الجزء السادس: نحو مجتمعٍ أصيلٍ متفتّح

الجزء السادس: نحو مجتمعٍ أصيلٍ متفتّح

خصائص التراث العربي المسيحي
للأب سمير خليل اليسوعي
مؤسس ومدير مركز التراث العربي المسيحي في لبنان
اعداد وتنسيق الاب انطونيوس مقار ابراهيم

المقدِّمة :
لقد قدّمنا لك، أيّها القارئ الكريم، أبرز خصائص التراث العربيّ المسيحيّ، الّذي توارثناه عن أجدادنا. تراث عريق، سبق ظهور الإسلام بقرون. تراث واسع، شمل الأقطار العربيّة كلّها، شرقاً وغرباً، كما شمل الطوائف الشرقيّة كلّها. تراث ٌ استقى من التراثات الشرقيّة السابقة له، فاستوعبها وهضمها. ثمّ ركّزت على خاصّتين من تلك الخصائص، يمكن التعبير عنهما بكلمة واحدة : تراث “حواريّ “. حوار داخل المسيحيّة، بين الكنائس والطوائف، وهو ما نسمّيه اليوم “الحوار المسكوني”. وحوار مع الأديان الأخرى، لا سيّما مع الإسلام. ولهذا الطابع الحواريّ تأثير بالغ على الفكر العربي المسيحي، بمّا أنّه جعله فكرا ً منفتحاً ، غير منغلق ولا منطوٍ .
إنّ التراث العربي المسيحي واسع جدّاً، كما قلنا في البداية، لأنّه يتضمّن عشرات الآلاف من المؤلّفات .وقد يقول معترض : ما فائدة هذا التراث اليوم، وما أهميّته بالنسبة إلينا ؟ فهذا التراث قديم، بينما مشاكلنا اليوم غير مشاكل العصور الوسطى. أقول أوّلاً، كيف تستطيع أن تحكم على شيء وأنت جاهلٌ به تماماً ؟ وثانياً : ” إنّي أرى سببين لدراسة هذا التراث، وهدفين لإحيائه : هدف إجتماعي ثقافي من ناحية، وهدف ديني نهضوي من ناحية أخرى
أوّلاً- الهدف الأوّل إجتماعيّ ثقافيّ
مشكلة إجتماعيّة دينيّة : تمييز العروبة عن الإسلام (99)
يقولُ أحيانّا بعضُ مواطنينا من المسلمين : ” إنَّ الحضارة العربيّة تعني الحضارة الإسلاميّة وتضاهيها “، أو ” إنَّ العروبة والإسلام شيءٌ واحد ” ! وربّما اعتبر بعضهم المسيحيّين دُخلاءَ على هذه البلاد، أو أجانب، أو غير عرب. وقد يوافقهم للأسف كثيرٌ من المسيحيّين، ويرفضون القول َ بأنّهم عرب، فيقولون : ” إنّنا أقباط، أو أشّوريّون، أو كلدان، أو فنيقيّون “، إلى غير ذلك. فيلجأون إلى القوميّات الأخرى ( القبطيّة والأشّوريّة والمارونيّة، إلخ ). وكأنَّ العروبة ترتبط بدينٍ ما، أو كأنّها مفهومٌ عرقيٌّ “، أو جنسي، و عصبي ّ ” ( حسب تعبير ابن خلدون ). إنَّ هؤلاء وأولئك ينسَون، أو يتناسَون، أنَّ المسيحيّين في بلادنا كانوا عربّا قبل نشأة الإسلام. وأنَّ غير العرب منهم استعربوا منذ أكثر من ألف سنة، كما استعرب إخوتهم المسلمون في بلادنا. فالعروبة لا تشير إلى جنسٍ أو عرق، ولا تشير إلى دين ؛ وإنّما تشير إلى ثقافة وحضارة مشتركة، وتاريخ مشترك، ومصير مشترك.
