الجزء الرابع : النصارى العرب والنهضة العباسية

الجزء الرابع : النصارى العرب والنهضة العباسية

بقلم: الأب سمير خليل اليسوعي

مؤسس ومدير مركز التراث العربي المسيحي في لبنان
اعداد وتنسيق الاب انطونيوس مقار ابراهيم
راعي الاقباط الكاثوليك في لبنان

خصائص التراث العربي المسيحي

1- المقدمة :
ويتفّق مؤرَّخو الحضارات على إنّ إحدى الدلائل المشيرة إلى نضوج حضارةٍ ما ، هي قدرتُها على استيعاب الحضارات الأخرى ، وبصورة أعمّ قدراتها على التطور . فقد كانت الحضارة العربيّة ، طوال العصور الوسطى ، من أقدر الحضارات على استيعاب الثقافات الأخرى وهَضمَّها ، حتى صارت جزءاً لايتجزأ من فكرها وثقافتها .
وقد أسهم المسيحيّون ، العرب منهم والمستعربون ، أعظم إسهامٍ في عمليّة ” هَضم” الحضارات الأخرى ، وتوطينها في العالَم العربي . ودورهم في توطين الثقافتين اليونانية والسريانيّة ( ولا أقول في ترجمة آثارهما فقط ) معلوم ، ولاسيمّا في مجال الطبّ والعلوم الفلسفية . حتى انّه يحقّ لنا أن نَقول إنّ النهضّة العبّاسية لم تستطع أن تقومَ، في القرنين الثالث والرابع الهجري (التاسع والعاشر للميلاد) إلا بفضلهم .
2- دور النصارى أيّامَ بني أميّة :
ولم ينتظر هؤلاء العلماء نشأة الدولة العبّاسية لممارسة نشاطهم الفكري ، بل اشتهروا في خدمة ملوك بني أُميّة . فمنهم اصطفن القديم ، الذي ” نقل لخالد بن يزيد بن معاوية ]ت85/704[ كُتُبَ الصنعة وغيرها (72) ” ، والصنعة هى الكيمياء (Alchimie).
أمّا الأطبّاء ، فأشهرهم : ابن أثال ، الذي ذكره ابنُ أبي أُصيبعة قال : ” كان طبيباً متقَّدماً ، من الأطبّاء المتميّزين في دمشق ، نصراني ّ المذهب . ولما ملك معاوية بن أبي سُفيان]سنة 41/661[ على دمشق ، اصطفاه لنفسه وأحسن إليه . وكان كثيرَ الافتقاد له ، والاعتقاد به ، والمحادثة معه ليلاً ونهاراً ” (73) أما أبو الحكّم ، فإنه ” كان طبيباً نصرانيَّاً ، عالماً بأنواع العلاج والأدوية وله أعمال مذكورة وصفات مشهورة . وكان يستطبه معاوية ابن أبي سُفيان]41-60/661-680[ ، ويعتمد عليه في تركيبات أدويةٍ لأغراضٍ قصدها منه ” (74). ثّم تبعه ابنُه الحَكَم الدمشقي في المهنة ، و” كان يلحق بأبيه في معرفته بالمداواة والأعمال الطبيّة والصفات البديعة ، وكان مقيم في دمشق ” (75) وخّلفَ ابناً ، عُرف بابي الحسن عيسى ، ” وهو المشهور بمسيح ، صاحب الكنائش الكبيرةً الذي يُعرف به ويُنسب إليه ” (76) وكان في خدمة هارون الرشيد (170-193/786-809) ، ووضع له ” الرسالة الكافية الهَارونيّة ” . وله أيضاً “كناش” استشهد به مراراً الرازي في ” الحاوي” . وله ” كتاب منافع الحيوان ” ، و”رسالة في الأعشّاب والعقاقير ” ، وكتاب أخر ، غُفَِّل ” (77).
