”كالكرمة للأغصان” (يو 15: 5). وهذه القوة تسبق وتصحب وتتبع دوماً أعمالهم الصالحة، وبدونها لا يمكن أن تكون هذه الأعمال مرضيّة أمام الله ومستحقّة الجزاء.
إن محبة الله للبشر عظيمة إلى حدّ أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم.
ثالثًا- ماذا بقي اليوم من هذا النقاش بين الكاثوليك والبروتستنت؟
يُعتبر اليوم النقاش الذي جرى بين الكاثوليك والبروتستنت في القرن السادس عشر أمراً عفّاه الزمن. ويمكننا اليوم أن نرى بوضوح كيف كان كل فريق يؤكّد بشدة ناحية معيّنة من العقيدة الواحدة. وبلغت حدّة النقاش بالبعض إلى مواقف متصلّبة منافية لتعليم كنيستهم. نذكر على سبيل المثال قول أحد اتباع لوثر الغيورين، نيكولا فون امسدورف: “إن الأعمال الصالحة مضرّة للخلاص وللحياة الأبديّة”. ان نقطة انطلاق لوثر هي مجانيّة الخلاف، إلا أن قولا كهذا يناقض آراءه التي نجد فيها اعتدالا. فمع تشديده على مجانيّة الخلاص وأوّلية الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، يعتبر، في تقديمه للرسالة إلى الرومانيين في طبعته الألمانيّة للكتاب المقدّس، أن “الإيمان الحيّ والقويّ لا يسعه إلا أن ينتج عنه باستمرار عمل الخير”.
من جهة أخرى يجب قراءة تأكيدات المجمع التريدنتينيّ للأعمال الصالحة على ضوء ما يقوله في نهاية الفصل السادس عشر في أوّلية نعمة الله: “إن محبة الله للبشر عظيمة إلى حد أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم”.
نخلص إلى القول إن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن لا بدّ منها للخلاص. ذلك أنها الدليل في آن واحد على صحّة إيمانه وعلى نعمة الله التي تعمل فيه.
رابعاً- النعمة المقدِّسة والنعمة الحاليّة
هناك تمييز تقليدي في اللاهوت الغربي بين النعمة المقدِّسة والنعمة الحالية. ما معنى هاتين اللفظتين؟ إن التبني والولادة الجديدة بالمعموديّة واشتراك المؤمن المبرَّر بالطبيعة الإلهية وسكنى لروح المقدس في نفسه، كلّ هذه الأمور التي تكلّمنا عنها في الفصول السابقة هي طرق مختلفة للتعبير عن الحقيقة نفسها: وتلك الحقيقة هي أن الإنسان الخاطئ يصبح مبرِّراً، ينتقل من حالة الخطيئة إلى حالة البر تلك الحالةَ الجديدة تدعى أيضاً “حالة النعمة”. أمّا النعمة التي يحصل عليها الإنسان بانتقاله إلى تلك الحالة الجديدة فتدعى “النعمة المقدِّسة”، لأنها هي التي تقدّس الإنسان وتبرّره.
تلك النعمة هي “موهبة مخلوقة”، وبهذا تتميّز عن “الموهبة غير المخلوقة”، التي هي الروح القدس نفسه الذي يهبه الآب بالابن. تلك النعمة ليست موهبة عابرة، بل حقيقة ثابتة، “طبيعة” جديدة: كما أن الطبيعة الإنسانيّة هي مبدأ أعمال الإنسان الاعتياديّة لطبيعيّة، كذلك النعمة المقدِّسة هي مبدأ أعمال الإنسان الفائقة الطبيعة.
النعمة المقدّسة هي نتيجة لحضور الروح القدس في النفس. وقد ركّز آباء الكنيسة على هذا الحضور، انطلاقا من العهد الجديد ولا سيما من يوحنا وبولس.
النتيجة الأولى للنعمة المقدّسة هي “الاشتراك في الطبيعة الإلهية”. هذا الاشتراك لا يقوم فقط على التشبّه بالله بتتميم الفضائل (اشتراك ادبيي)، ولا هو اندماج حلوليّ مع الله، بحيث يزول كلّ فرق بين الإنسان والله. إن المفهوم الكاثوليكيّ لهذا الاشتراك هو حلّ وسط بين هذين المفهومين المتطرّفين. إن الله يرفع الطبيعة الإنسانيّة إلى درجة سامية يدعوها الآباء وهذا التألّه يصبح في الإنسان مبدأ أعمال صالحة، دون أن يزيل الفرق بين الإنسان والله.
النتيجة الثانية للنعمة المقدَسة هي “التبنّي”: فبالنعمة يصبح الإنسان ابن الله بالتبنّي.
النعمة الحالية هي المساعدة العابرة التي يرسلها الله للإنسان الغير المبرّر لينير عقله ويلهم إرادته ويوصله إلى البرّ، وللإنسان المبرّر ليثبّته في طريق البرّ وفي حالة النعمة.
إن عبارة “النعمة الحالية” لا نجد لها أيّ أثر في كتابات الآباء ولا في القرون الوسطى قبل القرن السادس عشر. وقد استعملت للإجابة على سؤال عمليّ: كيف نعبّر عن النعمة التي ينالها الإنسان قبل تبريره؟ بما انه لا يحصل على النعمة المقدِّسة إلا بالمعموديّة والتبرير، فلا بدّ من وجود نعم أخرى يمنحها الله للإنسان ليقوده إلى الارتداد وبالتالي إلى قبول النعمة المقدِّسة. وتلك النعم دعاها اللاهوتيون “النعم الحاليّة”.
وتلك النعم الحاليّة هي إمّا إلهامات مباشرة من قبل الله وإمّا مساعدات يرسلها الله بواسطة البشر، كسماع المواعظ وقراءة الكتب المقدّسة، والأمثلة الصالحة، وإرشادات الأصدقاء.
كيف ينظر اللاهوت المعاصر إلى هذا التمييز بين النعمة المقدّسة والنعمة الحاليّة وإلى مفهوم النعمة بنوع عام؟
الفصل الرابع النعمة في اللاهوت المعاصر
اللاهوت علم يحاول التعبير بكلام بشري عن حقيقة الله وعلاقته بالإنسان. إن الله قد أوحى لنا بذاته بابنه يسوع المسيح. ففي المسيح عرفنا الآب وعرفنا إراته الإلهية في خلاص البشر، وأدركنا العلاقة التي يريد أن يقيمها معنا. إلاّ أنّنا في تعبيرنا عن تلك العلاقة نستخدم كلامًا بشريّاً يخضع لتطوّر البيئة الحضارية التي نعيش فيها وتتعدّد وجوهه. بيد أن هذه التعددية لا تعني أن جميع الطرق التي يعبّر بها الإنسان هي مماثلة من حيث القيمة، فقد نميل إذ إحداها ونرفض غيرها. ولكن يجب إلاّ نحكم على الأجيال السابقة لكونها لجأت إلى طريقة دون أخرى، بل نرى ما فيها من نواح إيجابية تساعدنا على التعبير اليوم عن حقيقة الله التي لا يمكن أيّ عقل بشري أن يدرك غور أبعادها.
فكيف إذن يعبّر اللاهوت اليوم عن مفهوم النعمة؟
1- النعمة حضور الله نفسه
يرى اللاهوت المعاصر أنّ موضوع النعمة لا يمكن أن يعالَج بشكل عرضي إلى جانب سائر المواضيع اللاهوتية، كالله والخلق والتجسّد والكنيسة والأسرار، فالنعمة هي الإطار العام الذي يجب أن تُبحث فيه كل المواضيع اللاهوتية، لأنها في نظره ليست مجرّد مساعدة يمنحنا إيّاها الله من بعيد، بل هي عطاء الله ذات لنا. النعمة هي الله نفسه من حيث يعطي ذاته للإنسان، على مختلف الأصعدة: في الخلق والتجسّد والكنيسة والأسرار. إنّها حضور الله نفسه في الكون وفي الإنسان وفي التاريخ.
ء) النعمة عطاء الله ذاتَه للإنسان
يرى اللاهوتي الألماني كارل راهنر في الإنسان انفتاحاً كيانياً على المطلق، عليه يقوم تسامي الإنسان بالنسبة إلى ذاته وإلى الكون. وداخل هذين الانفتاح والتسامي يرى راهنر في النعمة عطاء الله ذاتَه للإنسان. فالنعمة ليست عطية ثانوية أو مساعدة عابرة تأتينا من الله بشكل سرّي غامض، ولا تلك “الهبة المخلوقة” التي تحدَّث عنها اللاهوت الغربي التقليدي، بل هي عطاء الله ذاتَه لنا، وفيه يدخل كلُّ ما نقوله عن النعمة في الكتاب المقدّس وفي تعاليم الآباء والكنيسة. “فالله قد أحبّنا أوّلاً” (1 يو 4: 10) وخلقنا، ثمّ خلّصنا وجعلنا له أبناء بيسوع المسيح، وأرسل إلينا روحه القدّوس مكث فينا، وأشركنا في طبيعته الإلهية، بحيث نملك منذ الآن، كعربون وبداية، كلّ ما سنحصل عليه من مجد ورؤية لله في الحياة الأبدية.
فالخلق والخلاص والتبنّي وميراث الحياة الأبدية هي إذًا عطاء الله ذاتَه لنا. لذلك لا تقتصر النعمة على المغفرة التي تأتينا من الله بعد أن نخطأ، بل تسبق كل خطيئة، ولا تقتصر على المسيحيين، بل تشمل جميع الناس، لأنّ عطاء ذاته للبشر يسبق حرّيتهم وإدراكهم لذواتهم وكلّ اختياراتهم، ولأنّ محبّته مجانية.
ب- النعمة المقدَّمة والنعمة المقبولة
إنّ عطاء الله ذاتَه هو لكلَّ الناس، أقلّه على صعيد العطاء. ومن هذه الزاوية يميّز راهنر بين النعمة المقدَّمة والنعمة المقبولة. فعطاء الله هو ذاته للجميع، أمّا قبوله فمرتبط بحريّة الإنسان، وهو نفسه نعمة، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون إلاّ جوابًا على عطاء الله ذاته للإنسان. فعطاء الله ذاته للإنسان هو الشرط الأساسي لكل إيمان من قبل الإنسان وكل قبول وكل انفتاح على الله.
“فالنعمة المقدَّمة”، التي تشمل كل ما يعمله الله للبشر من خلق وخلاص وعناية وإلهامات للخير، ويظهر فيها حضوره في العالم، تصير “النعمة المقبولة” عندما يتجاوب معها الإنسان ويقبلها بحريّته. فهذه النعمة المقبولة هي في آنٍ واحد نعمة من الله و عمل حرّ من الإنسان وهنا يكمن اسرّ علاقة الله بالإنسان وسر الحريّة البشرية. لماذا يرفض بعض الناس “النعمة المقدّمة” للجميع في حين يقبلها غيرهم؟ إنّ الحرّية أمر إيجابي، لكنّ استعمالها لرفض الخير أمر سلبي. وبمجرّد حصول الإنسان على تلك الحرّية يحصل على إمكان رفض الخير وتجاهل الله وعطائه. ولكن لا ينبغي أن نتوقّف عند هذا السرّ، بل يجب التشديد على دعوة الله للجميع ليتحرّروا من أنانيتهم التي هي أصل كل رفض وكل شر. وتلك الدعوة هي (النعمة المقدَّمة” التي يحيا فيها الإنسان منذ ولادته حتى موته، في بعديه الفردي والجماعي، وهي الينبوع الحي الذي لا ينضب، داعيًا دومًا العطاش إلى الارتواء منه، وهي، النور الأزلي الذي لا يغرب، داعيًا جميع العائشين في الظلمة إلى الاستنارة به.
إنّ التجاوب مع النعمة مطلوب من الإنسان في مختلف مراحل حياته. ومن ينفتح لله ويقبل عطاءه ومحبّته يمكنه أن يقول مع بولس الرسول: “إنّ نعمة الله لم تكن فيّ عبثًا” (1 كو 15: 10).
ج- تحديد النعمة
من هذه النظرة يمكننا القول إنّ النعمة هي حضور الله حضوراً حيّاً ومحبّاً في كل إنسان وفي الكنيسة وفي تاريخ العالم. ماذا نعني بهذا التحديد للنعمة؟
حضور: هذه الكلمة لا تُستعمل للأشياء إنّما للأشخاص، وتعني علاقة شخصية بينهم. فعلاقتنا مع الله هي إذًا علاقة مع شخص لا مع قوّة مبهمة أو شيء جامد.
الله: أي آب بالابن في الروح القدس فالله الآب قد أوحى لنا بذاته بابنه يسوع لكي يجعلنا أبناء له. والنعمة هي التي تحقق هذا التبني وتجعلنا على صورة يسوع. وعندما نتكلم عن تجاوبنا مع النعمة نعني تحقيق صورة يسوع في حياتنا فنسلك على مثال الابن في المحبّة والطاعة للآب وفي نكران الذات والتضحية في سبيل الآخرين. وهكذا بواسطة الابن نتّحد بالآب فنتمّم إرادته ونحيا معه ونصبح أبناءه. والروح هو الذي يعمل فينا ليحقّق فينا تلك البنوّة الإلهية.
حضورًا حيًّا: النعمة ليست مساعدة تأتينا من قوّة سحريّة خارجة عنّا وتعمل فينا بشكل آلي، إنّها علاقة مع شخص حي.
ومحبًّا: النعمة هي حضور الله المحب الرحوم الحنون الأمين.
في كل إنسان: علاقة الله هي علاقة شخصية مع كل واحد منّا، بحيث يصبح ابنًا لله. في العهد القديم كان الشعب كلّه يُعتبر ابنًا لله. أمّا في العهد الجديد فبواسطة شخص يسوع المسيح ابن الله أصبح كل إنسان بمفرده يُعتبر ابنا لله ومدعوًّا إلى إقامة علاقات شخصيّة مع الله.
وفي الكنيسة: إنّ الكنيسة هي جسد المسيح وسرّ خلاص العالم. فالله حاضر فيها بشكل خاص ولا سيّمَا في الأسرار والصلوات التي تتابع على مدى الزمن حضور يسوع في الزمن.
وفي تاريخ العالم: إنّ الله حاضر ليس فقط في المؤمنين به بل أيضًا في تاريخ العالم بأسره، إذ يعمل فيه بشكل فعّال ليصل به إلى الخلاص الشامل. وهذا هو المفهوم المعاصر الواسع “للعناية الإلهية” التي لا تُعنى فقط بشؤوننا الفردية، بل كذلك بشؤون التاريخ كلّه ليمتلئ من حضور الله.
2- النعمة لقاء بين حرّية الله وحرّية الإنسان
هناك مسألة اصطدم بها اللاهوت منذ القرون الأولى، هي كيفية التوفيق بين نعمة الله التي تسبق كل مبادرة بشرية وترافق كل عمل إنساني وحرّية الإنسان.
فبيلاجيوس وأتباعه يشدّدون على حرّية الإنسان وينتقصون من تأثير الله، بينما يركّز أغوسطينوس وتوما الأكويني ولوثر وجنسينيوس على ضعف الإنسان وفساده للمحافظة على عظمة الله وأوّلية عمله.
ويذهب الملحدون المعاصرون، في انتقادهم للمؤمنين، إلى القول إنّ مجرّد الإيمان بوجود الله هو انتقاص لعظمة الإنسان. فإذا كان الإنسان، كما يقول ماركس، بحاجة إلى إله يمنحه الحياة، فلا قيمة له البتة. فإمّا الله وإمّا الإنسان. والملحدون يختارون الإنسان. أمّا المؤمنون فيرفضون هذا الإحراج ولا يرضون أن يختاروا بين الله والإنسان.
ء) الاختيار الحرّ والحرّية المشروطة
منذ القرن السابع عشر تركّزت الحرّية البشرية واقتصرت على الاختيار فكان معظم اللاهوتيين يحدّدونها بقولهم “إنّها الإمكان الذي يتمتعّ به الإنسان في اختيار عمل أو رفضه، في الاختيار أو عدم الاختيار”. وكانت تلك الحرّية تُعتبر مطلقة بحيث يستطيع الإنسان أن يختار ما يشاء، وقد نتجت من العقلانية التي ترفض، كما يقول ديكارت، كل معرفة غير واضحة. أمّا الناحية الوحيدة الواضحة في الحرّية فهي ناحية الاختيار، أن يختار الإنسان هذا العمل أو ذاك. وعليه تبدو الخطيئة اختياراً حرّاً للشرّ.
إلاّ أنّ الفلسفة المعاصرة قد أظهرت أنّ الحرّية الإنسانية ليست حرّية مطلقة بل حرّية محدّدة في الزمان والمكان، تؤثّر فيها عوامل مختلفة وراثية وثقافية وعرقية، ماضية وحاضرة. لذلك لا ينطلق العمل الحر من الصفر وكأنّ الإنسان يمكنه أن يضرب صفحًا عن الماضي وعما حوله ليقوم بعمل حرّ مطلق، بل إنّ كلّ عمل حرّ هو مشروط بأوضاع خاصة يجب أن ندرك كل أبعادها فنبني على الواقع وليس على الوهم الخدّاع.
هكذا في علاقة الإنسان مع الله، لا يبدأ الإنسان من لا شيء، بل إنّ عطاء الله ذاتَه للإنسان يسبق كل ما يستطيع هذا القيام به، وحتى إدراك الله والوصول إليه.
ب) النعمة والحرّية
– لا اختيار بين الله والإنسان: إنّ نعمة الله لا تنافس حرّية الإنسان
يؤكّد بعض اللاهوتيين المعاصرين أنّ نداء الملحدين إلى الاختيار بين الله والإنسان هو نداء خاطئ، لأنّه لا يمكن أن يقوم تنافس بين الاثنين. يؤكّد جان باتيستْ مِيتسْ، اللاهوتي الألماني، في كتابه “لاهوت العالم”، استقلالية العالم والإنسان، فيقول إنّ من طبيعة الله ألاّ يهدم الوجود البشري أو كيان الإنسان، بل أن “يجعله يكون”، و”يصيّره حراً”. أمّا سْخونِنبِرغْ، فإنه في كتاب له عن الله والإنسان كتبه باللغة الهولندية سنة 1971، يرفض أيضاً الاختيار بين الله والإنسان ويقول: “في الخلق كما في العهد نرفض الاختيار بين الله والإنسان، ففي كليهما الله وحده هو السبب في تحقيق الإنسان ذاته بحرّية”.
أجل، إنّ الله قد خلق الإنسان حرًّا ليصل بملء حرّيته إلى تحقيق كمال ذاته. ولمّا ملكت الخطيئة في العالم، واستُعبد لها الإنسان، أرسل لنا الله يسوع المسيح مخلّصًا ليحرّرنا من عبوديتنا ويعيدنا إلى الحرّية: “إن حرّركم الابن صرتم في الحقيقة أحرارًا”.
فلا يقوم الخلاص إذًا على منح الإنسان طبيعة جديدة ليقوم بأعمال “فائقة الطبيعة”، وكأنّما الله يصحّح الطبيعة الإنسانية التي خلقها وينظّم الوجود الإنساني تنظيمًا جديدًا ليجعل منه وجودًا آخر. فالأمر الوحيد الذي يجب تغييره هو استعباد الإنسان للخطيئة. فنحن بحاجة إلى تغيير أنفسنا لنحيا في الحرّية الحقيقية التي خلقنا لأجلها، وليس الله هو بحاجة إلى تغيير خليقته.
ونعود فنقول إنّ الحرّية لا تقوم على إمكان الاختيار بين أمرين، بل على إمكان تحقيق الإنسان ذاته والوصل إلى كمال كيانه. وما هو الإنسان؟ إنّه كائن مرتبط بالكون وبالآخرين وبالله. فالإنسان الحرّ هو الذي يحقق في ذاته كلّ تلك العلائق مع الكون ومع الآخرين ومع الله. فالحرّية هي إذًا هدف يسعى إليه الإنسان.
صفتان في الله تبدوان متناقضتين، تساميه وحضوره في خلائقه. فالله هو أوّلاً المتسامي المتعالي، إنّه الله “تعالى”، وقد يخيّل إلينا أنّ هذا التسامي هو الذي يجعل الله بعيدًا عن الإنسان، إلاّ أنّه لا يناقض حضوره في خلائقه، بل على خلاف ذلك يكن في حضوره ومن ثمّة لا تعود النعمة مساعدة تأتينا من الخارج، من بعيد، من أعالي السماء، بل تتجلّى قوّة تنبع من أعماق ذواتنا، لأن الله هو في عمق ذواتنا.
والتأله، لا يناقض التأنسن، أي أن يصبح الإنسان إلهًا (وتلك هي غاية النعمة) وبالتالي إنساناً كاملاً. والنعمة التي هي حضور الله في الإنسان حضوراً حيًا لتجعل منه ابن الله لا تهدف إلى تغيير طبيعته الإنسانية بل إلى جعلها ما يجب أن تكون عليه وما خُلقت لأجله، أي طبيعة إنسانية نقيّة محرّرة من كل ما يشوّهها. فهذا هو الخلاص الذي جاءنا به المسيح: أن يجعل الإنسان صافيًا منقّى من كل ما هو غريب عن إنسانيّته، كالذهب الخالص الذي ينقّى من كل الشوائب والأقذار. وهذا هو أيضاً قوام الحرّية. فلا تناقض إذًا بين النعمة والحرّية. فالنعمة هي التي تجعل الإنسان يصل إلى ملء حرّيته.
النعمة تحرير الحرّية
بنظرة مماثلة يحدّد الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي هنري دوميري حرّية الإنسان، ويرى في النعمة تحرير الحرّية.
ما هي الحرّية؟
يقول دوميري إن الإنسان كائن روحي يظهر كيانُه في ما يضفيه على أعماله من معانٍ وقيم. فأعماله كلّها والمعاني والقيم التي تتّسم بها لا تُفرض عليه آخر بل إنّما هي من إبداعه. لا شكّ أنّ هذا الكائن الروحي لم يخلق نفسه بنفسه، بل إن الله هو الذي خلقه. وهنا لا بدّ من تأكيد الفرق الجوهري بين الله الخالق والإنسان المخلوق، ومن ثمّ التأكيد أيضًا أنّ الله هو فوق كل كيان وكل ماهية وكل معنى وكل قيمة. لذلك، وإن كان قد خلق الإنسان، فقد خلقه كائنًا روحيًّا، أي إنّه قد ترك له أن يقوم بأعماله قيامًا شخصيًا ويضفي عليها المعاني والقيم التي بها يصير ما هو عليه ويتّحد بالله الذي منه استقى الكيان والوجود.
فالإنسان كائن روحي بقدر ما يضطلع بذاته وبالعالم اضطلاعًا خاصًا به، وإن بالانسجام مع السبل التي بها يضطلع الآخرون بذواتهم وبالعالم، فينتج أنّ الإنسان هو الذي يعطى ذاته شريعة عمله ويحدّد الشروط الضرورية له، لكونه في آن واحد عقلاً يحقّق ذاتَه في ما يعقله، وجسدًا به يرتبط بالعالم الخارجي ليسوده. “فكلٌّ منّا بحسب قول دوميري، إنسانية متشعّبة. إنه، في آن واحد، كائن روحي ووعي لذاته في الزمن ومن خلال ما يدركه. في قمّته المطلق وعلى أقدامه العالم. أو بالأحرى الله حاضر فيه وإن كان عليه متساميًا، والكون متضمّن فيه وإن كان خارجًا عنه. أمّا الأنا فهو وظيفة الحضور إلى الذات على مدى المسير. إنّه في كل المستويات فيَ طرق يعاد تصحيحها باستمرار ولكن يضطلع هو نفسه بها. من دون هذا الأنا يصير كلٌّ منّا حتمًا عدة أشخاص. أمّا به فيبقى كل إنسان وحدة متعدّدة، بنية متشعّبة وموحَّدة في آنٍ واحد”
هذا الفعل- الشريعة هو نفسه الحرّية التي يمكن التعريف بها أنّها “إرادة تضطلع بأهلها ضمن معطيات محدّدة”. فلا وجو لحرية مطلقة: إنّما وجودها وعملها هما حتمًا ضمن معطيات تجد ذاتها فيها على مستويات مختلفة إمّا خارجًا عنها (كظروف الحياة واللقاءات والتأثيرات)، وإمّا داخلها (كالبنى النفسيهّ وردود الفعل عام أحداث الماضي). وهذه المعطيات لا وجود لها بالنسبة إلينا إلاّ ضمن بنية الوعي الإنساني؟ وكما أن الوعي الإنساني لا يكون وعيًا إلاّ لمعطيات معينة. لذلك يخطئ فهمَ الحرية الإنسانيّة من يظنّ أنّ الحرّية تبدأ عندما يتخلّص الإنسان من المعطيات السابقة. ففي أي عمل حرّ كلُّ شيء معطى وكلُّ شيء عمل الإرادة. الحرّية هي دومًا حرية ضمن معطيات وأوضاع معيّنة، ويعود إلى الحرّية تحويلها إلى ممكنات تخلق في إطارها ما تراه مناسبًا من معانٍ وقيم روحية لتحقيق ذاتها. فالحرّية تكمن إذاً في التحرّر في سبيل تحقيق الذات.
إنّ الإنسان يحيا ويلتزم قضايا متنوّعة في حياته، إلاّ أنّه في التزامه يجب عليه تجنّب السقوط في شباك تلك القضايا لئلاّ تأسره في أطرها، لا بل عليه أن يعدّها سبيلاً إلى مزاولة حريته. إنّ الإنسان حرّ، أي إنّه يتحرّر في ما يقوم به من أعمال في تاريخ حياته وخبرة وجوده. لذلك يمكننا القول إنّ الإنسان هو الذي يعطي ذاته باستمرار هويته الخاصة التي هي الحرية.
هذا التعريف بالحرّية نجده أيضًا عند الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، إلاّ أنّ هذا يرفض أن يكون للحرّية أساس خارجًا عنها، وينكر بالتالي وجود إله مطلق، أمّا دوميري فيرى أنّ الله هو مبدأ حرّية الإنسان، وهو فوق كل نظام وكل شريعة وكل قاعدة مسلكية، فالأنظمة والشرائع والقواعد المسلكية لا يمكن الإنسان أن يجدها قبله وقد جهّزها هوله، إنّما على الإنسان أن يحدّدها ويضعها بنفسه. وهكذا يجيب دوميري على خوف سارتر من أن يقيّد الاعتراف بوجود الله حرّية الإنسان أو يزيلها.
النعمة ضمن الحرّية
من هذا الملحظ لا تعود النعمة مساعدة فائقة الطبيعة تضاف إلى الحرّية من الخارج، بل إنّما تُكتَشف ضمن حرية الإنسان. فكيف نفسّر أنّ الحرّية لا يمكنها الاكتفاء بأيّ نظام تضعه وأنّها تجزع من فقدان ذاتها في ماتضعه، إن لم نعترف بأنّها تحمل في ذاتها اقتضاء المطلق؟ إنّ الحرّية تحيا في حالة ملتبسة لا يمكنها الخروج منها بقواها الذاتية، ولا يمكن الإنسِان أن يتجاوز وضعه إلاّ بالاعتراف بالمطلق واللامتناهي كمصدر للحرّية ومثال لها، والنعمة، كوحي من الله، هي ظهور هذين المصدر والمثال في التارّيخ، وهي في الإنسان مشاركته حرّيةَ الله المطلقة برفضه كل نظام سابق.
وهكذا يصل دوميري إلى التعريف بالنعمة أنها “تحرير الحرّية”. ويعطي مثالاً على ذلك من موضوع المحبّة فالمحبّة لا تقوم على محبّة الآخر حبًا بالله، فهذه أنانية، بل على محبّة الآخر على مثال الله، أي كما يحبّه الله، وهذا أكثر تطلّبًا. فالحرّية، يقول أوغسطينوس، هي حبّ الخير حبًّا ثابتًا وممتلكًا ذاته بحيث “يكون الإنسان حرّاً حقّاً عندما يصير موضوع غبطته الحرية ذاتها”. فالحرّية تكون كافلة عندما يتصرّف الإنسان حبًّا بالغبطة المحرّرة التي تعتقه من الخطيئة، وتأتي بالتالي النعمة عبورًا داخليًا إلى الحرّية الكاملة.
إنّ المحبّة، وتد حرّرتها النعمة، لا يمكنها الوقوع في المثالية، وإن اعتبرنا أنّها هي التي تحدّد موضوعها، إذ إنّها تتوجّه إلى العالم كما هو وإلى الناس كما هم. بيد أنّها إن توجّهت إلى العالم كما هو، فإنّها ترفض حدوده، وإلى الناس كما هم، فإنّها ترفض تصوّراتهم الضيّقة: “فالإنسان، يقول دوميري، يتجاوز ما لا يمكنه أن يستغني عنه”.
في تلك النظرة للنعمة نجد الجواب على الانتقادات التي يوجّهها الفلاسفة، من أمثال نيتشه وسارتر، إلى تدخّل الله في عمل الإنسان لإزالة حرّيته وإبداعيته ليس خارجًا عن الإنسان بل إنّ نعمته تعمل داخل إطار حرّيته ذاتها ومن خلالها وهي ليست عمل خلاص يأتي الإنسان من شخص آخر. إن المطلق ليسَ شَخصًا آخر، واعتبار الله كائنًا آخر يضع الله على مستوى الإنسان، في حين أنّه يسمُو فوق كل كيان وكل نظام. لذلك لا تناقض ممكن بين النظام البشري الطبيعي والنظام الإلهي، فالمطلق لا يقضي على النظام الطبيعي بل هو أساسه. واعتبار المطلق أساس النظام الطبيعي يمنع هذا النظام من الانغلاق على نفسه واعتبار ذاته مطلقًا، كما يمنع الإنسان “الذي يرغب رغبة لامتناهية في اللامتناهي” من فقدان تلك الرغبة في النظام الطبيعي غير المتناهي.
– النعمة والاختيار الأساسي
كل إنسان يختبر نقصًا في أعماله ومسافة دائمة بين ما يتوق إليه وما يحققه في واقع حياته، ويسأل نفسه هل حُكم عليه أن يعيش دومًا في هذا التناقض، أم أنّه يستطيع أن يكون له “اتّجاه أساسي” تسير حياته بموجبه، رغم حدودها ونقائصها، اتجاهٌ نحو الخير المطلق والسعادة الدائمة؟ ألا يمكنه اختيار ما يرى فيه الخير الأسمى اختيارًا جذريًا، بحيث تتحدّد بالنسبة إلى هذا الاختيار كل مسيرة حياته وإرادته العميقة وشخصيته الحقيقية وهويته الذاتية؟
إن اختيارات الإنسان في معظمها ليست اختيارات اعتباطية، فهناك اتجاه عام للحياة وهدف أساسي ونظرة شاملة يمكن إدراكها من خلال اختيارات الإنسان الفردية المتعددة. واستنادًا إلى الخبرة الإنسانية يمكن القول إنّ الإنسان يستطيع، متى توصّل إلى درجة كافية من النضج البشري، أن يوحّد ذاته في اختيار أساسي يوجّه كل اختياراته الفردية. وهذا الاختيار يدعى اختياراً، أنّ الإنسان لا يقوم به إلا ضمن معطيات محدّدة، فالحرّية، كما رأينا، لا وجود لها إلاّ ضمن معطيات معيّنة. وإنّه اختيار أساسي، لأنّه في الأساس من كل أعمال الإنسان الفردية ونشاطاته المتنوّعة، يعطيها قيمتها البشرية ومعناها الإنساني، وهو اتجاه جذري من ذات الإنسان بكاملها نحو كل ما هو إزاء الإنسان، العالم والآخرين، ومن خلال العالم والآخرين، نحو الحقيقة الإلهية، يوحّد كل الأعمال المحدودة التي يقوم بها الإنسان وكل العلائق التي تربطه بالآخرين في اتجاه واحد ونحو هدف واحد.
إنّ الاختيار الأساسي أعمق وأشمل بكثير من “حرّية الاختيار” التي كانت تعتبر ميزة الإنسان الخاصة، فالحرّية ليست أمرًا نمتلكه لاختيار ما نشاء، إنما هي دعوة إلى التحرّر للوصول إلى “اختيار أساسي” ننمو من خلاله في الحرّية نموًّا يلازمنا العمر كله. وبمَا أن هذا الاختيار هو اختيار جذري، فلا يمكن أن يكون اختيارًا إلاّ بين أمرين، إمّا الانكماش على الذات بأنانية وإمّا الانفتاح على المطلق، أو، بتعبير آخر، إمّا اعتبار الإنسان ذاته مطلقًا وإمّا الإيمان بالله مطلقًا. فالنعمة هي عطاء الله ذاته للإنسان وفي الوقت نفسه اختيار الإنسان لله اختيارًا أساسيًا يوجّه من خلاله كلّ أبعاد حياته الشخصية وانخراطه في جميع شؤون العالم. أمّا رفض النعمة فهو اختيار الإنسان ذاتَه محورًا لكل شيء، وتلك هي الخطيئة الأساسية التي تظهر وتتشعّب خطايا متنوعة في حياة الإنسان. وارتداد القلب إلى الله هو الاختيار الأساسي الذي يدعونا إليه المسيح: “فمن القلب تخرج الأفكار الشريرة، والقتل، والزنى، والفسق، والسرقة، وشهادة الزور، والتجديف” (متى 15: 19). وكل هذه قد تكون أمرًا عابرًا في حياة الإنسان، في حين يبقى قلبه اختيارًا للنعمة. أمّا إذا أصبحت حالة اعتيادية يعيش فيها، فاختياره الأساسي يضحي اختيارًا للأنانية ورفضًا للنعمة، وإذّاك يمكن القول عنه إنّه يعيش في “الخطيئة المميتة”، لأنّه أمات فيه اختيار الله والنعمة.