فالهدف الأوّل من إحياء التراث العربيّ المسيحيّ، هو هدف ٌ إجتماعيّ ثقافيّ، ويقوم على إبراز دور المسيحيّين في بناء الحضارة العربيّة، لا سيّما في أهمّ مراحلها، أي في العصر العبّاسي الأوّل، وفي مطلع القرن الثامن عشر والنصف الثاني من القرن التاسع عشر ( عصر النهضة ) العروبة والدّين الإسلامي
إذا بحثنا الموضوع بحثا ً موضوعيّاً، لا ذاتيّاً، وجدنا أنّ هناك فرقاً شاسعاً بين العروبة والإسلام. فمن ناحية، نلاحظ أنّ الأغلبيّة الساحقة للمسلمين من غير العرب .والواقع أنّ المسلمين العرب لا يتجاوزون 17 % من مسلمي العالم، حسب تقدير المسلمين. وأنّ أكبرالدول الإسلاميّة عدداً، دولٌ غير عربيّة ( أمثال أندونيسيا، والبنغلاديش، والباكستان، والهند ). فلا يمكننا إذاً أن نساوي بين الإسلام والعروبة. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا أن نساوي بين العروبة والإسلام. لأنّ هناك عدداً لا يُستهان به ( وإن شئت قل ” سبعة ملايين “، وإن شئت قل عشرة ” ملايين ” ) من المسيحيّين العرب. بل إنّ المسيحيّين العرب سبقوا المسلمين العرب، فوجودهم مؤكّد منذ القرن الرابع، فضلاً عن أنّهم مذكورون في أعمال الرسل. فالعروبة إذاً ليست تضاهي ديناً من الأديان. واللغة العربيّة ليست خاصّةً بالمسلمين .
قال الدكتور طه حُسين، في المرجع المذكور آنفًا :
” فليست الّلغةُ العربيّةُ لغةَ المسلمين وحدهم، ولكنّها لغةُ الّذين يتكلّمونها مهما تختلف أديانهم. وما دام الأقباطُ مصريّين، وما دامت الّلغةُ العربيّةُ مقوِّمّا من مقوِّمات الوحدة المصريّة والوطن المصري ّ، فلا بدّ من أن يتثقّفَ بها الأقباط، كما يتثقَّف بها المسلمون. ولا بدَّ من أن يتثقّفَ بها رجالُ الدّين من الأقباط، كما يتثقّفُ بها رجالُ الدّين من المسلمين ” (100).
وإنّي أفتخر بعروبتي، وبالنصارى العرب الّذين سبقوا الدعوة الإسلاميّة والّذين جاؤوا بعدها. ولكنّي أفتخرُ أيضًا بالإسلام كمقوِّمٍ من مقوِّمات الحضارة العربيّة. فلستُ أرفض الإسلام كأهمّ مقِّومٍٍ لحضارتنا العربيّة، ولكنّي لا أضاهي بينه وبين العروبة. ويذكّرني ذلك بما كتبه عثمان عَمرو بن بحر الجاحظ قبل سنة 846 م، في ” الردّ على النصارى “، محاولاً تعليل عَطف العوّام على النصارى، قال :
” وعطف قلوب دَهماء العرب على النصارى المُلكُ الّذي كان فيهم، والقرابةُ الّتي كانت لهم. ثمَّ رأت عوامُّنا أنَّ فيها مُلكًا قائمًا، وأنَّ فيهم عربًا كثيرة، وأنَّ بنات الرّوم ولَدنَ لملوك الإسلام، وأنَّ في النصارى متكلّمين وأطبّاء ومُنجّمين ” (101).
” وممّا عظّمهم في قلوب العوامّ، وحبّبهم إلى الطّغام، أنَّ منهم كتّاب السلاطين، وفرّاشي الملوك، وأطبّاء الأشراف، والعطّارين، والصيارفة ” (102).