ومنهم تياذوق . قال ابن أبي أُصيبعة : ” كان طبيباً فاضلاً ، وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطبّ . وعمر . وكان من أوّل دولة بَنيّ أُميّة ، مشهوراً عندهم بالطبّ . وصحب أيضاً الحجّاج بن يوسف الثقفي ]ت95/7124[ . المتولى من جهة الملك ابن مروان ، وخدمه بصناعة الطبّ . وكان يعتمد عليه ، ويثق بمداواته . وكان له الجامكية (78) الوافرة ، والافتقاد الكثير ” (79) وله من الكتب :
” كُناشّ كبير” ألَّفه لإبنه ، وكتاب إبدال الأدوية ، وكيفية دقّها وإيقاعها وإذابتها ، وشيء من تفسير أسماء الادوية ” ، و ” الفصول في الطبّ ، و” قصيدة في حفظ الصحّة ” ، ترجمها أبو على ابن سينا الفارسي وترجمها مرة ثانية إلى الفارسي عادل شيرازي (80).
ومنهم الملك بن أبجر الكناني . ” كان في أوّل أمره مقيماً في الإسكندرية ،لأنه كان المتولي في التدريس فيها ]…[ عندما كانت البلاد في ذلك الوقت لملوك النصارى . ثمّ أن المسلمين ، لما أستولوا على البلاد وملكوا الإسكندرية ، أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز ، وكان حينئذٍ أميراً قبل أن تصل إليه الخلافة وصحبه ” (81) وهذا تمّ سنة 98/717 (82) ومنهم أبو جُريج الراهب الذي عاش في أواخر دولة بني أُميّة . وقد ذكره الكندي في ” الاختيارات ” ، والرازي في ” الحاوي ” وله من الكتب : ” كتاب في المُسهلات ” ، ” وإصلاح الأدوية ” و ” تذكرة للنِقرِس ” (83) .
3- دورهم في توصيل التراث اليوناني إلى الدولة العبّاسية :
من المعلوم أنّ الخليفة المأمون (170-218/786-833) هو الذي نشط حركة استيطان الفكر اليوناني في العالم العربي . وقد تساءل محمد بن إسحاق النديم عن ” السبب الذي من اجله كثُرت كتبَ الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد “، يعني في بغداد وما يتبعها سنة 377/987 . فروى قصّة رؤيا المأمون الشهيرة ، وقال ” احد الاسباب في ذلك أنّ المأمون رأى في منامه كأنّ رجلاً أبيض اللون ]…[ جالس على سريره . قال المأمون : وكأني بين يديه قد مُلئتَ له هيبة ، فقلت ُ: من أنتَ؟ قال : ” سَل ” قلتُ : “ما الحسن ؟ ” قال : ” ما حسُنَ في العقل ” . قلت ” ثم ماذا ؟ ” قال : ” ماحَسُنَ في الشرع ” . قلت : ” ثمّ ماذا ؟ ” قال : ” ما حَسُنَ عند الجمهور ” قلتُ ” ثمَّ ماذا ؟ ” قال : ” ثمّ لا ثمّ لا ” . ]…[ فكان المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب ” (84)
وكان أبو زكرَّيا يوحنّا (أو يحيى) بن ماسَوَيه (777/857م) مدير بيت الحكمة أيَام المأمون ؛ ثمَّ تبعه تلميذُه أبو زيد حُنيَن بن إسحاق (809-873م) الطائر الصيت ، أيّام المتوكل على الله (232-247/847-861) وقال فيه ابن جُلجل في ” طبقات الأطباء والحكماء ” الموضوع صدر سنة 377هـ /987م : كان ” عالماً بلسان العرب ، فصيحاً باللسان اليونانيّ جداً ، بارعاً في اللسانين بلاغةً بلغ بها التمييز عِلَل اللسانين (85) ” . وقال بن القفطي فيه : ” ولم يزل أمره يقوى ، وعلمُه يتزايد ، وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير ، حتّى صار ينبوعاً للعلوم ومعدناً للفضائل . فلمّا انتشر ذكرُه بين الأطبّاء ، اتصل خبرُه بالخليفة ، فأمر بإحضاره ولمّا حضرَ ، أُقطع إقطاعاً سنيّاً ، وقُرّر له جارٍ جيّد ” (86).