إنّ تغيير الاختيار الأساسي ممكن. فالسقوط من حياة النعمة إلى حياة الخطيئة أمر ممكن، كما أنّ الارتداد إلى اختيار أساسي إيجابي أيضًا ممكن. إلاّ أنّ هذا التغيير لا يحدث في معظم الأحيان بطريقة فجائية، بك يهيّأ له طوال سنوات، وكأنّ الإنسان يسمح لاختيار أساسي آخر أن ينمو شيئًا فشيئًا في ذاته إلى جانب اختياره الأساسي الأوّل، إلى أن يزيله ويحلّ محلّه.
3- النعمة “تجليّ” الله
ء) ماذا تعنى لفظة “تجلّي”؟
يقول بولس في رسالته إلى الرومانيين: “إنّ غضب الله يعتلن من السماء على كل كفر وظلم للناس الذين يعوقون الحق بالظلم. لأن ما قد يعرف عن الله واضح لهم، إذ إنّ الله هو نفسه قد أوضحه لهم. فإنّ صفاته غير المنظورة ولا سيّما قدرته الأزلية وألوهته تُبصر منذ خلق العالم مُدرَكة بمخلوقاته” (رو 1: 18- 20) واستنادًا إلى هذا القول أكّد التقليد المسيحي أنّ الإنسان يستطيع الوصول إلى معرفة الله من خلال المخلوقات التي تتجلّى فيها “صفات الله غير المنظورة”.
وقد بيّن الفلاسفة من جهتهم أنّ الكائن الأسمى يتجلّى من خلال الكائنات، والمطلق من خلال النسبي. فلفظة “تجلّي” تعني حضورَ غير المنظور حضورًا منظورًا، إلاّ أنّ غير المنظور بحضوره في العالم يبقى غائباً عنه، فهو حاضر وغائب في الوقت نفسه، حاضر من خلال تجلّيه.
و يمكننا إدراك مفهوم “تجلّي الكائن” من العلاقة بين الكلمة والفكرة. فالفكرة تتجلّى في الكلمة، إلاّ أنّ هذا التجلّي يتّم بسمتين متلازمتين. فالسمة الأولى هي أنّ الفكرة ليست أمرًا مكتملاً داخل فكر الإنسان يبرز إلى خارجه بواسطة الكلمة، وإلاّ صارت الكلمة غريبة عن الفكرة وبعيدة عنها، إنّما الفكرة حاضرة في الكلمة حضورًا مباشرًا دون وسيط، لأنّ الوسيط يكون بين أمرين متميّزين أحدهما عن الآخر. امّا السمة الثانية فهي أنّ الكلمة لا يمكنها أن تستنفد الفكرة وتستنفد حضورها، فالفكرة تبقى أكثر اتّساعًا من الكلمة، ويبقى فيها عنصر غائبًا عن الكلمة.
هكذا يتجلّى الكائن والمطلق والله، متّسمًا بهاتين السمتين: فتجلّيه ليس غريبًا عن كيانه، إنّما هو كيانه بالذات الحاضر في تجلّيه، وتلك هي السمة الأولى؛ ثمّ إنّ تجليه لا يستنفذ كيانه كلّه، إذ إنّ الكيان الذي يظهر لنا إنّما هو كيان المطلق والله ذاته، ولكن من إنّه يتجلّى، اي إنّه يبقى حتمًا فرق وبعد ومسافة بيت الكائن في ذاته وتجلّي هذا الكائن، وتلك هي السمة الثانية.
وللتعبير عن الطريقة التي يظهر فيها الكائن والمطلق والله، وعن السمتين اللتين يتّسم بهما ظهوره، استخدم بعض الفلاسفة المعاصرين لفظة “السلبيّة” أو “النفي”، لا لينفوا، في التجلّي، هوية الكائن الذي تجلّى لنا، بل ليعبّروا عن الطريقة التي يمكن الكائن المطلق أن يظهر بها في الكائنات وعنّ السمتين اللتين يتّسم بهما حتمًا ظهوره. وهكذا لا يمكن اللامتناهي أن يظهر إلا متناهيًا، والواحد متعدّدًا، والأزلي زمنيًا، ولا يمكن المطلق أن يتجلّى إلاّ في “تلاشي ذاته”.
ب) تجلّي الله
إنّ مفهوم “السلبية” أو “النفي” في الفلسفة المعاصرة يذكّرنا بأسلوب النفي الذي نهجه آباء الكنيسة الشرقية في حديثهم عن إمكان تكلّمنا عن الله. فقد أعلنوا أنّ ما نقوله عن الله لا يمكنه أن يني بكامل سره، لأنّ الصفات التي نصف بها الله، كالصلاح والمحبّة والخلود وغيرهما، إنّما مما مستقاة من عالمنا البشري، لذلك لا تصلح لوصف الله إلاّ إذا أكّدنا، ونحن نستعملها، أنها لا تزال بعيدة عن إدراكه تعالى، فالله أسمى من كل ما يمكننا أن نقوله عنه، أصل من كل فكر وقول.
إنّ ما أكَّده الآباء الشرقيون في ما يمكننا أن نقوله عن الله يؤكّده الفكر المعاصر في تجلّي الله لنا. فالله، وإن ظهر في الكون وفي تاريخ الخلاص، إلاّ أنّه لا يزال في ذاته أوسع بكثير ممّا ظهر لنا، فإنّه قريب منّا وبعيد عنا في آن واحد، وهو نفسه الذي يظهر، ويكل قط من خلال تجلّيه، بمَا في هذه اللفظة من إيجاب ونفي، من حضور وغياب.
هكذا ظهر لنا الله في الكتاب المقدّس، في العهد القديم ثمّ في الجديد في شخص يسوع المسيح، وهكذا يظهر لنا في الكنيسة، وهكذا يظهر لنا في الإيمان.
تجلّي الله في المسيح

إنّ الله قد تجلّى لنا في الكتاب المقدّس بواسطة الوحي الذي نقل إلينا كلام الله. إلاّ أنّ الكلام الذي نقرأه في الكتاب المقدّس لا يمكننا أن نعتبره الوسيط الذي ينقل إلينا كلام الله الموجود منذ الأزل مكتملاً عند الله، إنّما هو في ذاته كلام الله، فيه يتجلّى بمَا في لفظة التجلّي من إيجاب ونفي، من قرب وبعد، من مطابقة وفرق. وفي النفي والبعد والفرق ينفتح المجال لتفسير هذا الكلام، وينشأ “علم التفسير”.
ونجد التفسير داخل الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّمَا بين العهد الجديد والعهد القديم. فالعهد الجديد رأى في شخص يسوع المسيح بّحلّي الله نفسه، وكل ما قاله العهد القديم عن الله رآه العهد الجديد في شخصا يسوع: فهو الحكمة، وهو النور، وهو خبز الحياة، وهو الماء الحي، وهو الراعي، وهو الملك، وهو الطريق والحق والحياة، فيه “تمّت الكتب المقدسة” (لو 4: 21)، وفيه صار “ملكوت الله في ما بيننا” (لو 17: 21).
وإن ظهور الله في المسيح كان ظهررًا في التلاشي على قول بولس الرسول: “هو القائم في صورة الله… لاشى ذاته آخذا صورة عبد، وصار طائعًا حتى الموت، باب موت الصليب” (في 2: 6- 8). إنّ السرّ الفصحي هو الكلمة الأخيرة في تجلّي الله، لذلك لا يمكننا بعد المسيح انتظار نبيّ آخر يتجلّى الله من خلاله، فكل ظهور لله هو ظهور للمسيح. وهكذا تبدو لنا الكنيسة تجلّي المسيح.
تجلي المسيح في الكنيسة

تجد الكنيسة في الكتاب المقدّس نشأتها وحقيقتها، وتتكوّن ارتكازًا على أبعاد ثلاثة هي ذكرى المسيح وتفسير الكتاب وانتظار المجيء الثاني، وفيها يتجلّى المسيح في الكنيسة في حضوره وغيابه. فالمسيح الذي نجدّد ذكراه في الكنيسة التي هي استمرار لحضوره، هو في وقت واحد حاضر بيننا وغائب عنّا على مدى التاريخ. والتفسير الذي به تطبّق الكنيسة كلام الله على العالم في تحوّله الدائم يتضمّن حضور الله وغيابه. أمّا البعد الثالث فهو ترقّب المجيء الثاني وانتظار حضور المسيح الدائم، وهو يتضمّن الغياب على مدى الزمن.
هكذا فالكنيسة هي تجلّي المسيح، صورته الواقعية، من غير أن تستنفده. إنّه يتجلّى من خلالها شرط أن تكون دومًا منفتحة على سر الذي لا يمكنها أن تحيط به أو أن تمتلكه.
تجلّي الله في المسيح
إنّ الله قد تجلّى لنا في الكتاب المقدّس بواسطة الوحي الذي نقل إلينا كلام الله. إلاّ أنّ الكلام الذي نقرأه في الكتاب المقدّس لا يمكننا أن نعتبره الوسيط الذي ينقل إلينا كلام الله الموجود منذ الأزل مكتملاً عند الله، إنّما هو في ذاته كلام الله، فيه يتجلّى بمَا في لفظة التجلّي من إيجاب ونفي، من قرب وبعد، من مطابقة وفرق. وفي النفي والبعد والفرق ينفتح المجال لتفسير هذا الكلام، وينشأ “علم التفسير”.
ونجد التفسير داخل الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّمَا بين العهد الجديد والعهد القديم. فالعهد الجديد رأى في شخص يسوع المسيح بّحلّي الله نفسه، وكل ما قاله العهد القديم عن الله رآه العهد الجديد في شخصا يسوع: فهو الحكمة، وهو النور، وهو خبز الحياة، وهو الماء الحي، وهو الراعي، وهو الملك، وهو الطريق والحق والحياة، فيه “تمّت الكتب المقدسة” (لو 4: 21)، وفيه صار “ملكوت الله في ما بيننا” (لو 17: 21).
وإن ظهور الله في المسيح كان ظهررًا في التلاشي على قول بولس الرسول: “هو القائم في صورة الله… لاشى ذاته آخذا صورة عبد، وصار طائعًا حتى الموت، باب موت الصليب” (في 2: 6- 8). إنّ السرّ الفصحي هو الكلمة الأخيرة في تجلّي الله، لذلك لا يمكننا بعد المسيح انتظار نبيّ آخر يتجلّى الله من خلاله، فكل ظهور لله هو ظهور للمسيح. وهكذا تبدو لنا الكنيسة تجلّي المسيح.
تجلي المسيح في الكنيسة
تجد الكنيسة في الكتاب المقدّس نشأتها وحقيقتها، وتتكوّن ارتكازًا على أبعاد ثلاثة هي ذكرى المسيح وتفسير الكتاب وانتظار المجيء الثاني، وفيها يتجلّى المسيح في الكنيسة في حضوره وغيابه. فالمسيح الذي نجدّد ذكراه في الكنيسة التي هي استمرار لحضوره، هو في وقت واحد حاضر بيننا وغائب عنّا على مدى التاريخ. والتفسير الذي به تطبّق الكنيسة كلام الله على العالم في تحوّله الدائم يتضمّن حضور الله وغيابه. أمّا البعد الثالث فهو ترقّب المجيء الثاني وانتظار حضور المسيح الدائم، وهو يتضمّن الغياب على مدى الزمن.
هكذا فالكنيسة هي تجلّي المسيح، صورته الواقعية، من غير أن تستنفده. إنّه يتجلّى من خلالها شرط أن تكون دومًا منفتحة على سر الذي لا يمكنها أن تحيط به أو أن تمتلكه.
تجلّي المسيح في الإيمان
الإيمان في نظر اللاهوت التقليدي اعتناف لحقيقة الله وحقيقة المسيح. وفي العقائد الإيمانية لا يتوقّف إيماننا عند التعبير العقائدي بل يتخطّاه إلى الله والمسيح اللذين هما موضوع الإيمان.
إلاّ أن الحقيقة تُعتبر اليوم، ولا سيّمَا ابتداء صت من الفيلسوف هَيْدِغِر، إمكان الإطّلاع على الكائن من خلال تجلّيه: فهي ليست المطابقة التامة بين ما في فكرنا وما هو خارج عنّا، بين الذات والموضوع، بل اكتشاف الكائن في ظهوره. إنّ الكائنات كلّها تتجلّى أمامنا وتبرز بكيانها. والمعرفة تقوم على أن ندع الأشياء تظهر في كيانها. والإنسان الذي يعرف هو الإنسان هو الإنسان الذي يشهد ظهور الكائنات. والكلام ليس ما يتيِح للإنسان أن يعبّر تعبيراً كاملاً عن العالم والكائنات، بل هو الطريقة التي يكون فيها الإنسان بالنسبة إلى العالم.
فإذا نظرنا إلى الإيمان نظرتنا إلى الكائن الذي يظهر ويشهد الإنسان ظهوره، بدا لنا الإيمان موضع تجلّي المسيح وتجلّي الله بالمسيح. ففي إيمان المسيح يتجلّى الله، وفي إيمان الكنيسة يتجلّى المسيح، وفي رجائها يتجلّى ملكوت الله، وفي محبّتها تتجلى محبّة الله. وفي كلٍّ من إيمان الكنيسة ورجائها ومحبتها نلاحظ معاً وجود القرب والبعد، الحضور والغياب. فالمسيح يتجلّى في الكنيسة المؤمنة، إلاّ أن الكنيسة لا تستنفد حضوره، والملكوت يتجلّى في الرجاء المسيحي، إلاّ أنّ هذا الرجاء لا يستنفد حضور الملكوت، ومحبّة الله تتجلّى في محبّتنا للقريب، إلاّ أنّ هذه المحبّة لا تستنفد حضور محبّة الله.
4- النعمة في حياة المسيحي اليوميّة
إنّ القول بأنّ النعمة هي عطاء الله ذاتَه لنا ليشركنا في طبيعته الإلهية هو تأكيد حضور الله بذاته في تاريخنا ليخلّصنا ويقدّسنا ويبرّرنا. إنّ الله الخلّص حاضر بنعمته حضورًا مباشرًا في كل أبعاد حياتنا، الشخصية والجماعية، الروحية والجسدية. والإنسان المبرّر الذي يحيا في الإيمان والرجاء والمحبّة هو نفسه تجلّي الله. هذه هي الناحية الأولى في التجلي، ناحية الإيجابية والحضور والقرب والمماثلة. إلا أنّ هناك ناحية ثانية في التجلّي هي ناحية السلبية والغياب والبعد والفرق، نجدها في التشابيه والتعابير الكتابية التي ترى في النعمة علاقة عهد واختيار وحوار ومحبّة بين الله والإنسان. وفي هاتين الناحيتين مجتمعتين يندرج عمل حرّية الإنسان، بحيث يمكننا القول معاً بالنعمة والحرية، والتوفيق بين عمل الله وعمل الإنسان. فالله هو مبدأ حرية الإنسان، ومبدأ كل ما تستطيع تلك الحرّية القيام به، وتلك هي ناحية الحضور والقرب والمماثلة في تجلّي نعمة الله، أمّا ناحية الغياب والبعد والفرق فتكن في جواب الإنسان على مبادرة الله وفي ما تقوم به روحه الخلاّقة على مدى الزمن والتاريخ، بحيث يتجلّى الله من دون أنَ يقضي علىَ حرّية الإنسان وإبداعيته.
إنّ هذه النظرة للنعمة واقعية تبقى على الصراع الذي يلازم الإنسان في عمل حرّيته حتى نهاية الزمن والتاريخ، وتمنع الإنسان من أن يعيش في وهم خيال زائف يرغب في إزالة كل مسافة بينه وبين ذاته، وبينه وبين الآخرين، وبينه وبين الله. إنّ النعمة لا تزال تلك المسافات بل تحرّر حرّية الإنسان ليتمكن من بناء ذاته في علاقة محبة مع الآخرين ومع الله.
ء) تجلّي الله في صلاة المسيحي
عندما يدخل المسيحي في الصلاة يتجلّى له الله في الوقت نفسه قريبًا وبعيدًا، حاضرًا وغائباً، ويدرك معاً أنه يشترك في الطبيعة الإلهية وأنّه لا يزال إنساناً خاطئاً. تلك هي خبرة القديسين والصوفيين المسيحيين الذين بقدر ما يتّحدون بالله يدركون بعدهم عنه، وبقدر ما يدخلون في عالمه يدركون كثافة الظلام والسحاب التي تكتنفهم.
في الصلاة يتجلّى لنا عمل الله للبشر، فنذكر “أعمال الله منذ القديم”، الخلق، والوحي بواسطة الأنبياء، والخلاص بالمسيح، وإرسال الروح القدس على التلاميذ، فنسبّح الله ونباركه ونشكره ونطلب إليه أن يرسل إلينا نحن أيضًا روحه القدّوس ليمكث فينا ويحوّلنا إليه كما يحوَّل الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه.
في الصلاة نفتح كياننا لنمتلئ نحن اليوم من نعمة الله التي أنعم بها على البشر منذ البدء وفي المسيح وفي الروح القدس.
ولكنّنا ندرك في الوقت ذاته أنّ كياننا الذي اشترك في الطبيعة الإلهيّة والحياة الإلهية لم ينصهر بعد في كيان الله، وأنّ الخطيئة لا تزال فينا تبعدنا عن قداسته. وهذه هي المفارقة التي لا بد لنا أن نعيش فيها ما دمنا على هذه الأرض، والتي نختبرها كل مرّة ندخل في الصلاة، من غير أن تحملنا على اليأس، لأنّها الشرط الأساسي الذي يتيح لحرّيتنا الإسهام في عمل الله. إنّ “السلبية” الملازمة لحضور الله هي الفراغ الذي يطلب منا الله أن نملأه بحضورنا البشري.
ب) تجلّي الله في عمل المسيحي
وفي العمل كما في الصلاة تتجلّى لنا نعمة الله في بعديها الإيجابي والسلبي. فالعالم حيث نحن نعيش نجد فيه جنبًا إلى جنب الملء والفراغ، الخير والشر، إذ إنّ عمل الله الحاضر في العالم لا يزيل كل ما فيه من نقص وضعف. لذلك نرى أنفسنا في عالم مفعم بالحبّ وبالبؤس والشقاء والحقد والكراهية. إنّ بين الله وتجليه في العالم مسافة مستمرّة، هي المجال الذي يندرج فيه عمل الإنسان.
إن الله لا يقوم في عمله مقام الإنسان. لذلك لا تتجلّى نعمته إلاّ من خلال عمل الإنسان، في صوت الأنبياء الذين يكرزون بالمحبة، في عمل كل إنسان يجسّد محبة الله عملاً في الزمن، وفي صراخ البائسين الذين يستغيثون برحمة من يستطيع إنقاذهم من بؤسهم، وفي الرحماء الذين يرون فيهم صورة الله وصورة المسيح: “كنت جائعًا فأطعمتموني، وعطشان فسقيتموني، وغريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني ومريضًا فعدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ” (متى 25: 35، 36)؛ وتتجلّى في الذين يؤمنون بحضور الله في العالم وفي المسيح، ويشهدون على هذا الحضور بعملهم وحياتهم. إنّ الله حاضر في الكون إنِّما حضورًا يتضمّن علي الدوام غيابًا على الإنسان أن يملأه بحضوره. إنّ نعمة الله تتضمّن دومًا انحجابًا على الإنسان أن يملأه بعمله.
وهكذا يكون المسيحي في صلاته وعمله تجلّي الله.
الباب الثالث الكنيسة
الفصل الأول نشأة الكنيسة
هناك نظرتان إلى نشأة الكنيسة، نظرة المؤرّخ وعالم الاجتماع، ونظرة اللاهوتي.
فالمؤرّخ وعالم الاجتماع، وقد يكونان ملحدين، ينظران إلى الكنيسة كإلى أيّ مؤسسة بشرية أخرى، ويحاولان أن يبحثا في نشأتها وفي الدوافع التاريخية والاجتماعية التي بعثتها، وقد يُعطيان الشخص الذي أسّسها أهميّة كبرى بقدر ما يبدو لهما أنّ مؤسّسة جديدة من هذا النوع لا يمكن أن تُفسَّر نشأتها بمجرّد تضافر الظروف الاجتماعية الملائمة، فلا بدّ أن يكون في أساس نشأتها شخصيّة قويّة. ويوضح علم الاجتماع كيف يتمّ الانتقال، في مثل تلك المؤسّسات، من بضعة تلاميذ مجتمعين حول معلّم إلى أخوية تضم عدداً أوفر من الناس، ثمّ إلى مؤسسة كبيرة ذات أنظمة وقوانين محدّدة.
أمّا اللاهوتي فيبحث في نشأة الكنيسة وهو مؤمن أنّ يسوع هو المسيح الذي أرسله الله إلى العالم “ليجمع أبناء الله المشتّتين” و “يصالحهم مع الله”. لذلك لا يكتفي بالبحث عن بعض العبارات التي يعلن فيها يسوع، في الإنجيل، رغبته الصريحة في إنشاء الكنيسة، بل يبحث في سر شخص يسوع المسيح بكامله، وفي كل أعماله وأحداث موته وقيامته، وفي إيمان الرسل والكنيسة الأولى بمعاني هذه الأحداث ليستشفّ من خلالها إرادة الله والمسيح في إنشاء كنيسة تكون تكملة لحياة المسيح، وتجسيداً لإرادة الله الاتحاد بالبشر وتوحيدهم بعضهم مع بعض.
وبما أن إرادة الله وتصميمه قد انكشفا لنا، ليس في العهد الجديد وحسب، بل أيضاً في العهد القديم، فإنّنا نبدأ بحثنا عن نشأة الكنيسة بما اختبره الشعب و بما أوحى به الله إلى أنبيائه في العهد القديم.
أوّلاً- شعب الله في العهد القديم
1- مراحل تكوين شعب الله
إنّ الكتاب المقدّس هو حكاية علاقة الله بالإنسان من خلال تاريخ شعب اختبر محبة الله ووجوده في ما بينه منذ خلق العالم.
يُجمع علماء الكتاب المقدّس على أنّ الأحداث التاريخيّة الأولى التي يرويها هي التي تدور حول دعوة إبراهيم أي ابتداءً من الفصل الثاني عشر من سفر التكوين. أمّا الفصول الأحد عشر الأولى من هذا السفر فلا تنتمي إلى التاريخ بل إلى التفكير اللاهوتي المعبّر عنه بالقصّة والرواية: “إنها تفكير الحكماء. فيحاول الكاتب أن يجيب على الأسئلة الكبرى التي يطرحها الإنسان على نفسه عن الحياة والموت والحب ومبادئ العالم. وهو يقوم بذلك انطلاقاً من إيمانه بالله، مستخدماً أساطير قديمة”.
والأحداث نفسها التي يرويها العهد القديم عن إبراهيم وإسحق ويعقوب ليست تاريخية بالمعنى المعاصر للكلمة. إنّ أساسها تاريخي، ولكنّ تفاصيلها مزيج من الأحداث التاريخية والتقاليد الأسطورية. وما يهمّنا نحن هو النظرة اللاهوتية إلى علاقة الإنسان بالله وتكوين شعب الله في العهد القديم.
كيف نشأت إذن وتطوّرت فكرة “شعب الله”، وهي الرمز السابق والتمهيد للكنيسة في العهد الجديد؟
ء) إبراهيم
لقد اعتبر إسرائيل دعوته واختياره كشعب اعتماداً على وعد الله لإبراهيم بقوله:
“إنطلقْ من أرضكَ وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُريك. وأنا أجعلك أمّة كبيرة، وأُباركك وأُعظم اسمك، وتكون بركة. وأُبارك مباركيك، وشاتمك ألعنه، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض” (تك 12: 1- 3).
“ها أنا أجعل عهدي معك، وتكون أبا جمهور أُمم. وسأُنميك جداً جداً، وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون. وأُقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك مدى أجيالهم عهد الدهر، لأكون لك إلهاً ولنسلك من بعدك. وأُعطيك أرض غربتك لك ولنسلك من بعدك… وأكون لهم إلهاً” (تك 17: 1- 8).
فأبناء إبراهيم هم إذاً أبناء الوعد، صنع الله منهم شعباً وأعطاهم أرضاً. وقد تجدّد الوعد كذلك مع إسحِق (تك 26: 3، 4)، ويعقوب (تك 28: 14).
ب) موسى
وإلى النسل والأرض أُضيف مع موسى عنصرٌ جديد هو الناموس أو الشريعة التي تمَّ على أساسها العهد بين الله والشعب:
“صعد موسى إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلاً: كذا تقول لآل يعقوب وتخبر بني إسرائيل. قد رأيتم ما صنعت بالمصريين، وكيف حملتُكم على أجنحة النسور، وأتيتُ بكم إليّ. والآن إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون لي خاصّة من جميع الشعوب، لأنّ جميع الأرض لي. وأنتم تكونون لي مملكة أحبار وشعباً مقدّساً” (خر 19: 3- 6).
وهذه الأوامر هي وصايا الله العشر، وقد قبلها الشعب وعاهد الله على حفظها، فخُتم العهد بينَهما بالدم:
“فجاء موسى وقصَّ على الشعب جميع كلام الرب وجميع الأحكام، فأجابه جميع الشعب بصوت واحد وقالوا: جميع ما تكلّم به الرب نعمل به. فكتب موسى جميع كلام الرب، وبكر في الغداة وبنى مذبحاً في أسفل الجبل، ونصب اثني عثر نصباً لاثني عشر سبط إسرائيل. وبعث فتيان بني إسرائيل، فأصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة من العجول للرب. فأخذ موسى نصف الدم وجعله في طسوت ورشّ النصف الآخر على المذبح. وأخذ كتاب العهد، فتلا على مسامع الشعب، فقالوا: كل ما تكلّم الرب به نفعله ونأتمر به. فأخذ موسى الدم ورشَه على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي عاهدكم به الرب على جميع هذه الأقوال” (خر 34: 3- 8).
ويقوم العهد بين الله وشعبه على أن يكون الشعب أميناً في السير على وصايا الله وأحكامه، وأن يكون الله إله هذا الشعب بنوع خاص فيحميه من أعدائه، فلا تزول أمانته أبداً:
“من خلال تلك الأمانة المتبادلة تنفتح أمامنا نظرة غنية بالقيم الدينية. فالشعب الإسرائيلي، بأمانته لله، يصبح كائناً دينياً ومقدّساً، ويرتفع إلى دائرة حياة الله. فالعهد ينشئ بين الشعب والله نوعاً من صلة قرابة سرية: الله بسكن في إسرائيل (“إن جريتم على رسومي وحفظتم وصاياي وعملتم بها… أجعل مسكني في ما بينكم ولا أخذلكم، وأسير في ما بينكم، وأكون لكم إلها، وأنتم تكونون لي شعباً” أخ 26: 3، 11). إنّه إلهه، وإسرائيل هو شعب الله، ومملكته، ونصيبه، وميراثه، وخاصته، وكرمه: هذا الشعب الذي يحيا في نظام إلهي يصمت أمّة ثيوقراطية وهو لله “مملكة أحبار وشعب مقدّس” (خر 19: 6)”.
وتلك الميزة التي امتاز بها شعب الله نجد تعبيرها التقليدي في سفر تثنية الاشتراع:
“إنّك شعب مقدّس للرب إلهك، وإيّاك اصطفي الرب إلهك أن تكون له أمّة خاصة من جميع الأمم التي على وجه الأرض. لا لأنَّكم أكثر من جميع الشعوب لزمكم الرب واصطفاكم، فإنّمَا أنتم أقلّ من جميع الشعوب، لكن لمحبة الرب لكم ومحافظته على اليمين التي أقسم بها لآبائكم أخرجكم الرب بيد قديرة، وفداكم من دار العبوديّة من يدي فرعون ملك مصر. فاعلم أنّ الربّ إلهك هو الله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبِّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل… فاحفظ الوصايا والرسوم والأحكام التي آمرك اليوم أن تعمل بها. فإذا سمعت هذه الأحكام وحفظتها وعملت بها فجزاؤك أن يحفظ الرب إلهك عهده لك ورحمته التي أقسم عليها لآبائك، فيحبّك ويباركك ويكثّرك وببارك ثمرة أحشائك وثمرة أرضك” (تث 7: 6- 13).
إنّ العهد مع الله هو أساس وحدة الشعب واختياره. فالشعب يعلم أنه مختار الله ومقدّس له بقدر ما يبقى أميناً للعهد الذي دعاه إليه. أمّا إذا فقد الأمانة لله فلا يعود بعد شعباً بل يفقد هويّته ويتلاشى بين الأمم التي يسلك على مثالها.
ج) داود وسليمَان: الملكية والهيكل
على العناصر الثلاثة المذكورة، الشعب الأرض والشريعة، دخل في ما بعد مع داود عنصر الملكية وبع سليمَان عنصر الهيكل. فالقبائل المختلفة اتّحدت مع داود تحت رعاية ملك واحد، وأصبحت مع سليمَان تصلّي وتقرّب الذبائح في هيكل واحد، هيكل أورشليم. لكنّ الملكية خيّبت آمال الشعب، لأنّها لم تضمن الوحدة الوطنية إذ أنقسمت المملكة بعد سليمَان إلى مملكتين (مملكة الشمال ومملكة الجنوب)، ولا الاستقلال الذي فُقِد أوّلاً في مملكة الشمال سنة 722 ثمّ في مملكة الجنوب سنة 587 بالاجتياح الأشوري.
د) السبي إلى بابل ورسالة الأنبياء
في السبي إلى بابل دُمّرت معظم العناصر التي كان الشعب يستند إليها ليبني وحدته: فالشعب سُبي، والأرض فُقدت، والمملكة أُبيدت، والهيكل دُمِّر، ولم يبقَ للشعب المشتّت إلاّ شريعة الله. وكان لهذه المحن الأثر الكبير في تصوّر العهد القديم “شعب الله”، فتنقّى هو من التصوّرات الماديّة والضيّقة وكذلك الرجاء المبني على الوعود القديمة.
فشعب الله لم يعد مؤلَّفاً من جميع أبناء إبراهيم بالجسد، بل من “البقية الباقية من بني إسرائيل” التي حافظت على الأمانة لشريعة الله ووصاياه، وسوف تكون أساساً لشعب الله الجديد.
وبما أنّ الأمانة لله ولوصاياه أصبحت أساس الانتماء إلى شعب الله، وليس الانتساب العرقي إلى إبراهيم وإلى الشعب الإسرائيلي، أخذ الأنبياء يتساءلون لماذا لا تدخل شعوب أخرى في العهد مع الله وتنتمي إلى شعب الله. وهكذا تحوّلت فكرة إخضاع جميع الأمم الوثنية للشعب الإسرائيلي إلى إخضاع تلك الأمم لله وإدخالها في عهده. ورأى الأنبياء في شتات إسرائيل من جهة قصاصاً لهم من الله لعدم أمانتهم ومن جهة أخرى دعوة لهم للتبشير باسم الله بين الأمم. فهذا طوبيا يقول:
“اعترفوا للرب يا بني إسرائيل، وسبّحوه أمام جميع الأمم. فإنّه فرَّقكم بين الأمم الذين يجهلونه لكي تخبروا بمعجزاته وتعرّفوهم أن لا إله قادراً على كل شيء سواه. هو أَدَّبنا لأجل آثامنا، وهو يخلِّصنا لأجل رحمته… أمّا أنا ففي أرض جلائي أعترف له، لأنّه أظهر جلاله في أمّة خاطئة” (طو 13: 3- 7).
ونسمع أشعيا يتنبّأ:
“إنّ ربّ الجنود سيصنع لكل الشعوب في جبل أورشليم مأدبة مسمّنات… ويزيل في هذا الجبل الغطاء المغطّي جميع الشعوب، والحجاب المحجّب جميع الأمم” (أش 25: 6، 7).
وزكريا النبي يعلن:
“رنِّمي وافرحي يا بنت صهيون، فها أناذا آتي وأسكن في وسطك، يقول الرب. فيتَّصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم، ويكونون لي شعباً” (زك 3: 10- 11)؛ “هكذا قال رب الجنود: سيأتي شعوب أيضاً وسكّان مدن كثيرة، ويسير سكّان الواحدة إلى الأخرى قائلين: لنَسِر سيراً لاستعطاف وجه الرب، والتماس رب الجنود. ويأتي شعوب كثيرون وأُمم أقوياء، لالتماس رب الجنود في أورشليم، واستعطاف وجه الرب” (زك 8: 21، 22).
وبعد أن تبدّدت من الشعب الإسرائيلي أوهام العظمة الدنيوية والسيطرة الزمنية على سائر الشعوب، راح الأنبياء ينبئون بتجديد روحي يتمّ فيه عهد جديد يجعل الله فيه شريعته في ضمائر الشعب ويكتبها على قلوبهم، ويجعل روحه في أحشائهم ويجعلهم يسلكون في رسومه:
“ها إنّها تأتي أيّام، يقول الرب، أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً، لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم، يوم أخذت بأيديهم لأخرجهم من أرض مصر، لأنّهم نقضوا عهدي، فأهملتهم أنا، يقول الرب. ولكنَ هذا العهد الذي أقطعه مع آل إسرائيل بعد تلك الأيّام، يقول الرب، هو أنّي أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلّم بعد كل واحد قريبه وكل واحد أخاه، قائلاً: إعرف الرب، لأنّ جميعهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، يقول الرب، لأنّي سأغفر آثامهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد” (إر 31: 31- 34).
“قل لآل إسرائيل: هكذا قال السيّد الرب، ليس لأجلكم أنا فاعل، يا آل إسرائيل، لكن لأجل اسمي القدّوس، الذي دنّستموه في الأمم، فتعلم الأمم أنّي أنا الرب، يقول السيّد الرب، حين أتقدّس فيكم على عيونهم. وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي، وآتي بكم إلى أرضكم، وأنضح عليكم ماءً طاهراً، فتطهرون من جميع نجاستكم، وأطهّركم من جميع أصنامكم. وأعطيكم قلباً جديداً، وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً، وأنزع من لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلباً من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. وتسكنون في الأرض التي أعطيتها لآبائكم، وتكونون لي شعباً، وأكون لكم إلهاً” (حز 36: 22- 28).