وبناءً على ذلك، فمن الضروري تمييز الحضارة العربيّة عن الحضارة الأسلاميّة، مهما كانت صعوبة هذا التمييز. فالحضارة العربيّة ليست حضارة إسلاميّة، وإلاّ لسُميَّت ” حضارة إسلاميّة ” . كما أنّ الحضارة الإسلاميّة تتميّز عن الحضارة العربيّة، بدليل أنّ المسلمين العرب أقليّة في الإسلام. إنمّا الحضارة العربيّة إسلاميّة مسيحيّة يهوديّة، وإن كان الطابع الإسلامي غالبًا عليها. كما أنّ الحضارة الإسلاميّة عربيّة وغير عربيّة، وإن كان الطابع العربي غالبًا أحيانًا عليها. وهذا ما يرفع من شأن الحضارة العربيّة، لأنّها انفتحت على تقاليد ومفاهيم ومذاهب مختلفة، بخلاف ما حدث بالحضارات الأوروبيّة التي انحصرت على حضارة دينيّة واحدة.
ومن الضروري جعل المسيحيّين يعتزّون بعروبتهم، ويفتخرون بتراثهم العربي، إذا ما اكتشفوا أنّهم أسهموا فيه. فلا ينظرون إلى الغرب، وكأنّه الفردوس المفقود أو المنشود ؛ بل ينظرون إلى شرقهم العربي.
الهدف الثاني : القيام بنهضة دينيّة
إذا أمعنّا النظر في أسباب قيام أيّ نهضة في التاريخ، وجدنا عاملين أساسيّين : العودة إلى الأصل، والانفتاح على ثقافة العصر، أو ” تأصّل بتجدّد ” ! فالنهضة العبّاسيّة الكبرى تمّت نتيجة لاندماج الحضارات اليونانيّة والسريانيّة والهنديّة والفارسيّة في الحضارة العربيّة. والنهضة الأوروبية (Renaissance ) تمّت بالعودة إلى الحضارة اليونانيّة واللاتينيّة القديمة، واندماجهما في الحضارة الأوروبيّة المعاصرة. وكذلك النهضة العربيّة في القرن الماضي ( ومقدِّمتها في القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، في حلب على يد المطران جرمانوس فرحات )، تمّت أيضاً بالعودة إلى الحضارة العربيّة الأصيلة وبالانفتاح على الحضارات الأخرى، قديمةً كانت أم حديثة. وقد أسهم المسيحيّون العرب دائماً في كلّ نهضة إسهاماً بالغاً.
ونحن اليوم، في، كنائسنا، بحاجةٍ ماسّةٍ إلى القيام بنهضةٍ فكريّةٍ وروحيّة، فإنّ كنائسنا تشكو من خمولٍ ذهنيّ، ومن نوعٍ من الاغتراب الثقافي. وهذه النهضة لا تتمّ إلاّ بالانفتاح على مطالب عصرنا من ناحية، وبالعودة إلى أصولنا وجذورنا الثقافيّة القديمة ( اليونانيّة والسريانيّة والقبطيّة والأرمنيّة …) والعربيّة المسيحيّة من الناحية الأخرى. وفي الواقع، إنّنا منفتحون على عالمنا المعاصر نسبيّاً، وعلى الثقافات القديمة إلى حدٍّ ما، غير أنّنا لم نكتشف بعد ثقافتنا وتراثنا العربيّ المسيحيّ.وهو الأهمّ ،لأنه الأوسع والأطول، والأقرب إلينا، ومن شأنه أن يغذّينا اليوم ويحيينا !
لقد قمنا بنهضةٍ في الشرق العربي للعودة إلى التراث السريانيّ والقبطيّ واليونانيّ. إلاّ أنّ التراث العربيّ ما زال مجهولاً. وكأنّنا نحاول أن نقفز فوق الفكر العربيّ، لنصل إلى الفكر السريانيّ أو القبطيّ أو اليونانيّ، أي أن نتجاهل الإسلام والحضارة الإسلاميّة. إلاّ أنّ هذا التجاهل يُفقدنا شخصيّتنا.