ويستحيل علينا ذكر أسماء النَقَلة والأطبّاء والفلاسفة العرب من النصارى ، فضلاً عن ذكر مآثرهم . إنما نكتفي بملاحظة عن ” طبقات الأطبّاء والحكمّاء ” ، وهو أوّل مؤلَّف عربي يؤرَّخ للعلوم القديمة ، سبق ” فهرست النديم بشهورٍ . لقد قسم ابن جُلجُل الأندلسي كتابه إلى تسع طبقات . فالسابعة سمَّاها : ” من حكماء المسلمين ممنّ برع في الطبّ والفلسفة ، ومنهم إسلام ومسيحيّون ” ، فذكر منهم اثنى عشر ، هم : بُختيشوع ، وجبريل بن بختيشوع ، ويوحنا بن ماسويه ، ويوحنا ابن البطريق ، وحنين ابن إسحق ، ويعقوب بن إسحاق الكندي ، وثابت بن قُرة ، وقسطا بن لوقا ، ومحمد بن زكريا الرازي ، وثابت بن سنان الصابئ ، وابن وصيف الصاري، ونسطاس المصري ” . وجدير بالذكر أنّ سبعاً منهم مسيحيّون .
كذلك إذا أخذنا ” الفهرست ” للنديم ، الموضوع ايضاً سنة 377/987، في المقالة السابعة الخاصّة بـ ” الفلسفة والعلوم القديمة ” (87) ، لَوَ وجدنا أنّ إسهام النصارى فهذه الحركة الفكرية الجبّارة لايَقل عن إسهام المسلمين فيها ، ولاسيما في الفصّل الأول ( ” في اخبار الفلاسفة الطبيعيين والمنطيقيين “) والفصّل الثالث
(” ابتداء الطبّ وأخبار المتطبّبن”) . وكنت قد أجريتُ بحثاً عن الأطبّاء المؤلَّفين المذكورين في المجلد الثالث من ” تاريخ التراث العربي ، للمستعرب التركي الدكتور فؤاد سزكين (Sazegin) الخاصّ بالطب والصيدلة في القرون الأربعة الأولى للإسلام ، واتضّح أنّ الأغلبيّة الساحقة منهم هم من النصارى (88).
هذه الظاهرة تدلّ على شيئَين : على تفتُح حكماء الإسلام على الحضارات القديمة ( من يونانيّة وسريانيّة وفارسيّة وهنديّة ) وعدم تعصبُّهم إطلاقاً (اللهم إلا أيام المتوكل ، في كفاحه ضدَّ المعتزلة وإلى حدّ ما ضد النصارى ) من ناحيةٍ : وعلى اندماج النصارى في الحارة العربيّة والدولة الأسلاميّة ، بلا تحفُظ وتأخُّر، من ناحيةٍ أخرى . وفي نظري أنّ هذين العامِليَن هما السبب الأساسي لقيام النهضة العبّاسيَة الكبرى .