هـ) الألفاظ المستعملة في العهد القديم للدلالة على شعب الله
إنّ لفظة “كنيسة” معرّبة من اللفظة الآرامية “كنوشتا” التي تعني المجمع أو الجماعة. أمّا العبريّة فتستعمل لفظة “كاهال” للدلالة على جماعة الشعب الملتئمة لسماع كلمة الله في سيناء (تث 4: 10)، أو في بريّة موآب: “وتلا موسى على مسامع كل جماعة إسرائيل كلام هذا النشيد إلى آخره” (تث 31: 30)، أو مع يشوع بن نون: “لم تكن كلمة من كل ما أمر به موسى لم ينادِ بها يشوع بحضرة كل جماعة إسرائيل، مع النساء والأطفال والغريب السائر معهم” (يش 9: 35). وتلك اللفظة عينها يضعها سفر أخبار الأيّام على لسان داود: “فالآن على عيون كل إسرائيل، جماعة الرب، وعلى مسمع إلهنا، احفظوا وابتغوا جميع وصايا الرب إلهكم لترثوا الأرض الصالحة وتورثوها لبنيكم من بعدكم إلى الأبد” (1 أخ 28: 8). وكذلك يروي سفر نحميا أنّ عزرا الكاهن أحضر التوراة أمام الجماعة من الرجال والنساء وقرأ في سفر التوراة (نح 8: 2).
ولقد ترجمت السبعينية اليونانية لفظة “كاهال” العبريّة تارة بلفظة “إِكْلِيسِيّا”، وهي تعني “جماعة المواطنين”، وطوراً بلفظة “سِيْناغُوْغيْ” التي تعني أيضاً “المجمع” أو “الجماعة”. و بما أنّ هذه اللفظة الأخيرة كانت مستعملة في القرن الأوّل للدلالة على مجمع اليهود، اختار المسيحيون الأوّلون لأنفسهم اللفظة الأولى تميّزاً عن اليهود. لكنّ المعنى في كلتا اللفظتين هو “الجماعة المقدّسة التي دعاها الله دعوة خاصة”. وهذا ما تعنيه أيضاً عبارة أخرى هي “كْلِيِتيْ آغِيا” التي تفسيرها “محفل مقدّس” وهي ترجمة العبارة العبرية “ميكراقوديش” (خر 12: 6؛ أح 23: 3؛ عد 29: 1). فهذه الألفاظ والعبارات كلّها تستعمل للدلالة على جماعة الشعب الملتئمة للصلاة وسماع كلمة الرب وتذكّر عهده.
2- ملكوت الله في العهد القديم
إنّ رسالة “شعب الله” هي تحقيق “ملكوت الله” أو “ملك الله” بين البشر. فمن أين أتت فكرة “ملك الله”؟ وماذا تعني في العهد القديم؟
ء) أصل الفكرة
يعود تصوّر الله ملكاً يملك على شعبه إلى تقليد قديم في حياة شعب الله، نشأ ممّا اختبره الشعب على مدى تاريخه، ولا سيّمَا في حروبه، من أنّ الله هو الإله المحارب الذي يحارب إلى جانبه. فنسمع مثلاً موسى وبني اسرائيل، بعد اجتيازهم البحر الأحمر ورؤيتهم المصريين يغرقون فيه، يسبّحون الله قائلين:
“الرب صاحب الحروب، الرب اسمه، مراكب فرعون وجنوده طرحهما في البحر، يمينك يارب عزيزة القوّة، يمينك يا رب تحطّم العدوّ، وبعظمة اقتدارك تهدم مقاوميك… الرب يملك إلى الدهر وإلى الأبد” (خر 15: 3- 18).
فنرى هكذا النشيد يبدأ بعبارة “الرب صاحب الحروب”، وينتهي بعبارة “الرب يملك”.
ولا شكّ أنّ اليهود قد تأثّروا، في نظرتهم إلى الله كإلى ملك، بالكنعانيين الذين كانوا يتصوّرون الإله الأعظم “إيل” كملك محاط بحاشية سماوية. وقد توطّدت تلك الفكرة بعد احتلال اليهود لأرض كنعان، ونجد أصداءها في مختلف أسفار العهد القديم.
ولقد لاقت فكرة إقامة “ملك على إسرائيل”، بعد زمن القضاة، مقاومةً شديدة عند الأنبياء وغيرهم من الشعب الذين لم يريدوا إلاّ الله ملكاً عليهم، نجد صداها في سفر القضاة: “قال لهم جدعون: لا أنا أتسلّط عليكم، ولا ابني يتسلّط عليكم، بل الرب هو الذي يتسلّط عليكم” (قض 8: 23). ويروي كذلك سفر الملوك الأوّل أنّه، عندما طلب الشعب من صموئيل “أن يقيم عليهم ملكاً يقضي بينهم كجميع الأمم، ساء هذا الكلام في عيني صموئيل، إذ قالوا: أقم علينا ملكاً يقضي بيننا. فصلّى صموئيل إلى الرب. فقال الرب لصموئيل: إسمع كلام الشعب في جميع ما يقولون لك، فإنّهم لم يسأموك أنت بل سئموني أنا في توليَّ عليهم… فالآن اسمع لقولهم، ولكن اشهد عليهم وأخبرهم بسنن الملك الذي يملك عليهم” (1 ملو 8: 5- 9).
ب) “مُلك الله” في مختلف أسفار العهد القديم
تقول المزامير عن الله:
“ملك المجد وربّ الجنود” (مز 23: 7- 10)؛ “أقر عرشه في السماء، وملكوته يسود على الجميع” (مز 102: 19)؛ “الرب عليٌّ وملك رهيب على جميع الأرض” (مز 46: 2)، “الرب قد ملك والبهاء لبس، لبس الرب القدرة وتنطّق بها” (مز 92: 1)، “إنّ الربّ إله عظيم وملك عظيم على جميع الآلهة” (مز 94: 3).
وكذلك الأنبياء:
“لقد رأت عيناي الملك ربّ الجنود” (أش 6: 5)؛ “مَن لا يخشاك يا ملك الأمم، إنّه بك يليق ذلك، لأنّه بين جميع حكماء الأمم وفي الممالك بأسرها لا نظير لك… أمّا الرب فهو الإله الحق، الإله الحي والملك الأزلي” (إر 10: 7- 10).
فالله إذاً يملك كل السماء والأرض، على الآلهة والبشر وجميع الشعوب، إلاّ أنّه يملك بنوع خاص على شعبه الذي اختاره ليكون له “مملكة أحبار وأمّة مقدّسة” (خر 19: 6). والله يملك في وسط شعبه، في أورشليم التي تدعوها المزامير “مدينة الملك العظيم”، “مدينة رب الجنود، مدينة إلهنا” (مز 47: 3، 9)، وفيها يقول إرميا: “أليس الرب في صهيون، أليس ملكها فيها؟” (أر 8: 19). والله يبارك شعبه: “ليباركك من صهيون الرب صانع السماوات والأرض” (مز 103: 3)، ويقوده ويحميه و يجمعه كما يجمع الراعي قطيعه (راجع حز 34).
لقد اتخذ العهد القديم صورة “ملك الله” ليعثر من خلالها عن فكرة “العهد” بين الله وشعبه. فالله الذي عاهد شعبه أن يكون معه هو “ملكه” الذي يحارب معه.
وبعد سقوط المملكة في إسرائيل، اتّجه الأنبياء نحو مدلول روحي لملك الله على شعبه. فأنبياء ما بعد السبي يؤكّدون أنّ الله هو الذي سيملك بنفسه على شعبه: “ملكهم يجوز أمامهم” (مي 2: 13)، وهو الذي “سيرعى قطيعه كالراعي” (أش 40: 11)، لأنّه هكذا قال السيّد الرب:
“ها أنا ذا أنشد غنمي وأفتقدها أنا. كما بفتقد الراعي قطيعه، يوم يكون في وسط غنمه المنتشرة، كذلك أفتقد أنا غنمي وأنقذها من جميع المواضع التي شُتّتت فيها يوم الغمام والضباب وأخرجها من بين الشعوب، وأجمعها من الأراضي، وآتي بها إلى أرضها وأرعاها على جبال إسرائيل وفي الأودية وفي جميع مساكن الأرض” (حز 34: 11- 13).
والبشرى الصالحة التي تعلن في أورشليم هي: “قد ملك إلهكِ”:
“ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المسمعين بالسلام، المبشّرين بالخير، المسمعين بالخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهكِ” (أش 52: 7). “ترنّمي يا ابنة صهيون، إهتفوا يَا إسرائيل. إفرحي وتهلّلي بكل قلبك يا ابنة أورشليم. فقد ألغى الرب قضاءكِ وأقصى عدوّكِ. في وسطك الرب ملك إسرائيل، فلا تريْنَ شراً من بعد” (صف 3: 14، 15).
وأخيراً، في أيّام اضطهاد اليهود على يد أنطيوخس أبيفانوس، تنبّأ دانيال عن ملك الله الذي سيُبنى على أنقاض المالك البشرية: “وفي أيّام هؤلاء الملوك، يقيم إله السماء مملكة لا تنقض إلى الأبد، وملكه لا يترك لشعب آخر، فتسحق وتفني جميع تلك الممالك، وهي تثبت إلى الأبد” (دا 2: 44):
وتنبّأ كذلك عن مجيء “ابن البشر” الذي “أُوتي سلطاناً ومجداً وملكاً. فجميع الشعوب والأمم والألسنةِ يعبدونه، وسلطانه سلطان أبدي لا يزول، وملكه لا ينقرض” (دا 7: 14). وملك ابن البشر سيعقب ملك الحيوانات الأربعة، “وهي أربعة ملوك يقومون على الأرض” (7: 17)، رمز كل الممالك الأرضية. ويتابع دانيال بقوله: “لكن قدّيسي العليّ يأخذون الملك ويحوزونه إلى الأبد وإلى أبد الآباد… ويعطى الملك والسلطان وعظمةالملك تحت السماء بأسرها لشعب قدّيسي العليّ. وسيكون ملكه ملكاً أبدياً، ويعبده جميع السلاطين ويطيعونه” (دا 7: 17، 27).
ج) ماذا كان ينتظر العهد القديم من إحلال ملك الله النهائي؟
يشمل ملك الله، في مختلف أسفار العهد القديم، ثلاثة ميادين: الكون، والتاريخ، والدين. فالعهد القديم، في انتظاره إحلال ملك الله النهائي، كان ينتظر أن يسود الله سيادة تامة على الكون وعلى الشعوب وعلى جميع الناس، ويدمّر كل قوى الشر التي تعمل على مقاومة سيادته. عندئذٍ على الصعيد الكوني يسود النظامُ الكونَ والطبيعة، وعلى المعيد التاريخي والسياسي يسود السلام والعدالة جميع الشعوب، وعلى الصعيد الديني والأخلاقي والاجتماعي يمتلئ جميع الناس من معرفة الله ومخافته ويتمّمون شريعته ووصاياه.
إن حالة كهذه لا يستطيع إنسان أن يحقّقها، فإنّها بيد الله وحده، فهو يهبها هبة مجانية من فيض محبته، وسيهبها عند تمام الأزمنة في “يوم الرب”.
إنّ الأسفار الرؤيويّة ترى علاقة صميمة بين “ملك الرب” أو “ملكوت الرب” و “يوم الرب”. “إنّ يوم الرب قريب على جميع الأمم”، يقول النبي عوبديا، ثمّ يضيف: “ويكون الملك للرب” (عو 15 و21). وكذلك يقرن النبي زكريا يوم الرب وملكه: “ها إن يوماً للرب يأتي” (زك 14: 1)، “ويكون الرب ملكاً على الأرض كلّها، وفي ذلك اليوم يكون رب واحد، واسمه واحد” (14: 9). وكذلك يقول أشعيا: “في ذلك اليوم يفتقد الرب جند العلاء في العلاء وملوك الأرض على الأرض”، ثم يضيف: “فيخجل القمر وتخزى الشمس، إذ يملك رب الجنود في جبل صهيون وفي أورشليم ويتمجّد أمام شيوخه” (أش 24: 21 و23).
إنّ تحقيق ملك الرب يتطلّب تدخّلاً مباشراً من قِبَل الله، وتغييراً جذرياً في كل شيء: إنّ ملكوت الله لن يتحقّق إلاّ بإنشاء أرض جديدة وسماء جديدة.
وفي نهاية العهد القديم كان الجميع ينتظرون حلول ملكوت الله. إلاّ أنّه استناداً إلى النبوءات الماسيوية التي كانت تتنبّأ عن مجيء مسيح من نسل داود يملك على عرشه إلى الأبد، وإلى نبوءة دانيال عن ابن البشر، كان البعض ينتظرون تحقيق ملكوت الله على يد مسيح زمني يملك على إسرائيل ويعيد أمجاد مملكة داود. أمّا الأنبياء والحكماء والأتقياء فكانوا يرون في ملكوت الله حقيقة روحية: “إن البار، بخضوعه للشريعة، يحمل نير ملكوت السماوات”، يقول بعض الرابيين. وهذا الرجاء المنتظر سيجد جوابه في العهد الجديد، في إنجيل الملكوت.
ثانياً- الكنيسة في العهد الجديد
إنّ يسوع المسيح هو كمال الناموس والأنبياء، فيه تحقّقت كل تطلّعات العهد القديم، وفي تبشيره وموته وقيامته أتى الملكوت الذي كان العهد القديم ينتظره. ونشأة الكنيسة في العهد الجديد مرتبطة معاً برسالة المسيح وتبشيره بالملكوت في حياته العلانية، وبسرّ موته على الصليب وقيامته من بين الأموات.
1- نشأة الكنيسة وارتباطها بمجي المسيح وتبشيره بالملكوت
ء) التبشير بالملكوت
مجيء الملكوت في شخص يسوع
بدأ يسوع رسالته بالكرازة بإنجيل الله، أي بالبشرى الصالحة، ومحورها إعلان قرب مجيء ملكوت الله:
“بعدما أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل وهو يكرز بإنجيل الله، ويقول: لقد تمَّ الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل”.
فإنّ الزمان الذي حدّده الله لمجيء ملكوته قد تمّ، وها إنّ الملكوت يقترب من البشر في شخص يسوع المسيح وعجائبه وتعاليمه. فيسوع هو “الابن الحبيب الذي به سرّ الآب” (متى 3: 17)، وأرسله الآب إلى كرمه بعد الأنبياء ليأخذ ثماره (راجع متى 21: 33- 39). وعلى يسوع “حلّ روح الرب ومسحه ليبشّر المساكين وينادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، ويطلق المرهقين أحراراً، ويعلن سنة نعمة للرب”. (لو 4: 18، 19)، فجعل “العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى ينهضون، والمساكين يبشّرون. وطوبى لمن لا يشكّ فيه” (متى 11: 5، 6).
فالأشفية التي صنعها يسوع، وكذلك سيطرته على الشياطين، هي آيات تشير إلى مجيء الملكوت في شخصه. وهذا ما يعنيه بقوله للفريسيين: “إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فذلك أنّ ملكوت الله قد انتهى إليكم”. ثم يضيف: “وهل يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي، وينهب أمتعته، إلاّ أن يربط القويّ أوّلاً؟ عندئذٍ فقط ينهب بيته” (متى 12: 28، 29). فالقوي هنا هو الشيطان، رمز الشرّ في العالم. وقد جاء المسيح لينشئ ملكوت الله. ولكن لا بدّ له أوّلاً من أن يدّمر ملك الشيطان ليبني ملكوت الله.
وشفاء الأمراض يرافقه دوماً غفران الخطايا (راجع مثلا شفاء مخلّع كفرناحوم). وجود يسوع على مائدة واحدة مع العشّارين والخطأة إلاّ علامة فيض المحبة والمغفرة التي أنبأ عنها الأنبياء لتمام الأزمنة وحلول ملكوت الله.
ذلك يعني ملكوت الله تدّخل قدّرة الله ومحبته في تمام الأزمنة لتدمير قوى الشرّ، وخلاص البشر من خطاياهم وإدخالهم في زمن النعمة الجديد.
الملكوت عطية مجّانيّة من الله
والملكوت هو عطيّة مجّانيّة من الله، لا أحد يحصل عليه بأعماله الخاصة، بل يهبه الله للجميع دون تمييز، للصدّيقين والخطأة، للأغنياء والفقراء، لليهود وغير اليهود: “لا تخف أيّها القطيع الصغير، لأنّه قد حسن لدى أبيكم أن يعطيكم الملكوت” (لو 12: 32). والشرط الوحيد لدخول الملكوت هو الانفتاح له والإيمان بمجيئه في شخص يسوع، وقبوله كطفل.
التخلّي عن كل شيء في سبيل الملكوت
إنّ الملكوت قد جاء في شخص يسوع. لذلك يجب التخلّي عن كل شيء للحصول عليه، فإنه يشبه “كنزاً مدفوناً في حقل. فالإنسان الذي وجده أخفاه، ومن فرحه، مضى وباع كل ما له واشترى ذلك الحقل. ويشبه ملكوت السماوات أيضاً إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة. فلمّا وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كل ما كان له واشتراها” (متى 13: 44- 46).
والحصول على الملكوت يجلب للإنسان سعادة قصوى. لذلك يشبّه يسوع الملكوت “بملك صنع عرساً لابنه” (متى 22: 2). فالملك، في هذا المثَل، هو الله، وابنه هو يسوع المسيح، والاشتراك في العرس يرمز إلى الدخول في الملكوت.
يقول اوريجانوس إنّ “يسوع هو نفسه الملكوت”، من يؤمن به يدخل في الملكوت. أمّا يوحنا فإنّه يستعمل بدلاً من لفظة الملكوت لفظة “الحياة”، أي الحياة الإلهية، حياة الله نفسه وقد أتت إلينا في شخص يسوع المسيح ابن الله.
شرعة أبناء الملكوت، التوبة والإيمان
بمجيء يسوع إذاً اقترب من البشر ملكوت الله، أي أصبح في متناول أيديهم، واقتربت منهم حياة الله ومحبته ونعمته ومغفرته. فمن يؤمن بيسوع يصبح ابن الملكوت، وعليه من ثمّ أن يحيا حياة “أبناء الملكوت”. وقد أوجز متى في عظة يسوع على الجبل شرعة أبناء الملكوت (متى 5- 7)، “حيث ينبّه يسوع مستمعيه قائلاً: “إن لم يزد بهم على ما للكتبة والفرّيسيّين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات” (متى 5: 20)، وأيضاً: “أطلبوا ملكرت الله وبره” (متى 6: 33).
وهذا الموقف الذي يطلبه يسوع من مستمعيه إزاء اقتراب مجيء الملكوت يفسّر قوله: “لقد تمَّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل”. فالتوبة والإيمان عنصران أساسيان يتميّزهما تلاميذ يسوع. والتوبة في يسوع هي توبة عن وتوبة إلى فهي توبة عن الخطايا المقترفة أولاً، كتوبة العشّار الذي وقف يقرع صدره قائلاً: “اللهمّ اغفر لي أنا الخاطئ” (لو 18: 19)، وتوبة زكّا الذي قال ليسوع: “يا سيّدي، ها أنا ذا أُعطي المساكين نصف أموالي، وإن كنت قد ظلمت أحداً بشيء، فإني أردّ أربعة أضعاف” (لو 19: 8). ولكنها خصوصاً توبة إلى الله، أي رجوع إليه كإلى أب، والارتماء في أحضانه بثقة ومحبة، كما فعل الابن الشاطر (لو 15: 11- 32). وبالتوبة يقول الإنسان لله على مثال يسوع: “يا أبتاه”.
وبهذا المعنى الأخير، تأتي التوبة قريبة من الإيمان وملازمة له. فالإيمان ليس اعتناقاً لعقيدة، بل اعتناق لشخص يسوع ومن خلاله لشخص الآب، إنّه علاقة شركة ومحبة بين الإنسان والله.
ب) الجماعة الكنسيّة والرسل الاثنا عشر
إنّ الذين يؤمنون بيسوع المسيح ويقبلون الملكوت يكوّنون جماعة يدعوها العهد الجديد “الكنيسة”. وهذه اللفظة لا ترد إلاّ مرَّتين في الإنجيل (متى 16: 18؛ 18: 17)، بينما ترد 20 مرّة في سفر أعمال الرسل، و60 مرّة في رسائل القدّيس بولس. لكنّ الإنجيل يرينا يسوع يعدّ، في أثناء حياته، جماعة يمكننا أن ندعوها الجماعة الماسيوية، أي التي أرادها الله لزمن مجيء الماسيّا أي المسيح. وهذه الجماعة تؤمن أنّ يسوع هو المسيح المنتظر، وتنفتح على ملكوت الله، فتتحقّق فيها نبوءة دانيال النبي عن قدّيسي العليّ الذين يأخذون الملكوت الذي أُقيم ابن البشر سيّداً عليه (راجع دا 7: 14- 27).
إنّنا نرى يسوع يجمع حوله تلاميذ يعلّمهم ويثقّفهم ويكشف لهم “أسرار ملكوت السماوات” (متى 13: 11)، ويدعوهم “القطيع الصغير” (لو 12: 32)، فقد رآهم، وهو “الراعي الصالح” (يو10) الذي “جاء ليجمع في الوحدة أبناء الله المتفرقين” (يو 11: 52) “كخراف ضالّة” (متى 15: 24)، و”كغنم لا راعي لها” (متى 9: 36).
ومن بين هؤلاء التلاميذ عيّن يسوع اثنى عشر رسولاً، “ليكونوا معه ويرسلهم للكرازة” (مر 3: 14- 19). وقد علّمهم طرق الرسالة (مر 6: 6- 11)، وأوّلية الخدمة في علاقاتهم بعضهم مع بعض: “إن أراد أحد أن يكون الأوّل، فعليه أن يكون آخر الكل وخادماً للكل” (مر 9: 35). وأنبأهم عن الاضطهادات التي سوف تلحق بهم (متى 10: 16- 31). وعلّمهم أيضاً أن يجتمعوا معاً للصلاة: “إذا اتّفق اثنان منكم على الأرض، في أيّ شيء يطلبانه، فإنّه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات. لأنّه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فأنا أكون هناك في وسطهم ” (متى 18: 19، 20). وأوصاهم أن يغفر بعضهم لبعض (متى 18: 21-35)، وألاّ يبعدوا أحداً عن الجماعة وعن الشركة معها إلاّ بعد محاولة إقناعه على شهادة اثنين أو ثلاثة ثمّ على شهادة الكنيسة (متى 18: 15- 18).
ونرى هؤلاء الرسل الاثني عشر، في أثناء حياة يسوع وعلى أمر منه، “يكرزون بالتوبة، ويخرجون الشياطين، ويدهنون بالزيت مرضى كثيرين ويشفونهم” (مر 6: 12)، ويعمّدون الناس (يو 4: 2).
إنّ يسوع باختياره اثني عشر رسولاً، لم يرد إنشاء مؤسّسة دينية إلى جانب المؤسّسات القائمة في إسرائيل، بل أراد جمع كل الشعب الإسرائيلي، بقبائله الاثنتي عشرة، في شعب الله الجديد. وهذا ما يعنيه رقم “الاثني عشر” الذي اختاره لرسله وقد حرصوا على المحافظة عليه، بحيث إنّ أوّل عمل قاموا به بعد قيامة يسوع كان اختيار متيّا ليكون الرسول الثاني عشر عوضاً عن يهوذا الذي خان معلّمه ثمّ قتلَ نفسه (أع 1: 15- 26).
والرسل الاثنا عشر هم النواة الأولى، ليس فقط لجمع الشعب الإسرائيلي، بل أيضاً لجمع كل الأمم في شعب الله الجديد. لا شكّ أنّ يسوع بدأ بشير “الخراف الضالّة من بني إسرائيل” (متى 15: 24)، وقد بكى على أورشليم لأنّه “أراد أن يجمع بنيها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم يريدوا” (متى 23: 37)، ولكنّه أعلن، في لقاءات عدّة، تصميم الله على دخول جميع الأمم في شعب الله الجديد. فبعد أن شفي غلام قائد المئة الروماني وأُعجب بإيمان هذا الأخير، قال: “الحق أقول لكم إنّي لم أجد عند أحد من إسرائيل مثل هذا الإيمان”، ثم أردف: “وأنا أقول لكم إنّ كثيرين يأتون من المشرق والمغرب، ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات. أمّا أبناء الملكوت فيُلقَون في الظلمة الخارجية” (متى 8: 5- 12).
إنّ ما لا يرقى إليه الشكّ إذاً هو إرادة يسوع الصريحة في إنشاء الكنيسة، وقد عمل، في أثناء حياته، على تكوين نواتها الأولى بتبشيره بالملكوت، ودعوته الجموع إلى التوبة والإيمان، وسكبه نعمة الله على المرضى لشفائهم وعلى الخطأة لمغفرة خطاياهم، وجمعه حوله تلاميذ، وإقامته رسلاً لمتابعة كرازته.
وهناك نصّ يظهر بوضوح كلّي إرادة يسوع هذه، حيث يعترف بطرس الرسول بأنّ يسع هو “المسيح ابن الله الحيّ”، ويجيب يسوع على هذا الاعتراف. ففي الفصل السادس عشر من إنجيل متى كلام على عدم معرفة الفرّيسيّين والصدّوقيّين تمييز علامات الأزمنة، وعدم إيمانهم بالتالي بيسوع (متى 16: 1- 12). ثمّ يتابع النص:
“ولمّا انتهى يسوع إلى ضواحي قيصريّة فيلبّس، سأل تلاميذه، قائلاً: مَن ترى ابن البشر في نظر الناس؟ قالوا: بعضهم يقولون إنّه يوحنا المعمدان، وغيرهم إنّه إيليا، وغيرهم إنّه إرميا أو واحد من الأنبياء. فقال لهم: وفي نظركم، أنتم، مَن أنا؟ أجاب سمعان بطرس وقال: أنت المسيح ابن الله الحي. أجاب يسوع وقال له: طوبى لله يا سمعان ابن يونا، فإنه ليس اللحم والدم أعلنا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وسأُعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات” (16: 13- 19).
ففي هذا النص يمكننا أن نرى العناصر التالية:
أوّلاً، يعلن يسوع لبطرس أنّ الآب هو الذي أوحى إليه باعترافه بيسوع.
ثانياً، يغيّر اسم سمعان فيسمّيه بطرس أو (كيفا)، أي الصخرة. وإعطاء اسم جديد يشير إلى رسالة جديدة. فبطرس سيكون الصخرة التي سيبني عليها المسيح كنيسته، وأبواب الجحيم، أي قوى الشر والخطيئة، لن تقوى عليها ولن تدمّرها.
ثالثاً، يعلن رغبته في بناء الكنيسة، ويدعوها “كنيستي”. فالكنيسة هي إذاً كنيسة المسيح أي (جماعة الذين يعترفون، على غرار بطرس، بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله الحيّ”. وهذا الإيمان بالمسيح هو الصخرة التي ستتحطّم عليها قوى الجحيم. وسيحاول الشيطان أن يغربل كالحَنطة بطرس وسائر الرسل وجميع المؤمنين بالمسيح ليبعدهم عن الإيمان. إلاّ أنّ يسوع صلّى لأجلهم، وبنوع خاص لأجل بطرس لكي لا يزول إيمانه، فيستطيع بدوره أن يثبّت إيمان إخوته: “سمعان، سمعان، هوذا الشيطان قد طلب في إلحاح أن يغربلكم كالحنطة. وأنا صلّيت لأجلك لكي لا يزول إيمانك. وأنت متى عدت فثبّت إخوتك” (لو 22: 31، 32).
رابعاً، يعطي بطرس “مفاتيح ملكوت السماوات”، وسلطان “الحلّ والربط”. وفي موضعَ آخر نسمع يسوع ينتقد الفرّيسيّين والكتبة “لأنهم يغلقون في وجه الناس ملكوت السماوات، فلا يدخلون، ولا يدعون الداخلين يدخلون” (متى 23: 13). و يمنح هنا بطرس مفاتيح الملكوت لإدخال الناس إليه. وإنّ مفاتيح الملكوت هي في الواقع مفاتيح الكنيسة التي تضمّ جميع بني الملكوت وتسير على هذه الأرض نحو الملكوت النهائي في السماء. أمّا سلطان “الحلّ والربط” فلا يقتصر، كما يفسّر البعض، عل حلّ الخطايا وربطها، بل هو سلطان الرعاية الكامل على الكنيسة. فسيّد البيت هو الذي بيده مفاتيح البيت، وهو الذي يحلّ ويربط، أي يدير جميع شؤون البيت.
لا شكّ أنّ يسوع هو راعي الكنيسة ورئيسها وسيّدها، تمّت فيه نبؤات العهد القديم عن الله الذي سوف يأتي في الأزمنة الأخيرة ويرعى شعبه بنفسه (راجع حز 34: 11، 12)، وهو الذي ” بيده مفتاح داود (أي مفتاح مدينة داود، أورشليم الجديدة، أي الكنيسة)، يفتح فلا يُغلق أحد، ويُغلق فلا يفتح أحد” (رؤيا 3: 7)، وهو الذي سيبقى مع كنيسته “كل الأيّام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20). ولكنّه أراد أن يكون لكنيسته راع يمثّله ووكيلٌ تستمرّ فيه رعايته. لذلك نراه أيضاً بعد قيامته يوكل إلى بطرس تلك المهمة: “إرعَ خرافي… إرعَ نعاجي” (يو 21: 15- 17). وقد أعطى كذلك سلطان الحلّ والربط في موضع آخر للكنيسة كلّها ممثّلة بالرسل الاثني عشر (راجع متى 18: 15- 18).
2- نشأة الكنيسة بموت يسوع على الصليب
لقد نشأت الكنيسة جماعةً منفصلة عن الشعب اليهودي بسبب رفض اليهود الإيمان بيسوع. فقد جاء يسوع ليجمع أوّلاً أبناء الشعب اليهودي، “تلك الخراف الضالّة من بني إسرائيل” (متى 15: 24)، ولكنّهم رفضوا رسالته، فقادهم رفضهم إلى تسليمه إلى السلطة الرومانية للحكم عليه بالموت. فلماذا رفض اليهود رسالة يسوع، وكيف نشأت الكنيسة من صليب يسوع؟
ء) رفض اليهود الإيمان بيسوع
لقد كانت عجائب يسوع وتعاليمه آيات تظهر مجيء ملكوت الله في شخصه، ولكن اليهود لم يكتفوا بعجائب كان الأنبياء في العهد القديم يصنعون مثلها، فطلبوا منه أن يريهم آية خارقة من السماء، فأجابهم:
“جيل شرير فاسق بطلب آية، ولن يعطى آية إلاّ آية يونان النبي. فكما أنّ يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، كذلك ابن البشر يقيم في جوف الأرض ثلاثة أيّام وثلاث ليالٍ … رجال نينوى سيقومون، في الدينونة، مهم هذا الجيل، ويحكون عليه، لأنّهم تابوا بوعظ يونان، وههنا أعظم من يونان” (متى 12: 39- 41؛ راجع أيضا يوحنا 2: 18- 21).
إنّ يسوع هو الآية الظاهرة في أعماله وتعاليمه وعجائبه، وعلى اليهود أن يؤمنوا به، كما آمنوا بيونان. أمّا الآية الكبرى التي يشير إليها يسوع فهي آية موته وقيامته. فهو لا يرفض مبدأ إعطائهم آية، ولكنّه لا يعطيهم الآية التي يطلبون، لأنّ نظرته إلى الملكوت مختلفة تمام الاختلاف عن نظرتهم، وكذلك نظرته إلى المسيح الذي سينشى الملكوت، فاليهود كانوا في معظمهم ينتظرون مسيحاً زمنياً وملكوتاً دنيوياً، فكان لذلك موت المسيح أمراً لا بدّ منه.
ب) ضرورة الصليب
يقول بولس الرسول: “إنّ اللحم والدم لا يستطيعان أن يرثا ملكوت الله” (1 كو 15: 50). فإنّ تحقيق ملكوت الله وتكوين شعب الله الجديد لا يمكن أن يتمّا إلاّ بتجاوز منطق البشر وتخطّي حدود التاريخ. لذلك يدعو يسوع تلاميذه ويقول لهم:
“مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه، وليحمل صليبه ويتبعني. فإن مَن أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، أمّا مَن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فإنّه يخلّصها. إذ ماذا ينفع الإنسان أن يربح العالم كلّه ويخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟ فإنّ مَن يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الأثيم، فابن البشر أيضاً يستحي به متى جاء في مجد أبيه مع الملائكة القدّيسين… الحق أقول لكم: إنّ في القائمين ههنا مَن لا يذوقون الموت حتى يعاينوا ملكوت الله آتياً في قدرة” (مر 8: 34- 37).
إنّ ملكوت الله الذي بدأ بمجيء المسيح وظهوره ظهوراً وضيعاً، سيعتلن بقدرة في موت المسيح وقيامته. وقد يكون هنا تلميح أيضاً إلى دمار أورشليم الذي سيفصل نهائياً الكنيسة عن الملّة اليهوديّة التي رفضت الإيمان بالمسيح.