خطورة إهمالنا للتراث العربي :
إنّ المسيحيّة استَعربت ( إن لم تكن عربيّة ) منذ القرن الثامن أو التاسع. فكيف يمكننا تجاهل هذا التراث ؟ إذا أردنا أن نقوم بنهضةٍ، لا بدّ لنا من أن نعود أوّلاً إلى تراثنا العربي، وهو التراث المشترك بيننا وبين إخواننا المسلمين .
وإهمالنا هذا التراث العربيّ المسيحيّ ( ولتراثنا العربيّ إجمالاً ) هو في غاية الخطورة. ونتيجته أنّ المسيحيّ العربيّ صار غريباً في بلده ووطنه. وأنّ معاهدنا اللاهوتيّة تدرّس لاهوتاً غريباً، نشأ وترعرع في بيئةٍ بعيدةٍ عن بيئتنا ؛ لا بل غالباً ما يدرَّس هذا اللاهوت بلغةٍ أجنبيّة، وكأنّ اللغة العربيّة غير صالحة للتعبير عن المفاهيم اللاهوتيّة المسيحيّة، في حين أنّها أعرق من اللغّات الأوروبيّة في هذا المجال ! كما أنّ رهباننا وراهباتنا يتكوّنون روحيّاً في كتبٍ أجنبيّة، وكأنّ تراثنا العربي خالٍ من المؤلّفات الروحيّة النسكيّة الرهبانيّة ! فنحن إزاء عمليّة اغترابٍ فكريٍّ حقّة ( aliénation mentale ).
فلماذا ننظر دائماً إلى الغرب عندما نحتاج إلى إحياء فكرنا المسيحي ؟ السبب بسيط : لآنّنا انقطعنا عن تراثنا، فظننّا أن ليس لنا تراث. لا بل انقطعنا عن تراثنا في الفترة التي كان فيها الغرب في مرحلة ازدهار ونهضة، فكان فكرنا العربي المسيحي لا يمكنه أن يضاهي الفكر الغربي المسيحي. فأخذنا الفكر الغربيّ المسيحيّ، بعلاّته، بسبب ضياع تراثنا العربيّ. وكثيراً ما قلّدنا الغرب تقليداً، فصرنا تُبَّعاً له. فبحقٍّ يتّهمنا المسلمون أحياناً بأنّنا مغتربون أو غربيّون، لا شرقيّون أو عرب.
وأقول أخيراً إنّ العودة إلى تراثنا العربيّ المسيحيّ لبعثه وإحيائه، سوف يربط الطوائف المسيحيّة بعضها ببعض، ويعيدها إلى الأصل المشترك. فالفكر المسيحيّ في شرقنا اليوم مشتّت ومبعثر، في حين أنّنا بأمسّ حاجةٍ إلى جمع شملنا ويا حبّذا لو تسهم جميع الطوائف في إحياء التراث العربي المسيحي المشترك، وفي إغناء هذا التراث العربي بترجمة ما لم يُترجَم من التراثات القديمة ( اليونانيّة والسريانيّة والقبطيّة والأرمنيّة ) ! إنّها لعمليّة طويلة جدّاً وصعبة. لذلك لا بدّ لنا من مباشرة العمل سريعاً، كما لا بدّ من تخطيطٍ وتعاون. فإنّ مستقبل المسيحيّة العربيّة في أيدينا.
3-العروبة والجنسيّة : هل مسيحيّو الشرق عرب ؟
ومن ناحية أخرى، لا بدّ للمسيحيّين من أن يتساءلوا عن رفضهم أحيانًا للعروبة. هل العروبة جنس أو عصبيّة ؟ ولو فهمنا العروبة بمعنى الجنسيّة، لَما بقي أحدٌ فيها !
فلا نستطيع أن نقول : ” نحن غير عرب، لأنّا موارنة، أو فنيقيّون، أو أشّوريّون، أو أقباط “. وإلاّ، لحقَّ للمسلم أيضاً أن يقول إنّه قبطيّ أو أشّوري…أو ما سواه من الجنسيّات .