4- تعاون مُفكّري الإسلام والمسيحيّة في الدولة العباسية :
ومن لطائف هذا العصر الذهبيّ ذلك التعاون الذي نراه بين العلماء والفلاسفة من جميع الأديان :مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة وإليك مثليَن على هذه الظاهرة
فإن أبا نصر الفارابي(ت399/950 ( “المعلمّ الثاني” ، الذي سمّاه أبو القاسم صاعد القرطبيّ ” فيلسوف المسلمين بالحقيقة ” (89) ، وقرأ أوّلاً على أبي بشر متىّ ابن يونس في بغداد ، ثمَّ ” ارتحل إلى مدينة حرّان ، وفيها يوحنّا بن حَيلان الحكيم النصرانيّ ، فأخذ عنه طرفَاً من المنطق أيضاً . ثمَّ إنّه قفل ، راجعاً إلى بغداد ، وقرأ فيها علوم الفلسفة ، وتناول جميع كتب ارسطاطاليس ، وتمهّر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها ” ، على يد أبي بشر (90). وعند وفاته هذا الأخير (328/940) رحل إلى حلب ، حيث أقام في بلاط سيف الدولة الحمداني . وكان له من التلاميذ يحيى بن عدي وأخوه ابراهيم بن عدي الكاتب الذي كان ” من أخص خواصّ ” الفارابي ” و ” مُدَّن تصانيفه ” ، حسب تعبير البيَهقي (91).
أمّا الشيخ أبو زكريّا يحيى بن عدي (893-974) ، تلميذ أبي بشر متى وأبي نصر الفارابي ، فقد اشتهر عشرةٌ من تلاميذه ، هم أبو القاسم عيسى ابن عليّ بن عيسى (302-391/914-1001) ابن الوزير ، وأبو سليمان محمَّد ابن طاهر السِجِستاني صاحب “صوان الحكمة ” وأبو علي عيسى بن زُرعة (331-389/942-1008) مُكمل تعليم أستاذه في اللاهوت ، أبو الخير الحسن بن سُوار … المعروف بابن الخمَّار (331-407/942-1017) ، وأبو علي ابن السَمح (418/1027) ، وأبو بكر عبدالله بن الحسن القومسي ، وأبو الحسن على بن محمّد البديهي (ت نحو380/990)
وأبو حيان التوحيدي (ت نحو414/1023) ، وأبو علي نظيف بن يُمن مدير البيمارستان العَضُديّ ، وأحمد ابن محمّد مسكويه (ت 421/1030) . فست منهم مسلمون ، وأربع مسيحيون ( عيسى بن زُرعة ، وابن الخمَّار ، وابن السَمح ، ونظيف ) (92)

(72) راجع النديم ص 306 سطر 24 .
(73 راجع ابن أبي أُصيبعةَ ص 171/16-18 . وأنظر ص171-175 . راجع أيضاً SEZGINج3 ، ص 204-205
(74) راجع أبن أبي أُصَيبعةَ ص 175-176 ، وأيضاً SEZGINص3/205 .
(75) راجع أبن أبي أُصيبعة ص 176-177 .
(76) ) راجع أبن أبي أُصيبعة ص 177-178 .
(77) ) راجع SEZGIN ، ص3/207-208 .
(78) أي ” المال السلطاني ”
(79) راجع أبن أبي أُصيبعة ص 179/2-5 .
(80) ) ص3/207-208.SEZGIN راجع
(81) ) أبن أبي أُصيبعة ص171/5-8 .
(82) ص3/250-206 .SEZGIN راجع
(83) ص3/208-209 . SEZGIN راجع
(84) راجع النديم ص303-304 .
(85) ) راجع ابن جلجل ص 68 .
(86) ) راجع أبن القفطي ص 175/17-20 .
(87) ) راجع النديم ص 291-360 .
(88) راجع ما كتبتُه في هذا المضمار . Khalil Samir , La “ Geschichte des arabischen Schrifttums “ et la Litterature arabe chretienne in Orientalia Christiana Periodica 44 (1978
) , pp. 463-472 , spec. 465-467 .
(89) ذكره ابن خلَّكان ، في ” وفيات الأعيان ، وأنباء أبناء الزمان ” ، تحقيق محمّد محيى الدين عبد الحميد ، ج4 (القاهرة 1948) ص 240/5-6 .
(90) ) المرجع نفسه ، ج4 ، ص 239/18-21 .
(91) البيهقي : ” تتمّة صوان ” ، طبعة محمّد شفيع ( لاهور 1935) ص 102 .