إنّ التوبة التي يطلبها يسوع تصل إلى هذا الحد، إلى التخلّي عن منطق البشر وتبّني منطق المسيح. وهذا الارتداد الجذري إلى منطق الملكوت لا يستطيع إنسان أن يقوم به إن لم يكن متأصّلا في المسيح الذي هو مبدأ الملكوت وغايته، الألف والياء. لذلك. فإنّ المسيح هو “الوسيط الوحيد” لبلوغ أقصى الإيمان والتوبة والدخول في ملء الملكوت. وهو الذي فتح لنا الطريق وسار أمامنا: “لنسعَ بثبات في الميدان المفتوح أمامنا، شاخصين بأبصارنا إلى مُبدِئ الإيمان ومكمّله، إلى يسوع الذي، بدل السرور الموضوع أمامه، تحمّل الصليب- هازئاً بعاره- وجلس عن يمين عرش الله” (عب 12: 1- 3). ويسوع نفسه رأى ضعف تلاميذه، وقالت لبطرس: “حيث أذهب أنا لا تقدر الآن أن تتبعني، بيد أنّك ستتبعني في ما بعد. قال له: لِمَ يا ربّ لا أقدر الآن أن أتبعك؟ إنّي أبذل حياتي عنك. أجاب يسوع: أنت تبذل حياتك عني؟ الحق الحق أقوك لك: إنه لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات” (يو 13: 36- 38).
إنّ الطريق إلى الملكوت صعبة، لذلك لا بدّ من قوّة إلهيّة تفتحها، ويسوع هو “الطريق والحق والحياة، ولا يأتي أحد إلى الآب إلاّ به” (يو 14: 16).
ج) العهد الجديد بدم يسوع
لقد قدّم يسوع حياته لأجل رسله ولأجل الكثيرين، فكان موته أساساً لنشأة الكنيسة الممثّلة برسله، ودعوة إلى دخول الكثيرين، أي سائر الشعوب، فيها. وهذا المعنى قد أعطاه هو نفسه لموته عندما قال لرسله في أثناء العشاء السرّي: “هذا هو دمي، دم العهد الجديد، الذي يهراق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا” (متى 26: 28، لو 22: 30).
والعهد الجديد بدم المسيح هو الذي ينشئ الكنيسة، شعب الله الجديد، كما أنّ العهد القديم بدم الحيوانات، مع موسى، أنشأ شعب الله القديم. وفي هذا تقول الرسالة إلى العبرانيين:
“إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة يرشّ على المنجّسين فيقدّسهم لتطهير الجسد، فَلَكَم بالأحرى دم المسيح، الذي بروح أزلي قرّب لله نفسه بلا عيب، يطهّر ضميرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحي. ولذلك هو وسيط عهد جديد” (عب 9: 13- 15؛ راجع أيضاً: 10: 11- 18).
د) الإفخارستيا: الحضور الدائم لهذا العهد
كان الفصح في العهد القديم ذكرَ فداء الشعب اليهودي بخروجه من مصر على يد موسى، بواسطة الحمل الفصحي. وقد أراد المسيح أن يكون سرُّ الإفخارستيا ذكرَ فداء البشرية كلّها بدمه الذي سفكه على الصليب. فبعد أن أخذ الكأس وقال: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي”، أضاف: “إصنعوا هذا، كلّما شربتم، لذكري”. وبولس الذي يروي للكورنثيين “ما تسلّمه من الرب” يردف قائلاً: “فإنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب، إلى أن بجيء” (1 كو 11: 25، 26). إنّ العهد الجديد بين الله وجميع الشعوب يبدأ في جماعة صغيرة ثم يمتدّ إلى جميع البشر. وسرّ الإفخارستيّا هو سرّ امتداد هذا العهد.
كيف ذلك؟
قبل أن يغادر يسوع الجماعة التي أنشأها ترك لها في الإفخارستيا سرّ حضوره الشخصي. فيجب ألاّ تخاف من أنّ الموت الذي ينتظره سيبعده عنها، فإنّه حاضر معها، و يمكنها من ثمّ أن تثق بأنّها ستثبت حتى مجيئه الثاني المجيد. فإنّ ذبيحة يسوع، أي تقدمة ذاته تقدمة كاملة في جسده ودمه على الصليب، تصير حاضرة في هذا السر. فالجسد والدم هما كل الإنسان، لأنّ الجسد هو ما يربط الإنسان بالعالم الخارجي والدم هو علامة الحياة فيه. فالمسيح، في جسده ودمه، أي في كل كيانه، يصير حاضراً حضورا ًسرياً (أي في سرّ أو علامة الخبز والِخمر) في وسط جماعته. وعلى تلاميذه أن يعيدوا على مدى الزمن هذا الحضور ليشتركوا هم أيضاً في تقدمة يسوع و يجسّدوها في حياتهم. وبواسطة هذه التقدمة وهذا الاشتراك، أي تقدمة يسوع ذاتَه واشتراك البشر فيها، يستمرّ عهد الله مع البشر وعهد البشر مع الله حتى نهاية الزمن.
3- نشأة الكنيسة بقيامة يسوع وإرساله الروح القدس على تلاميذه
في صلاة “الذكر” التي تلي الكلام الجوهري في “ليتورجيا القدّيس يوحنا الذهبي الفم” نقول: “نذكر وصيّة المخلّص هذه وكل ما جرى لأجلنا: الصلب، والقبر، والقيامة في اليوم الثالث، والصعود إلى السماوات، والجلوس عن اليمين، والمجيء الثاني المجيد”.
لا يمكننا أن نفصل قيامة المسيح عن صلبه، فالصليب والقيامة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بحيث لا يقوم معنى للصليب من دون القيامة: “أما كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام، ويدخل في مجده؟” (لو 24: 26). إنّ قيامة يسوع، أي دخوله في مجد الله، هي في النهاية تحقيق ملكوت الله. لذلك فإنّ نشأة الكنيسة مرتبطة ليس فقط بتبشير يسوع وموته بل أيضاً بقيامته.
ء) الإيمان بقيامة يسوع أساس الكنيسة
إنّ حدث قيامة المسيح هو الحدث الذي تمَّ عليه انفصال الكنيسة المسيحية عن الشعب اليهودي. فالمسيحي هو الذي يؤمن أنّ يسوع قد قام، والكنيسة هي جماعة المؤمنين بقيامة المسيح.
لا شكّ أنّ التلاميذ آمنوا بيسوع في حياته، وإلاّ لما كانوا تبعوه. ولكنّ إيمانهم به لم يبلغ أبعاده الكاملة إلاّ عندما آمنوا بقيامته. لذلك فالقيامة هي الحدث الذي نشأت فيه الكنيسة كجماعة مؤمنة. لأنّه، يوم صلب يسوع، لم يكن واقفاً إلى جانبه إلاّ أمّه “والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه”، أي يوحنا الإنجيلي، وبعض النسوة. أمّا سائر الرسل فقد هربوا وتشتّتوا كالخراف، وصدق فيهم ما هو مكتوب: “سأضرب الراعي فتتبدّد خراف القطيع” (متى 26: 31). بيد أنّنا، يومَ قيامة يسوع، نراهم مجتمعين معاً ويسوع في وسطهم يقول لهم: “السلام لكم”، فيمتلئون فرحاً لرؤيته، ثمّ يرسلهم لمتابعة رسالته: “خذوا الروح القدس. فمَن غفرتم خطاياهم غُفرت لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسكت” (يو 20: 19- 23).
وإنّ ترائيات يسوع لرسله بعد قيامته تعبّر عن هذا الإيمان الذي به انتقل الرسل من فريق مشتّت إلى كنيسة مؤمنة مجتمعة حول المسيح الحيّ.
ب) رسالة الكنيسة: البلوغ بجميع الشعوب إلى الإيمان بالمسيح
إنّ معظم ترائيات يسوع لرَسله يرافقها إرسال للكرازة: “إذهبوا وتلمذوا جميع الأمر” (متى 28: 19)، “إذهبوا في العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها” (مر 16: 15)؛ “كما أنّ الآب أرسلني، كذلك أنا أُرسلكم” (يو 20: 21؛ راجع أيضا لو 24: 44- 49؛ أع 1: 8). فالإرسال للكرازة هو من صلب الكنيسة، لانّ الكنيسة ليست جماعة بعض المؤمنين بيسوع، بل هي دعوة الله إلى جميع الشعوب للاشتراك في الحياة الإلهية التي ظهرت في يسوع المسيح.
ج) إرسال الروح القدس يوم العنصرة: بدء رسالة الكنيسة
“ستنالون قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8). إنّ وعد يسوع لتلاميذه قد تحقق يوم العنصرة، “فامتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا يتكلمون بلغات أخرى… بعظائم الله” (أع 2: 4، 11).
كان عيد العنصرة عند اليهود ذكرى للعهد الذي قطعه الله مع شعبه على جبل سيناء وإعطائه إيّاه الشريعة على يد موسى. وبحلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة بدأ عهد جديد مع جميع شعوب العالم. وتشير إلى ذلك موهبة الألسن التي نالها التلاميذ للتكلُّم بلغاتَ مختلفة والإشادة بعظائم الله. فالألسن التي تبلبلت في برج بابل اتّحدت الآن بالروح القدس الذي سيكوّن من الشعوب المختلفة كنيسة الله الواحدة وشعب الله الجديد. والروح القدس الذي أُفيض على التلاميذ هو الشريعة الجديدة التي تنبّأ عن حلولها في قلوب المؤمنين يوئيل وأشعيا وحزقيال وإرميا:
“سيكون في الأيّام الأخيرة، يقول الله، أنّي أفيض من روحي على كل بشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم…” (يوء 2: 28؛ 2: 17)؛ “ها إنّها تأتي أيّام، يقول الرب، أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً… وهو أنّي أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً” (إر 31: 31- 33)؛ “أعطيكم قلباً جديداً، وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً.،. أجعل روحي في أحشائكم وأجعلكم تسلكون في رسومي…” (حز 36: 22- 28).
إنّ إرسال الروح القدس هو المرحلة الأخيرة من مراحل نشأة الكنيسة. يقول بطرس الرسول، في خطبته الأولى يوم العنصرة: “فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وتسمعون” (أع 2: 32، 33). فإنّ يسوع قد دخل، بالقيامة، في مجد الله. وبقيامة يسوع، أظهر الله أنّ فداء البشرية وخلاصها قد تحقّقا في شخص يسوع، رأس الجسد. وإرسال الروح القدس يهدف إلى تحقيق الخلاص في سائر أعضاء الجسد. يقول القديس كيرلّس الإسكندري: “الروح القدس هو عطر كيان الله، عطر حيّ ومحيٍ، يحمل إلى الخلائق ما هو من الله، ويجعلهم هو نفسه يشتركون في الجوهر الإلهي الذي يفوق كل جوهر”.
4- خلاصة
من بها ما سبق يمكننا استنتاج الخلاصة التالية عن نشأة الكنيسة وعلاقتها بملكوت الله وبيسوع المسيح:
ء) يسوع المسيح هو ملكوت الله
إنّ ملكوت الله هو محبة الله التي تنسكب على البشر فتشفيهم من أمراضهم ومن قوى الشرّ المسيطرة عليهم وتغفر لهم خطاياهم وتصالحهم مع الله. وقد ظهرت تلك المحبة في شخص يسوع المسيح بأعماله وعجائبه ومغفرته للخطايا، وظهرت ظهوراً فائقاً في موته على الصليب، الذي به افتدى العالم وغفر له خطاياه وصالحه مع الله، وفي قيامته من بين الأموات، التي بها دخل وأدخل البشرية معه إلى مجد الله.
إنّ ملكوت الله هو اتّحاد الله بالبشر، وتد تحقّق أوّلاً في نص يسوع الذي تمّ فيه اتّحاد الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانيّة (سرّ التجسّد)، وثانياً في العهد الجديد الذي تمّ بين الله والبشر بذبيحة يسوع على الصليب (سر الفداء)، وأخيراً في قمامة يسوع وإرساله الروح القدس ليحيي قلوب المؤمنين به.
وهكذا في المسيح تحرّرت فكرة الملكوت من ارتباطها بالمُلك الزمني، فالمسيح لم يأتِ ملكاً زمنياً، ومن ارتباطها بذبائح الحيوانات، فالمسيح قدّم ذاته، ومن ارتباطها بشعب خاص، فالمسيح مات لأجل جميع الشعوب.
ب) الكنيسة هي تجسيد الملكوت وتجسيد المسيح على مدى الزمن
عندما نقول إنّ المسيح هو الذي أنشأ الكنيسة لا نعني بذلك أنّ هناك عملاً معيّناً قام به المسيح يمكننا اعتباره العمل التأسيسي للكنيسة. فالكنيسة هي مواصلة سرّ المسيح في حياته وموته وقيامته.
ولكنّنا نستطيع القول إنّ الملكوت الذي تحقّق في شخص المسيح قد أراد المسيح نفسه أن يستمرّ على مدى الزمن ليتحقّق في كل إنسان وفي كل الشعوب. ففي حياته كرز بالتوبة والإيمان بمجيء الملكوت، ودعا إليه تلاميذ واختار من بينهم رسلاً، وعلَّمهم أسرار الملكوت، وقبل موته ترك لهم سرّ الإفخارستيا سرًّا لحضوره الدائم بيانهم ونقطة اتصال يلتقي فيها سرّ المسيح- الملكوت وسرّ الكنيسة- الملكوت. فاجتماع المؤمنين حول عشاء الرب هو معاً ذكر يجعل سرّ المسيح- الملكوت حاضراً في ماضيه (حياته وموته وقيامته) وحاضره (حضوره الحي بروحه القدّوس في وسط كنيسته) ومستقبله (مجيئه الثاني)، وعمل يكوّن الكنيسة- الملكوت على صورة المسيح. فالكنيسة، باشتراكها في سرّ المسيح في ماضيه وحاضره ومستقبله تصير على صورته ملكوت المحبة والمسامحة وعطاء الذات، وتدعو جميع الناس إلى الدخول في هذا الملكوت.
إنّ الكنيسة هي تجسيد على مدى الزمن لشخص يسوع وعمله الخلاصي، ولملكوت الله الذي ظهر به وفيه، إلى أن يبلغ الملكوت كماله في نهاية الزمن في الملكوت السماوي.
الفصل الثاني التعرف بالكنيسة
في الكتاب المقدّس تسميات كثيرة للكنيسة، أشار إليها المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي “نور الأمم” (رقم 6): فالكنيسة هي “حظيرة الخراف” (يو 10: 1- 10) التي يرعاها المسيح، و”حقل الله” (1 كو 3: 9)، والزيتونة والكرمة، و”بناء الله” (1 كو 3: 9) و”هيكل الله” حيث يسكن الله في الروح (اف 2: 19- 22؛ رؤ 21: 3)، و”أورشليم السماوية” و”أمّنا” (غلا 4: 26؛ رؤ 12: 17) والعروس النقية للحمل القدّوس (رؤ 19: 7؛ أف 5: 26). وإنّ كلّ هذه التسميات إذا ما أردنا أن نحصرها تُجمع في ثلاث هي: الكنيسة شعب الله، والكنيسة شركة وجماعة، والكنيسة جسد المسيح.
أوّلاً- الكنيسة شعب الله
1- شعب واحد في المسيح
إنّ بولس رسول الأمم (والأمم هي الشعوب التي ليست من نسل إبراهيم) قد أوضح في رسالته إلى الأفسسيين، وهم من أصل غير يهودي، أنّ جميع الشعوب من نسل إبراهيم ومن غير نمو أصبحت شعبًا واحدًا في المسيح:
“تذكّوا أنكم كنتم قبلاً- أنتم الأمم بحسب الجسد، المدعوين “قَلَفاً” ممّن يُدعَون “ختانًا”… بفعل اليد في الجسد- تذكّروا أنّكم كنتم قبلاً وقتئذٍ بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، غرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم في هذا العالم ولا إله. أمّا الآن، في المسيح يسوع، فأنتم الذين كانوا قبلاً بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح. لأنّه هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين واحدًا، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة، وأزال، في جسده، الناموس مع وصاياه وأحكامه، ليكوّن في نفسه من الاثنين إنسانًا واحدًا جديدًا، بإحلال السلام بينهما، ويصالحهـا مع الله، كليهما في جسد واحد، بالصليب الذي به قتل العداوة. فلقد جاء وبشّر بالسلام لكم، أنتم البعيدين، وبالسلام للذين كانوا قريبين. لأنّ به، لنا كلينا، التوصّلَ إلى الآب، بروح واحد. ومن ثمّ، فلستم بعد غرباء ولا نزلاء، بل أنم مواطنو القدّيسين، وأهل بيت الله. أنتم بناء أساسُه الرسل والأنبياء، ورأس الزاوية المسيح يسوع نفسه، الذي فيه يُنسَق البناء كلّه، ويرتفع هيكلاً مقدّسًا، في الرب. وفيه أنتم أيضاً تندمجون في البناء لتصيروا مسكنًا لله، في الروح” (أف 2: 11- 22).
ويضيف بولس أنّه في القيود لأنّه رسول الأمم: “أنا بولس أسير المسيح يسوع من أجلكم، أيّها الأمم”. ثم يكشف لهم “السر الذي لم يُعلَن لبني البشر في الأجيال السابقة، كما أعلنه الآن الروح لرسله القدّيسين وأنبيائه: أي إنّ الأمم هم من أهل الميراث الواحد، وأعضاء في الجسد الواحد، وشركاء في الموعد الواحد، في المسيح يسوع بالإنجيل، الذي صرت له خادمًا، على حسب موهبة النعمة، التي منَّ بها الله عليّ، بفعل قدرته” (أف 3: 1- 7).
وعندما يتكلّم بولس عن مواعد الله، يؤكّد أنّها قد تحقّقت كلّها على أكمل وجه في المسيح:
فالميراث الذي وعد به الله إبراهيم لم يعد أرضاً مادّية، أرض كنعان، بل أصبح ملكوت الله: “إنّ الله يدعوكم إلى ملكوته ومجده” (1 تسا 2: 12). والوارث لم يعد نسل إبراهيم بالجسد بل المسيح نفسه وكل الذين يؤمنون به: “إنّ المواعد قد تيلت لإبراهيم ولنسله. إنّه لا يقول: لأعقابه، بالجمع، بل لنسلكَ، بالإفراد، ونسله هو المسيح” (غلا 3: 16). والذين يؤمنون بالمسيح يصبحون ورثة معه. وهذا ما يؤكده بولس في المقارنة التي يقيمها بين الإيمان والناموس:
“أيّها الغلاطيون الأغبياء، من سحركم، أنتم الذين رُسم أمام عيونهم يسوع المسيح مصلوبًا؟ لا أريد أن أعرف منكم سوى أمر واحد: أبأعمال الناموس نلتم الروح أم بسماعكم الإيمان؟… فهكذا إبراهيم: “آمن بالله، فحُسب له ذلك برًا”. فافهموا إذن أنّ المؤمنين هم وحدهم أبناء إبراهيم. ولذلك، فإنّ الكتاب إذ سبق فرأى أنّ الله يبرّر الأمم بالإيمان، سبق فبشّر إبراهيم قائلاً: “بك تتبارك جميع الأمم”. فالمؤمنون إذن وحدهم يبارَكون مع إبراهيم المؤمن” (غلا 3: 1- 9).
أمّا الناموس الذي أعطي لليهود فلم يكن سوى
“مؤدّب يرشدنا إلى المسيح، لكي نبرّر بالإيمان. فبعد إذ جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدّب. لأنّكم جميعًا أبناء الله، بالإيمان بالمسيح يسوع. لأنّكم، أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح. فليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر “ليس ذكر وأنثى” لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح، فأنتم إذن نسل إبراهيم وورثة بحسب الموعد” لم غلا 3: 24- 29).
فالكنيسة التي تضمّ جميع المؤمنين بالمسيح هي إذن الآن شعب الله الجديد الذي يرث مواعد الله. هي شعب الله المختار الذي اختاره الله ليحمل الله وخلاصه بالمسيح يسوع إلى جميع الأمم، وهي مكوّنة من جميع الذين آمنوا بالمسيح، من اليهود أم من اليونانيين أم من جميع الشعوب، وعبّروا عن إيمانهم بتقبّل المعمودية.
وهذا ما يوضحه المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائديّ “في الكنيسة”:
“إنّ من بتّقي الله ويعمل البر، في كل زمان، وكل أمّة، لمقبول عند الله (أع 10: 35). وإنّما شاء الله أن يقدّس الناس ويخلّصهم، لا متفرقين بدون ما ترابط في ما بينهم، بل أراد أن يجعلهم شعباً يعرفه في الحقيقة ويخدمه في القداسة. فاختار لنفسه شعب إسرائيل شعباً، وقطه معه عهداً، ونشّأه شيئًا فشيئًا، مظهرًا له نفسه ومقاصده في غضون تاريخه، ومقدّسًا إيّاه لنفسه. بيد أنّ هذا كلّه كان على سبيل التهيئة والرمز للعهد الجديد الكامل الذي سيُبرَم في المسيح، وللوحي الكامل الذي سينزل به كلمة الله المتجسّد نفسه: “ها إنّها تأتي أيّام، يقول الرب، أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهدًا جديدًا… فأجعل شريعتي في أحشائهم، وأكتبها في قلوبهم، وأكون إلههم ويكونون شعبي… وكلّهم سيعرفونني من أكبرهم إلى أصغرهم، يقول الرب” (إر 35: 31- 34). فهذا العهد الجديد هو العهد الذي أبرمه المسيح، العهد الجديد بدمه، داعيًا اليهود والأمّيين ليجعل منهم شعبًا يجتمع في الوحدة، لا بحسب الجسد بل بحسب الروح، ويصير شعب الله الجديد. ومن ثمّ فإنّ الذين يؤمنون بالمسيح- وقد ولدوا ثانية لا من زرع قابل الفساد بل من زرع لا يفسد، وهو كلمة الله الحي (1 بط 1: 23)، ولا من الجسد بل من الماء والروح القدس (يو 3: 5، 6)، أُقيموا أخيراً “ذرية” مختارة، كهنوتًا ملوكيًا، أمّة مقدّسة، شعبًا مقتنى… لم يكونوا من قبل شعبًا فصاروا اليوم شعب الله (1 بط 2: 9، 10).
فهذا الشعب المسيحي رأسه المسيح “الذي اسم من اجل خطايانا وقام لأجل برّنا” (رؤ 4: 25)، الذي، بعد إذ نال اسمًا لا اسم فوقه، يملك الآن مجيدًا في السماوات. وهذا الشعب حاله حال الكرامة وحرّية أبناء الله، في قلوبهم يسكن الروح القدس سكناه في هيكله. وشريعته الوصية الجديدة: أن يحبّ كما أحبّنا المسيح نفسه (يو 13: 34). وغايته أخيرًا ملكوت الله الذي بدأه الله نفسه على الأرض، وعليه أن يمتدّ من بعد إلى أن يتمّه الله نفسه، في آخر الزمان، عندما يظهر المسيح حياتنا (كو 3: 4)، “وتُعتَق الخليقة من عبودية الفساد إلى حرية مجد أبناء الله” (رو 8: 21). وهذا الشعب المسيحي، وإن كان بعد لا يضمّ في الواقع جميع الناس، ويبدو في الغالب بمظهر القطيع الصغير، فهو مع ذلك للجنس البشري برمّته خمير وحدة ورجاء وخلاص بالغ الفعالية. لقد أقامه المسيح شركة حياة ومحبة وحقيقة، وهو في يده أداة فداء لجميع الناس، وأرسله في العالم كلّه نورًا للعالم وملحًا للأرض (متى 5: 13- 16)
“وكما أنّ إسرائيل بحسب الجسد قد دعي، فيما كان سالكًا في القفر، بكنيسة الله (2 عز 13: 1؛ عد 20: 4؛ تث 23: 1 وما بعده)، كذلك إسرائيل الجديد، السالك في الدهر الحاضر في طلب المدية الآتية الباقية (عب 13: 14)، قد دعي هو أيضاً بكنيسة المسيح (متى 16: 18)، لانّه هو الذي اقتناها بدمه (أع 20: 28)، وملأها من روحه، وجهّزها بالوسائل المؤاتية لأجل اتحادها الظاهر المجتمعي. فإن الله قد دعا جماعة الذين في الإيمان ينظرون إلى يسوع، صانع الخلاص ومبدإ الوحدة والسلام، وأنشأ مدنهم الكنيسة لكي تكون للجميع ولكل واحد منهم السر المنظور لهذه الوحدة الخلاصية. ولمّا كان عليها أن تمتد إلى جميع المناطق دخلت تاريخ البشر على كونها تتخطى حدود الشعوب في الزمان والمكان. وإذ تسلك الكنيسة طريقها في وسط المحن والشدائد يعضدها الله بقوة نعمته التي وعدها الرب بها لئلا تخلّ بالأمانة الكاملة بسبب وهن الجسد، بل تظلّ لربها العروس الخليقة به، وتستمر على التجدد الذاتي بفعل الروح القدس، إلى أن تبلغ في طريق الصليب النور الذي لا يعقبه غروب”.
من هذا النص يمكننا استنتاج الأمور التالية:
أوّلاً، هناك تحمل بين شعب الله في العهد القديم وشعب الله في العهد الجديد. فالكنيسة هي إذاً وارثة لماضٍ قديم، تاريخها يعود إلى إرادة الله منذ فجر التاريخ بتكوين شعب له مقدّس.
ثانيًا، إنّ الكنيسة لم تنشأ عن إرادة بشر ولا عن أعمالهم الخاصة، إنّما “لكي يثبت قصد الله بحسب اختياره، لا من قبل الأعمال بل من قبل الذي يدعو” (رو 9: 11). لقد نشأت عن الخلاص المجّاني الذي حصل عليه البشر بالمسيح الذي، بدمه، أنشأ عهدًا جديدًا مع الله. إنّها وليدة دعوة مجانية من الله: “إنّ الذي سبق فحدّدهم، إيّاهم دعا أيضاً. والذين دعاهم، إيّاهم برّر أيضاً. والذين بررهم، إيّاهم مجّد أيضاً” (رو 8: 30)
ثالثًا، إنّ جميع أعضاء هذا الشعب هم مقدّسون، إذ أصبحوا بالفداء أبناء الله وهياكل الروح القدس. فالمسيح قد “أحبّنا وغسلنا بدمه من خطايانا، وجعلنا ملكوتًا وكهنة لإلهه وأبيه” (رؤ 1: 6). فهناك إذًا مساواة جذرية بين أعضاء شعب الله، إذ يشتركون كلّهم في كهنوت المسيح، وإن تنوّعت الخدم بين الكهنوت والعلمانيين (راجع “كهنوت المؤمنين المشترك” في دستور المجمع الفاتيكاني الثاني “في الكنيسة”، رقم 10).
رابعًا، إنّ دعوة الله للدخول في شعبه هي دعوة جامعة تشمل جميع الناس وضح الشعوب. لذلك فإنّ شعب الله هو في نمو دائم. وإن بدا في الغالب بمظهر القطيع الصغير، غير أنّه خمير وحدة ورجاء وخلاص للجنس البشري برمّته.
أخيرًا، إنّ هذا الشعب يسير في تاريخ البشر سيرًا واثقًا نحو غايته الأخيرة، وهي ملكوت الله الذي بدأ على الأرض وعليه أن يمتدّ حتى ظهور المسيح الأخير. إنّ دعوة الله هي دعوة ديناميكية تجعل من البعد الاسكتولوجي بعدًا أساسيًا في الكنيسة يحملها على التجدد الدائم إلى أن تبلغ “النور الذي لا يعقبه غروب”.
2- تكوين شعب الله وامتداده في التاريخ
ء) الكنسية والأمم
إنّ انتقال “شعب الله” من الأمّة اليهودية إلى الكنيسة المكوّنة من مختلف أمم العالم هو الدليل على أنّه لا يسع أيّ أمّة أن تصير شعب الله إن لم يكن مع أمم أخرى ودون هيمنة من أمة على غيرها. وهذا يفرض على كل أمّة أن تكفر بذاتها وبالغريزة التي تدفعها إلى التسلّط على سائر الأمم لامتصاصها. هذا الصليب لا بد لكل أم العالم من حمله ليتكوّن شعب الله. فكما أنّ الكنيسة نشأت من صليب المسيح، كذلك لا يمكنها أن تنمو إلاّ بحمل هذا الصليب مع المسيح. لقد رفض المسيح أن يكون ملكًا زمنيًا، لأنّ “ملكوته ليس من هذا العالم” (يو 18: 36)، أي ليس من روح هذا العالم ولا بحسب منطق هذا العالم وممالكه. والكنيسة إلى تحسّد ملكوت الله في هذا العالم لا يمكنها أن تثبت إلاّ إذا ثبت فيها روح الصليب الذي يطلب لا قتل الآخرين بل الموت عنهم، لا الهيمنة عليهم بل الحياة معهم كأعضاء في شعب واحد.
إن الخطر كبير في أن تحاول الكنيسة- وقد حدث ذلك في الأمّة اليهودية ويحدث في الأمم المعاصرة- التهرّب من هذا الصليب، فإنّها عندئذ تنغلق على سياسة أمّة معينة، وتنجرف في الصراعات الحتمية بين الأمم. فالمطلوب من الكنيسة أن تكون ضمير الأمم كلّهما لتذكّرها بنهج المسيح المصلوب ونهج شعب الله، وتدعوها إلى تحقيق فداء المسيح في وحدة البشرية كلّها.
ب) كيف ينمو شعب الله؟ الرسالة في الكنيسة
إنّ الرسالة هي من صميم الكنيسة، لا تستطيع أن تهملها دون أن تتلاشى، لأنّ الكنيسة هي دعوة جميع الشعوب لتكوّن شعب الله الواحد. فالكنيسة إذًا تكون مرسلة أولا تكون. وتتحقق هذه الرسالة على صعيدين، بالكرازة المباشرة، وبالكرازة غير المباشرة.
أمّا الكرازة المباشرة فهي دعوة غير المؤمنين إلى الإيمان بمجيء الملكوت في شخص المسيح، أي إلى الإيمان بالمسيح. فالعلاقة مع المسيح هي التي تجعل من الكنيسة شعب الله. لذلك يصير الإنسان عضوًا في شعب الله بالإيمان بالمسيح وتقبل الأسرار، ولا سَيّمَا سرّي المعمودية والأفخاريستيا، التي فيها يشترك المؤمن في حياة المسيح وسر موته وقيامته. فإنّ الإيمان والأسرار هما العنصران الجوهريان اللذان يكوّنان شعب الله، فيهما يتحقّق على مدى الزمن العهد الجديد الذي خُتم بدم المسيح بين الله والبشر، والذي هو عهد جماعي مع الشعب كلّه وعهد شخصي مع كل عضو من أعضاء هذا الشعب. وإنّ الروح القدس الذي أفاضه الله على الشعب قد أفاضه في قلب كل مؤمن، وهو الذي يدعوه إلى الإيمان والارتداد الشخصي . وهذا الإيمان وتقبّل الأسرار يتكون شعب الله وينمو على مدى الزمن والتاريخ. فالكنيسة، شعبُ الله، هي إذًا جماعة تلتئم لتعبّر عن إيمانها بالمسيح وتحيا أسراره.
وأمّا الكرازة غير المباشرة فهي الشهادة للقيم التي بشّر بها المسيح في تعليمه وحياته وموته، والعمل على تجسيد هذه القيم في المجتمعات البشرية، دون الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالمسيح والمعمودية. فالرسالة ملحّة، لأنّ ملكوت الله قد جاء في المسيح، ولا بدّ من التبشير بالمسيح. ولكنّ التبشير يجب أن يتكيّف مع الأوضاع التاريخية التي يحيا فيها الناس، وهو تبشير بالقيم التي بشّر بها المسيح، والتي هي ممكنة في جميع الأوضاع وتلخّص بالمحبة المتبادلة بين جميع الناس، وتنتج من الإيمان بأنّ جميع الناس هم أبناء الإله الواحد، “الآب الذي في السماوات، الذي يطلع شمسه على الأضرار والصالحين، و يمطر على الأبرار والأثمة” (متى 5: 45).
ج) من يمثّل الكنيسة؟ أين نجد الكنيسة؟
بقولنا إنّ الكنيسة هي شعب الله، نؤكّد أنّ من يمثّل الكنيسة هو أوّلاً الشعب كلّه، جماعة وأفرادًا، من حيث إيمانه بالمسيح وعلاقته به. وعلى هذا الصعيد لا فرق بين الأساقفة والكهنة والعلمانيين، فكلّهم على حد سواء أبناء الله وأعضاء في شعبه. لا شكّ أنّ هناك وظائف وخدمات متنوّعة في الكنيسة، وأنّ هناك نخبة من الأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيين تبشّر وتعلّم وتجاهد لنقل الإيمان ونشره. لكنّ هذه النخبة لا تمثّل وحدها الكنيسة شعب الله. ثمّ إنّ الهدف من الكرازة هو، بحسب قول بولس الرسول، “جعل كل إنسان كاملاً في المسيح” (كو 1: 28)، ومساعدته على إنشاء علاقة خاصة معه و تجسيد شخص المسيح وتعاليمه في كل ميادين العالم ومرافق الحياة.
فأين نجد الكنيسة إذًا؟ نجدها أوّلاً حيث يعمل روح المسيح. ومن يمثّل الكنيسة؟ يمثلها أولاً الذين يجسّدون في حياتهم حياة المسيح، كهنة كانوا أم علمانيين. فإنّ كل مسيحي يمثّل الكنيسة بقدر ما يحيا حياة المسيح.
إنّ كرامة أبناء الله تسبق وتفوق الكرامة الناجمة عن الكهنوت والأسقفية. وهذا ما أشار إليه المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي “في الكنيسة”، عندما تكلّم في الفصل الثاني عن “شعب الله” قبل أن يعرض في الفصل الثالث “نظام السلطة في الكنيسة ولا سيّمَا الأسقفيّة”. إنّ هذا الترتيب قد أراده آباء المجمع للتأكيد أنّ أوّلية “الكيان المسيحي” بالنسبة إلى نظام السلطة في الكنيسة، لا سيّمَا أنّ السلطة هي “في خدمة جميع المنتمين إلى شعب الله لينعموا بالكرامة المسيحية الحقة” (رقم 18 من الدستور العقائدي “في الكنيسة”).