فالمسلم المصريُّ مثلاً ليس عربيًّا، إذ عنينا بالعروبة والعصبيّة والأصل، إذ هو قبطيٌّ أسلم، أو غريبًا استوطن. فالمسلمون والمسيحيّون، في كلِّ بلدٍ ووطن، على قدم المساواة فيما يخصّ الجنسيّة .
ثمّ إنّ الدولة العربيّة ، على ممرّ العصور، لم تقُم أبدًا على أساس الجنسيّة إنّما اختلطت فيها جميع جنسيّات الشرق الأوسط والمغرب. بل إنّ هذا الاختلاط هو سبب ازدهار الدولة العربيّة في العصر العبّاسي الأوّل مثلا. فكّبار المفكّرين كانوا من جنسيّاتٍ مختلفة، منها العربيّ كالكنديّ (” فيلسوف العرب ” )، ومنها السريانيّ كحُنين بن اسحاق وأبي بشر متّى بن يونس، ومنها التركي كالفارابيّ، ومنها الفارسيّ ّ كابن النقفّع والغزاليّ، وغيرهم.
ولا بدّ للمسيحيّين من أن يتساءلوا عن سبب تسميتهم بشتّى الأسماء، ما عدا بالاسم الوحيد الّذي ينطبق عليهم جميعًا. فينتمون إلى الكنيسة القبطيّة أو المارونيّة أو الكلدانيّة…ولا ينتمون إلىالكنيسة العربيّة. وكأنّهم يحاولون أن ينسَوا أنّ الإسلام موجود، وأنّ الدعوة الإسلاميّة قامت في بلادنا منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا هجريًّا. فكلُّ طائفة تسمّي نفسها باسم سبق الإسلام.
النتيجة الأولى : تمييز العروبة عن الإسلام
ممّا سبق ينتج أمران .
الأوّل، ضرورة تمييز الحضارة العربيّة عن الحضارة الإسلاميّة. فالحضارة العربيّة ليست حضارة إسلاميّة، وإلاّ لسُميَّت ” حضارة إسلاميّة “. كما أنّ الحضارة الإسلاميّة تتميّز عن الحضارة العربيّة، بدليل أنّ المسلمين العرب أقليّةٌ في الإسلام. إنّما الحضارة العربيّة إسلاميّة مسيحيّة يهوديّة ( لا ننسى سعيد الفيّومي المفسّر، وما شاء الله الفلكي، وابن باقوده المتصوّف، وابن جبيرول الشاعر، وموسى بن ميمون الطبيب الفيلسوف، وغيرهم من اليهود العرب )، وإن كان الطابع الإسلامي غالباً عليها. كما أنّ الحضارة الإسلاميّة عربيّة وغير عربيّة، وإن كان الطابع العربي غالباً أحياناً عليها.
فالحضارة العربيّة حضارة مسكونيّة، ساهمت في بنائها المسكونة. وهذا ما يرفع من شأنها، لأنّها انفتحت على تقاليد ومفاهيم ومذاهب مختلفة، بخلاف ما حدث في كثير من الحضارات الأوروبيّة، التي انحصرت على ثقافة واحدة ودين واحد.
5- النتيجة الثانية : الاعتزاز بالعروبة
إنّ ما نرمي إليه، من خلال دراسة التراث العربيّ المسيحيّ، هو جَعل المسيحيّين يعتزّون بعروبتهم ويفتخرون بتراثهم العربيّ. وقد يساعدهم على ذلك اكتشاف دورهم في بناء تلك الحضارة العربّية، لاسيمّا في أبرز مراحلها : وفي العصّر العبّاسي الأوّل في بغداد، وفي مطلع القرن الثامن عشر في حلب، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر في لبنان ومصر. أليس أوّل مَن رفع شعار العروبة في القرن الماضي، ردّاً على النزعة التركيّة والسيطرة العثمانيّة، نصارى لبنان ؟ ألم يكن أولُ صوتٍ في أرجاء الوطن العربي صوتَ الشيخ إبراهيم اليازجي (1847-1906) مُنادياً :
تَنَبَّأوُا وَاستَفِيقُوا أَيُّهَا العَرَبُ ،
فَقَد طَمَى الخَطبُ (103) حَتىّ غَاصَتِ الرَّكَبُ (104)؟
” الله أكبَرُ ! مَا هَذَا المنَاَمُ ؟
فَقَد شَكَاكُمُ المَهدُ وَاشتَاقَتكُمُ الُّتَرُب !