هكذا صنع يسوع نفسه، إذ جمع أوّلاً حوله تلاميذ، ثم اختار من بينهم اثني عشر رسولاً، وبعد ذلك اختار بطرس من بين الاثني عشر ليثبّت إخوته ويرعى شعبه.
إنّنا بتأكيدنا أنّ الكنيسة تتمثّل أوّلاً بالشعب المؤمن، لا نهدف إلى التقليل من أهمّية السلطة في الكنيسة، بل إلى إعادة التوازن في الأهمّية والأدوار بين “الكيان المسيحي” من جهة “والخدمات المتنوعة” من جهة أخرى “لتنظيم القدَيسين في سبيل بنيان جسد المسيح”، حسب قول بولس الرسول (أف 4: 12).
ونضيف الآن أنّ الكنيسة تتمثّل أيضاً في السلطة الكنسية، ولا سيّمَا في الأساقفة الذين يكمّلون كرازة الرسل أساس الكنيسة: “أنتم بناء أساسه الرسل والأنبياء، ورأس الزاوية المسيح يسوع نفسه” (أف 2: 20). وسنتوسّع في ذلك في حديثنا عن “رسولية” الكنيسة.
ثانياً- الكنيسة أسرة روحية يشترك أعضاؤها معًا في حياة الله
1- الأسرة الروحية: الكنيسة أمّ والمسيحيّون إخوة
الكنيسة هي شعب الله. إنّ هذا التعريف الأوّل يتّضح بالتعريف الثاني الذي يؤكّد أنّ أعضاء هذا الشعب يشتركون في حياة الله. ورباط الشركة في الحياة الإلهية يجعلهم إخِوة في أسرة واحدة. فالكنيسة أسرة روحية تعيش من حياة الله التي ظهرت في شخصِ يسوع المسيح كلمة الله. وكما أنّ الإنسان يولد في عائلة تعطيه الغذاء والحنان، ويشترك ني خيراتها الجسدية والروحية مع أب وأم وإخوة، هكذا يولد المسيحي في عائلة روحية تسكب في قلبه محبة الله للبشر، تلك المحبة التي ظهرت للعالم في المسيح ولا تزال تستمرّ بواسطة الإنجيل والأسرار وتغدق عليه نعمة الله وحياته الإلهية. ففي الكنيسة يشترك المؤمن في حياة الله الآب والابن والروح القدس مع إخوة له مؤمنين.
لقد دُعيت الكنيسة أُمًّا، لأنّه فيها يولد المؤمن من جديد للحياة الإلهية. إنّ الكنيسة لم تتكوّن، كما تتكوّن سائر الجماعات البشرية، بقرار اتّخذه بعض الناس بالاجتماع معًا لتحقيق هدف معيّن. فللدخول في سر الكنيسة يجب التأكيد أنّ هناك معطيات تسبق إرادة البشر في الاجتماع معًا، هناك حقيقة جديدة تكوّنت بالعهد الجديد الذي تمّ في المسيح بين الله والبشر. فقبل إرادة البشر حقّق الله المصالحة الشاملة بينه وبين الناس بحسب قول بولس الرسول: “إنّ الله هو الذي صالح، في المسيح، العالم مع نفسه، ولم يحسب عليهم زلاّتهم، وأودعنا كلمة المصالحة”. لذلك “إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة” (2 كو 5: 17- 19).
والدخول في الكنيسة هو، بحسب قول يسوع لنيقودموس، ولادة جديدة: “ليس أحد يقدر أن يدخل ملكوت السماوات، ما لم يولد من الماء والروح” (يو 3: 5). وهذا ما يعنيه بولس الرسول بقوله للغلاطيين: “يا أولادي الصغار، الذين أتمخّض بهم من جديد إلى أن يتصوّر المسبح فيهم” (غلا 4: 19).
إنّ الكنيسة هي عروس المسيح التي تلد أولادًا للحياة الإلهية. إنّها، كما جاء في سفر الرؤيا، “أورشليم الجديدة، التي نزلت من السماء من عند الله مهيّأة كعروس مزيّنة لعريسها” (رؤ 21: 9). إنّها عروس المسيح، “الذي أحبّها وبذل نفسه لأجلها ليقدّسها بغسل الماء والكلمة، إذ كان يريد أن يزفّها إلى نفسه كنيسة مجيدة، لا كلف فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك، بل مقدّسة، عيب فيها” (أف 5: 25- 27).
وفي هذه الأسرة الروحية يقدّس المسيح جميع المسيحيين ويغذّيهم بالكلمة، أي بالإنجيل، وبالماء، أي بالمعمودية وسائر الأسرار، ولا سيّمَا سر الإفخاريستيا المنّ السماوي.
في المسيح، يصير جميع المؤمنين إخوة يعيشون الشركة في الإيمان الواحد والشركة في الأسرار الواحدة، على غرار الشركة التي تتحقّق بين إخوة في أسرة واحدة في قرابة الدم وشراكة المسكن والمأكل والمشرب والحياة. إنّ اشتراك المسيحيين هو اشتراك في منابع الحياة التي منها تنبثق حياتهم المسيحية وبها تتغذى لتنمو وتدوم.
2- الكنيسة مؤسَّسة فيها خِدَم متنوّعة
إنّ رباط الشركة والأخوّة بين المسيحيين لا يمكن أن يتحقّق إلاّ إذا دخل الإنسان بالإيمان في هذا الرباط. والإيمان يقتضي الرسالة، والرسالة تتطلّب الخدم المتنوعة: “يؤمنون به إن لم يسمعوا به، وكيف يسمعون به بلا مبشّر، وكيف يبشّرون إن لم يرسَلوا… فالإيمان إذن البشارة، والبشارة بأمر من المسيح” (رو 10: 14- 17). لا يمكن الاكتفاء في الكنيسة “بشركة الأخوّة”، ذاك الرباط السري الذي يربط المسيحيين بعضهم ببعض، وإهمال الخدم. يقول بولس الرسول:
“لا جرم أنّ المواهب على أنواع، إلاّ أن الروح واحد، وإن الخدم على أنواع، إلاّ أن الرب واحد، وإنّ الأعمال على أنواع، إلاّ أنّ الله واحد، وهو يعمل كل شيء في الجميع. وكل واحد إنّما يعطى إظهار الروح للمنفعة العامة. فالواحد يعطى، من قبل الروح، كلام حكمة، والآخر كلام علم، بحسب الروح عينه، والآخر الإيمان، بذلك الروح عينه، والآخر موهبة الشفاء بالروح الواحد عينه، وآخر إجراء العجائب، وآخر النبوّة، وآخر تمييز الأرواح، وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة. وهذه كلّها يفعلها الروح الواحد بعينه، موزّعاً، كيف شاء، كل واحد خصوصاً” (1 كو 12: 4- 11).
تتّخذ الكنيسة في الزمن الحاضر شكل “مؤسّسة” فيها خدم متنوّعة وهذه الخدم لا بدّ منها لإظهار غزارة مواهب الروح وإنماء الحياة في أعضاء الكنيسة. أمّا تنظيم هذه الخدم فلا يمكن أن يُترَك لحرية كل مسيحي، بل يعود إلى الأساقفة خلفاء الرسل، الذين أو إليهم المسيح مهمة رعاية الكنيسة، حسب قول بولس الرسول لأساقفة كنيسة أفسس:
“إحذروا لأنفسكم ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص”. تم يضيف: “وإنّي لعالم بأنّه بعد فراقي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة، لا تشفق على القطيع، ومنكم أنفسكم سيقوم رجال يحاولون بأقوالهم الفاسدة أن يجتذبوا التلاميذ وراءهم. فاسهروا إذن، وتذكّروا أنّي، مدة ثلاث سنوات، لم أكفّ ليلاً ونهاراً عن نصح كل واحد منكم بالدموع” (أع 20: 28- 31).
ويوصي بولس أساقفة تلك الكنيسة بالسهر على إيمان القطيع الذي أوكل إليهم، وتلك إحدى النواحي التي تهدف الخدم المتنوّعة في الكنيسة إلى تحقيقها. وفي مواضع مختلفة من الرسائل يؤكّد بولس ضرورة اهتمام الأساقفة والكهنة بالتمسك بالكلام الصحيح (2 تي 1: 13- 14؛ 1 تي 1: 9) وبوديعة الإيمان (1 تي 6: 20 “يا تيموثاوس، احفظ الوديعة”).
إذن الإيمان والأسرار والمسؤولية الرعائية هي النواحي الثلاث الأساسية التي تدور حولها جميع المؤسّسات الكنسية وجميع الخدم الكهنوتية، وهي تكمّل إحداها الأخرى: فالأسرار تعبّر عن الإيمان وتنميه، والمسؤولية الرعائية هي في خدمة الإيمان والأسرار، وكلّها تهدف إلى سكب حياة الله في قلوب المسيحيين ومن خلالهم في مختلف مرافق العالم. إنّ المؤسّسات الكنسية لا يمكنها أن تكون مؤسّسات جامدة، فلقد أرادها المسيح ينبوع حياة، وعلى الكنيسة أن تقوم “بإصلاح دائم في مؤسّساتها البشرية الأرضية”، على قول المجمع الفاتيكاني الثاني (الحركة المسكونية، رقم 6).
3- الأخوّة المسيحية حقيقة روحية تتخطّى الأخوّة البشرية
إنّ رباط الأخوّة الذي يربط المسيحيين بعضهم ببعض هو رباط روحي إلهي. فبيسوع المسيح نحن إخوة بعضنا لبعض. إنّ قريبي هو أخي بسبب ما صنعه المسيح لأجله، وأنا أخ لقريبي بسبب ما صنعه المسيح لأجلي. إنّ هذا الرباط هو حقيقة مختلفة عن كل ما يمكن تحقيقه على الصعيد البشري والنفساني. فالمساجين والمرضى والمشرّدون في الشتات، والمرسلون إلى البلاد النائية غالباً ما يشعرون بالعزلة على الصعيد الإنساني والنفساني. وقد يشعر بتلك العزلة المسيحيون العائشون في العالم، والرهبان العائشون في “حياة مشتركة” في الأديرة. فإنّ تحقيق الأخوّة تحقيقاً محسوساً، بحيث يشعر المسيحي بدفء الأخوّة المسيحية، أمر ثانوي بالنسبة إلى الإدراك الروحي العميق للرباط الذي يربط المسيحي بأخيه المسيحي. فهناك في أغلب الأحيان مفارقة لا بدّ للمسيحيّ من حملها والاضطلاع بها بين الأخوّة الروحية والشعور النفساني الحسي بحرارة تلك الأخوّة.
ثمّ إنّ الأخوّة المسيحية لا ثقتصر على العلاقات بين الأشخاص القريبين بعضهم من بعض، بل تتعداهم إلى جميع البعيدين عنّا والذين لا نعرفهم.
وأخيراً تعمل المحبة المسيحية ليس فقط في الأشخاص بل أيضاً في جميع الشرائع والبنى الاقتصادية والسياسية التي تؤثّر في عمل الناس وحياتهم. فكل تلك الشرائع والبنى العالمية مدعوّة إلى أن تمتلئ بروح الأخوّة التي يحياها المسيحيون بعضهم مع بعض.
وهكذا تمتدّ الكنيسة، حياة الله بين البشر، ليس فقط بين المسيحيين، بل بين جميع الناس وفي جميع المؤسسات العالمية امتداد الخمير في العجين، إلى أن يصل جميع الناس إلى إدراك حياة الله الواحد في ذواتهم وفي العالم أجمع، ويسبّحوا بفم واحد وقلب واحد اسم الله الواحد، الآب والابن والروح القدس.
ثالثاً- الكنيسة جسد المسيح
1- غاية التجسد تأليه الإنسان
“لماذا صار الإله إنساناً”؟ “لكي يصير الإنسان إلهاً”. هذ هو جواب آباء الكنيسة الشرقية منذ القدّيس إيريناوس. فغاية التجسّد ليست التكفير عن الخطيئة الأصلية بل تأليه الإنسان بولادته ولادة جديدة في المسيح وعلى صورة المسيح. إنّ القدّيس إيريناوس يرى أنّ الخطيئة ليست حادثاً غيّر قصد الله فقرّر إرسال ابنه لخلاص العالم، بل إن تجسّد ابن الله هو في قصد الله منذ خلق العالم. إنّ العالم خلق طفلاً، والخطيئة هي مرحلة عابرة ملازمة لحالة الإنسان قبل بلوغه. في المسيح بلغ الإنسان كمال الإنسانية، في المسيح ظهر “الإنسان البالغ”. وزمن الكنيسة هو الزمن الذي يدعى فيه كل إنسان ليحقّق في ذاته “حالة الإنسان البالغ وملء اكتمال المسيح” (أف 4: 13).
وهذا الإنسان البالغ هو “الإنسان الجديد” الذي يتكلّم عنه بولس الرسول في رسالته إلى الأفسسيين حيث يجمع بين “الإنسان البالغ” و “الإنسان الجديد”:
“ومن ثمّ، فلا نكون بعد أطفالاً تتقاذفنا الأمواج، وتعبث بنا كل ريح تعليم على هوى مكر الناس وخبثهم في طرق التضليل، بل نعتصم بالحق في المحبة فننمو في كل وجه، مرتقين نحو من هو الرأس، أي المسيح، الذي منه ينال الجسد كلّه التنسيق والوحدة، وبتعاون جميع المفاصل، على حسب العمل المناسب لكل عضو، ينشئ لنفسه نمواً، ويبنى في المحبة” (أف 4: 14- 16).
وبعد هذا التوسّع في نمو الإنسان إلى المسيح، يتابع الرسول فيتحدّث عن الإنسان الجديد:
“ينبغي لكم أن تخلعوا عنكم، ما هو من أمر حياتكم السالفة، الإنسان العتيق، الفاسد بشهوات الغرور، وأن تتجدّدوا في صميم أذهانكم، ودق تلبسوا الإنسان الجديد، الذي خُلق على مثال الله في البرّ وقداسة الحق” (4: 2- 24).
وحتى يستطيع الإنسان أن يحيا حياة الله كان لا بدّ أن يصبح الإله إنساناً ليرفعه إليه، كان لا بدّ أن يأتي آدم الثاني إنساناً روحياً، إنساناً “نازلاً من السماء”. إن هذا التعبير المكاني هو صورة بشرية لحقيقة هوى إلهية هي أن المسيح هو ابن الله، هو “إنسان كامل وإله كامل”، بحسب تعبير مجمع خلقدونية. وهذا ما يعينه بولس بقوله:
“جُعل الإنسان الأوّل، آدم، نفساً حية، وآدم الآخر روحاً محيياً. ولكن لم يكن الروحاني أوّلاً، بل الحيواني ثم بعدئذٍ الروحاني. الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال التراب يكون الترابيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما لبسنا صورة الترابي فلنلبس أيضاً صورة السماوي” (1 كو 15: 45- 49).
وهذا ما يعنيه أيضاً يسوع بقوله “إنّه لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر الكائن في السماء” (يو 3: 13).
إن تأليه الإنسان لا يزيل طبيعته الإنسانيّة. فكما أنّ الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية اتّحدنا في شخص المسيح “دون اختلاط ولا انفصال”، بحسب قول المجمع الخلقيدوني عن المسيح الإله والإنسان، كذلك في الإنسان المؤله بالمسيح تبقى الطبيعة الإنسانية كاملة، ولكنّ النعمة تضفي عليها بعداً جديداً هو بعد الإتحاد بحياة المسيح وكيان المسيح، حتى يتصوّر المسيح في الإنسان. يقول متوديوس الأوليمبي: “كأنّ الكنيسة حبلى وفي المخاض، إلى أن يتصوّر المسيح في كلّ منا، بحيث يشترك كل من القدّيسين في المسيح، ويصير مسيحاً”.
2- الكنيسة جسد المسيح
أ) الكنيسة أعضاء مختلفة متّحدة برأس واحد هو المسيح
إنّ إتحاد المسيحيين جميعهم بالمسيح يجعلهم، على كونهم أعضاء مختلفة، جسداً واحداً: “فكما أنّ الجسد واحد، وله أعضاء كثيرة، وأنّ جميع أعضاء الجسد، مع كونها كثيرة، هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضاً. فإنّا جميعاً قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهوداً كنّا أم يونانية، عبيداً أم أحراراً، وسقينا جميعاً من روح واحد” (1 كو 12: 12، 13).
بالمعمودية يصبح المسيحيون واحداً في المسيح. وكذلك بالإفخارستيا: “كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة في دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره أليس هو شركة في جسد المسيح؟ فبمَا أن الخبز واحد، فنحن الكثيرين جسد واحد، لأنّا جميعاً نشترك في الخبز الواحد” (1 كو 10: 16، 17)
إنّ الكنيسة جسد واحد يحيا فيه جميع الأعضاء من حياة الله التي ظهرت للبشر في يسوع المسيح، ولا تزال تُمنح لهم في الأسرار المقدّسة. والمسيح هو رأس هذا الجسد: “إنه رأس الجسد، أي الكنيسة. إنّه المبدأ، البكر من بين الأموات، لكي يكون هو الأوّل في كل شيء، ففيه ارتضى الله أن يُحلَّ الملء كلّه” (كو 1: 18). ففي المسيح يحلّ ملء اللاهوت، “وهو الرأس الذي ينال الجسد كله التنسيق والوحدة” (أف 4: 16). والمسيح هو “مبدأ ائتلاف” كل أعضاء الجسد.
ثمّ إنّ قصد الله هو “أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح، كل شيء، ما في السماوات وما على الأرض” (أف 1: 10). “لقد أخضع الله كل شيء تحت قدميه، وأقامه، فوق كل شيء، رأسًا للكنيسة، التي هي جسده وكال من يكتمل في جميع الكائنات” (أف 1: 22- 23). فالكنيسة هي “كمال المسيح”، والمسيح يكتمل بالمسيحيين كمَا أنّ الرأس يكتمل بالأعضاء. وبقدر ما تتسع الكنيسة بأعضاء مجدّدين بالمسيح بقدر ذلك يكتمل المسيح. يقول يوحنا الذهبي الفم: “يكتمل الرأس عندما يصير الجسد كاملاً، عندما نصير كلّنا متحدين ومرتبطين بعضنا ببعض”.
ب) الكنيسة “جسد المسيح السرّي”
يدعو بولس الرسول الكنيسة “جسد المسيح”. أمّا عبارة “جسد المسيح السرّي”، فقد وردت أوّلاً في كتابات إيسيخيوس الأورشليمي (+ 438) الذي يقول: “نحن أيضاً نصير جسد المسيح بتناولنا جسده السرّي”. ويعني بعبارة “الجسد السرّي” القربان المقدّس. فالسرّي هنا نسبة إلى سر الإفخارستيا كمَا في عبارة “العشاء السرّي”.
وفي القر التاسع أخذ اللاهوتيون في الغرب يميّزون بين ثلاثة تعابير لحضور المسيح، جسد المسيح المولود من مريم العذراء، وجسد المسيح الحاضر في سرّ الإفخارستيا الذي دعوه على غرار القرون الأولى “الجسد السرّي”، وجسد المسيح، الكنيسة، التي دعوها “الجسد الحقيقي”.
وفي القرن الرابع عشر أصدر البابا بونيفاسيوس الثامن براءة في “الكنيسة الواحدة المقدّسة” ودعا فيها الكنيسة “جسد المسيح السرّي”، بينما دعا جسد المسيح الحاضر في سر الإفخارستيا “الجسد الحقيقي”. ومن هذا الاستعمال قد بدأ في الغرب كردة فعل على أفكار اللاهوتي “بيرنجيه” الذي كان تعليمه عن حضور المسيح الحقيقي في سر الإفخارستيا ملتبساً ومثيراً للشك. فلتأكيد أنّ المسيح حاضر حضورا حقيقياً في سر الإفخارستيا دعا اللاهوتيون هذا الحضور “الجسد الحقيقي”، بينما أطلقوا على الكنيسة عبارة “جسد المسيح السرّي”.
وفي القرن العشرين كانت تسمية الكنيسة “جسد المسيح السَرّي” منتشرة في الكنيسة الكاثوليكية، عندما نشر البابا بيوس الثاني عشر رسالته العامة في “الكنيسة جسد المسيح السرّي”، وفيها يؤكد ثلاثة أمور رئيسة:
أوّلاً، إنّ الكنيسة هي جسد المسيح السرّي. إنّ الكنيسة جسد له رأس هو المسيح، والروح القدس هو الروح الذي يحي هذا الجسد.
ثانياً، إنّ الكنيسة هي، كالمسيح، سر تجسّد. فهي في الوقت نفسه منظورة وغير منظورة. وتشدّد الرسالة على الناحية المنظورة: فالكنيسة هي “جسم واحد وغير منقسم”، “محسوس” و”واقعي”.
ثالثاً، إنّ هذا الجسم المنظور هو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فرأي البابا بيوس الثاني عشر أنّ أعضاء الكنيسة، جسد المسيح السرّي، هم فقط الذين ولدوا من جديد بالمعمودية ولم ينفصلوا أو لم تفصلهم السلطة الشرعية عن مجمل الجسد. فجسد المسيح هو إذاً الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وليس سواها.
لكنّ المجمع الفاتيكاني الثاني انفتح على المسيحيين غير الكاثوليكيين. فبعد حديثه عن الكنيسة جسد المسيح السرّي (رقم 7)، ينتقل إلى وجه الكنيسة المنظور، فيقول: “هذه الكنيسة التي أنشئت ونظمت كمجتمع في هذا العالم إثمَا نستمرّ في الكنيسة الكاثوليكية التي يسوسها خليفة بطرس والأساقفة الذين على الشركة معه، وإن تكن عناصر عديدة للتقديس والحقيقة لا تزال قائمة خارج هيكلها العضوي المنظور، وتدفع، من حيث هي مواهب خاصة بكنيسة المسيح، إلى الوحدة الكاثوليكية” (دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 8).
قبولاً صحيحاً هم على الشركة، وإن غير كاملة، مع الكنيسة الكاثوليكية… لمّا كانوا قد برّروا بالإيمان الذي نالوه في المعمودية، وصاروا به أعضاء لجسد المسيح، فإنهم بحق يحملون الاسم المسيحي، وبحقّ يرى فيهم أبناء الكنيسة الكاثوليكية إخوة في الرّب” (رقم 3).
ج) مَن هم أعضاء جسد المسيح؟
إنّ المعمودية هي التي تجعل الإنسان عضواً في الكنيسة جسد المسيح. فالجسد واحد، والكنيسة واحدة، رغم انقسام المسيحيين إلى كنائس مختلفة، وكلّنا أعضاء في جسد المسيح الواحد، وكلّنا إخوة في أسرة واحدة، ولكنّنا إخوة قد اختلفوا على بعض الحقائق المسيحية وبعض التعابير اللاهوتية، فانفصلوا بعضا عن بعض، ولكن انقساماً لا يجعل البعض منهم أعضاء في جسد المسيح والآخرين خارج هذا الجسد. فكل الذين اعتمدوا هم أعضاء على حد سواء في جسد المسيح، ولكنّهم أعضاء منفصلون بعضهم عن بعض، يتوقون إلى الوحدة الكاملة.
إنّ عبارة “جسد المسيح” هي عبارة كتابية يجب الاحتفاظ بها لأنّها تحمل معنى عميقاً، ولكنّها تشبيه، ولا يمكن أيّ تشبيه، مهمَا كان غنيّاً، أن يفي بسر الكنيسة الكامل. وقد يؤدي التمسّك بهذا التشبيه تمسّكاً مطلقاً وحرفياً إلى الوقوع في مغالطات لاهوتية. فمن يقول مثلاً إنّ الانفصال عن كرسي رومة هو انفصال عن جسد المسيح يعتبر الاتحاد مع كرسي رومة أهمّ من الاتحاد مع المسيح بالمعمودية. ولاجتناب الوقوع في مثل هذا الخطر يجب الاستعانة بالتشبيه الآخر وهو “الكنيسة شعب الله”. فجميع المسيحيين هم أعضاء في شعب الله الواحد، ويبقون أبناء الله الواحد وأخوة للمسيح الواحد، ويحييهم الروح الواحد، وإن وضعوا، بانفصالهم بعضا عن بعض، عراقيل بشرية تمنع عمل الله الكامل فيهم.
الفصل الثالث علامات الكنيسة
أوّلاً- الكنيسة واحدة
الكنيسة واحدة لأنّ مصدر وجودها وينبوع حياتها إنّما هو حياة الله الواحد الآب والابن والروح القدس. فالآب تبنّاها والابن أحبّها ومات لأجلها وقدّسها والروح القدس يحييها
1- وحدة الكنيسة من وحدة الآب: جميع أعضاء الكنيسة هم أبناء الله
جميع الناس هم أبناء الله الواحد، أشرارًا كانوا أم صالحين، وعليهم جميعًا يُطلع شمسه وإليهم جميعًا يرسل المطر: “أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنّه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والأثمة” (متى 5: 44، 45) وجميع الناس هم أبناء الله لأنّه هو الذي خلقهم جميعًا: “يا رب، أنت أبونا وفادينا… أنت أبونا، نحن الطين وأنت جابلنا، ونحن جميعًا عمل يديك” (أش 63: 16؛ 64: 8).
إنّ كل إنسان يولد في العالم هو ابن الله، إلاّ أنّ رباط البنوّة هذا يصير أعمق وأوثق بالمعمودية التي بها يلبس الإنسان المسيح، فيولد من جديد ويصير بنوع خاص ابن الله على مثال المسيح ابن الله. هذا ما يفسّره بولس الرسول في رسالته إلى الغلاطيين.
“بعد إذ جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب، لأنكم جميعاً أيناء الله، بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنّكم، أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح. فليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع، فأنتم إذن نسل إبراهيم وورثة بحسب الموعد. وأقول أيضاً: إنّ الوارث ما دام طفلاً فلا فرق بينه وبين العبد، مع أنّه يملك كل شيء. لكنّه تحت أيدي الأوصياء والوكلاء إلى الأجل الذي حدّده الآب. وهكذا نحن أيضاً: فإذ كنّا أطفالاً كنّا مستعبدين لأركان العالم. ولكن لّا بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، وننال التبنّي. والدليل على أنّكم أبناء كونُ الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ فيها: أبّا أيّها الآب. فأنت إذن لست بعد عبدًا بل أنت ابن، وإذا كنت ابنًا فأنت أيضاً وارث بنعمة الله” (غلا 3: 24- 4: 7).
قبل مجيء المسيح كان الإنسان ابن الله، ولكنّه كان بعد طفلاً، والناموس كان مؤدّبه يرشده إلى المسيح. أمّا بمجيء المسيح ابن الله، فالذين يعتمدون يصبحون أبناء الله البالغين ويملأهم روح التبنّي. وهذا ما يجعلهم واحدًا: “إنّ الجسد وأحد، والروح واحد، كما أنّكم بدعوتكم قد دعيتم إلى الرجاء الواحد. وإن الرب واحد، والإيمان وأحد، والمعمودية واحدة، والإله واحد، والآب واحد للجميع، وهو فوق الجميع وخلال الجميع وفي الجميع” (أف 4: 4- 6).
2- وحدة الكنيسة من المسيح الواحد
ء) المسيح هو رأس الجسد
إنّ المسيح هو الذي يمنح الجسد كلّه الحياة الإلهية: “منه ينال الجسد كلّه التنسيق والوحدة” (أف 4: 15، 16). ويجب التمسّك بالرأس، يقول أيضاً بولس الرسول: “الرأس الذي به يتغذّى الجسم كلّه، ويتلائم بالمفاصل والمواصل ويبلغ إلى تمَام نموّه في الله” (كو 2: 19). وهذا هو السر الذي أعلنه لنا الله “ليحقّقه عند تمَام الأزمنة: أي أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كلّ شيء، ما في السماوات وما على الأرض” (أف 1: 10).
ب) المسيح، بصليبه، صالح الكون مع الله وأقرّ السلام والوحدة بين الناس
المسيح هو مبدأ وحدة الكنيسة لأنّ جميع المسيحيين اعتمدوا باسمه وجميعهم تصالحوا مع الله بصليبه. ولإزالة الشقاق بين المسيحيين في كورنثس يعود بولس إلى المسيح هل تجزّأ المسيح؟ ألعلّ بولس قد صلب لأجلكم؟ أباسم بولس قد اعتمدتم؟” (1 كو 1: 13). فالمسيح هو مبدأ وحدة الكنيسة، لأنّه لا يتجزّأ في محبته لأعضاء جسده، فقد مات عنهم جميعًا وهم جميعًا اعتمدوا لموته وقيامته، يونانيين كانوا أم يهودًا:
“أمّا الآن، في المسيح يسوع، فأنتم الذين كانوا قبلاً بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح، لأنّه هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين واحدًا… ليكوّن في نفسه من الاثنين إنسانًا واحدًا جديدًا بإحلال السلام بينهما، ويصالحها مع الله، كليهما في جسد واحد، بالصليب الذي به قتل العداوة” (أف 2: 13- 16)، و”فيه أرتضى الله أن يحلّ الملء كلّه، وأن يصالح به، لنفسه، كلّ ما على الأرض وفي السماوات، بإقرار السلام بدم صليبه” (كو 1: 19، 20).
إنّ الخلاص الذي حصلنا عليه بالمسيح لا بدّ لنا من الدخول فيه: “فاقبلوا إذن بعضكم بعضاً كما قبلكم المسيح لمجد الله” (رو 15: 7). إنّ المسيح قبلنا فصرنا فيه، وإن آمنّا به وقبلناه يصير هو فينا. ولكن مع المسيح لا بدّ لنا أن نقبل أيضاً جميع الذين قبلهم المسيح وصاروا فيه. ففي المسيح وفي صليبه تجد وحدة المسيحيين أساسها الثابت والراسخ الذي لا يمكن أن يتزعزع. هذا ما يظهره أيضاً تشبيه الكنيسة بعروس المسيح الذي “أحبّها وبذل نفسه لأجدها” ومحبة المسيح للكنيسة عروسه ثابتة إلى الأبد: “فإنّه ما من أحد أبغض قط جسده الخاص، بل إنّما يغذّيه ويعتني به كما يفعل المسيح بالكنيسة. أو لسنا أعضاء جسده؟…” (أف 5: 25- 30).
إنّ الكنيسة هي البشرية التي تصبح عروس المسيح وجسده بالإيمان والحرية، بقبولها محبة المسيح. ولكن عليها ألاّ تنقاد لإغواء شخص آخر. ذاك هو اهتمام بولس الرسول: “إني أغار عليكم غيرة الله، لأنّي خطبتكم لرجل واحد، لأهديكم عذراء عفيفة للمسيح. بيد أنّي أخاف من أنكم، على مثال حواء التي أغوتها الحية بمكرها، تفسد أفكاركم وتتحوّل عن بساطتها تجاه المسيح” (2 كو 11: 2، 3).
3- وحدة الكنيسة من الروح القدس الواحد الذي يحييها
إنّ الروح القدس هو أيضاً مبدأ وحدة الكنيسة. فهو الذي يجعلنا أبناء الله ويوحّدنا بالمسيح: “بالمسيح لنا كلينا التوصّل إلى الآب بروح واحد” (أف 2: 18)؛ “إنّ جميع الذين يقتادهم روح الله هم أبناء الله. والحال أنّكم لم تأخذوا روح العبودية فيعود بكم إلى المخافة، بل أخذتم روح التبنّي الذي به ندعو أبّا أيّها الآب. فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا بأنّا أولاد الله” (رو 8: 14- 16).
يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: “لكي نتجدّد في المسيح باستمرار، آتانا أن نشترك في روحه الذي إذ هو واحد وهو عينه في الرأس وفي الأعضاء يحيى الجسد كلّه ويوحّده ويحرّكه، حتى لقد شبّه الآباء القدّيسون فعله بوظيفة الروح التي هي مبدأ الحياة في الجسد” (في الكنيسة، 7).
في قانون الإيمان نعلن إيماننا “بالروح القدس الرب المحيي”. لقد رأى آباء الكنيسة أنّ مبدأ منح الحياة الإلهية الذي يمنحنا إيّاه الآب في ابنه يسوع المسيح وبواسطته، أي مبدأ تألّه البشرية، هو الروح القدس الذي به يمكننا الاتحاد بالله.
4- الكنيسة واحدة على صورة الثالوث الأقدس
إنّ الكنيسة هي شعب الله الذي يحيا حياة الله، الآب والابن والروح القدس. لذلك يمكننا القول إنّ الكنيسة هي امتداد الثالوث الأقدس في العالم. يقول ترتليانوس: “حيث الأقانيم الثلاثة، أي الآب والابن والروح القدس، هناك الكنيسة، لأنٌ الكنيسة هي جسد الثلاثة”.
لقد صلّى يسوع لكي يكون الذين يؤمنون به واحدًا على مثال وحدته مع الآب: “لست لأجلهم فقط أصلّي، بل لأجل الذين يؤمنون بي عن كلامهم أيضاً، لكي يكونوا بأجمعهم واحدًا. فكما أنك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك، فليكونوا هم أيضاً فينا، حتى يؤمن العالم أنّك أنت أرسلتني” (يو 17: 20، 21).
إنّ وحدة الكنيسة يجب أن تكون على مثال وحدة الثالوث، أي وحدة في الكيان وتعددية في الأشخاص. فكا أنّ هناك إلهًا واحدًا في ثلاثة أقانيم، هكذا يجب أن تكون الكنيسة واحدة في أشخاص متعدّدين. وهذا ينطبق على صعيد الأشخاص وعلى صعيد الكنائس المحلّية. فالكنيسة الواحدة لا تزيل تعدّدية الكنائس المحلّية، ولا ينبغي اعتبار هذه التعددية نقصاً في كيان الكنيسة بل هي أمر أساسي في كيانها، كما أنّ تعدّدية الأقانيم أمر أساسي في كيان الله.