بِاللهِ يَا قومَنَا، هُبوا لِشَأنِكمُ
فَكَم تُنَادِيكُمُ الأَشعارُ وَالخُطَبُ .
ألَستُم مَن سَطََو في الأَرضِ، وَاقتَحَمُوا
شرقاً وَغَرباً، وَعَزَّوا أَينما ذهَبٌوا (105)”
وتلك القصيدة الشهيرة التي أنشدها في أوائل سنة 1868، ولم يبلغ 21 سنة، أنشدها في الجمعيّة السوريّة :
” سَلاَمٌ أَيَُّهاَ العَرَبُ الِكرَامُ،
وَجَاد رُبُوعض قُطرِكُمُ الغَمَامُ .
{000} ونَحَنُ أُولُو المَآثِرِ مِن قَدِيمٍ،
وَإِن جَحَدَت مَآثِرَنَا الَّلئامُ (106) ” .
أجل ! إنَّ هناك مَن يحتكر لفظ العروبّة، من المسلمين. فهل يحقّ للمسيحيّ رفض هذا اللفظ، بسبب جهل البعض أو تعصُّبهم ؟
فالعروبة إذاً لا تشير إلى جنسيّة أو عصبيّة ، كما لا تشير إلى دين. وإنمّا تشير إلى ثقافةٍ وحضارةٍ مشتركة، وإلى تاريخ مشترك، وإلى مصير مشترك.
الخلاصة : تكامل المسلمين والمسيحيين في بناء الحضارة العربيّة
كلّ مجتمع بشري ناهض يقوم على مُقوَّمين : التأصُّل والتفتُّح. فالتأصُّل يضمن استمراريّة هذا المجتمع، ويحافظ عليه خالصاً من الانحراف والضياع الذاتيّ. والتفتُّح يضمن له التجُدد المستمّر والصلة بالعالم الخارجيّ .والمجتمع الناهض هو الذي يجد الاتّزان بين هاتين النزعتين، من دونَ أن يُضحّي بواحدةٍ منهما. وهو ما حدث في العصر العبّاسي الأوّل ، وفي عصر النهضة الحديثة في نهاية القرن الماضي ويبدو لي من خلال دراستي للتاريخ العربيّ، أنّ للنصارىّ والمسلمين دورَين متكاملَين في بناء هذا المجتمع المرموق. فعلى النصارى أن يضمنوا عامل التفتّح على الحضارات الأخرى، كما فعلوا أيّامَ العبّاسييّن بالنسبة للحضارة اليونانيّة، كما فعلوا في القرنين السايع عشر والثامن عشر لمّا عرفّوا الغرب بحضارة الشرق ( العربيّة، السريانيّة، الإسلاميّة والمسيحيّة )، وكما فعلوا في اواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالنسبة للحضارة الأوربيّة، وكما يفعلون اليوم ( لاسيمّا في لبنان) بالنسبة لعالمنا المعاصر(107) وعلى المسلمين أن يضمنوا عامل التأصّل والحفاظ على الطابع العربي الأصيل، وكما فعل المُصلِحون والسَلَفيّون دائماً . ومن البديهي أنّ المسوؤليّة جماعيّة لافرديّة، أي انّها ” فَرض كفاية ” لا ” فرض عين “، بمعنى أنّها تترك لكلّ فردٍ مُطلَقَ الحريّة لاتّباع ما يناسبه من التيّارين .وهناك شرط أساسيّ لنجاح هذا التكامل والتفاعل. وهو أن يتفتّح كلُّ واحدٍ من الطرفين على نزعة الطرف الآخر. فمَن نادى بالتفتحُّ وأنكر التأصّل في العروبة، ضَّر ولم يأتٍ بشيء. ومن نادى بالتأصُّل، وأنكر ضرورة التفتُّح على الحضارات الأخرى، ضَّر ولم يُفد. وكلاهما من المتحيَّزين المتعصَّبين، أعاذنا الله من شرّهما. فلو فهم كلٌّ من المسلميّن والمسيحييّن دوَره الخاصّ واحترام موقفَ الآخرَِّ المكمَّلِ له، لتوصّلنا إلى المجتمع العربيّ المنشود، مجتمعٍ متأصلٍ في تربته، متفتحٍ على كلّ حَسَن من أين أتي. وكما قال “فيلسوف العرب “، أبو يوسف يعقوب الكندي ( نحو 796-873م) ” ينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحقّ من أين أتي، وإن أتي من الأجناس القاصية عنّا والمباينة لنا ” (108). والله الهادي إلى الصراط المستقيم، فكفنانا هادياًٍ !