إنّ “الأنا” الشخصي لا يذوب في كيان كنسي يمثّله رؤساء الكنيسة، فالكنيسة لا يمثّلها فقط رؤساؤها بل كل مسيحي يحيا حياة المسيح. إنّ الأنا الشخصي يتأكّد وجوده بالانفتاح على “الأنا” الكنسي بحيث يمكن تحديد الكيان الكنسي بعلاقة محبة وحياة بين أشخاص يحيون من حياة الله.
وكذلك الكنائس المحلّية لا تذوب في كيان كنسي تمثّله الكنيسة الأولى، كنيسة رومة، والأسقف الأوّل، أسقف رومة، بل يتأكّد وجود كل كنيسة محلّية بانفتاحها على سائر الكنائس المحلّية، إذ تدرك كل كنيسة أنّها، على غرار سائر الكنائس وبالاتحاد معها، محافظة على وديعة الإيمان وتحيا من حياة الله، بحيث يمكن تحديد الكيان الكنسي علاقة محبة بين كنائس محلّية مختلفة تحيا من حياة المسيح. أمّا دور أسقف رومة فهو المحافظة على المحبة والوحدة بين جميع الكنائس المحلّية.
إنّ تقدّم الحركة المسكونية للبلوغ بالكنائس المحلّية إلى الوحدة المنظورة رهن بتلك النظرة اللاهوتية الثالوثية إلى سر الكنيسة، فهي تضمن التوازن بين الوحدة والتعددية.
5- المحبة ضمان وحدة الكنيسة
على مثال محبة المسيح لكنيسته، وعلى مثال محبة الأقانيم الثلاثة المتبادلة في الثالوث الأقدس، المحبة في الكنيسة هي “الموهبة العظمى” (1 كو 12: 31) التي تبني الكنيسة وتضمن وحدتها وديمومتها وتهيّئنا لمعرفة الله كما يعرفنا هو: “النبوّات ستبطل، والألسنة تزول، والعلم يضمحلّ، أمّا المحبة فلا تسقط أبداً… الآن ننظر في مرآة، في إبهام، أمّا حينئذ فوجهاً إلى وجه. الآن أعلم علماً ناقصاً، أمّا حينئذ فسأعلم كما عُلمت” (1 كو 13: 8).
إنّ المحبّة هي مصدر وجود الكنيسة وينبوع حياتها. لذلك، مهما اختلف المسيحيون على النبوّات والألسنة والعلم، أي على تحديد العقائد والتفسيرات اللاهوتية، يجب أن يحرصوا كل الحرص على عدم فقدان المحبة.
ثمّ يجب إلاّ يغرب عن بالنا أنّ محبة المسيح للكنيسة قد ظهرت في أقصى حدّها على الصليب: “ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل الحياة عن أصدقائه” (يو 15: 13)، “هكذا أحبّ المسيح الكنيسة إذ بذل نفسه لأجلها” (أف 5: 25). على الصليب بنى يسوع كنيسته إذ محا خطايا جميع البشر وصالحهم مع الله. لذلك كل ما يقترفه المسيحيون من خطايا، وكل شقاق ونزاع بينهم، يجد في صليب يسوع المسيح ينبوع المغفرة والمصالحة. ولذلك لا يمكننا تبرير انقسام كنيسة المسيح، مما كانت الأسباب التي أدت إلى هذا الانقسام خطيرة. إنّ الانقسام خطيئة، وككل خطيئة لا يمكن تبريره، إنّما نحمله كجرح في جسد المسيح، متّضعين ومقرّين بأنّنا أخطأنا بانقسامنا، فنرمي بخطيئتنا على أقدام صليب المسيح لكي يوحّدنا من جديد ويصالحنا بعضنا مع بعض، فتتحقق فينا صلاته إلى الآب: “كما انك أيّها الآب فيّ، وأنا فيك، فليكونوا هم أيضاً فينا، حتى يؤمن العالم أنّك أرسلتني” (يو 17: 21).
ثانياً- الكنيسة جامعة (كاثوليكية)
إنّ لفظة “جامعة” هي ترجمة اللفظة اليونانية “كاثوليكي” التي خرجت منها لفظة كاثوليكية. وأوّل من استعمل تلك اللفظة كصفة للكنيسة هو أغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى السميرنيين إذ يقول: “حيث يسوع المسيح فهناك الكنيسة الجامعة” (8: 2). من هنا تتخذ هذه الصفة بعدين: بعدًا لاهوتيًا وبعدًا جغرافيًا. فاللفظة اليونانية تعني “في الملء، حسب الملء، في الكل، حسب الكل، شامل”. فالبعد اللاهوتي لهذه اللفظة هو اشتراك المسيحيين في ملء حياة المسيح. والتركيز في هذا البعد هو على ملء الحياة الإلهية التي تشترك فيها الكنيسة. فالكنيسة الجامعة (أو الكاثوليكية) هي إذًا الكنيسة التي حافظت على حياة المسيح فيها وعلى ملء الإيمان المسيحي. أمّا البعد الثاني فيؤكّد امتداد الكنيسة الجغرافي في كل مكان وكل بلد.
1- المسيح أساس جامعية الكنيسة
يبنى بولس الرسول جامعية الكنيسة على المسيح. إنّ تصميم الله الذي “قصده في نفسه ليحقّقه عند تمَام الأزمنة هو أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كل شيء: ما في السماواتِ وما على الأرض” (أف 1: 9، 10). لذلك “أنهضه من بين الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماوات، فوق كل رئاسة وسلطان وقوّة وسيادة، وفوق كل اسم يسمّى ليس في هذا الدهر فقط، بل في الدهر الآتي أيضاً. لقد أخضع كل شيء تحت قدميه، وأقامه فوق كل شيء رأسًا للكنيسة، التي هي جسده وكمال من يكتمل في جميع الكائنات” (أف 1: 20- 23).
وليس إلاّ رأس واحد للعالم ولجميع القوى المنظورة وغير المنظورة التي يمكن المرء أن يتصوّرها أو أن يخاف من سيطرتها، وهذا الرأس هو المسيح الذي “فيه خلق جميع ما في السماوات وعلى الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، عروشاً كان أم سيادات أم رئاسات أم سلاطين، به وإليه خلق كل شيء. إنّه قبل كل شيء، وفيه يثبت كل شيء، الذي هو أيضا رأس الجسد أي الكنيسة. إنّه المبدأ، البكر من بين الأموات- لكي يكون هو الأوّل في كل شيء- ففيه ارتضى الله أن يُحلْ الملء كلّه” (كو 1: 16- 19).
إنّ كل شيء يجد معناه في المسيح. فبمَا أنّ الله قد أحلّ الملء كلّه في المسيح، فالعالم باتحاده بالمسيح يمتلئ من ملء الله. لذلك كل ما في السماء وما على الأرض مدعو إلى الائتلاف في المسيح. وفي هذا يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: (إنّ جميع الناس مدعوون لأن يكونوا من شعب الله الجديد… في هذا الغرض أرسل الله ابنه وجعله وارثًا لكل شيء ليكون للجميع المعلّم والملك والكاهن، ولشعب أبناء الله الجامع رئيسًا. وللغرض عينه أخيرًا أرسل الله روح ابنه، الرب والمحي، الذي هو للكنيسة ولجميع المؤمنين وكل مدنهم مبدأ نجمعّ ووحدة في تعليم الرسل والشركة وفي كسر الخبز والصلوات” (في الكنيسة، 13).
وإنّ وحدة العالم قد تحققت في عمل المصالحة الذي قام به المسيح: “فيه (المسيح) ارتضى الله أن يحلّ الملء كلّه، وأن يصالح به لنفسه كل ما على الأرض وفي السماوات، بإقراره السلام بدم صليبه” (كو 1: 19، 20). فني صليب المسيح، في جسد المسيح، “قتلت العداوة” (أف 2: 16) بين اليهود والوثنيين، ومن خلالهم بين جميع الشعوب. والكنيسة هي العلامة والأداة لتحقيق تلك المصالحة على مدى التاريخ بين جميع أمم العالم، فهي جسد المسيح الممتلئ من ملءِ الله.
إنّ رؤية كهذه تعتبر الكنيسة محور كل شيء في العالم قد تقود إلى الاعتداد بالذات وإلى التسلّط. لذلك يجب توضيح أنّ سرّ الكنيسة هو سر اسختولوجي: إنّ ما نعبّر عنه هو تعبير في الرجاء. فالكنيسة تؤمن أنّ مبدأ وحدة العالم، أي المسيح الرأس والفادي والمخلّص، هو فيها. ولكنّها تعلم أيضاً أنّ عليها “أن تنمو في كل وجه نحو الرأس، أي المسيح” (أف 4: 15). فالإيمان يمنحنا الروح القدس، ولكنّ الروح ليس إلاّ “عربون ميراثنا” (أف 1: 14)، وهذا العربون يجعلنا ننتظر الرب الذي اتحدنا به في الرجاء، ونصلّي: “تعال، أيّها الرب يسوع” (رؤ 22: 20). تلك هي المفارقة التي تعيش فيها الكنيسة: لقد حصلت على ملء الحياة ولكنّها تنتظر تجلّي هذا الملء في حياة جديدة. لقد آمنت بأنّ المصالحة قد تمّت في المسيح ولكنّها ترجو أن تتحقق هذه المصالحة لكل الشعوب والأمم. إنّ انتظارنا للرب هو في الوقت نفسه ارتقاء مستمر نحو الرب.
لذلك فإنّ الرسالة هي من صلب الكنيسة. وشمولية الكنيسة تتأكّد بالتبشير بالإنجيل لكل إنسان مع ما يرافق تلك الخدمة من مضايق وآلام فيها يُتمّ المسيحيون، على غرار بولس الرسول، “ما ينقص من مضايق المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كو 1: 24). فلا يكفي أن تؤمن لكنيسة أنّ الرئاسات والسلاطين قد اخضعوا كلّهم للمسيح، بل يجب الالتزام مع المسيح في عراك لا هوادة فيه ضدّهم. ولا بدّ لذلك من ارتداء سلاح الله الكامل: “إتّخذوا سلاح الله الكامل… شدّوا أحقاءكم بالحق، تدرّعوا بالبر، وانتعلوا بالغيرة على نشر إنجيل السلام. وعلاوة على ذلك، احملوا ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرّير الملتهبة، واتخذوا أيضاً خوذة الخلاص وسيف الروح، أي كلمة الله” (أف 6: 13- 17).
2- الكنيسة سر الخلاص الشامل
ء) ما هو الخلاص
إنّ الخلاص هو بلوغ الإنسان هدف حياته وتحقيق معنى وجوده تحقيقًا كاملاً. والإنسان لا يبلغ هدف حياته ولا يحقق معنى وجوده إلاّ باتحاده بالله مصدر حياته وباتحاده بإخوته البشر في أسرة واحدة. فهناك بعدان للإنسان، بعد عّمودي وبعد أفقي، يربطهّ الأول بالله ويربطه الثاني بالآخرين. وخلاص الإنسان لا يتحقق إلا بتحقيق هذين البعدين. والخلاص ليس إنقاذ بعض الأفراد من الغرق بل تحقيق تصميم الله، أي البلوغ بالخليقة كلّها إلى الله.
ب) الكنيسة سر الخلاص
إنّ السر هو علامة حسية منظورة تصل الإنسان بالله غير الحسي وتغدق عليه نعمة الله غير المنظورة. ففي كل سر وجهان، وجه حسّي منظور، ووجه غير منظور، ومن خلال الحسّي والمنظور يتحد الإنسان بغير المنظور. والمسيح في هذا المعنى هو “سر الله”، لأنه كلمة الله المتجسّد، فيه ظهر ظهورًا منظورًا وحسّياً كلمة الله غير المنظور، وفيه ظهر الله للعالم، وبه انسكبت على العالم نعمة الله “السر الأوّل والرئيس” لحضور الله.
والكنيسة التي هي متابعة حضور المسيح كل الأرض، هي أيضاً السر الأول والرئيس. وفيها أيضاً وجهان، وجه منظور، وهو مؤسساتها وأسرارها ورتبها الطقسية، ووجه غير منظور، وهو النعمة التي تمنحها. فالأسرار السبعة وسائر الرتب والصلوات وجميع الخدم الكنسية ليست سوى تعبير متعدد الجوانب لسر الكنيسة الواحد.
ج) الكنيسة سر الخلاص الشامل
“لا خلاص خارج الكنيسة”. تعود هذه العبارة إلى القرون المسيحية الأولى. فنقرأ في تعليق أوريجانوس على سفر يشوع (6: 24): “خارج هذا البيت الوحيد، أي خارج الكنيسة، لا يخلص أحد”. وما أراد الآباء تأكيده في هذه العبارة و أنّ الديانات ليست كلّها متساوية، وأنّ المسيح وحده هو وحي الآب النهائي، والكنيسة وحدها هي امتداد سر المسيح. لكنّ هذه العبارة قد يُساء فهمها، لذلك من الأفضل الاستعاضة عنها بالعبارة المعاصرة “الكنيسة هي سر الخلاص الشامل”. فماذا نعني بهذه العبارة؟
إنّ خلاص الله قد يأتي لبعض الأفراد خارجاً عن الكنيسة، والخير الذي يقدم على صنعه الناس خارج الكنيسة إنّما هو عمل روح الله. ونعمة الله هي التي تقود غير المؤمنين إلى الإيمان بالمسيح. إلاّ أنّ الكنيسة هي الأداة المنظورة التي تأتي بواسطتها نعمة الله، عندما ننظر إليها، ليس في هذا أو ذاك من الأفراد، بل في قصد الله للخلاص الشامل الذي تحقّق تجسّد ابن الله. فالكنيسة هي الوجه المنظور الذي به يستمر على مدى التاريخ خلاص الله الذي حضر إلينا في لحظة من التاريخ في شخص يسوع المسيح.
إنّ الله يبقى فوق الكنيسة. وروح الله يلهم الناس على عمل الخير خارجا عن الكنيسة. ولكنِّ الكنيسة هي السر الشامل للخلاص، أي إنّها وحدها المؤسسة التي تستطيع أن تجمع كل الناس في شعب واحد لله، في جسد واحد للمسيح، في هيكل واحد للروح القدس. وهذا هو قصد الله، “أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كل شيء: ما في السماوات وما على الأرض” (أف 1: 11).
إنّ في هذا التعبير تأكيدًا لأمرين:
1- إنّ الكنيسة هي الأداة التي أرادها الله ليحصل الناس على الخلاص الذي حصلت عليه البشرية بيسوع المسيح.
2- إنّ الكنيسة قد نالت من سيّدها ومؤسسها كل ما يجب لتوفير هذا الخلاص للبشرية كلّها.
وفي نظرة كهذه لا يعود القصد من الرسالة والكرازة إنقاذ الناس من الهلاك الأبدي، بحجّة أنّ كل من يبقى خارج الكنيسة المنظورة هالك لا محالة، إنّما القصد منهما تكوين شعب واحد لله، بحيث يستطيع جميع الناس أن يسبّحوا بفم واحد وقلب واحد اسم الله العظيم الجلال، الاسم الجديد الذي علّمنا اياه المسيح، وأن يقولوا معا: “أبانا…”.
إن كان الخلاص يقوم على بلوغ الإنسان حقيقة كيانه، وكيان الإنسان ليس فرديًا وحسب بل أيضاً جماعي، فالكنيسة هي حقًّا “سر الخلاص الشامل”. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني:
“إنّ الذين، على غير ذنب منهم، يجهلون إنجيل المسيح وكنيسته، ويطلبون مع ذلك الله بقلب صادق، ويجتهدون بنعمته أن يتمّموا في أعمالهم إرادته كما يمليها عليهم ضميرهم، فهؤلاء يمكنهم أن ينالوا الخلاص الأبدي. وكذلك الذين، على غير ذنب منهم، لم يبلغوا بعد معرفة الله معرفة صريحة، وإنّما يجتهدون، لا بمعزل عن مؤازرة النعمة، أن يسلكوا مسلكاً مستقيمًا، فإنّ العناية الإلهية لا تحبس عنهم المساعدات الضرورية لخلاصهم”، ثمّ يضيف المجمع: “ذلك بأنّ كل ما فيهم من صلاح وحق هو في نظر الكنيسة تمهيد للإنجيل، وموهبة من ذاك الذي ينير كل إنسان لكي تكون له الحياة أخيرًا” (في الكنيسة، 16).
ثالثًا- الكنيسة مقدّسة
1- قداسة الكنيسة من قداسة الله
القداسة هي الاتحاد بالله، والكنيسة مقدّسة لأنّها سر اتحاد الله بالبشر في يسوع المسيح.
لقد خصص المجمع الفاتيكاني الثاني الفصل الخامس من الدستور العقائدي “في الكنيسة” للكلام عن “الدعوة العامة إلى القداسة في الكنيسة”. يقول في مستهلّ الفصل: “إن الكنيسة التي يفسّر المجمع المقدّس سرّها هي، في نظر الإيمان، مقدّسة على الزمن. ذلك بأن المسيح ابن الله، الذي هو مع الآب والروح “وحده القدوس”، قد أحبّ الكنيسة كعروس له، وأسلم نفسه لأجلها ليقدّسها (أف 5: 25، 26)، واتّحد بها جسدًا له، وغمرها بموهبة الروح القدس لمجد الله. ومن ثمّ فالجميع في الكنيسة، سواء كانوا من ذوي السلطة أم كانوا من الخاضعين لهم، مدعوّون إلى القداسة على حدّ قول الرسول: “أجل إنّ ما يريده الله إنّما هو تقديسكم” (1 تسا 4: 3؛ أف 1: 4). وقداسة الكنيسة هذه تتجلّى على الدوام، ويجب أن تتجلّى بثمار النعمة التي ينتجِها الروح في المؤمنين. إنّها تظهر بوجوه شتّى في كل واحد ممّن يصبون إلى المحبة الكاملة في نهج حياتهم الخاص، ويبنون الآخرين، وتتجلّى بوجه مميّز في ممارسة المشورات التي ألِفوا نعتها بالإنجيلية. وهذه الممارسة للمشورات التي ينتهجها، بدافع الروح القدس، عدد كبير من المسيحيين، إمّا بفعل فردي، وإمّا في وضع أو حالة تقرّهما الكنيسة، تُدخل على العالم، ويجب أن تدخل عليه، شهادة نيّرة لهذه القداسة، وغرارًا لها”.
ثمّ يتوسع المجمع في ثلاث فقرات فيتكلّم عن الدعوة العامة إلى القداسة، وعن الطرق المتعدّدة لممارسة القداسة، وعن سبل القداسة ووسائلها.
ء) الكنيسة مقدّسة لأنّها متحدِة بينبوع القداسة
إنّ المسيح هو الذي، بالروح القدس، وبواسطة الأسرار، يكمّل في الكنيسة على مدى الزمن والتاريخ، تقديس الناس وتأليههم. يقول المجمع:
“إنّ الرب يسوع، المعلّم الإلهي ومثال كل كمال، قد علّم جميع تلاميذه وكلّ واحد منهم، أيًّا كانت حالهم، قداسة الحياة هذه التي هو بادئها ومتمّمها: “كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي هو كامل” (متى 5: 48). فقد أرسل روحه إلى الجميع لكي يعدّهم في الباطن لأن يحبّوا الله بكل قلوبهم، كل أذهانهم، وكل قواهم، ويحبّوا بعضهم بعضاً كما أحبّهم المسيح (يو 13: 34؛ 15: 12). فتلاميذ المسيح، وقد دعاهم الله لا من أجل أعمالهم بل بتدبير مجّاني، وتبرّروا في يسوع ربّنا، قد أصبحوا حقًّا بمعمودية الإيمان أبناء لله، وشركاء في الطبيعة الإلهية، وبالتالي قدّيسين حقًّا. فعليهم إذًا أن يحافظوا، بنعمة الله، على هذه القداسة التي نالوها، وأ، يكمّلوها بحياتهم. ويوصيهم الرسول بأن “يعيشوا كما يليق بالقدّيسين” (أف 5: 3)، وأن يلبسوا، “كمختارين من الله قدّيسين أحبّاء، أحشاءَ الرحمة واللطف والتواضع والوداعة وطول الأناة” (كو 3: 12)، مثمرين ثمار الروح لتقديسهم (غلا 5: 22؛ رو 6: 22). ولكن لمّا كنّا كلّنا نزلّ في أمور كثيرة (تم 3: 2)، فإنّا نفتقر دائمًا إلى رحمة الله، ونضطرّ كلّ يوم أن نردّد في صلاتنا: “إغفر لنا خطايانا” (متى 6: 12).
ثمّ يضيف المجمع:
“فواضح إذًا للجميع أنّ الدعوة إلى ملء الحياة المسيحية وكمال المحبة موجّهة إلى جميع المؤمنين بالمسيح أيًّا كانت حالهم وكان نهج حياتهم. وإنّ هذه القداسة تسهم، حتى في المجتمع الأرضي بالذات، في أن تزيد أوضاع الوجود إنسانية. فعلى المؤمنين أن يسعوا بكل قواهم، بمقدار موهبة المسيح، للحصول على هذا الكمال، حتى إذا ما ترسّموا خطواته، ونهجوا على غراره، ونفّذوا في كل شيء مشيئة الله، يقفون ذواتهم، بكل نفوسهم، على مجد الله وخدمة القريب. وهكذا تتفتّق قداسة شعب الله عن ثمار وافرة، كما يشهد بذلك بوجه ساطع تاريخ الكنيسة من خلال سيرة القدّيسين”.
ب) الطرق المتعددة لممارسة القداسة
إنّ طرق القداسة عديدة ينتهجها الأساقفة والكهنة والإكليريكيرن والعمانيون الذين يهتمّون بأعمال الرسالة، والأزواج والوالدون المسيحيون، والمرضى والفقراء والمضطهَدون: “وهكذا جميع الذين يؤمنون بالمسيح يسلكون سبيل الحياة مقدِّسين أنفسهم أكثر فأكثر في مختلف حالاتهم ومهامّهم وأحوالهم التي تلازم حياتهم، وبواسطتها جميعاً، إذا هم تقبّلوا كل شيء بإيمان من يد الآب السماوي، واسهموا في تتميم إرادة الله بإظهارهم للجميع، في خدمتهم الزمنية، المحبة التي بها أحب الله العالم”.
ج) السبل والوسائل المتنوّعة التي تظهر فيها قداسة المسيحيين
إنّ “المحبة لله وللقريب هي التي تميّز تلميذ المسيح الحقيقي”. وتلك المحبة تنمو بالانفتاح إلى كلمة الله، والعمل طبقاً لإرادة الله، والاشتراك المتواتر في الأسرار، ولا سيّمَا الافخارستيا، وفي الطقوس الليترجية، والمواظبة على الصلاة، وخدمة الإخوة، وممارسة جميع الفضائل، والاستعداد للشهادة حتى الموت على مثال المسيح الذي قبل الموت باختياره من أجل خلاص العالم، وأخيرًا اتّباع المشورات الإنجيلية، أي العفة والفقر والطاعة، إذا رأى المسيحي في اتّباعها دعوة له من الله. وينهي المجمع بقوله: “جميع المؤمنين بالمسيح إذن مدعوّون بل ملتزمون أن يسعوا وراء القداسة والكمال على حسب حالتهم”.
إنّ الكنيسة، في عمق كيانها، ليست سوى العالم السائر نحو تجلّيه في المسيح، وفردوس حضور الله هو المسيح نفسه الذي استطاع أن يقول للّص التائب المعلّق إلى جانبه على الصليب: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43). والمسيح الذي قام وملأ كنيسته بروحه القدّوس لا يزال حاضرًا في كنيسته يقدّسها ويملأها من حضور الله. فالكنيسة هي العالم الذي يصير بالمسيح مشعّا بحضور الله.
2- الكنيسة والخطيئة
ء) الخطيئة لا تفصل المسيحي عن الكنيسة
لقد شبّه المسيح ملكوت الله “بشبكة كبيرة ألقيت في البحر فجمعت سمكًا من كل صنف” (متى 13: 47- 50)، وبحقل ينبت فيه الزؤان إلى جانب القمح، وحذّرنا من الإسراع في فرز الجيّد عن الرديء، فهذا يجب أن يترك إلى منتهى الدهر: “لئلاّ تقلعوا الحنطة مع الزؤان، دعوهما ينبتان كلاهما معًا حتى الحصاد، وفي أوان الحصاد أقول للحصادين اجمعوا أوّلاً الزؤان واربطوه حزماً ليُحرق، أمّا الحنطة فاجمعوها إلى أهرائي” (متى 12: 29، 30).
إنّ الكنيسة، عبر تاريخها، قد حرمت عدّة بدع كانت تقول إنّ الكنيسة هي جماعة من الكاملين، ومنها بدعة نوفاسيان ومونتان في القرن الثاني، و بدعة الدوناتيين في القرنين الرابع والخامس. وقد قاوم هؤلاء القدّيسُ أوغسطينوس فأظهر أنّ زمن الكنيسة هو زمن النمو وليس زمن الحصاد. ثم يضيف: “إنّ المسيحي، إن خطئ وبقي متحداً بالجسد، يرجى شفاؤه. أمّا إذا انفصل عن الجسد فلا دواء له ولا رجاء” (رسالة 53: 1). ويستهزئ بالدوناتيين الذين يدّعون أنّهم وحدهم القدّيسون الكاملون، فيقول: “إنّ الخير يترجعّ صداه في السحب: في وجه الأرض كلّها تبنى كنيسة الله. والضفادع، من عمق مستنقعاتها، تنقنق: نحن وحدنا مسيحيون”. فالخطيئة مهـا كانت ثقيلة لا تفصل عن جسد المسيح، إنّما الجحود وحده، أي نكران الإيمان، يفصل المسيحي عن الكنيسة.
ب) الإصلاح الدائم في الكنيسة
يقول المجمع الفاتيكاني الثاني:
“فيمَا المسيح “القدّوس البريء الذي لا عيب فيه” (عب 7: 26) لم يعرف الخطيئة (2 كو 5: 21)، بل أتى ليكفّر عن خطايا الشعب فقط (عب 2: 17)، فإنّ الكنيسة التي تضم في حضنها الخطأة هي في آن واحد مقدّسة ومفتقرة دائمًا إلى التطهير، ولا تني عاكفة على التوبة والتجدّد” (في الكنيسة، 8).
إنّ الكنيسة مقدّسة لأنّ المسيح، مبدأ القداسة، هو فيها. ولكنّ في الوقت نفسه خاطئة لأنّ أعضاءها بحاجة مستمرّة إلى التنقية والتقديس.
وهذا ما يقرّب بين جميع الكنائس. يقول المجمع الفاتيكاني في مرسومه “في الحركة المسكنية”:
“إنّ الكنيسة الكاثوليكية، على كونها تتمتع بالحقيقة التي أوحى بها الله، و بجميع وسائل النعمة، فإنّ أعضاءها لا يحيون منها بالحرارة اللازمة. فينتج من ذلك أنّ وجهها يبدو أقلّ تألّقًا في نظر إخوتنا المنفصلين، ونظر العالم كلّه أجمع، وأن نموّ ملكوت الله يتقيّد. لذلك يجب على جميع الكاثوليك أن يصبوا إلى الكمال المسيحي. وعلى كل واحد منهم، في نطاقه الخاص، أن يجتهد في عمل الكنيسة، الحاملة في جسدها تواضع يسوع وأمانته، على أن تتطهّر وتتجدّد يومًا بعد يوم،،، إلى أن يزفّها المسيح إلى نفسه مجيدة، لا عيب فيها ولا غضن” (أف 5: 27)”.
وفي المرسوم نفسه يؤكّد المجمع:
“لمّا كان كل تجدّد في الكنيسة يقوم جوهريًا على أمانتها المتزايدة لدعوتها كان في هذا بالذات يسير الحركة نحو الوحدة. ذلك بأنّ الكنيسة ما استمرّت في مسيرتها يدعوها المسيح الإله إلى هذا الإصلاح المستمرّ لأنّها على الدوام بحاجة إليه من حيث هي مؤسسة بشرية وأرضية”.
إنّ الكنيسة مقدّسة، ولكنّها أيضاً، كما يقول القديس أفرام: “جماعة الخطأة الذين يتوبون ويتوقون إلى الحياة الأبدية”. فالخطيئة ملازمة للكنيسة ما دامت في الجسد. ولكنّ التوبة أيضاً ملازمة للكنيسة، والتوبة رجوع دائم إلى الله، وفي الرجوع إلى الله الفرح والسلام، “فحيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة” (رو 5: 20). إنّ الحياة الأبدية التي يتوق إليها المسيحيون قد حصلوا عليها في مبدإها. لقد شربوا من ينبوع الماء الحي الذي يعطيه المسيح لهم، “فينقلب فيهم نبعًا يتفجر حياة أبديّة” (يو 4: 14). “أنا الكرمة الحقّة وأبي الكرّام. كلّ غصن فيّ لا يثمر ينتزعه، وكلّ غصن يثمر ينقّيه لكي يأتي بثمر أكثر… أنا الكرمة وأنتم الأغصان. من يثبت فيّ وأنا فيه، فهو يأتي بثمر كثير. فإنّكم بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً” (يو 15: 1- 5).
رابعًا- الكنيسة رسولية
إنّ الكنيسة هي حياة الله التي ظهرت للعالم في يسوع المسيح. وأوّل من آمن بالمسيح وامتلأ من تلك الحياة الإلهية الرسل الذين عاشوا معه وظهر لهم حيًّا من بعد قيامته، وأرسلهم للكرازة باسمه في كل الأمم. فالكنيسة تدعى “رسولية”، لأنّها لا تزال تحيا الحياة الإلهية التي عاشها الرسل، ولا تزال أمينة في تعليمها لتعليم الرسل. إنّ الوحي الذي سلّمه يسوع لرسله لم يتغيّر في الكنيسة على مدى العصور. لذلك نسمع في المجامع المسكونية، التي تعلن الإيمان القويم، العبارة التالية: “هكذا علّم الرسل والآباء القدّيسون”.
إنّ الكنيسة هي سر الحقيقة الدائم الذي ظهر في يسوع المسيح، وأوكل إلى الرسل التبشير به، وتناقله المؤمنون، وعلى رأسهم الرسل ومن خلفهم: “أنتم بناء أساسه الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح” (أف 2: 20). فالأنبياء الذين يعنيهم بولس في هذا النص ليسوا أنبياء العهد القديم بل أنبياء العهد الجديد الذين عملوا على نشر الإنجيل وتثبيت الكنائس في فجر المسيحية: “فلقد وضع الله البعض في الكنيسة أوّلاً رسلاً، وثانيًا أنبياء، وثالثًا معلّمين…” (1 كو 12: 28). فالكنيسة الرسولية هي التي لا تزال أمينة لإيمان الرسل وتعاليمهم، وإيمان وتعاليم جميع الذين عملوا معهم في الكنيسة الأولى على نشر الإنجيل، وجميع الذين من بعدهم حتى يومنا هذا تناقلوا هذا الإيمان وتلك التعاليم.
1- الرسل
إنّ للرسل في الكنيسة دورًا فريدًا ومميّزًا لا يستطيع احد من الأساقفة والمبشّرين الذين أتوا بعدهم أن يقوم مقامهم فيه. فهم الذين اختارهم المسيح اختيارًا مباشرًا، وعاشوا معه وتعلّموا منه وشهدوا على قيامته. فهم إذًا أساس العهد الجديد وأسفاره المقدّسة، معهم تكوّنت الكتب التي أوحى بها الله، وأَسس الإيمان المسيحي والحياة الكنسية.
ء) يسوع اختار رسلاً
يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي “في الكنيسة”:
“إنّ يسوع المسيح، الراعي الأبدي، قد بنى الكنيسة المقدّسة بإرساله الرسل، كما أنّه هو نفسه قد أرسله الآب” (يو 20: 21). “إنّ الرب يسوع، بعدما صلّى إلى أبيه، دعا إليه الذين أرادهم، وأقام منهم الاثني عشر ليكونوا صحابته، ويرسلهم للدعوة بملكوت الله (مر 3: 13-19؛ متى 10: 1- 42)، وجعلهم رسله (لو 6: 13)، في شكل هيئة أو جماعة ثابتة، وجعل على رأسهم من بينهم بطرس أحدهم (يو 21: 15- 17). وأرسلهم، بعد إذ أشركهم في سلطانه، إلى بني إسرائيل أوّلاً، ثمّ إلى جميع الأمم (رو 1: 16)، لكي يتلمذوا له جميع الشعوب، ويقدّسوهم، ويسوسوهم (متى 28: 16- 20)، ولكي ينشروا هذه الكنيسة ويرعوها بممارسة خدمتهم، بقيادة الرب، كل الأيّام حتى منتهى الدهر (متى 28: 20). وقد ثُبتوا في هذه المهمّة تثبيتًا تامًّا في يوم العنصرة على حسب وعد الرب لهم: “إنّكم ستنالون قوّة الروح القدس الذي سيأتي عليكم، وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وكل اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8). وإذ بشّر الرسل بالإنجيل في كل مكان، وقبله مستمعوهم بفعل الروح القدس، جمعوا الكنيسة الجامعة التي أسَّسها الرب على الرسل، وبناها على الطوباوي بطرس، زعيمهم، وظلّ المسيح يسوع نفسه رأس الزاوية” (رؤ 21: 14؛ متى 16: 18؛ أف 2: 20)”.
ب) الرسل تمّموا وصية يسوع
مِنذ فجر الكنيسة نرى الرسل يتمّمون وصية يسوع ويعملون كجماعة منظّمة وعزة في إدارة الكنيسة الأولى، فينتخبون بالقرعة الرسول الثاني عشر ليقوم مقام يهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه (أع 1: 15- 26). فعدد الاثني عشر الذي أراده يسوع وعُرف به الرسل، هو علامة الشعب الجديد المدعو إلى أن ينوب مناب الشعب القديم المبني على أسباط إسرائيل الاثني عشر. وانتخابهم بالقرعة هو، في نظرهم، دليل على أنّ اختيار الرسول الثاني عشر هو من عمل الله وليس من عمل إنسان، وذلك على غرار اختيار الرسل الآخرين الذين انتقاهم يسوع بنفسه.
وبعد انتخاب الرسول الثاني عشر نرى الرسل يديرون كلّ شؤون الكنيسة، فينظّمون خدمة الكلمة والصلوات: “وكانوا مواظبين على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات” (أع 2: 42)، وينشئون الشمامسة، “بالصلاة ووضع الأبدي” (أع 6: 1- 4)، ويمنحون الروح القدس في ما ندعوه اليوم سر التثبيت (أع 8: 14- 17)، ويجتمعون مع الكهنة والكنيسة في مجمع أورشليم للنظر في أمر إخضاع المهتدين إلى المسيحية من غير اليهود لشريعة موسى (أع 15: 1- 31)، ويرون في ما يتّخذونه من قرارات عمل الروح القدس الذي يعمل دومًا معهم: “لقد رأى الروح القدس ونحن…” (أع 15: 28). إنّهم حقّاً، حسب قول بولس الرسول “خدّام المسيح ووكلاء لأسرار الله” (1 كو 4: 1).
2- الخلافة الرسولية
ء) الكنيسة في أيّام الرسل
كان الرسل على رأس كنيسة مكوّنة من الذين آمنوا بالمسيح مع الرسل أو على يدهم. فالكنيسة الأولى التي تكوّنت كانت كنيسة أورشليم التي يروي سفر أعمال الرسل نموّها منذ حلول الروح القدس يوم العنصرة، وخطبة بطرس الأولى التي، في إثرها، “انضمّ إلى الكنيسة في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس” (أع 2: 41). وبعد خطبة بطرس الثانية، “كثيرون من الذين سمعوا الخطبة آمنوا، فصار عدد الرجال المؤمنين نحو خمسة آلاف” (أع 4: 4). وبقي الرسل، رغم الاضطهادات، “كل يوم، في الهيكل وفي البيوت، لا ينفكّون يعلّمون ويبشّرون بالمسيح يسوع” (أع 5: 42). “… وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًّا في أورشليم، وجمهور من الكهنة يطيعون الإيمان” (أع 6: 7). “ولمّا ثار اضطهاد شديد على الكنيسة في أورشليم تشتّت الجميع في جنبات اليهودية والسامرة ما خلا الرسل” (أع 8: 1). فامتدّت الكنيسة إلى السامرة (أع 8: 4- 25)، ثمّ فتحت أبوابها للأمم مع بطرس الرسول الذي بشرّ وعمّد كرنيليوس قائد المئة في قيصرية (أع 10)، ثمّ امتدّت إلى دمشق (أع 9)، وأنطاكية (أع 11: 19- 25) وسائر أنحاء العالم الروماني.
وفي تلك الفترة كان الرسل يعملون بالائتلاف مع “الإخوة” (أع 11: 1)، و”الكهنة” (أع 15: 2، 6، 22- 23). وكلّما كانت كلمة الله تنمو وتمتدّ، كان الرسل يرافقون نموّها ويثبّتون امتدادها، كما حصل في السامرة (أع 8: 14- 17)، وِفي قيصرية (أع 11: 1- 4، 18)، وفي أنطاكية (أع 11: 22- 24). وبقيت أورشليم المدينة الأم كنيسة أورشليم الكنيسة الأم التي منها ينطلق الرسل للتبشير وإليها يستند المبشّرون والمعلّمون لمعرفة ما يجب التمسّك به في التبشير والتعليم، كما حدث خصوصاً في مجمع أورشليم (أع 15).
فالكنيسة الرسولية، في أيّام الرسل، كانت الكنيسة الملحمة حول الرسل، أو التي ترجع إلى الرسل للمحافظة على الإيمان الحق والتعليم القويم.
ب) الأساقفة في أيّام الرسل
تذكر أسفار العهد الجديد، إلى جانب الرسل، “كهنة” (أو شيوخًا، حسب اللفظة اليونانية “برِسْفِيسْ”) و”أساقفة”. ونرى بولس الرسول “يرسم كهنة في كل كنيسة” من كنائس آسية الصغرى (أع 14: 23)، “ثم يستدعي كهنة كنيسة أفسس” (أع 20: 17) ليوصيهم قائلاً: “إحذروا لأنفسكم، ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساقفة، لترعوا كنيسة الله إلى اقتناها بدمه الخاص” (أع 20: 28). ويذكّر تيموثاوس بكهنوته: “أذكّرك أن تذكي فيك الموهبة التي آتاكها الله بوضع يديّ” (2 تي 1: 6؛ 1 تي 4: 14). ويعطي توصيات للأساقفة (1 تي 3: 1- 7) والشمامسة (1 تي 3: 8- 13) “والكهنة الذين أحسنوا التدبير، ولا سيّمَا الذين يتعبون في الكلمة والتعليم، فليحسبوا أهلاً لكرامة مضاعفة” (1 تي 5: 17).
ويطلب بولس من تيموثاوس “ألاّ يتسرّع بوضع يديه على أحد” (1 تي 5: 22)، ولكن يوصيه بأن “ما سمعه منه لدى شهود كثيرين، فليستودعه هو أيضاً أناساً أمناء، كفاة لأن يعلّموا الآخرين” (2 تي 2: 1). وكذلك يكتب إلى تيطس: “لقد تركتك في كريت لتكمّل تنظيم كل شيء، وتقيم كهنة في كل مدينة، على حسب ما رسمت لك” (1: 5). ثم يوضح له صفات الكهنة والأسقف. ومن أهمّ صفات الأسقف أن يكون “متمسّكا بالكلام الحق على مقتضى التعليم، ليتسنّى له أن يعظ بالتعليم الصحيح، ويفحم المناقضين” (تي 1: 9)، “قادرًا على التعليم” (1 تي 3: 2). لذلك يوصي بولس تيموثاوس: “تمسّك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني في الإيمان والمحبة اللذين في المسيح يسوع. واحفظ الوديعة الصالحة بعون الروح القدس الساكن فينا” (2 تي 1: 13، 14) “يا تيموثاوس، احفظ الوديعة” (1 تي 6: 20)، “اكرز بالكلمة، واعكف على ذلك في وقته وفي غير وقته، حاجج ووبّخ وعظ بكلّ أناة، وبجميع أساليب التعلم” (2 تي 4: 2).
لا ترد لفظة “الأسقف” “والأساقفة” إلاّ في رسائل بولس الرسول، ومرّة واحدة في أعمال الرسل حيث تستعمل كصفة للكهنة (أع 20: 17، 28). أمّا في معظم المقاطع التي يتكلّم فيها سفر أعمال الرسل عن معاوني الرسل فترد لفظة “الكهنة” (أو “الشيوخ”). (راجع مثلاً: 11: 30؛ 14: 23؛ 15: 23؛ 20: 17؛ 21: 18). هؤلاء الكهنة هم معاونو الرسل والمسؤولون عن الكنائسَ المحلية. ويبدو أنّه في أيّام الرسل كان الكهنة يؤلّفون في كل كنيسة “مجلسًا” مسؤولاً عن جميع شؤون الكنيسة الروحية والزمنية. من بين هؤلاء الكهنة سيظهر في نهاية القرن الأوّل “أسقف” يكون واحدًا في كل كنيسة، ويكون له مجلس من الكهنة وشمامسة. هذا ما سيتضح لنا في كتابات إكليمنضوس أسقف رومة، وأغناطيوس أسقف أنطاكية، وإيريناوس أسقف ليون.
والمهمّ في الأمر هو وجود أشخاص، كهنة أو أساقفة، منذ أيّام الرسل، مهمتهم المحافظة على “صورة الكلام الصحيح”، على “الإيمان القويم”، على “الوديعة”، ورعاية الكنيسة لتبقى أمينة لإيمان الرسل ولتعليم الرسل.
ج) الأساقفة بعد موت الرسل
في نهاية القرن الأوّل وبداية القرن الثاني نرى بوضوح أكثر تكوين الكنيسة من حيث الخدم، ومسؤولية الأساقفة والكهنة والشمامسة.
فإكليمنضوس أسقف رومة يكتب حوالي السنة 95 إلى كنيسة كورنثس التي تمزّقها النزاعات، ولاسيّمَا في مسؤولية الأساقفة في الكنيسة:
“إنّ الرسل هم الذين أعلنوا لنا البشرى الصالحة من قبل الرب يسوع المسيح… فبينما كانوا يكرزون في المدن والقرى، اختبروا بالروح باكورة كرازتهم، وأقاموهم أساقفة وشمامسة على الذين سيؤمنون… لقد عرف الرسل بالرب يسوع المسيح أنّه سيكون نزاع حول الكرامة الأسقفية. لذلك، بعلمهم السابق لمَا سيحدث في المستقبل، أقاموا الأساقفة، ووضعوا القاعدة التالية: إنّه بعد موتهم يقوم بخدمتهم رجال آخرون مختبرون، أولئك الذين عيّنهم الرسل أو آخرون من ذوي الكفاءة توافق عليهم الكنيسة” (42: 1-4؛ 44: 1- 3).
ويظهر تنظيم الكنيسة من خلال الرسائل التي يوجهها أغناطيوس الأنطاكي إلى كنائس آسيا الصغرى على الشكل التالي: هناك أسقف على رأس الكنيسة، وهو ممثلها وضمان وحدة العقيدة والعبادة والقانون الكنسي. وحول الأسقف مجمع من الكهنة، وشمامسة. فالأسقف يرئس باسم الله، ومجلس الكهنة يقوم مقام الرسل، والشمامسة هم الخدام في يسوع المسيح. وعلى الكنيسة أن تخضع للأسقف كما للمسيح، وللكهنة كما للرسل. وكذلك يجب احترام الشمامسة كالمسيح. وبدون الأسقف لا يتمّ شيء ممّا يخصّ الكنيسة. والليتورجيا الإفخارستية التي يرئسها الأسقف أو ممثّله هي وحدها الصحيحة. إنّ الكهنة هم معاونو الأسقف ولكنّهم خاضعون له. وفي رسائل أغناطيوس يظهر تنظيم الكنيسة كما كان منتشَرًا في كنائس آسيا الصغرى، إلاّ أنّنا لا نعرف شيئًا عن كيفية الانتقال إلى هذا التنظيم من أيّام الرسل إلى بداية القرن الثاني، وهو الزمن الذي عاش فيه أغناطيوس.
أمّا إيريناوس أسقف ليون فكتب بين 180 و190 ما يلي:
“من أراد رؤية الحقيقة يمكنه أن بشاهد في الكنيسة كلّها تقليد الرسل المنتشر في العالم أجمع. ونستطيع تعداد الذين أقامهم الرسل أساقفة في الكنائس، ومن خلفهم حتى يومنا هذا… وهذا دليل على أنّ الإيمان هو واحد وكامل، هذا الإيمان المحي الذي حفظ في الكنيسة منذ الرسل إلى الآن، وانتقل في الحق”.
د) مقوّمات الخلافة الرسولية
إنّ الخلافة الرسولية ليست مجرّد اتصال تاريخي بين الأساقفة والرسل، بل هي قبل ذلك اتصال في التعليم الصحيح، وكرسي الأسقفية هو قبل أي شيء آخر كرسي للتعليم الصحيح. لذلك فإعلان الإيمان هو جزء أساسي في السيامة الأسقفية، لأنّه، إن كانت أولى وظائف الأسقف التعليم، فلا يمكنه أن بعلّم إلاّ وفق تقليد الرسل والآباء. ولذلك أيضاً يشترك في سيامة كل أسقف ثلاثة أساقفة للدلالة على أنّ الأسقف المرتسم يدخل في شركة الإيمان الواحد مع سائر الكنائس المحلّية، وعلى أنّ انتخابه على هذا الكرسي هو انتخاب شرعي. فالكنيسة الرسولية هي إذًا الكنيسة التي تحافظ بأمانة على تعليم الرسل، ويعود فيها الأسقف المنتخب بالتسلسل إلى الرسل.
لقد أظهر المجمع الفاتيكاني الثاني، في دستوره العقائدي “في الكنيسة”، ارتباط الأساقفة بالرسل. قال:
(إنّ هذه المهمة الإلهية التي أناطها المسيح بالرسل يجب أن تستمرّ حتى منتهى العالم، بمَا أنّ الإنجيل الذي يجب أن يسلّموه هو للكنيسة، في كل زمان، مبدأ الحياة كلها. لذلك اهتمّ الرسل بأن يقيموا لهم خلفاء في هذا المجتمع المنظّم على أساس السلطة… ولم يكتفوا بأن يكون لهم في الخدمة مساعدون مختلفَون. وإنّما لكي تظلّ الرسالة التي ائتمنوا عليها مستمرة بعد موتهم سلّموا إلى معاونيهم الأدنين، تسليم وصية، مهمّة إنجاز العمل الذي بدأوه وترسيخه. وأوصوهم بالسهر على القطيع الذي أقامهم فيه الروح القدس ليرعوا كنيسة الله (أع 20: 28). فأقاموا هؤلاء الرجال، ورعوا لهم للمستقبل أن يتسلّم زمام خدمتهم بعد مماتهم رجال آخرون مختبرون. وبين الخدم المختلفة التي تمارس في الكنيسة منذ أيّامها الأولى تحتلّ المحل الأوّل، بشهادة التقليد، وظيفة أولئك الذين أقيموا في الأسقفية، وكأنهم، بتسلسلهم في خلافة متّصلة منذ البدء، أغصان ينتقل بها الزرع الرسولى. وهكذا، كما يشهد القديس إيريناوس، أظهر التقليد الرسولي وحفظه في العالم كلّه أولئك الذين أقامهم الرسل أساقفة، ثم خلفاؤهم حتى بومنا هذا.
“فهكذا إذًا تسلّم الأساقفة خدمة الجماعة الراعوية يعاونهم الكهنة والشمامسة. ويرئسون، بالنيابة عن الله، القطيع الذين هم رعاته، بسلطة التعليم، كهنوت العبادة المقدّسة، وولاية الحكم. وكما أنّ المهمة التي أناطها الرب ببطرس، أوّل الرسل، منفردًا، و يجب أن تنتقل إلى خلفائه، تدوم باستمرار، كذلك أيضاً مهمة رعاية الكنيسة التي تسلّمها الرسل، والتي يجب أن تزاولها هيئة الأساقفة المقدّسة، تدوم باستمرار. فلذلك يعلّم المجمع المقدّس أنّ الأساقفة يخلفون الرسل، بوضع إلهي، على رعاية القطيع: فمن سمع منهم سمع من المسيح، ومن احتقرهم احتقر المسيح واحتقر الذي أرسل المسيح (لو 10: 16).
وتشمل الخلافة الرسولية كل وظائف الأساقفة، سلطة التعليم، وكهنوت العبادة المقدّسة، وولاية الحكم. وهذه الأمور الثلاثة التي تبني الكنيسة والتي يمكن أن نرى إشارة إليها في متى 28: 18- 20، يجب أن ينظر إليها معًا، فلا يمكن الاكتفاء بناحية واحدة منها، كالتعليم مثلاً، وإهمال ناحية العبادة والتقديس.
الكنيسة الرسولية هي الكنيسة التي تكمّل عمل الرسل في التعليم والتقديس وولاية الحكم.
3- الكنيسة الجامعة والكنائس المحلّية
إنّ سر الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية يظهر في جماعة معيّنة تعيش معًا في مدينة محدّدة أو منطقة محدّدة، والكنيسة الجامعة تظهر في كنيسة محلّية. فما هي العلاقة بين الكنيسة الجامعة والكنائس المحلّية؟
ء) سر الكنيسة يتحقّق بكامله في كل كنيسة محلّية
في كل كنيسة محلّية يتحقّق سر الكنيسة الجامعة، لأنّ ملء المسيح حاضر سرّياً في كل كنيسة محلّية، كما أنّه حاضر في الكنيسة الجامعة. لقد تطرّقت إلى هذا الموضوع “لجنة الحوار اللاهوتي المختلطة الدولية بين الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنيسة الأرثوذكسية”، وأصدرت في 6 من تموز عام 1982 وثيقة هامة سنرتكز عليها في هذا البحث. جاء في القسم الثاني من الوثيقة:
“إستنادا إلى العهد الجديد، نلاحظ أوّلاً أنّ الكنيسة حقيقة “محلّية”. فالكنيسة، في التاريخ، هي الكنيسة المحلّية. عندما نتحدّث عن منطقة نتكلّم بالأحرى عن كنائس، بالجمع. والمقصود دوماً هو كنيسة الله، إنّما في مكان ما.
“والحال أنّ الكنيسة القائمة في مكان لا تتكوّن أساساً من أشخاص يضاف بعضهم إلى بعض فيكوّنوها. هناك “أورشليم عليا”، “منحدرة من عند الله”، هناك اتحاد بالله عليه تتأسّس الجماعة نفسها. الكنيسة إنّما تتكوّن من عطية مجّانية، هي عطية الخليقة الجديدة”.
فالكنيسة المحلّية ليست تجمعّ أشخاص يعترفون بالمسيح ويقرّرون إنشاء كنيسة في مكان ما. الكنيسة المحلّية لا يصنعها الناس، فالله قد كوّنها إذ أشرك الناس بحياته الإلهية التي ظهرت في حياة المسيح وموته وقيامته.
والكنيسة الجامعة ليست تجمعّ كنائس محلّية. فإذا اعترفنا أنّ الكنيسة هي جسد المسيح القائم من بين الأموات، ينتج من ذلك أنّ وجود سر الكنيسة الجامعة يسبق وجود الكنائس المحلّية. والكنائس المحلّية ليست سوى ظهور سر المسيح وسر الكنيسة جسد المسيح، في مكان ما وفي زمان معيّن.
تلك هي النظرة اللاهوتية للكنيسة، التي تناقض النظرة السوسيولوجية التي تعتبر الكنيسة الجامعة تجمعّ كنائس محلّية، والبابا رئيس هذا التجمعّ. إنّ الكنيسة الجامعة تظهر في الكنيسة المحلّية. وتوضح وثيقة ميونخ أنّها تظهر في ملء حقيقتها في “جماعة إفخارستية”، أي في جماعة تحتفل بسر القربان المقدّس، لأنّ هذا السر هو الذي يجعل حدث الخلاص بالمسيح حاضرًا في كل كنيسة محلّية. تقول الوثيقة:
“إنّ الكنيسة القائمة في مكان ما تظهر كنيسة عندما تكون جماعة. وتكون جماعة بملء ما لهذه اللفظة من معنى، عندما تكون محفلاً إفخارستياً. لأنّه، عندما تحتفل الكنيسة المحلّية فالإفخارستيا، فالحدث الذي جرى “مرّة لا غير” يصير في هذا الاحتفال آنياً وظاهرًا… عندئذ لا يعود في الكنيسة المحلّية لا رجل ولا امرأة، لا عبد ولا حر، لا يهودي ولا يوناني، بل تعطى وحدة جديدة، تذلَل الانقسامات وتعيد الشركة في جسد المسيح الواحد. وتلك الوحدة تسمو على الوحدة النفسانية والعرقية والاجتماعية السياسية والثقافية. إنّها “شرعة الروح القدس” التي تجمع أبناء الله المشتتين. إذاك تثمر الحياة الجديدة التي تمنح بالمعمودية والتثبيت ملء ثمارها. وبقوَة جسد الرب ودمه، وقد ملأهما الروح القدس، تشفي الخطيئة التيَ لا تني تهاجم المسيحيين معيقة ديناميكية “الحياة لأجل الله في المسيح”، التي حصلوا عليها بالمعمودية، وينطبق هذا على خطيئة الانقسام التي تناقض في كل أشكالها قصد الله” (2: 1).
إنّ الكنيسة المحلية مكوّنة من ثلاثة عناصر، جماعة مجدّدة بالمعمودية وإفخارستيا تقيمها وأسقف يرئسها.
توضح وثيقة ميونخ أنّ “خدمة الأسقف ليست مجرّد وظيفة تكتيكية أو عملية (أي إنّه لا بد من مترئّس)، بل هي وظيفة عضوية. فالأسقف يتقبّل هبة النعمة الأسقفية (1 تي 4: 14) في سر السيامة التي يقوم بها أساقفة نالوا هم أيضاً تلك الهبة بوضع الأيدي في سيامات أسقفية تتابعت دون انقطاع بدءًا بالرسل القدّيسين. إلاّ أنّ ما يناله الأسقف من روح الرب في سر السيامة ليس سلطة قانونية تمنح بمجرد انتقال السلطة من شخص إلى آخر، بل سلطة سرية هي سلطة الخادم التي نالها الابن من الآب وتقبّلها بشرياً في الآلام التي قبلها”.
ثم تبيّن الوثيقة ارتباط الأسقف بالجماعة الإفخارستية التي يرئسها: “فيظهر الأسقف حينئذ خادم المسيح، يوحّد جسده ويبدع الشركة بجسده”، ثمّ تتابع:
“هناك شركة عميقة بين الأسقف والجماعة التي يسند إليه الروح مسؤوليتها لأجل كنيسة الله. هذا ما يوحي إليه التقليد القديم في صورة العرس. بيد أنّ هذه الشركة تقوم داخل الشركة مع الجماعة الرسولية. في التقليد القديم (الذي يؤكّده بنوع خاص تقليد إيبوليتوس الرسولي)، كان الأسقف، إذ ينتخبه الشعب- الكفيل لإيمانه الرسولي المطابق لما تعلّمه الكنيسة المحلّية- يتقبّل النعمة الخدمية من المسيح بالروح القدس في صلاة الجماعة ووضع أيدي الأساقفة المجاورين شهود إيمان كنيستهم الخاصة. وإنّ موهبته التي تأتيه من الروح القدس مباشرة ينالها في رسولية كنيسته (المتّصلة بإيمان الجماعة الرسولية) والكنائس الأخرى الممثّلة بأسقفها. بهذا تدخل خدمته في كاثوليكية كنيسة الله.
“فالخلافة الرسولية تعني إذاً أكثر من مجرّد انتقال السلطات. إنّها خلافة في كنيسة شاهدة للإيمان الرسولي ومتّحدة مع الكنائس الأخرى التي تشهد هي أيضاً للإيمان عينه. فالكرسي الأسقفي يمثّل دورًا هامًا في إدخال الأسقف في صلب الرسولية الكنسية. ومن جهة أخرى، متى سيم الأسقف أصبح الضامن لرسولية كنيسته والممثَل لها ضمن شركة الكنائس والصلة التي تربطها بالكنائس الأخرى. لذلك لا تقام الإفخاريستيا في الحق في كنيسته ما لم يرئسها هو أو كاهن قائم في الشركة معه. وذكر اسمه في الأنافور أمر جوهري”.
ثمّ تتابع الوثيقة موضحة دور الكهنة:
“بواسطة الكهنة الموكول إليهم الإشراف على الحياة وعلى إقامة الإفخارستيا في الجماعات المؤتمنين عليها، تنمو هذه الجماعات في الشركة مع سائر الجماعات التي يتحمّل الأسقف عبء مسؤوليتها الأولى. في الحالة الحاضرة، الأبرشية نفسها هي شركة جماعات إفخارستية. وتقوم إحدى مهمّات الكهنة بأن يصلوا الجماعات بإفخارستيا الأسقف، ويغذّوها بالإيمان الرسولي الذي يشهد له الأسقف ويضمنه. وعليهم أيضاً أن يسهروا على المسيحيين ليكونوا، بعد أن تغذّوا بجسد ودم ذاك الذي أسم حياته لأجل إخوته، شهودًا حقيقيين للمحبة الأخوية في التضحية المتبادلة التي تتغذّى بتضحية المسيح. لقد قال الرسول: “إذا رأى أحد أخاه في حاجة وأمسك عليه أحشاءه، فكيف تكون فيه محبة الله؟ “إنّ الإفخارستيا تحدّد الطريقة المسيحية لعيش سر المسبح الفصحي وعطية العنصرة، وبفضلها يتحوّل تحوّلاً عميقاً الوجود البشري المعرّض دوماً للتجربة والألم” (2: 4).
ب) الشركة بين الكنائس المحلّية
إنّ الوحدة في الإيمان وإقامة الإفخارستيا الواحدة، وهما العنصران اللذان يكوّنان الكنيسة المحلية، يخلقان أيضاً الشركة بين جميع الكنائس المحلّية. تقول وثيقة ميونخ:
“جسد المسيح واحد، وبالتالي كنيسة الله واحدة. أمّا مطابقة جماعة إفخارستية مع غيرها، فتأتي من أنّ الجماعات كلّها تقيم الذكرى نفسها بإيمان واحد، وتصير جميعها، بأكل الجسد نفسه والاشتراك في الكأس عينها، جسد المسيح الواحد نفسه، الذي اندمجت به بالمعمودية الواحدة نفسها. وإن تعددت الاحتفالات الإفخارستية، فليس إلاّ سر واحد يحتفل به ويشترك فيه الجميع. ثم إنّ المؤمن، عندما يتناول جسد المسيح ودمه، لا يتناول جزءًا منه بل المسيح بكامله. وكذلك الكنيسة المحلّية التي تحتفل بالإفخارستيا حول الأسقف ليست جزءًا من جسد المسيح. إنّ تعدّد المحافل المحلّية لا يُقسّم الكنيسة، بل على العكس يظهر بشكل سري وحدتها. على غرار جماعة الرسل المجتمعين حول المسيح، كل جماعة إفخارستية هي حقاً كنيسة الله المقدّسة، وجسد المسيح، وذلك بالاتحاد مع جماعة التلاميذ الأولى وكل الجماعات التي في مختلف أنحاء العالم تحتفل واحتفلت بذكرى الرب. وهي متحدة أيضاً بجماعة القدّيسين في السماء، التي يوحي إليها كل احتفال إفخارستي على الأرض” (3: 1).
ثم تتابع الوثيقة:
“وبمَا أنّ الله الواحد والوحيد هو شركة ثلاثة أقانيم، كذلك الكنيسة الواحدة والوحيدة هي شركة عدّة جماعات، والكنيسة المحلّية شركة أشخاص. فالكنيسة الواحدة والوحيدة هي نفسها إذًا الكنائس المتعدّدة القائمة في شركة بعضها مع بعض” (3: 2).
أمّا الأمران اللذان تعلنهما الوثيقة أساسيين لكي تكون الكنيسة المحلّية التي تقيم الإفخارستيا حقًا في الشركة الكنسية، فهما: “الأمر الأساسي الأوّل أن يكون سر الكنيسة الذي تعيشه الكنيسة المحلّية طابقاً لسر الكنيسة الذي عاشته الكنيسة الأولى. تلك هي الكثلكة في الزمن” و”الأمر الثاني الرئيسي هو الاعتراف المتبادل الذي يتمّ اليوم بين تلك الكنيسة المحلّية والكنائس الأخرى. علي كل كنيسة أن ترى في الكنائس الأخرى، من خلال المميّزات المحلّية، سر الكنيسة الواحد. هذا الاعَتراف المتبادل يتمّ أوّلاً على الصعيد الإقليمي، ثم يتخطاه إلى الكنائس الشقيقة” (3: 3). وهذا الاعتراف المتبادل لا يصحّ إلاّ إذا أعلن في كل كنيسة محلية الإيمان الواحد، “ولا بد أيضاً من إرادة الاشتراك في الوليمة والخدمة، لا بالكلام فحسب، بل بالفعل أيضاً” (3: 3).
ويشير إلى الاستمرار، لإيمان الواحد عبر التاريخ ذكرُ القدّيسين في قانون القدّاس، كما أنّ ذكر المسؤولين من بطاركة وأساقفة يشير إلى الاعتراف المتبادل.
وتؤكّد أخيرًا وثيقة ميونيخ أنّ “الأسقف لا يستطيع أن يفصل شجون كنيسته عن شجون الكنيسة الجامعة، لأنّ الكنيسة الواحدة والوحيدة تتحقق في كنيسته المحلّية. وعندما ينال الأسقف موهبة الروح القدس في سر الكهنوت لأجل أسقفية كنيسة محلّية هي كنيسته، ينال بالفعل نفسه موهبة الروح لأجل أسقفية الكنيسة جمعاء. فيمارس هذه الأسقفية في شعب الله بالاشتراك مع سائر الأساقفة الحاملين الآن أعباء الكنائس والمشتركين بالتقليد الحي الذي نقله اليهم أساقفة الماضي… لقد عهد الروح القدس إلى مجموع الأساقفة المحلّيين المتّحدين بعضهم مع بعض بأسقفية الكنيسة الجامعة، ويعبّر عن هذا الاتحاد أو الشركة تقليدياً بممارسة المجامع”.
وتنتهي الوثيقة بعزم موقّعيها على متابعة دراسة موضوع المجامع في اجتماعات لاحقة: “وسوف نرى في ما بعد طريقة تصوّر هذه الممارسة وتحقيقها على ضوء ما أتينا على إيضاحه” (4: 4).
الفصل الرابع عصمة الكنيسة
1- أساس ثبات الكنيسة في الحق
“اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أناذا معكم كل الأيّام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20).
إنّ يسوع قد أوصى تلاميذه بأن يتلمذوا جميع الأمم ويعلّموهم، ووعدهم بأنه سيكون معهم كل الأيّام إلى انقضاء الدهر. وفي عشائه الأخير معهم وعدهم بأن يرسل إليهم الروح القدس الذي دعاه “روح الحق”، وهو الذي سيعلّمهم كلّ شيء: “إن كنتم تحبوني تحفظون وصاياي. وأنا أسأل الآب فيعطيكم محاميا ليقيم معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنّه لا يراه. ولا يعرفه، أمّا أنتم فتعرفونه، لأنّه يقيم معكم ويكون فيكم” (يو 14: 15- 17).
وعندما اعترف بطرس بأنّ يسوع هو “المسيح ابن الله الحي”، قال له يسوع: “طوبى لك، يا سمعان ابن يونا، فإنّه ليس اللحم والدم أعلنا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (متى 16: 18).
نؤمن أنّ أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة. فالمسيح سيكون معها إلى انقضاء الدهر. والروح القديس، روح الحق، سيمكث فيها ليحفظها في الحق. لذلك يدعو بولس الرسول الكنيسة “عمود الحق وقاعدته” (1 تي 3: 15)، ويعلن: “إن بشّركم أحد- وإن يكن نحن أنفسنا، أو ملاكًا من السماء- بإنجيل آخر غير الذي بشّرناكم به، فليكن مبسلاً”؟ ثمّ يضيف مكرّرًا: “لقد قلنا لكم من قبل، وأقول الآن أماً: إن بشّركم أحد بخلاف ما تلقّيتم، فليكن مبسلاً” (غلا 1: 8، 9).
يقول القدّيس إيريناوس: حيث الكنيسة هناك أيضاً روح الله. وحيث روح الله هناك الكنيسة وكل نعمة، والروح هو الحق. الروح القدس هو روح الآب، والآب الذي أوحى إلى بطرس والرسل بإيمانهم سيقود الكنيسة على مدى الأجيال بروحه القدّوس ويحفظها في الإيمان الحق. والروح القدس هو أيضاً روح يسوع. ويسوع الذي علّم تلاميذه لا يزال اليوم أيضاً بروحه القدّوس يعلّم الكنيسة. وهذا الروح سيمكث في الكنيسة إلى الأبد. لذلك نؤمن أنّ الكنيسة ستثبت إلى الأبد، وأنّها ستثبت في الحق.
إنّ ثبات الكنيسة في الحق يتحقّق على صعيدين، صعيد الإيمان وصعيد العقائد.
ء) الإيمان اشتراك في حقيقة الله
الإيمان التزام كلّي به. يعتنق الإنسان الله معتبراً إيّاه الحقيقة القصوى له وللكون بأسره. وهذا الالتزام يشمل الإنسان في كل أبعاده: في عقله وإرادته، في تفكيره ومحبته. “والإيمان لا يخزي”، أي إنّه لا يمكن أن يقودنا إلى الضلال، لأنّه نعمة من الله. فالله هو الذي يجذب الإنسان إليه: “ما من أحد، يقول يسوع، يقدر أن يأتي إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو 6: 44). لذلك فالإيمان هو اشتراك في حقيقة الله.
ب) العقائد تعبّر عن إيمان الجماعة
الإيمان بحاجة إلى تعبير، لأنّه بدونه يبقى غامضاً. لكنّ هذا التعبير، قبل أن يكون تعبير الشخص المؤمن، هو أوّلاً تعبير الجماعة المؤمنة، أي الكنيسة. فالإنسان يولد في كنيسة مؤمنة قد سبقته في الإيمان. والكنيسة منذ الرسل قد أعلنت إيمانها في تعابير استقتها من أقوال المسيح، وأقوال الرسل الذين عاشوا معه وآمنوا به. وقد تطوّرت تلك التعابير إلى أن صاغها آباء الكنيسة الأولى وأعلنتها المجامع المسكونية في عقائد إيمانية.
2- عصمة الكنيسة في إعلانها عقائد الإيمان
إنّ وجود الروح القدس في الكنيسة هو الذي يجعلها “في الحق” في كل ما تعلّمه من شؤون الإيمان والآداب. فالمسيحي الذي يؤمن بمَا تعلّمه الكنيسة ويعمل بمَا تأمر به يمكنه أن يثق الثقة التامة أنّه في الحق. وللتعبير عن هذا الأمر، درج في الكنيسة الغربية منذ القرن الرابع عشر استعمال لفظة “العصمة”، أي إنّ الكنيسة معصومة عن الخطأ والضلال في كل ما تعلّمه من عقائد الإيمان والحياة المسيحية.