كلمة ختاميّة :
وأقول أخيراً : إن العودة إلى تراثنا العربيّ المسيحيّ، لبعثه وإحيائه، سوف يربط الطوائف المسيحيّة بعضعها ببعض، ويعيدها إلى الأصل المشترك. فالفكر المسيحي في شرقنا اليوم مُشتّت ومُبعثر، ونحن في أمسّ حاجةٍ إلى جمع شملنا .
إنّ اللغة العربيّة، والحضارة العربيّة، فضلاً عن إيماننا المشترك بالمسيح في حياتنا، هي التي جمعتنا اليوم، سواء كنَّا من مصر ،أو سوريا، أو لبنان ،أو فلسطين . اللغة العربيّة هي التي جعلت الطوائف المختلفة تلتقي في هذا المساء، في المهعد اللاهوتيّ ” للشرق الاوسط “. وهي التي تفتح أمامنا الطريق نحو الوحدة الايمانيّة، وحدة المسيحيّين والمسلميّن معاً. ويا حبذا لو أسهمت جميع الطوائف في إحياء التراث العربيّ المسيحيّ المشترك، وفي إغناء هذا التراث العربيّ بترجمة ما توفَّر من التراثات القديمة ( اليونانيّة، السريانيّة، والقبطيّة ، والأرمنيّة)، كما فعل آباؤنا من قبلُ ! إنها لَعَملية طويلة جداً، صعبة وشاقة. لذلك لابّد لنا من مباشرة العمل سريعاً، كما لابّد لنا من تخطيط العمل والتعاون فيما بيننا. فإن مستقبل المسيحيّة العربيّة وهو في أيدينا .
المراجع المختصرة :
-ابن أبي أصيبعة =ابن أبي أُصَيبعة : “عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ” طبعة August MÜLLER ( = امرؤ القيس بن الطحّان )، جزءان، القاهرة 1299/1882 .
– ابن جلجل =أبو داود سليمان بن حسّان الأندلسي المعروف بابن حُلجُل : ” طبقات الأطبّاء والحكماء “، تحقيق فؤاد السيّد ( القاهرة، المعهد العلميّ الفرنسيّ للآثار الشرقيّة، 1955 ).
– ابن القفطي = جمال الدين أبو الحسن عليّ بن يوسف القفطيّ : ” تاريخ الحكماء “، طبعة Julius LIPPERT (برلين، 1903 ) .
-جوّاد علي = جوّاد عليّ : ” المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام “، في عشرة أجزاء
( بيروت، دار العلم للملايين، ط2 1978 ) .
شيخو = الأب لويس شيخو اليسوعي:”النصرانيّة وآدابها بين عرب الجاهليّة “( بيروت، 1923 )
– النديم = أبو الفرج محمّد بن إسحق النديم : ” كتاب الفهرست “، طبعة رضا تجدُّد
( طهران، 1971 ).