من هو المعصوم في الكنيسة؟
إنّ أوّل ما يتبادر إلى أذهان المسيحيين ولا سيّمَا الكاثوليك منهم، لدى طرح هذا السؤال، هو عصمة أسقف رومة التي حدّدها المجمع الفاتيكاني الأوّل سنة 1870 وعاد فأكّدها المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1964. لكنّ عصمة أسقف رومة يجب ألاّ تُفصل عن عصمة سائر الأساقفة وعن عصمة الشعب المسيحي. بمجمله. وهذا ما أكّده المجمع الفاتيكاني الأول نفسه بقوله إنّ اسقف رومة، في بعض الظروف الخاصة التي سنحدّدها، “يملك تلك العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته…”. والكنيسة هي أوّلاً شعب الله بمجمله. والمجمع الفاتيكاني الثاني عاد فأكّد الأمر نفسه. لذلك سنتكلّم أوّلاً عن عصمة الشعب المسيحي، ثمّ عن عصمة الأساقفة الملتئمين في المجامع المسكونية أو المتّفقين على عقيدة إيمانية خارج تلك المجامع، وأخيرًا، وفي اللاهوت الكاثوليكي، عن عصمة أسقف رومة.
ء) عصمة الشعب المسيحي
لقد أعاد المجمع الفاتيكاني الثاني التوازن في هويّة الكنيسة بين الشعب والأساقفة. ففي دستوره العقائدي “في الكنيسة”، بدأ في الفصل الثاني بالحديث عن “شعب الله”، قبل التطرّق، في الفصل الثالث، إلى “نظام السلطة في الكنيسة ولا سيّمَا الأسقفية”. ونتج من ذلك، في موضوع العصمة، تأكيد عصمة الشعب بمجمله قبل تحديد عصمة الأساقفة وعصمة أسقف رومة، أوّل الأساقفة. يقول عن عصمة الشعب:
إنّ شعب الله المقدّس يشترك أيضاً في وظيفة المسيح عندما يؤدّي له، ولا سيّمَا بحياة الإيمان والمحبة، شهادة حيّة، وعندما يقرّب لله قربان الحمد، ثمرة الشفاه المعترفة باسمه وإنّ جماعة المؤمنين الذين نالوا مسحة القدّوس (1 يو 2: 20، 37) لا يمكن أن تضلّ في الإيمان. وتظهر هذه الخاصة التي تتميّز بها، بواسطة حاسة الإيمان الفائقة الطبيعة التي يملكها الشعب بأسره عندما يجمع رأيه، “من الأساقفة إلى آخر المؤمنين العلمانيين”، على قضية إيمانية أو أدبية. ذلك بأن شعب الله، بقوّة حاسة الإيمان هذه التي يوقظها فيه روح الحقيقة ويسندها، وبقيادة السلطة المعلّمة المقدّسة التي يتسلّم منها، بخضوع وأمانة، لا كلام الناس بل كلام الله حقًا، يتمسّك تمسّكًا ثابتًا بالإيمان الذي سلّم للقدّيسين دفعة واحدة (يهو 3)، و يمكّنه استواء حكمه من فهمه فهمًا أعمق، ومن وضعه في حياته موضع العمل على وجه أكمل” (دستور عقائدي في الكنيسة، 12).
إنّ الكنيسة الشرقية تؤكّد بنوع خاص عصمة الشعب المسيحي. فالرسالة العامة التي أذاعها مجمع البطاركة الأرثوذكسيين سنة 1848 تقول: “إنّ شعب الكنيسة كلّه هو الذي يحفظ التقوى والإيمان”. ولا تناقض بين الشعب والسلطة المعلّمة، أي الأساقفة، لأنّ الأساقفة هم أيضاً أعضاء في شعب الله. جميع الأعضاء، كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني معيداً نصِّاً من القدّيس أغوسطينوس، “من الأساقفة إلى آخر المؤمنين العمانيين”، يحفظون الإيمان بإرشاد الروح القدس. فالسلطة المعلّمة هي أيضاً سلطة متعلّمة بخضوعها للروح القدس.
ويتكلّم المجمع أيضاً عن “حاسة الإيمان”. فإنّ حاسة الإيمان هذه قد تخلق في الشعب المسيحي تيارات واتجاهات تسبق أحيانًا قرارات السلطة المعلّمة، أو بالأحرى هي أمر مشترك بين جميع أعضاء الشعب المسيحي من أساقفة وعلمانيين. وإنّ القرارات التي تتّخذها السلطة المعلّمة هي حصيلة انفتاح الأساقفة والعلمانيين معًا على عمل الروح القدس الواحد الذي يعمل في الكنيسة وفي جميع أعضائها ليحفظهم في الحق.
ب) عصمة الأساقفة والمجامع المسكونية
إنّ الرسل كانوا أوّل سلطة معلّمة معصومة في الكنيسة، وقد عاشوا مع المسيح وكانوا شهودًا لقيامته، وحلّ عليهم الروح القدس وثبّتهم في الكرازة والتعليم والتقديس ورعاية الكنيسة. ولقد مارسوا سلطتهم التعليمية بشكل جماعي ولا سيّما في مجمع أورشليم. وكانت الكنيسة الرسولية في أيّام الرسل تلتئم حولهم وترجع دوماً إليهم للمحافظة على الإيمان الحق والتعليم القويم. ولقد وضع الرسل أيديهم على بعض معاونيهم ومنحوهم الروح القدس وجعلوا منهم أساقفة للمحافظة على “صورة الكلام الصحيح” و”الإيمان القويم” و”الوديعة”. وهذا ما أكّده المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يضيف: “وهكذا؟ كما يشهد القديس إيريناوس، أظهر التقليد الرسولي وحفظه في العالم أولئك الذين أقامهم الرسل أساقفة، ثم خلفاؤهم من بعدهم حتى يومنا هذا” (دستور عقائدي في الكنيسة، 20).
فبعد الحديث عن “أولى مهامّ الأسقفية التي هي الدعوة بالإنجيل” والتعليم، يتطرّق المجمع إلى عصمة الأساقفة فيقول: “ولئن يكن الأساقفة لا يتمتّعون، منفردين، بامتياز العصمة، فإنّهم، على ذلك- وإن منتشرين في العالم ولكن متّحدين في ما بينهم ومع خليفة بطرس برباط الشركة – إذا اتفقوا على التعليم، بوجه صحيح، بأن عقيدة تتعلّق بالإيمان والآداب تلزم بوجه مطلق، فتعليمهم إذّاك تعليم المسيح يعبّرون عنه بعصمة. ويظهر الأمر بوجه أجلى عندما، في المجمع المسكوني الذي يجمعهم، يكونون، بالنسبة إلى مجموع الكنيسة وفي مادّة تتعلّق بالإيمان والآداب، معلّمين وقضاة تستلزم تحديداتهم القبول في طاعة الإيمان. إنّ هذه العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته لكي تحدد التعليم المتعلّق بشؤون الإيمان والآداب، إنّما تتّسع اتّساع مستودع الوحي الإلهي بالذات الذي يجب الحفاظ عليه بقداسة، وعرضه بأمانة” (رقم 25).
فإنّ الأساقفة لا يتمتّعون، منفردين، بامتياز العصمة، أي إنّ الأسقف، في تعليمه الخاص الاعتيادي، يمكن أن يضلّ. وكذلك المجامع الإقليمية. فالأساقفة يتمتّعون بالعصمة في حالتين: أوّلاً، إذا علّم جميع الأساقفة المنتشرين في العالم والمتّحدين بخليفة بطرس أنّ عقيدة تتعلّق بالإيمان والآداب تلزم بوجه مطلق، وثانيًا، إذا حدّدوا العقائد في المجامع المسكونية.
المجامع المسكونية في اللاهوت الكاثوليكي
ثلاثة شروط يحدّدها القانون الكاثوليكي الروماني لصحة المجامع المسكونية:
أوّلاً، يجب أن يدعى إلى المجمع جميع أساقفة الكنيسة الذين لهم سلطة الولاية على إحدى الأبرشيات.
ثانيًا، يجب أن يكون عدد الأساقفة الذين حضروا المجمع كافيًا بحيث يمثّلون في الواقع كل الكنائس.
ثالثًا، يجب أن يوافق البابا على مبدأ الدعوة إلى المجمع، وأن يرئس المجمع شخصيًا أو بواسطة مندوبيه، وأن يثبّت قراراته.
المجامع المسكونية في اللاهوت الأرثوذكسي
يعتبر اللاهوت الأرثوذكسي هذه الشروط القانونية غير كافية. يقول أحد اللاهوتيين الأرثوذكسيين المعاصرين:
“إنّ التاريخ يبرهن أ
إنّ عصمة أسقف رومة قد حدّدها المجمع الفاتيكاني الأوّل سنة 1870، وثبّتها من جديد المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1964. يقول المجمع الفاتيكاني الأوّل:
“إنّ أسقف رومة، عندما يتكلّم “من على السدّة”، أي بصفته راعياً ومعلّمًا لجميع المؤمنين المسيحيين، فيحدّد، بقوّة سلطته الرسولية العليا، أن تعليمًا في موضوع الإيمان والآداب يجب أن تعتنقه الكنيسة كلّها، يملك، من جرّاء العون الإلهي الذي وُعد به في شخص القدّيس بطرس، تلك العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته عندما تُحدّد عقيدة في موضوع الإيمان والآداب. لذلك فإنّ تحديدات الحبر الروماني غير قابلة للتعديل، وذلك بقوّتها الذاتيّة، لا بقوّة إجماع الكنيسة عليها”.
ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني:
“إنّ هذه العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته لكي تحدّد التعليم المتعلّق بشؤون الإيمان والآداب، إنّما تتّسع اتّساع مستودع الوحي الإلهي بالذات الذي يجب الحفاظ عليه بقداسة وعرضه بأمانة. وهذه العصمة يتمنعّ بها الحبر الروماني، رئيس هيئة الأساقفة، بحكم مهنته بالذات، عندما بصفته راعيًا ومعلّمًا أعلى لجميع المؤمنين المسيحيين ومكلَّفًا تثبيت إخوته في الإيمان (راجع لو 22: 32)، يعلن، بتصميم مطلق، عقيدة تتعلّق بالإيمان والآداب. لذلك يقال بحق عن التحديدات التي يعلنها إنّها غير قابلة للتعديل بقوّتها الذاتية لا بقوّة إجماع الكنيسة عليها، لأنّها صدرت بمعونة الروح القدس التي وُعد بها في شخص القدّيس بطرس، ولا يعوزها من ثمّ موافقة الغير، ولا يمكن أن تكون موضع استئناف إلى محكمة أخرى. ذلك بأنّ الحبر الروماني لا يصدر الحكم بصفته شخصاً منفردًا، وإنّما يعرض عقيدة الإيمان الكاثوليكي ويذود عنها بصفته، للكنيسة الجامعة، المعلّم الأعلى الذي يستقرّ فيه، بصفة فريدة، امتياز العصمة الذي هو امتياز الكنيسة بالذات. والعصمة التي وُعدت بها الكنيسة مستقرّة أيضاً في هيئة الأساقفة عندما تمارس سلطانها التعليمى الأعلى بالاتّحاد مع خليفة بطرس. ولا يمكن البتة ألاّ تقبل الكنيسة هذه التحديدات لأن فعل الروح القدس الواحد هو الذي يحفظ وينمي، في وحدة الإيمان، قطيع المسيح كلّه” (دستور عقائدي في الكنيسة، 25).
إنّ تعليم أسقف رومة لا يتمتّع بعصمة الكنيسة إلاّ ضمن الشروط التالية:
أوّلاً، أن يقصد قصدًا صريحًا ممارسة سلطانه التعليمي الأعلى فيعلّم بكونه راعيًا ومعلّمًا أعلى لجميع المسيحيين.
ثانيًا، أن يقصد تحديد عقيدة إيمانية للكنيسة جمعاء
ثالثًا، أن يكون تعليمه متعلّقًا بشؤون الإيمان والآداب فقط.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عصمة أن المبدأ القانوني لتكوين المجامع غير كافٍ. فإنّ سرّ الحياة يفجّر من الداخل كل تحديد شكلي صرف. فمجمع سرديكا سنة 344 ظنّ نفسه مجمعًا مسكونيًا، لكن الكنيسة حفظته مجمعًا محليًا. ومجمع القسطنطينية سنة 381 كان مجمعًا شرقيًا، لكنّه دخل في التاريخ كمجمع مسكوني واعتبر الثاني في عداد المجامع المسكونية. ومجمع أفسس المنعقد سنة 439 والذي دعي “مجمع اللصوص” كسره مجمع خلقيدونية المسكوني سنة 451. ومجمع القسطنطينية المنعقد سنة 553 لم يعتبره الغرب مجمعاً مسكونيًا إلا سنة 700. والمجمع المنعقد سنة 754 اعتبر هرطوقيًا. وكذلك مجمع سنة 869 ألغي بعد عشر سنوات سنة 879. ومجمع فلورنسا سنة 1439 نبذه الشعب الأرثوذكسي، مع أنَه كان قد التأم حسب القوانين المطلوبة لانعقاد المجامع المسكونية…
“إنّ القياس القانوني الشكلي لشروط السلطة المطلقة واعتبار المجمع نفسه مسكونيًا أمران غير كافيين. فكل قرار عقائدي أو قانوني يجب أن يقبله شعب الكنيسة، فيدخل في الجسد، ومتى اتّحد بجسد الكنيسة ودمها، وصار مماثلاً جوهرها، ودخل في صلب إيمانها، يقال عنه إنه كاثوليكي ويمكن أن يرى فيه الزرع الرسولي.
“إنّ مجمع أورشليم الذي هو نموذج المجال لعكس جيّدًا الشروط الداخلية لإجماع الرأي في الحياة الرسولية: “كان جميع المؤمنين معًا؟ وكان كل شيء مشتركًا في ما بينهم” (أع 2، 44). ولدى اتّخاذ قرار: “اجتمع الرسل والشيوخ لينظروا في هذا الأمر” (15: 6)، “حينئذ رأى الرسل والشيوخ، مع الكنيسة كلّها…” (15: 22) “فرأينا بالإجماع” (15: 25)، “فلقد رأى الروح القدس ونحن” (15: 28). إنّ الكنيسة كلّها تشترك، دون فصل أو معارضة بين الكهنة والعلمانيين، ولكن أيضاً دون اختلاط، بل في الاتّفاق التام مع جميع أعضاء الجسد الواحد، وبنفس واحدة.
“إنّ نمو الكنيسة السريع قد أبرز النعمة الخاصة التي يملكها الأساقفة لتمثيل الكنيسة. ولكنّ القديس كبريانوس يكتب من منفاه لإكليروس كنيسته: “لقد قرّرت أن لا أقوم بشيء دون مجلسكم ودون موافقة الشعب. لذلك لدى عودتي سنبحث في كلّ شيء معاً” (رسالة 14: 4). وقد كان أيضاً للرهبان نشاط كبير في أعمال المجامع المسكونية (ابتداء من المجمع الثالث)، فكانوا في المجمع السابع حوالي 130، وكان لهم فيه حق الاقتراع.
“وفي زمن المجامع المسكونية السبعة كان المجمع المسكوني مؤسسة كنسية ومدنية في آن واحد. فقد كان يعود للامبراطور أن يدعو إلى عقد مجمع مسكوني. إلاّ أنّ ممثّلي الدولة كانوا يشتركون فقط من الخارج لمراقبة النظام وحماية حرية الآراء، دون أي اشتراك في الاقتراع. والقرارات كان يوقّعها الآباء. أمّا قبول القرارات من قبل الإمبراطور، بصفته العضو الأوّل في الكنيسة، فكان يضفي عليها قوة الشريعة لجميع المواطنين. وكان اتفاق آباء المجمع يتمّ حول الحقيقة التي أوحى بها الروح القدس. لذلك لم يكن من مجال في نهاية الأعمال لتكوين أقفية وأكثرية، أو آراء شخصية خاصة. وكانت القرارات تقبل مباشرة على الصعيد التأديبي، ولكن “بشكل مشروط”، إلى أن تقبلها الكنيسة كلّها جمعاء، وعندئذ تعتبر “بشكل غير مشروط” صادرة عن مجمع هو حقًّا مسكوني وكاثوليكي يعبَر عن العقائد والحقائق المعصومة. تلك الصفة المطلقة تفسّر التقليد الذي درجت عليه المجامع المسكونية بإعلان أمانتها للتحديدات السابقة: “هكذا آمن الرسل والآباء”. فالمجمع يكون مسكونيًا، لا لأنّه يتأف من ممثّلين نعترف بهم كل الكنائس المحلية بل لأنه يشهد على الإيمان ويكشف الحقيقة. فالروح القدس هو الذي يجعل مجمعًا كاثوليكيًا حقًا، والجسد يؤكّده في الزمن الذي يريده الله.
“المجامع اليوم في عصر مختلف. والأوضاع الخارجية الشكلية والعلاقات مع سلطات الدول مختلفة تمام الاختلاف عن الماضي. لكن الحقيقة السرية للكنيسة تبقى ثابتة غير متزعزعة، وكذلك تواتر الأمانة لمبدإ الحياة نفسه. فالعصمة ليست إلا للكنيسة في كامل وجودها الإلهي والإنساني، ولكيانها العميق الذي هوس حضور الحقيقة. أمّا إجماع الشعب فليس أمرًا ديموقراطيًا، ولا مجرد ما يتفق عليه الجميع، إنّمَا يعبر عن رغبة الجميع بمطابقة الحقيقة، وعن معجزة الكنيسة الدائمة: استمرار المسيح الكلّي”.
ج) عصمة أسقف رومة
سقف رومة لا تختلف عن عصمة الكنيسة. وهذا ما يؤكده المجمعان المذكوران: “إنّ أسقف رومة… يملك… تلك العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته…”، “إنّ هذه العصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يمدّ بها كنيسته… يتمتعّ بها الحبر الروماني… إنّ الحبر الروماني… هو المعلّم الأعلى الذي يستقرّ فيه، بصفة فريدة، امتياز العصمة الذي هو امتياز الكنيسة بالذات”. ويسند المجمعان عصمة أسقف رومة إلى العون الإلهي الذي وُعد به شخص القدّيس بطرس. فأسقف رومة هو “خليفة بطرس ونائب المسيح والرأس الظاهر للكنيسة كلّها” (دستور عقائدي في الكنيسة، 18)، فيتمتعّ إذًا بسلطة بطرس الذي أوكل إليه المسيح رعاية كنيسته كلّها: “إرع خرافي… إرع نعاجي…” (يو 21: 15- 17)، “سمعان، سمعان، هوذا شيطان قد طلب في إلحاح أن يغربلكم كالحنطة. وأنا صلّيت لأجلك لكي لا يزول إيمانك. وأنت متى عدت فثبّت إخوتك” (لو 22: 31، 32).

أمّا قول المجمعين عن تحديدات أسقف رومة إنها “غير قابلة للتعديل بقوة ذاتها لا بقوّة إجماع الكنيسة عليها” فيعني أنّه ليس من الضروري أن يلتئم مجمع لاحق للمصادقة عليها، “لأنّها، حسب قول المجمع الفاتيكاني الثاني، صدرت بمعونة الروح القدس التي وُعد بها أسقف رومة في شخص القدّيس بطرس، ولا يعوزها من ثمّ موافقة الغير، ولا يمكن أن كون موضع استئناف إلى محكمة أخرى”. ولكن في الواقع فإنّ أسقف رومة لا يحدّد إلاّ بعد إطّلاع مسبّق على رأي سائر الأساقفة. وما يعلنه ليس إيمانه الخاص بل إيمان سائر الأساقفة وإيمان الكنيسة جمعاء.
إنّ عقيدة عصمة أسقف رومة لا تزال عقدة العقد في الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية، لا سيّمَا وأنّها صدرت عن مجمعين يعتبرهما الكاثوليك في عداد المجاَمَع المسكونية. ولكنّ هناك نزعة في اللاهوت الكاثوليكي المعاصر لاعتبار كل المجامع التي التأمت بعد الانفصال بين الشرق والغرب سنة 1054 مجامع عامة غربية، وليس مجامع مسكونية، إمّا لأنّ أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية لم يشتركوا فيها، وإمّا لأنّ الكنيسة الأرثوذكسية لم توافق على قراراتها.
3- نظرة معاصرة إلى عصمة الكنيسة
أولاً، يجب التأكيد أنّ العصمة لا تعني إنعامًا تتمتّع به الكنيسة لإعلان عقائد جديدة بوحي جديد من الله. فالوحي الكامل قد اتانا في يسوع المسيح، ولا وحي جديد بعده. الروح القدس قول يسوع، لن يأتي بشيء مغاير لمَا قاله يسوع: “إنه سيمجّدني لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم” (يو 16: 14)؛ “قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيم معكم، وأمّا المحامي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو الذي يعلّمكم كلّ شيء، ويذكّركم جميع ما قلت لكم” (يو 14: 25، 26). وعن هذا يقول المجمع الفاتيكاني الثاني:
“عندما يصدر الحبر الروماني، أو هيئة الأساقفة بالاتّحاد معه، تحديدًا فإنّما يصدرانه طبقًا للوحي بالذات الذي يجب على الجميع أن يأخذوا به ويتطابقوا معه، هذا الوحي المنقول بتمامه بالكتابة أو بالتواتر، بواسطة الخلافة الأسقفية الشرعية، وخاصة باهتمام الحبر الروماني بعينه. وهذا الوحي محفوظ بدقة فائقة في الكنيسة ومعروض بأمانة في نور روح الحقيقة. ويجتهد الحبر الروماني والأساقفة باهتمام في اكتناه هذا الوحي بضمير حي، والتعبير عنه تعبيرًا سويًا، واعين تمَام الوعي واجبهم وخطورة الأمر، متوسّلين إليه الوسائل الملائمة، ولكنّهم لا ينزل عليهم أي وحي جديد عام يعد من مضمون وديعة الإيمان الإلهية” (دستور عقائدي دي الكنيسة، 25).
ثانيًا إنّ موضوع العصمة، كموضوع العقيدة، ليس بالتعابير التي تعبّر من خلالها السلطة التعليمية عن العقيدة، بل جوهر العقيدة. فالتعابير دومًا مرتبطة بثقافة معيّنة وفلسفة معينة، ويمكن بالتالي أن تتغيّر مع الزمن. أمّا جوهر العقيدة فلا يمكن أن يتغيّر وإنّ هذا التمييز بين جوهر العقيدة والتعابير التي تصاغ فيها العقيدة عبر الزمن يساعدنا على تخطّي مشكلات كثيرة برزت في تاريخ الكنيسة وقسمت الكنائس. فجمع خلقيدونيا المنعقد سنة 451 حدّد مثلاً أنّ في يسوع طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية، وكان سبب انفصال الكنائس القبطية والأرمنية والسريانية التي دعيت “الكنائس القائلة بالطبيعة الواحدة”، والتي يقال لها اليوم “الكنائس غير الخلقيدونية”. إلاّ أنّ ما ترفضه تلك الكنائس ليس جوهر العقيدة، أي إنّ يسوع هو إله وإنسان معًا، بل التعبير الذي وردت فيه تلك العقيدة. فإنّ لفظة “طبيعة”، في نظرها، تعني الشخص الكامل، والقول إنّ في يسوع طبيعتين هو، في نظرها أيضاً، مرادف للقول إنّ فيه شخصين، وفي ذلك عودة إلى النسطورية التي ترفضها جميع الكنائس الخلقيدونية وغير الخلقيدونية. فالعقيدة التي أعلنها مجمع خلقيدونية لا تقبل التعديل في جوهرها، أمّا في صيغاتها فبالإمكان أن يعيد مجمع مسكوني النظر فيها.
ثالثًا، إنّ التعابير التي تحدّد بها الكنيسة العقائد الإيمانية، مهما بلغت من الدقّة، تبقى بعيدة عن أن تفي بسر اله “الذي لا تمثّل عزته، ولا يدرك مجده، ولا تقاس رحمته، ولا يفي وصف بمحبته للبشر”، كما تقول ليتورجيا القدّيس يوحنا الذهبي الفم. إنّ كلّ التعابير اللاهوتية تبقى تعابير بشرية تساعد لا على إدراك الله كما هو في كيانه، بل على التقرّب قدر الإمكان من سرّه والدخول في علاقة حياتية ووجودية معه. إنّ الهدف الأخير من تحديد العقائد الإيمانية ليس الله بقدر ما هو توضيح علاقة الله بالإنسان والموقف الذي يجب أن يتّخذه الإنسان من الله ومن الكون.
رابعًا، في هذا الإطار الفكري المعاصر يجب فهم “العصمة” فيّ تحديد العقائد. لقد تأثر الفكر اللاهوتّي المسيحى منذ القرون الوسطى بنظرة أرسطوطاليس للحقيقة. فالحقيقة، في نظر هذا الفيلسوف، هي مطابقة الفكر للواقع. ورأى الفلاسفة العقلانيون، ابتداء من القرن الثامن عشر، أنّه بإمكان العقل البشري تصوير الواقع بدقة، بحيث يمكن القول إنّ الفكرة هي صورة طبق الأصل للواقع. وفي تلك النظرة تبدو العصمة وكأنّها القدرة، بمؤازرة الروح القدس، على إدراك الأمور الإلهية إدراكاً كاملاً، ووصفها وصفًا دقيقًا كما هي في ذاتها، والتعبير عنها دون خطأ.
أمّا اليوم فيتّجه اللاهوت المعاصر إلى فهم “عصمة الكنيسة” لا بالمعنى العقلاني بل بالمعنى الوجودي الذي كان سائدًا في القرون المسيحية الأولى. أي إنّ المسيحي الذي يؤمن بمَا تعلمه الكنيسة ويخضع لمَا تأمر به يستطيع أن يثق الثقة التامة بأنه لن يضلّ بل يحيا في الحق، وأنّ الكنيسة لن تقوده إلى الضلال بل إلى حقيقة الله وإلى إنشاء علاقة خلاصية مع الله.
خامساً، يستند المسيحي في إيمانه هذا إلى وعد المسيح بأنّه سيكون مع كنيسته إلى الأبد، وإلى وجود الروح القدس، روح الحق، في الكنيسة. ولكنّ وعد المسيح ووجود الروح القدس لا يزيلان حدود الإنسان في إمكان بلوغه إدراك الله والتعبير عن سره تعبيرًا كاملاً. تلك هي المفارقة التي لا بدّ للمؤمن من أن يعيش فيها. فهو يؤمن من جهة أنّ الله قد أوحى إلينا بذاته في الأنبياء وفي آخر الأزمنة في شخص يسوع المسيح الذي هو رأس الكنيسة والحاضر فيها بروحه القدّوس، ولكنّه يعم من جهة أخرى أن أعضاء الكنيسة هم بشر محدودون في إمكاناتهم الفكرية ومعرّضون للخطأ في تعبيرهم عن الحقيقة. ورغم ذلك يؤمن أنّ قدرة الله تفوق حدود الإنسان، وأنّ روح الحق الذي هو روح الكنيسة سيبقى فيها تلك القوّة التي تركها وتحييها وتقودها إلى الله. وكلّما أخطأ أعضاء الكنيسة يؤمن أنّ روح الحق سيعيدهم إلى الله الحق.
سادساً، إذا عدنا في الواقع إلى الظروف التي تمّ فيها تحديد العقائد الإيمانية من قبل الكنيسة، نلاحظ أنّ معظم العقائد قد تمّ تحديدها بمناسبة ظهور تعاليم رأت فيها الكنيسة تقويضاً للإيمان الذي تسلّمته من الرسل. فالعقائد المسيحية في صيغها وتعابيرها الحالية هي جواب على البدع والهرطقات التي ظهرت في تاريخ الكنيسة وكادت تمزّق جسد المسيح. فإزاء الخطر المحدق بالكنيسة رأت السلطة المعلّمة أن تلتئم في مجامع إقليمية أو عامة أو مسكونية، لتحديد الإيمان المسيحي، فاختارت من بين الصيغ والتعابير المتداولة في تلك الحقبة من الزمن ما رأته أكثر ملاءمة لتأدية جوهر العقيدة كما تناقلته الكنيسة منذ الرسل وكما دوّن في الكتاب المقدّس.
فالتحديدات العقائدية هي إذن عمل رعائي وليست عملاً عقلانيًا، وهدفها الأوّل ليس الإحاطة بسر الكيان الإلهي بل تحديد الخط الذي يجب أن يسلكه التعبير اللاهوتي لكي لا يحيد عن جوهر الإيمان. فالهدف من عقيدة المجمع الخلقيدوني في طبيعتي المسيح كان التأكيد أنّ المسيح شخص واحد وأنّه إله وإنسان معًا. أمّا لفظة “الطبيعة” التي استعملها المجمع فقد لجأ الرضا لأنه رأى فيها أقرب صيغة في زمنه وفي متناول يده للتعبير عن هذين الأمرين في المسيح: إنّه شخص واحد وهو إله وإنسان معاً. وهكذا حدّد المجمع جوهر العقيدة بالنسبة إلى إيماننا بالمسيح. ولكنّه في الوقت نفسه حدّ التعبير اللاهوتي وحدّ حرية اللاهوتيين في اختيار تعبير آخر. إنّ تحديد جوهر العقيدة يثبت إلى الأبد، وهو أساس الإيمان المسيحي، وبدونه تختار المسيحية، أمّا حدّ حرية اللاهوتيين فلا يمكن أن يُقبل إلاّ لفترة من الزمن لمنع الشقاق في الكنيسة وتوحيد الكلمة حول تعبير واحد وصيغة واحدة. ولكن لا شيء يمنع الكنائس المسيحية، متى زالت الاضطرابات وزال خطر البدع والهرطقات، من إعادة النظر في التعابير اللاهوتية لا يجاد تعابير أخرى أكثر ملاءمة للعصر الحاضر.
سابعاً، لا بدّ من التمييز بين “العقائد الإيمانية” و”الآراء اللاهوتية”. فالأولى هي التي تكون جوهر الإيمان المسيحي، لذا يجب أن تكون موضوع اتفاق بين جميع المسيحيين، وهي التي يتضمّنها قانون الإيمان النبيقاوي. أمّا الثانية فهي وليدة تفكير لاهوتي متأثّر بإطار ثقافي معيّن، ويمكن أن تكون موضوع تعددية لاهوتية وموضوع خلاف أن لاهوتيي كنيسة واحدة أو بين كنائس مختلفة. فالوحدة المسيحية تفترض فقط الاتفاق على “العقائد الإيمانية”، وليس على الآراء اللاهوتية.
والعصمة مرتبطة بالعقائد الإيمانية وليس بالآراء اللاهوتية، لأنّ العقائد الإيمانية تعنى بعلاقة الله الكيانية والجوهرية بالإنسان، وبعلاقة الإنسان الكيانية والجوهرية بالله، وهي الأساس الذي ترتكز عليه الكنيسة لتؤمن أنّها ستثبت في الحق ولن تسقط في الضلال ولن تقوى عليها قوى الجحيم، أمّا الآراء اللاهوتية فتحلّل الأمور الدينية لتكشف عن غوامضها وتعبّر عن دقائقها، وهذا التحليل هو تحليل عقلاني لا بدّ أن يختلف بين شعب وآخر وثقافة وأخرى وعصر وآخر. لذلك يؤثر اللاهوتيون المعاصرون استعمال لفظة “ثبات الكنيسة”، عوضاً عن لفظة “عصمة الكنيسة عن الخطأ”. فالكنيسة، وإن أخطأت في دقائق تعبيرها عن الأمور الإلهية في مسيرتها الطويلة والشاقة نحو الحق، تلك المسيرة التي لن تنتهي إلاّ في نهاية الأزمان، إلاّ أنّها تؤمن، استنادًا إلى وعد المسيح، أنّها ستثبت في الحق، وأنّ قوى الجحيم والضلال لن تقوى عليها. وثبات الكنيسة رهن بثباتها في “الحقائق الجوهرية” التي تكوّن كيانها، رغم اختلاف أعضائها على بعض “الآراء اللاهوتية” الثانوية بالنسبة إلى كيانها وجوهرها. ما من أحد معصوم عن الخطأ، لكنّ الكنيسة ستثبت إلى الأبد وفي الحق.
4- خلاصة
إنّ يسوع، قبل موته، قد صلّى إلى الآب ليحفظ تلاميذه مقدّسين في الحق: “أيّها الآب القدّوس… لقد أعلنت اسمك للناس الذين أعطيتهم لي من العالم… قدّسهم في الحق. إنّ كلمتك هي الحق. كما أرسلتني إلى العالم، أنا أيضاً أرسلتهم إلى العالم. وأنا أقدّس ذاتي لأجلهم، لكي يكونوا، هم أيضاً، مقدّسين بالحق” (يو 17: 17- 19). ويسوع لم يقل كل شيء لتلاميذه: “عندي أيضاً أشياء كثيرة أقولها لكم، غير أنكم لا تطيقون الآن حملها. ولكن متى جاء هو، روح الحق، فإنّه يرشدكم إلى الحقيقة كلّها، لأنّه لن يتكلّم مز عند نفسه، بل يتكلّم بمَا يكون قد سمع ويخبركم بمَا يأتي” (يو 16: 12- 14).
إَنّ الروح القدس سيرشد تلاميذ يسوع إلى الحقيقة كلها. وهكذا لا يني يسوع يعرّف تلاميذه باسم الآب وجميع الأمور الإلهية: أيّها الآب العادل، إن كان العالم لم يعرفك، فأنا قد عرفتك، وهؤلاء عرفوا أنّك أنت أرسلتني. لقد عرّفتهم باسمك، وسأعرّفهم أيضاً لتكون فيهم المحبة التي احببتني، وأكون أنا فيهم” (يو 17: 25، 26).

One thought on “الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس

Comments are closed.