LEVI –PROVENCAL = Evariste LEVI-PROVENCAL , Histoire de -l’Espagne Musulmane , 3 volumes ( Paris Maisonneuve , et Leiben Brill , 1950 , 1950 et 1953 ). )- SEZGIN = Fuat SEZGIN , Geschichte des arabischen Schrifttums , III Leiden-Brill , 1970 ). )

(99) راجع د. محمود كامل : ط الإسلام والعروبة تحليل لعوامل الوحدة بين عشرين دولة عربية ” ( القاهرة، الهيئة المصريةّ العامةّ للكتاب، سنة1976)
صفحة 457 .إليك بعض ما جاء في الخلاصة : ” فالوحدة الإسلاميّة قد أرست قواعدها على أساس مبدأ التضامن الإسلامي، وهو مبدأ ديني. […] أمّا
العروبة، فإنّه تعبيرٌ سحريٌّ صوفي، إنّه رمزٌ ينبئ عن النتماء إلى الأمّة العربيّة، عن النطق بالعربيّة، عن الميلاد في أرضٍ عربيّة، عن وراثة الثقافة
العربيّة ومجد المسلمين الماضي. […] فالعروبة، منفصلة عن فكرة الوحدة الإسلاميّة، مذهبٌ إجتماعيٌّ سياسيّ “. (
ص 435-436 ) .و

(100) طه حسين (ـنظر حاشية 88 ) 2/486 .
(101) أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ : ” ثلاث رسائل “، طبعة J. FINKEL (القاهرة 1926 )ص 16Ã1. وفي ” رسائل الجاحظ “، تحقيق وشرح عبد السلام محمّد هارون ( القاهرة، مكتبة الخانجي، 1979 ) الجزء الثالث، ص 313-314.
(102) المرجع نفسه، طبعة FINKEL، ص 17 وَ3 ؛ طبعة عبد السلام ص316/4-5. وقد ذكرتُ نصوصاً أخرى للجاحظ وعلّقتُ عليها في مقالٍ لي. راجع Khal SAMIR , Liberté relligieues et propagation de la foi & chez les théologiens arabes chréiens du IX‎e Siécle et en Islam , in Tantur Yearbook 1980-81 (Jérusalem ,1981) , p. 93-164 , ici p. 104-111 .
(103) ويرويّ أيضاً ” فقد طغى السبيلُ ” راجع مثلاً مقال صاحب العطوفة عارف بك نكد ( رئيس مجلس الشورى السورية آنذاك ) : ” إبراهيم اليازجي “، ” في مجلة المسرة” 33 (بيروت 1947) ص 371-380، هنا ص 379.
(104) راجع الأب لويس شيخو اليسوعي : ” الآداب العربية في القرن التاسع عشر ج2 (بيروت1926) ص43 .
(105) راجع أنيس الخوري المقدسي : ” اليازجي الشاب، أو الشاعر القومي “، في مجلة “المسرة” 33 (1947) ص385-387. وقد ألّفها نحو سنة 1872م
(106) راجع الأب شيخو ( حاشية رقم 104) ص40-41 .
(107) راجع المحاضرة التي ألقاها الأب ميشال الحايك في باريس سنة 1963م، في مؤتمرٍ عن المجتمعات الإسلامية، وقد نُشرت في مجلّة ” المشرق” 58(1964) ص 103-118، تحت عنوان : L’originlité de L’apport chrétin dans les Lettres arabes .
(108) راجع محمّد عبد الهادي أبو ريدة : ” رسائل الكندي الفلسفية ” ( القاهرة، دار الفكر العربي ) الجزء الآول (1950) ص103. وقد نُشرت هذه الصفحة، مع ترجمة فرنسية وتعليق. راجع ROPERT CASPAR et Pier Paolo RIFFINENGO , d’ L’ art d’utiliser avec reconnaissane Les cultures étrangéres , selon al –Kindi , le “ philosophe “ (Ixe sié), in IBLA31 (1968) , p.295-299 .